إسلام ويب

قصص متميزةللشيخ : إبراهيم بو بشيت

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن قراءة القصص وسماعها سواء أكانت عن سلفنا الصالح، أو كانت من الواقع المعاصر، تولد عند القارئ أو السامع أشياء كثيرة، ولها أثر كبير في التحفيز على الطاعات، والهم لهذا الدين، والاهتمام بالدعوة إلى الله، والإنفاق الكثير في سبيل الله، والحفاظ على أعمال الخير صغيرها وكبيرها.

    1.   

    القصص وأثرها في الواقع

    الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرَّفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزةً واقتداراً، وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذاراً منه وإنذاراً، فأتَمَّ بهم على مَن اتبع سبيلهم نعمتَه السابغة، وأقام بهم على مَن خالف مناهجهم حجتَه البالغة، وقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153] فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العلل، وقطع المعاذير، وأقام الحُجَّة، وأوضح المَحَجَّة، وقال: هؤلاء رسلي مبشرين ومنذرين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمةٌ قامت بها الأرض والسماوات، وفطَرَ الله عليها جميع المخلوقات، عليها أُسِّست الملة، ونُصِبَت القبلة، ولأجلها جُرِّدت سيوف الجهاد، وبها أمر الله سبحانه وتعالى جميع العباد، فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، وكلمة الإسلام (لا إله إلا الله)، ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنة: (ومن كان آخر كلامه من الدنيا (لا إله إلا الله) دخل الجنة) اللهم اجعلنا من أهلها يا حي يا قيوم!

    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وقدوتنا من خلقه، أقام الله به الحجة على عباده، إنه أمينه على وحيه، أرسله رحمةً للعالَمين، وقدوةً للعالِمين، ومَحَجةً للسالكين، وحُجَّةً على المعاندين، وحسرةً على الكافرين، ترك أمته على المحجة البيضاء، والطريق الواضحة الغراء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى ملائكته وأنبيائه ورسله، اللهم صلِّ على محمدٍ يا رب العالمين! واحشرنا في زمرته يا أكرم الأكرمين! واجعلنا من أتباع هديه يا أرحم الراحمين!

    إلهي! ويا مولاي! أنت المنعم المتفضل، والمعطي الخيرات والمتكرم، لا إله إلا أنت سبحانك! مَن تلألأتْ بأجل المحامد أسماؤه، وتوالت بأسمى الهبات آلاؤه، وبركاتُ خيراته، الحمد لله ما استهل ولي، وآبَ بعيد، ورجعَ طريد، اللهم أرجع الأسرى وأخرجهم سالمين يا رب العالمين، والحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة الإيمان، والحمد لله على نعمة الخير والأمان، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، ولخيرك يا رب العالمين بادرين وشاكرين، واجعلنا للطاعات مسارعين.

    ثم أما بعد:

    أيها الأحبة الفضلاء والإخوة الكرماء! أحييكم بتحية ملؤها سلام، ومحبةٌ ووئام، خرجت من القلب ونطق بها اللسان: فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

    اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل معنا ولا حولنا شقياً ولا محروماً، اللهم ما قسمت به في هذه الساعة المباركة من خيرٍ وصحةٍ وعافيةٍ، وسلامةٍ وهدايةٍ واستقامةٍ، وتميُّزٍ ورفعةٍ، فاجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب.

    نعايش معكم أحبتي في الله محاضرة بعنوان: (قصص متميزة).

    إن القصة تنغرس في القلب انغراس العرق في الأرض، وتثبت بإذن الله ثبات الجبال الراسيات، فلا تَميل كل الميل.

    القصة تضيء للإنسان حياته كإضاءة القمر ليلة البدر، وربما تحرق المعاصي عند الإنسان إحراقاً، وربما تشعل الهمة إشعالاً، وربما تحرك الأفئدة والقلوب والأرواح إلى نصرة الدين بشيءٍ غريبٍ وعجيب .. القصة -التي زَهِدها أقوام وتركها آخرون- أسلوبٌ قرآنيٌ رائعٌ جميل.

    إن القصة إذا طُرِحت وذُكِرت عاش معها القلب والجوارح، فكيف إذا كانت تلك القصة من سماء الواقع؟!

    إنني والله أيها الأحبة! لعلي لا أكون مبالغاً إن قلت لكم رجالاً ونساءً: إن هذه القصص التي أذكرها هي من سماء الواقع، من عينٍ شاهَدَتْها، وأُذنٍ سمِعَتْها، وقلبٍ وعاها وحضرها، ليس للخيال فيها نصيب؛ ولكن أسأل الله أن يكون فيها للإخلاص أوفر حظٍ ونصيب.

    لعل البعض إذا قلنا له: كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي قال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134] ولكن أقول له: مهلاً رويداً واسمع معي قصصاً من غير تزهيد في الماضي، بل والله ما عاش هؤلاء إلا على قصص الماضي، وما تربى هؤلاء إلا كما تربى أهل الماضي.

    القصة: يقول الإمام المبجَّل والمجدِّد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وقدَّس الله سِرَّه، في مستهل كتابه: مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ومن أوضح ما يكون لذوي الفهم: قصص الأولين والآخرين، قصص من أطاع الله وما فعل الله بهم، وقصص من عصاه وما فعل الله بهم، فمن لم يفهم ذلك ولم ينتفع به فلا حيلة فيه، كما قال الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [ق:36] قال بعض السلف: [القصص جنود الله تعالى]، يعني: أن المعاند أمام القصة يقف حيرانَ لا يستطيع رداً.

    ثم قال رحمه الله: ولما ذكر الله القصص في سورة الشعراء ختم كل قصة بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8].

    فلقد قص الله تعالى ما قص لأجلنا، كما قال: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111].

    ذكر ابن الجوزي رحمه الله تعالى في ختام مقدمة كتابه القيم: صفة الصفوة فقال: وعن ابن عيينة قال: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. قال محمد بن يونس : ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين.

    وما أجملَ ما قَدَّم به صاحبُ كتاب: صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل حـيث قال: وبعد: فإن أخبار العلماء العاملين، والنبهاء الصالحين من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس، وتدفعها إلى تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة، والمقاصد الجليلة، وتبعثها على التأسي بذوي التضحيات والعزمات، لتسمو إلى أعلى الدرجات، وأشرف المقامات.

    ومن هنا قال بعض العلماء من السلف: [الحكايات جندٌ من جنود الله تعالى، يثبت بها قلوب أوليائه]، ألم يقرع قلبك وسمعك ويحرك فؤادك قولُ الله وأنت تقرأ هذه الآية المباركة: وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ [هود:120]؟! فما هو هذا السر في قصص الأولين؟!

    تأمل رعاك الله: وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].

    قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إليَّ من كثيرٍ من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم، وشاهد هذا من كتاب الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]. وقوله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].

    ولقد أشار ابن الجوزي رحمه الله تعالى بإشارة جميلة في كتابه: اللقط في حكايات الصالحين، وهو لا يزال مخطوطاً فقال: وعن مالك بن دينار قال: الحكايات تحف الجنة.

    وقال الجنيد: الحكايات جندٌ من جنود الله عزَّ وجلَّ، يقوي بها إيمان المرتدين.

    فقيل له: هل لذلك شاهد في كتاب الله تعالى؟

    فقال: نعم. إنه قول الله تعالى: وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].

    1.   

    ابن أم مكتوم زمانه

    إذاً: هذه قصص فتأملوها، وأرعوني أسماعكم لنعيش وقائع تزيد بإذن الله تعالى من إيماننا، وتحرك هممنا، فأنطلق معكم انطلاقةً سريعةً إلى غرب المملكة العربية السعودية في منطقة وقرية بل وهجرة هي بجوار مدينة ينبع ، أخـبرنا الأحبة وطلاب العلم في المنطقة أن في هذه المنطقة رجلٌ صالح اسمه على مسمى، يا ترى ما اسمه؟! إنه العم عابد ! ولقد عنونتُ هذه القصة بعنوان: ابن أم مكتوم زمانه.

    دخلنا تلك القرية ولا يوجد بها أي معلمٍ من معالم الحضارة، فهي قرية، وهجرة بسيطة في بنائها، وشكلها، وهيئتها، بدأنا نرتفع مع الأرض حيث ارتفعت، وقصدنا مسجد القرية وصلنا إلى ذلكم المسجد، وإذا بنا تبدأ معنا القصة.

    عندما وصلنا إلى المسجد وجدنا عند باب المسجد حجراً كبيراً مربوطٌ به حبل -لا إله إلا الله- ما قصة هذا الحبل؟

    لقد وصلنا إلى الطرف الأول في هذه القصة، بدأنا نسير مع هذا الحبل، فيرتفع بنا حيث ترتفع الأرض، فهي منطقة لم تأتِها حضارةُ مناطقنا، بدأ يأخذنا هذا الحبل بين الأشجار، فسرنا بالسيارة تقريباً ما يزيد على نحو (6) دقائق، -سبحان الله- بدأنا نصل إلى نهاية الحبل، نعم. لقد بدأنا نصل إلى الطرف الآخر، فيا ترى ما هي النهاية؟! وإلى ماذا سوف يحملنا هذا الحبل؟! وإلى مَن سوف يوصلنا هذا الحبل؟! وما هو الخبر وراء هذا الحبل؟!

    إنه حبلٌ ممدودٌ على الأرض، عندما وصلنا إلى نهايته وجدنا بيتاً مكوناً من غرفةٍ ودورة مياه، وإذا بنا نجد في البيت رجلاً كبيراً في السن، كفيف البصر، بلغ من العمر ما يزيد على (85) عاماً، من يكون يا ترى؟! إنه العم عابد ، سألته فقلت له: يا عم عابد ! أخبرنا ما سر هذا الحبل؟!

    اسمعوا الجواب! فإنه والله لنداء نخرجه لأصحاب الأربعين والخمسين والستين والثمانين، نداء نخرجه للأصحاء والمبصرين، ولمن أنعم الله عليهم بالخيرات والفضائل والكرامات، لقد قال العم عابد كلمة تؤثر في قلب كل مؤمن.

    قال: يا ولدي! هذا الحبل من أجل الصلوات الخمس في المسجد، إنني أخرج من بيتي قبل الأذان فأمسك بهذا الحبل حتى أصل إلى المسجد، ثم بعد الصلاة وخروج الناس، أخرج آخر رجلٍ من المسجد، فأمسك بالحبل مرة أخرى حتى أعود إلى بيتي، وليس لي من قائد يقودني.

    لقد أصبحت يده فيها جميع الصفات التي نحكم عليها أنها من جراء أثر الحبل عليها.

    إنه رجل نوّر الله قلبه بالإيمان، قَصَد طاعة الله وأراد الصلاة، فصَدَق الله معه: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].

    فأين الذين حرموا أنفسهم من المساجد؟!

    أين أولئك الكسالى؟!

    أين أصحاب السيارات، والخيرات والكرامات الذين امتنعوا عن حضور الصلوات الخمس في المسجد؟!

    إنه رجل بلغت به هذه السن، وكفيف البصر، وضعيف البناء، وفي حالةٍ لو رأيتموها لتعجبتم والله؛ ولكنه يقول: هذا الحبل من أجل الصلوات الخمس في المسجد.

    وفي قرية قرب مدينة القنفذة رجلان كفيفا البصر أيضاً، وهما جاران لبعضهما، ربطا لهما حبلاً، لماذا يا ترى هذا الحبل؟!

    إنه من أجل حضور الصلوات الخمس في المسجد.

    فمات الأول ولم يزل الحبل موجوداً، ومات الثاني ولا يزال الحبل شاهداً لهما على ورودهما للمساجد!

    فأين أولئك الرجال الذين تكاسلوا عن حضور الصلوات الخمس؟!

    أين الذين هجروا صلاة الفجر؟!

    لماذا لم يحرك قلوبَنا قولُ الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم: (بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة) ؟!

    وصدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم في أمثال هؤلاء: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد).

    ولله در الشيرازي عندما قال كلمة رائعة: إذا سمعتم (حي على الصلاة) ولم تجدوني في الصف الأول فإنما أنا في المقبرة!

    مَن منا حَرِصَ على إبراء نفسه من النار؟!

    مَن منا حَرِصَ على إبراء نفسه من النفاق؟!

    ألم نسمع حديث رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه الإمام الترمذي عن أنس وحسنه الألباني والذي قال فيه: قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة -اسمعوا يا من تصلون منفردين، ويا من تفوتكم تكبيرة الإحرام في كل يوم- يدرك التكبيرة الأولى كتب الله له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) ؟!

    مَن منا سَلِم من النفاق، ونحن نقرأ حديث رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم: (أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة واحدة كانت فيه خصلة من خصال النفاق: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر) ؟!

    مَن منا لَمْ يكذب؟!

    مَن منا إذا اختلف مع أخيه لَمْ يرتفع صوتُه، في شجارُه؟!

    مَن منا إذا وعد لَمْ يخلف تلكم المواعيد؟!

    مَن منا أدى الأمانة، ولم يتعامل بالرشوة ولا بغيرها؟!

    أين براءة أنفسنا من النفاق؟!

    أين أنتم يا مَن قرع قلوبَكم نورُ الوحي؟!

    1.   

    السلف وحالهم مع تكبيرة الإحرام

    كان السلف إذا فاتتهم تكبيرة الإحرام عزوا أنفسهم ثلاثة أيام، وإذا فاتتهم الجماعة عزوا أنفسهم سبعة أيام، كما في تحفة الأحوذي ، يقول القاري معلقاً: وكأنهم ما فاتتهم صلاة الجمعة، ولو فاتتهم صلاة الجمعة لعزوا أنفسهم سبعين يوماً.

    يقول الإمام وكيع بن الجراح عن الإمام العظيم سليمان بن مهران الأعمش : كان الأعمش قريباً من (70) سنة لم تَفُتْه التكبيرة الأولى.

    وكان يحيى القطان يتلمَّس الجدار حتى يصل إلى المسجد وهو يقول: الصف الأول.. الصف الأول.. الصف الأول...

    فالمساجد هي التي ربت الرجال، وأخرجت الأبطال، وعلمتنا وثقفتنا! فأين البطَّالون؟!

    لا يُصْنَعُ الأبطالُ إلا     في مساجدِنا الفِساحْ

    في روضة القرآن في     ظل الأحاديثِ الصحاحْ

    شعبٌ بغير عقيدةٍ      ورَقٌ تُذَرِّيه الرياحْ

    من خان (حيَّ على الصلاة)     يخون (حيَّ على الكفاحْ)

    روى الإمام مالك وأحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستَهِموا عليه لاستَهَموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العَتَمة والصبح لأتوهما ولو حبواً).

    إن رجلاً مشلولاً عندنا في المنطقة يصل عمره إلى الثمانين أتى بعامل، لماذا أتى به يا ترى؟!

    لَمَّا سئل قال: لكي لا تفوتني صلاةٌ مع الجماعة.

    يقول الذي يصلي معه: لا يفوته في المسجد فرضٌ واحدٌ.

    كان علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه يمر في الطريق فجراً، فـإذا مر في الطـريق نادى بأعـلى صوته وقال: الصلاة.. الصلاة.. يوقظ الناس لصلاة الفجر، وكان رضي الله عنه يفعل ذلك كل يوم.

    وأنتِ يا أمة الله! ما حالك مع الصلاة؟! وما حالك في تأخيرها؟!

    لئن كنا قد ذَكَرْنا ذلك فإننا والله نعيش مآسٍ حزينةٍ مع الذين يتخلفون عن المساجد.

    والله لن يبدأ لنا انطلاق، ولا نصرة ولا تأييد، ولا دفاع ولا قوة إلا إذا انطلقنا من المساجد، وإذا أردت أن تعرف قوة إيمانك، وقوة عقيدتك، وقوة صدقك؛ فمن خلال عزيمتك الراسخة وتبكيرك إلى المسجد.

    أعود إلى العم عابد الرجل الذي سَمْتُه الصلاح والوقار: يقول أهل المنطقة: لقد عُرِف عن هذا الرجل أنه كفيف البصر منذ زمنٍ بعيد، ولقد غير هذا الحبل أكثر من مرة!

    فأين جيران المساجد الذين لا يشهدون الصلوات الخمس في المسجد؟!

    أين الذين حرصوا على الوظائف وغيرها؟!

    إنها قصة التميز الأولى، فلا تنسَها يا رعاك الله!

    1.   

    الدعوة إلى الله وأثرها على الناس

    وأنطلق معكم انطلاقةً سريعةً إلى تميزٍ آخر، إنه صاحب المطوية الصغيرة.

    سألت مدير أحد مراكز الجاليات في المملكة فقلت له: حدثني بأعجب قصةٍ مرت عليك خلال خدمتك في هذا المجال الدعوي.

    فقال: إن أعجب قصةٍ مرت عليَّ أنني كنت ذات مرة جالساً في هذا المكتب، فجاءني رجلٌ فِلِبِّيْنِيٌّ يريد الدخول في الإسلام، ففرحتُ بذلك وابتهجتُ؛ لأننا نحن مَن يذهب إليهم ويحرص على هداهم، وإذا بهذا الرجل يأتيني بنفسه إلى مكاني، فقلت في نفسي: الحمد لله!

    فقال: كيف الدخول في الإسلام؟!

    فبدأت أعلمه ذلك، حتى قلت له: أن تنطق بالشهادة، وقلت له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فنطق بها ولسانه يتأثر: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].

    وانطَلَقَت من هنا بداية التميز في هذه القصة: إن نور الإيمان بدأ يتحرك في قلبه، إنه رجلٌ طالما دعا غير الله! وسأل غير الله! وسجد لغير الله! وأنفق ماله لغير الله! ولكن الآن تحرك نور الإيمان في قلبه: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

    قبل القصة أسألك يا أخي عدة أسئلة:

    السؤال الأول: كم عمرك؟

    السؤال الثاني: كم هي مدة هدايتك؟

    السؤال الثالث: ماذا قدمتَ لدين الله؟

    السؤال الرابع: هل سهرت ليلةً في سبيل الله؟

    السؤال الخامس: ما هي أقصى مدةٍ جلستها في المسجد؟

    السؤال السادس: هل بكيتَ يوماً؛ لأنك لم تقدم لدين الله؟

    السؤال السابع: كم أنفقت في سبيل الله؟

    السؤال الثامن والتاسع والعاشر، ولن تنتهي الأسئلة.

    بدأ نور الخير يسري في قلب هذا الرجل! يقول الشيخ: في كل يومين أو ثلاثة يأتي هذا الرجل الفلبيني بفلبينيٍّ آخر معه ويقول: إنه قد دخل في الإسلام، وفي كل يومٍ أو يومين يقول: إن عندي ممرضة أو طبيبة قد أعلنت دخولها في الإسلام، فأخبر الأخوات في القسم النسائي أن يستقبلوها.

    فظل حاله على هذه الحال؛ في الأسبوع مهتدٍ أو مهتديَان أو ثلاثة، أو امرأة أو امرأتان.

    هذا الرجل مهندس إلكترونيات، نقلنا كفالته على مكتب الجاليات، فقد ازداد نشاط هذا الرجل، وازداد خيره، وبدأ يتحمس للدين أعظم مما كان يتحمس غيره، فنحن نفتخر أن هدايتنا (10) سنوات أو (20) سنة! وآخر يفتخر أنه داعية من سنوات! وآخر إمام مسجد خدمتُه في المسجد (30) سنة، وآخر .. وثالث .. ورابع! وهذا الرجل لا ينام بالليل ولا يرتاح بالنهار، بل يتجول على القرى والهِجَر، ووالله ما كلفناه بذلك، بل هو الذي يذهب بنفسه.

    ذهب هذا الرجل إلى الفلبين ثم عاد إلينا وقال: لقد فتحت مدرسةً إسلامية ولله الحمد، ثم ذهب بعض الدعاة من الدمام فرأوها حقاً ورأوا نشاطها، وهذا الرجل يجلس هنا في هذه البلاد ، ويشرف عليها وهي هناك.

    ثم تأملْ! لم ندخل في عجائب هذه القصة بعد، بل لم نرَ ولم نسمع شيئاًَ!

    حدَّثتُ بهذه القصة في إحدى المناطق، فجاءني أحد المشايخ وقال: لقد جاء صاحب هذه القصة إلى هنا، وأحضرنا له (300) فلبيني فلهم عليهم محاضرة لمدة ساعتين، فما إن انتهى حتى دخل ثلاثة منهم في الإسلام.

    ثم إن العجب إذا دخلنا في العجب في هذه القصة، حتى ندرك مدى الصبر على طاعة الله، والدعوة إلى الله تعالى، إن العجب أن هذا الرجل أصيب بمرض السرطان، فلا إله إلا الله! بدأ معه في إصبع من أصابع الرجل، فقرر الأطباء عندنا في المملكة ضرورة قطعها، فوافق على ذلك، فقُطِعت الإصبع، هل تتوقعون أنه أخذ إجازة؟! لا. لم يأخذ إجازة، بل عَمِل، وبعد فترة وجيزة انتشر مرض السرطان في رجله كلها، فقرر الأطباء عندنا بـالمملكة قطع الرجل، فوافق الرجل على ذلك.

    أصبح الرَّجُلُ برِجْلٍ ثالثة وهي عصا يتكئ عليها، يسافر إلى الفلبين دون أن تعيقه هذه الرِّجل عن الدعوة إلى الله!

    فأين المتشاغلون بالزوجات؟!

    أين المتشاغلون بالوظائف؟!

    أين المتشاغلون بمزارعٍ وحيواناتٍ وأمورٍ عن تقديم دعوة الله؟!

    يقول الشيخ: فقُطِعَت رجله ولم يتغير نشاطه، بل ظل يسافر إلى الفلبين ويرجع مرة أخرى ونحن نقول له: استرح لأولادك! استرح في بلادك.

    فيقول: لا. أرضُكم هذه خصبة، فهؤلاء الذين أتوا إلى هنا منذ سنوات قد تأثروا وقلوبهم لينة، أما الذين ما زالوا هناك فلا.

    ثم بدأت أحواله تزداد دعوةً ونشاطاً وحيويةً وقوةً -فلا إله إلا الله- ما أعظم الذين يقدمون لدين الله!

    فأين هممنا الفاترة؟! وأين نشاطنا الفاتر عن نصرة دين الله؟! لأن الدين يحتاج إلى رجالٍ ينصرونه، نعم. يحتاج إلى رجالٍ ينصرونه.

    1.   

    النشاط في أعمال الخير

    شبابٌ من أهل جدة -جزاهم الله تعالى خير الجزاء- قاموا في العام الماضي أيام الحج بنشاطٍ دعويٍّ غريبٍ وعجيب، ولعل بعضكم يخرج بإذن الله وينبري لهذا النشاط، فكم قصدنا نحن وأنتم مكة ؟! وكم ذهب بعض الشباب إلى المكتبات وغيرها بـمكة ؟! وكم .. وكم ..؟!

    فهؤلاء مجموعة من الفضلاء قرابة الخمسة أو زيادة، اشتروا حافلة واشتركوا فيها، ومعلومٌ أنه خلال أيام التشريق وقبلها تشتغل السيارات (24) ساعة دون توقف! فاسمعوا يا مَن تجوبون بسياراتكم الطرقات، يا مَن تلمِّعون! يا مَن تزينون! يا مَن تفعلون وتعملون! يا مَن جعلتَ السيارة أكبر همك! وبيتَك أكبر شغلك استمع!

    لقد قام هؤلاء الشباب بالسقيا للحجاج، ثم قاموا بالأمر الأعظم مع هذه السقيا حيث وفَّروا الدعوة إلى الله، فبدءوا يعالجون الشح الذي يقوم به بعض سائقي السيارات، يقول الإخوة: نحمل الأحبة من مِنى ونذهب بهم إلى مكة ، وننقلهم من المشاعر، وعندما يركب الحاج يقول: كم الأجرة؟

    نقول: اركب .. اركب، الأجرة ما تشاء.

    فإذا ركب الحجاج، ولعلكم تتخيلون أن بينهم غير العربي وغير الخليجي، فمنهم مَن هم مِن شرق آسيا ومَن هم مِن غربها، وبينهم أصحاب لغات، لا يعرفون كلامهم، فإذا ركبوا وسقوهم وأطعموهم بعض الطعام خلال المشوار الذي يمتد إلى النصف ساعة أو أكثر بدءوا في الكلام عن العقيدة، والتوحيد، والخير، والمشاعر، فيبكي الحجاج تأثراً بهذا الأسلوب الدعوي الذي قاموا به.

    فما هو سر التميز في هذه القصة؟

    عندما ينزل الحجاج يدفعون ضِعف القيمة.

    فيقولون لهم: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9].

    فينزل الحجاج وهم يبكون، ويذرفون الدمعات، ثم يبدأ هذا يقول: زورونا في مخيمنا، وذاك يقول: زورونا في مكاننا.

    يقول الأحبة: فيذهب بعض طلاب العلم معنا لزيارة هذه المخيمات، فيستقبلونهم بحفاوة وإكرام، والعجيب أنهم يدعوننا لزيارتهم في بلادهم، وقد زرناهم في بلادهم بالفعل.

    ولقد جاءني قبل شهرين تقريباً أحد الدعاة، راجعاً من أدغال أفريقيا فقال: ذهبنا إلى هناك وقَصَدنا أحد التجار إلى مسكنه، ومساحة مسكنه: (10 كم × 10 كم) تقريباً، ودخلنا ذلك القصر، وكان أغلب العمال الذين عنده من الهندوس، وهو تاجر مسلم، فلما زرناه بدأنا نذكر له الدين، أتدرون ماذا قال لنا؟! قال: إنني أتبرع بقصري هذا كله لدار تحفيظ القرآن، وأجعله في سبيل الله، وسوف أبني لي قصراً آخر.

    ثم قال للعمال: إما أن تسلموا وإما أن تخرجوا.

    فقالوا: أسلمنا ودخلنا في دينك.

    إنها الدعوة إلى الله!

    وفي العام الماضي بعد إلقاء كلمة على حجاج من نيجيريا ، وقف أمامي رجلٌ نيجيري قد احمرت عيناه، فقال للمترجم كلمات لا أفهمها، وأنا انتظر المترجم على عجلٍ ليقول لي: ماذا قال، فقال المترجم بعد انتهائه من كلامه: إنه يقول: جزاك الله خيراً على ما قلت وقدمت؛ ولكن نحن في قريتنا لم يزرنا أيُّ داعية إلى الله، والنصارى عندنا من عشرات السنين يسكنون معنا.

    إن هذا الرجل صاحب المطوية ماذا قدم لدين الله؟! لا بد أن نتساءل، ولا ننسَ صاحب المطوية هذا الذي قدم دريهمات لدين الله، فنصر الله بها هذا الرجل الفلبيني، لينصر ويقيم به الدين.

    وأعود لصاحبنا الفلبيني فأقول لكم جميعاً: عَظَّم الله أجركم فيه، لقد مات بعد أن انتشر مرض السرطان في جسمه كله، اللهم اقبله يا رب العالمين.

    1.   

    واجب الأمة في الدعوة إلى الله

    إنها منائر الدعوة إلى الله التي يحترق أصحابها لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الظلام إلى الظِّلال الوافرة، ومن الانحراف إلى الاستقامة وطريق الهداة المهتدين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في تفسير قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] يقول: فواجبٌ على الأمة أن يبلغوا ما أُنْزِل إليه، وينذروا كما أَنْذَرَ، قال الله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة:122].

    يا أصحاب الشهادات! ما حالنا جميعاً عندما نقف أمام الله؟!

    إن الجن لما سمعت القرآن تحركت بحركة عَجِزَ عنها كثيرٌ منا، نعم. لقد عـجز عنها كثيرٌ منا، قـال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ [الأحقاف:29-32] إنها الجن قامت بالدعوة إلى الله.

    إن النفس فيها صفات لا بد أن تعالَج ولا بد أن تؤدَّب.

    يقول ابن القيم رحمه الله: إن في النفس صفات:

    فيها كِبْرُ إبليس.

    وحسدُ قابيل.

    وعُتُوُّ عاد.

    وطغيانُ ثمود.

    وجرأةُ نمرود.

    واستطالةُ فرعون.

    وبغيُ قارون .

    ووقاحةُ هامان .

    - وحِيَلُ أصحاب السبت.

    - وتمرُّدُ الوليد .

    - وجهلُ أبي جهل .

    ومن أخلاق البهائم:

    - حرصُ الغراب.

    - وشَرَهُ الكلب.

    - ورعونةُ الطاوس.

    - ودناءةُ الجُعْل.

    - وعقوقُ الضَّب.

    - وحقدُ الجمل.

    - وصَولةُ الأسد.

    - وفسقُ الفأرة.

    - وخُبْثُ الحية.

    - وعَبَثُ القرد.

    - وجَمْعُ النملة.

    - ومكرُ الثعلب.

    - وخِفَّةُ الفراش.

    - ونومُ الضبع.

    - ووُثوبُ الفهد.

    غير أن الحازم بالمجاهدة يُذْهِب ذلك كلَّه، بإذن الله تبارك وتعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] وليس من الحزم بيعُ الوعد بالنقد، وليس من الحزم جزعٌ مِن صبرِ ساعةٍ، مع احتمال ذُلِّ الأبد.

    عجباً والله مِنَّا أننا لا نصبر على الدعوة إلى الله، بل ولا حتى على طاعة الله!

    فأين مَن يجلس مِنَّا في المسجد بعد صلاة الفجر -باستثناء مَن عليهم أعمال- أين هم؟!

    أين الذين يجلسون على الطاعات والقربات، والاعتكاف على كتاب الله كما سوف نرى بعد قليل؟!

    إننا نحتاج إلى هِمَّةٍ كبيرة، فبعضُنا أكبرُ هَمِّهِ، ومبلغُ علمِهِ، مطعمٌ شَهِي، وملبسٌ دَفِي، ومركبٌ وَطِي، وقد رفع لذلك راية.

    إنما العيش سماعٌ ومُدامٌ وإدامُ     فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلامُ

    الحزمُ بقدر الاهتمامات، والهمومُ والهمودُ بقدر الهمم، والجَلَدُ والحزمُ خيرٌ من التفلُّت والتبلُّد، والصلاةُ خيرٌ من النوم، والمنيَّةُ خيرٌ من الدنيَّة، ومَن عزَّ بَزَّ، ومن أراد المنزلة القصوى في الجنة فعليه بالمنزلة القصوى في الدنيا، فعلى قدر مكانتك في الدنيا تكون بإذن الحي القيوم مكانتُك في الآخرة، نعم رعاك الله، واحدةٌ بواحدة ولكل سلعة ثمن.

    كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله تعالى حازماً مع نفسه أشد الحزم، كان يعلق سوطاً في بيته يخوف به نفسه -تأملوا كيف كان التأدب يا أصحاب الهمم- ويقول لنفسه: [قومي .. قومي .. فوالله لأزحفن بك زحفاً إلى الجنة، حتى يكون الكلل منك لا مني] فإذا فتر وكَلَّ وتعب، تناول سوطه وضرب رجله ثم قال كلماتٍ رائعاتٍ طيباتٍ، حَرِيٌّ بكل صاحب همةٍ أن يرددها، قال: [أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستأثروا به دوننا! كلا. والله لنزاحمنهم عليه زحاماً، حتى يعلموا أنهم خلَّفوا وراءهم رجالاً].

    هم الرجال، وعيب أن يقال لمن لم يكن في زيهم: رَجُل، وحالهم يقول:

    عباس عباسٌ إذا احتدم الوغى     والفضل فضلٌ والربيع ربيعُ

    هذا ابن عقيل الحنبلي رحمه الله بلغ الثمانين من العمر، ولم يفتر ولم يضعف ولم يكَل ولم يمَل، حتى قال:

    ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خُلُقي     ولا ولائي ولا ديني ولا كَرَمي

    وإنما اعتاضَ شَعَري غيرَ صِبغته     والشيبُ بالشَّعَر غير الشيب في الهِممِ

    1.   

    الأخلاق الفاضلة وأثرها في الدعوة إلى الله

    التقيت بأحد الإخوة من أسبانيا وكان سائق أجرة؛ ولكنه قدم لدين الله شيئاً، جزاه الله تعالى خيراً، فلا تحقرن من المعروف شيئاً، فماذا قَدَّم يا ترى؟!

    كان يُرْكِبُ الركابَ ويحرص على المسافات الطويلة، وأثناء الطريق يُشْغِل الوقتَ بالكلام عن الإسلام عبر شريطٍ أو غيره، ويحرص كثيراً على غير المسلمين.

    فإذا جاء وقت الصلاة وقف، وأخبر مَن عنده من الركاب أن هذا وقت صلاة، ثم يقول كلمة رائعة: هذا موعدٌ مع الله.

    ثم إذا حضر غداءٌ أو عشاءٌ أو إفطارٌ، حرص على شراء الوجبة هو للذي أركبه معه، والنظام هناك كلٌّ يأكل لوحده، فيقول الراكب: لا آكلُ معك، فأنت مسلم وأنا هندوسي أو نصراني أو بوذي.

    فيقول أخونا: لقد علمنا الإسلام ورسولنا صلى الله عليه وسلم أن نأكل حتى مع الفقير واليتيم والمسكين.

    يقول ناقلُ القصة: فيقول صاحب الأجرة: وما إنْ نقرب من الوصول إلى المنطقة التي نقصدها حتى يقول مَن عندي مِن الركاب: لا تذهب بنا إلى ذلك المكان، بل اذهب بنا إلى أقرب مركزٍ للإسلام، فإننا نريد أن ندخل في الإسلام، فبمثل هذه الأخلاق أردنا الإسلام!

    الله أكبر! فأين أهل الأخلاق؟!

    أين دعاة الأخلاق؟!

    أين الكرماء؟!

    أين الفضلاء؟!

    أين من قاموا بالدعوة إلى الدين بصدقٍ وأمانة؟!

    ولعلي أسألكَ وأسأل نفسي وأسألكِ أمة الله، ولنسأل أنفسنا جميعاً: ماذا قدمنا لدين الله من أشياء؟

    إنني لا أقول: إننا قد ارتكبنا الكبائر والموبقات؛ ولكن أقول: إننا قد عصينا الله، فمرت علينا ساعات غفلة، ربما كانت على الطرقات، أو في الملاهي، أو أمام الشاشات، أو أمام الفضائيات، أو في الغيبة، أو النميمة، أو على ما لا يرضي الله تعالى، فأجزم وأقول: لا شك أنه قد مرت علينا ساعات غفلة، فبماذا عوضناها بعد الهداية؟! وماذا قدمنا لدين الله؟! صاحب المطوية ماذا قدم؟ وماذا عمل؟! وماذا فعل أولئك الدعاة جميعاً؟

    1.   

    الصحابة وصدقهم مع الله ومع رسوله

    اسمعوا معي! إلى هذا الموقف الرائع الذي يضرب لنا قصةَ تميزٍ رائعة، إنه موقف عكرمة بن أبي جهل الذي حارب الله ورسوله والإسلام، والذي طالما فعل وفعل، لقد دخل عكرمة وأسلم عام الفتح، فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال كلماتٍ رائعات، قال: [يا رسول الله! والذي نجاني يوم بدر -يوم بدر الذي حارب عكرمة رسول الله فيه وأراد قتله- لا أدع نفقةً أنفقتها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً قاتلته في الصد عن دين الله، إلا قاتلتُ ضعفه في سبيل الله].

    عكرمة يبايع على هذا، ثم تأتي ساعة بيان الوقائع. فكم نعاهد ونبرم من عقود مع الله، وسرعان ما ننقضها! وإنني لأجزم أن البعض منا يقول: إذا خرجتُ من هذه المحاضرة لسوف أخرج إلى الناس وأدعو، وآخر إمام مسجد يقول: سوف أعمل دروساً، وثانٍ يقول: سوف أزور كذا، وثالث يقول: سوف أُخْرِج الدش والمحرم، ورابع وخامس وسادس، ثم سرعان ما تفتر هذه الهمم وتضعف.

    ولكن استمع إلى البطولة.. استمع إلى قصة التميز.

    لما جاءت معركة اليرموك أقبل عكرمة على المعركة، إقبال رجلٍ ظمآن في يومٍ صائفٍ شديد الحر، أقبل عكرمة بين المسلمين يقاتل قتال المسلمين، فلما رآه خالد بن الوليد قال له: [يا عكرمة ! لا تفعل ذلك، فإن قتلك سيكون شديداً على المسلمين] فكسر غمد سيفه وبدأ يضرب في الأعداء ويقول لـخالد : [يا خالد! لقد أسلمتَ قبلي -انظروا التنافس في الهداية- دعني يا خالد أكفِّر عمَّا كان مني مع رسول الله، لقد كنتُ أنا وأبي أبو جهل أشدَّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا خالد أأقاتل رسول الله واليوم أفر من الروم؟! والله لا يكون ذلك].

    لو بان عضدي ما تأفف منكبي     لو مات زَندي ما بكته الأناملُ

    ثم يقف عكرمة ويقول في الصحابة: [من يبايع على الموت؟! فيقف أربعمائة رجلٍ من المجاهدين ويقولون: يا عكرمة ! نحن نبايع على الجهاد، فيقول: مَن يبايعني حتى ينصر اللهُ دينَ الإسلام؟!] فيقف أربعمائة بجهادٍ ونضالٍ، يريد عكرمة أن يكفِّر عن الماضي، وعن أيام الجهالة والغفلة، حتى لقي ربه تعالى مُثْخَناً بجراحه ولسانُ حاله يقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84].

    1.   

    إنفاق الأموال وأحوال الناس فيه

    فأين مَن أنفقوا الأموال في الأغاني؟!

    أين مَن أنفقوا الأموال في السفريات؟!

    أين مَن أنفقوا الأموال في التذاكر؟!

    أين مَن أنفقوا الأموال في محاربة دين الله، وفي دعوة المغنين والمغنيات؟!

    أين مَن أنفقوا الأموال في إقامة مشاريع تصد عن دين الله؟!

    لنقول لهم جميعاً: أين أنتم من عكرمة ؟!

    وأخاطب المهتدين الذين استقاموا لسنوات، ربما أنفق الواحد منهم أمواله قبل الهداية على المخدرات والمسكرات وغيرها، ولما استقام أصبح شحيحاً، أخاطبهم وأقول: كم أنفقتم من الأموال في سبيل الله؟! كم أنفقتم من الأموال في الحفاظ على دين الله؟!

    خطاب لمن أنفق ماله فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى

    أخاطب الجميع الذين أنفقوا الأموال على الدخان، والقات، والبغاء مع البغايا والزواني.

    وهذه قصة أذكر لكم رأسها، وإنما احتفظت بها للقرار الشجاع الذي اتخذه صاحبها: شابٌ يقول لي: أنفقت (250.000) ريال على المعاكسات فقط، وأنفقتُ على الزنا والحرام أيضاً نحو (250.000) ريال!

    فأين مَن يكفِّر عن ماضيه ويبلِّغ دين الله تعالى ويقوم بمثل ذلك.

    ولنأتِ إلى قصةِ تَمَيُّزٍ أخرى، إنها قصة صاحبة أم الجرن وهي منطقة قرب محافظة جدة، تبعد عنها نحو (70) أو (80) كيلومتر، وقد يعاتبني البعض على ذكر الأسماء؛ ولكن أقول: هذا منهج السلف، فلو قرأتَ للذهبي وابن كثير وابن الأثير لرأيتهم قد نصوا في آثارهم على ذكر القصص وتاريخها وأسمائها وبلدانها، فلماذا نتركها الآن؟! فلعلنا نموت في هذه اللحظة ويأتي مَن بعدنا فيرويها بإذن الله بأسانيدها، بدل أن يقول كما يقول الناس في المقاهي: سمعنا قصة، دون ذكر الأسانيد، وقد قال سفيان : لولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء، هذا هو الهدف من الإسناد.

    أهل العلم ومسارعتهم في فعل الخير

    وقبل أن ندخل في القصة نقول: إن الجمعية الخيرية بـأم الجرن عجيبة جداً! يقول شيخ الجمعية: إن كهرباء الجمعية وُصِّلَت على نفقة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، فقد ذهب إليه أحد الإخوة وقال له: يا شيخ ! نحن في منطقة أم الجرن نحتاج إلى كهرباء في الجمعية الخيرية، والتكلفة (10.000) ريال، فقام الشيخ مباشرة وكتب ورقة إلى مدير الكهرباء في المنطقة وقال له: هذا المبلغ مُؤمن عندي.

    يقول شيخ الجمعية: وأما التكييف فكله على نفقة الشيخ عمر السُّبَيِّل رحم الله تعالى الجميع.

    فتجد خيرَ أهل الإحسان قد وصل إلى مناطق وقرى عديدة.

    لا تحقرن من المعروف شيئاً

    وندخل الآن إلى القصة: فتح شيخ الجمعية ظرفاً، الظرف فيه (400) ريال فقط، لا تحتقرها يا صاحب الألف، يا من رواتبهم (2000) ريال و(3000) ريال، يا أصحاب رواتب العشرة والعشرين ألفاً، اسمعوا! واسمعي يا أمة الله! أيتها المعلمة! أيتها الموظفة! يا طالبة الكلية! أخاطبكم جميعاً.

    قال الشيخ: هذه المرأة لها نحو (5) سنوات وهي ترسل هذا الظرف لتكفل به أيتاماً، وزوجها ليس موظفاً، وعندي الوصولات موجودة على تبرعاتها هذه، لم تتخلف عنها شهراً واحداً، وهي الآن تكفل بيتاً كاملاً.

    ثم حَدَث أن ألقيتُ محاضرة بـجدة وذكرتُ قصتها في المحاضرة، وكان أولادها قد حضروا معنا هناك، يقول الشيخ عنهم: إنهم أولاد فضلاء وصالحون.. صغيرهم قبل كبيرهم، لا يفرط في الصلوات الخمس عموماً وفي صلاة الفجر خصوصاً، أمَّا أمهم فهي امرأة صالحة من خيرة النساء، ولا ترضى أن يُغتاب في مجلسها أحد.

    وبعد المحاضرة قلتُ لأحد أولادها: أخي! رعاك الله! أسألك بالله هل تعرف هذه المرأة التي ذكرتُ قصتها في المحاضرة؟!

    فوالله وبالله وتالله لقد قال لي: لا أعرفها!

    فقلت له: هذه أمك!

    فتأثر قلبه وسالت دمعتان من عينيه؛ لأن الشيخ قد قال لي: إن ولدها هذا فقط هو الذي يأتي بهذا الظرف، فقال متعجباً: أمي منذ (5) سنوات تكفل الأيتام؟! إنني معلم لم أتوظف إلا منذ سنتين، وأخي ضابط لم يتوظف إلا منذ نحو ذلك أيضاً، ونحن منذ (4) سنوات أو (5) سنوات كانت حالتنا فقيرة جداً ليس عندنا شيء!

    قلتُ: أمك قالت ذلك.

    ويقول مدير الدعوة والإرشاد بـالبوعية الشيخ عبد الله السلطان : جاءتني امرأة فأعطتني ورقة ملفوفة بخرقة وقالت: يا شيخ ! ما عندي في هذه الدنيا إلا هذا البيت، خذه يا شيخ واجعله لتحفيظ القرآن.

    يقول الشيخ عبد الله : والله ما عندها شيء، وليس معها أحد، وهي الآن عندنا في المنطقة تسكن في غرفة الجيران، فهم الذين يأتون لها بالطعام والشراب.

    إنها امرأة! انظروا ماذا قدَّمت!

    أين الذين ينفقون أموالهم؟!

    أين أصحاب الرواتب؟!

    لماذا لا نجد الخيرات؟!

    لوم النفس على التقصير في سبيل الله

    وهذه ورقة جئت إليكم بأصلها، فعندما ألقيت هذه المحاضرة في إحدى المناطق كتب لي أحدهم يقول:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    فضيلة الشيخ: إننا نحبك في الله -أحبك الله الذي أحببتنا من أجله، وإن كنتَ غائباً، فاسمعوا ماذا يقول- أنا أعرف أني مقصر في كل شيء، ولكني والحمد لله أصلي مع أبنائي جميع الفروض، وأشارك في جميع الجمعيات الخيرية في المنطقة بمبلغ (300) ريال شهرياً، وأكفل (6) أيتام في الخارج، ويتيم واحد في الداخل وأسرة، وأؤدي الزكاة، وأتصدق والحمد لله.

    ثم يقول: هل أنا مقصِّر؟!

    ما رأيكم؟! هل هذا مقصِّر؟!

    بل نقول له: أثابك الله وجعل بِرَّك في موازين أعمالك.

    1.   

    كفالة الأيتام والأرامل وفضله

    روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما).

    وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة).

    أين هذه الأجور منا؟!

    أين المتنافسون في الإنفاق والبذل في طاعة الله تعالى؟!

    أين أهل الإحسان؟!

    أين أهل الخيرات؟!

    أين أهل الفضائل والمكارم؟!

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وأحسبه قال: كالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر) هل تستطيع القيام ولا تفتر؟! هل تستطيع أن تصلي الليل كله؟! هل تستطيعين يا أمة الله أن تصلي الليل كله؟! هل نستطيع كلنا أن نفعل ذلك؟! وهل تستطيعون أن تصوموا ولا تفطروا؟! (كالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر).

    وعن أنس قال: (مَن عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضم إصبعيه) رواه مسلم .

    الله أكبر! أين مَن يكفل الأيتام؟!

    أين مَن يقوم على الأرامل؟!

    هذه المدارس بالأيتام وأولاد الفقراء تعُج، وهذه المستشفيات بأصوات المرضى تضِج، وهذه البيوت بالعجائز والشيوخ والأرامل ترتج، وأنفُس البائسين والمحتاجين عند الله تحتج! فيا أهل الدثور لا تفوِّتوا الأجور، يا صاحب البيت المعمور، والحال المستور أنفق ما في الجيب تُرْزَق بإذن الله مما في الغيب، تصدق بالميسور، والله يُخْلِف عليك ما أنفقت، ويقبل منك ما تصدقت، ويثيبك على ذلك بالجنة والحور، والأنهار والقصور: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الطور:17-18] إنها الأجور المضاعفة، فالزم فعل الخير مكانك، وأطعم البر إمكانك، وأقرض ربك من مال ربك، وعامل مولاك بما أولاك، ولا تردن سائلاً بـ(لا)، فإنه يموت بالبلاء، ولا تكن من البخلاء، وإياك وأَدْوَى الداء، قال صلى الله عليه وسلم: (وأيُّ داءٍ أَدْوَى مِن البخل؟!).

    اسمع واسمعي! أشابيب الوحي، ونور الخير الذي ينطلق مِن فِيِّ الحبيب -صلوا عليه أيها الأحبة- عندما ينطق به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في المسند حيث قال: (أيما مسلمٍ كسا مسلماً ثوباً على عري كساه الله تعالى من خضر الجنة، وأيما مسلمٍ أطعم مسلماً على جوع أطعمه الله تعالى يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقا مسلماً على ظمأ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم).

    كم يموت الناس جوعاً؟!

    أين أولئك الأثرياء؟! لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ [التكاثر:8].

    1.   

    السلف وحالهم مع النفقة والصدقة والقرآن

    إن الروح إذا بَذَلَت لم تخشَ من ذي العرش إقلالاً، فعن نافع قال: [كان ابن عمر رضي الله عنهما يفرق في المجلس الواحد (30.000)، ثم يأتي عليه شهر ما يأكل مُزْعَة لحم، واشتهى في مرضه أن يأكل حوتاً، ومرة أخرى اشتهى عنباً، فلما جيء به إليه، تصدق به في سبيل الله].

    وما الجود مَن يعطي إذا ما سألته     ولكن مَن يعطي بغير سؤالِ

    أويس القرني كان قد ذكر عنه بعض أهل السير أنه ذات مرةٍ تصدق بثيابه كلها، حتى جلس وليس عنده ثوبٌ يذهب به إلى الجمعة؛ لأنه رأى رجلاً ليس عليه شيء.

    وكان أحد السلف على المنبر يقول: [إنني لأعرف رجلاً يُطْعِم كل يومٍ (36.000) مِن الأعراب تمراً وسويقاً] فيا سبحان الله! أيُّ هممٍ قد تحركت؟! إن البخل داء!

    دَلاهُمُ بغرورٍ ثم أوردهم     إن الخبيث لمن والاه غرَّارُ

    الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً [البقرة:268].

    فأنفق رعاكَ الله، وأنفقي رعاكِ الله، تؤجران بإذن الله.

    وهذه قصة أخرى في التميز: إنه رجلٌ عندنا في المنطقة وهو من التجار والأثرياء والباذلـين والفاعـلين؛ ولكنه -سبحان الله- أراد استحضار الأجر، أراد استحضار الفقراء والمحتاجين؛ فلم ينسَ شيئاً، لقد بنى مسجداً، ولما بناه أخذ على نفسه هو وزوجته وأولاده ليلة كل جمعة أن يذهبوا إلى المسجد ويغلقوا الأبواب ويعملون في تنظيفه، وصار هذا حالهم في كل أسبوع، وهو يستطيع أن يأتي بآلاف العمال يخدمون في المسجد؛ ولكن كأني بهذا الرجل يتأمل حديثاً رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (عُرِضَت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعُرِضَت عليَّ ذنوب أمتي فلم أرَ ذنباً أعظم من سورةٍ من القرآن أو آيةٍ أوتِيَها رجلٌ ثم نسيها) قال ابن رسلان: فيه ترغيبٌ في تنظيف المساجد، مما يحصل فيها من القمامات، أنها تحسب في أجورهم وتُعْرَض على نبيهم.

    وأما صاحب القرآن فإن المراد بذلك: الذي ضيعه فلم يراجعه، ولم يفعله. فاكتب قصة تَمَيُّزِك.

    وهذه قصة جعلتُ عنوانها (استيقظ يا نائم!) فقد فاز القوم، ونحن في نوم، لقد فاز القوم بهممٍ جبارة وطموحاتٍ رائعةٍ، وقصصٍ متميزةٍ، كتبوها لنا في الدنيا لنقرأها ونراها ونسمعها.

    يقول أحد الفضلاء والأحبة الكرماء: دخلتُ إلى المسجد يوم الجمعة وحرصت على الصف الأول، فوجدت رجلاً فاضلاً بجواري قد بكر قبلي، فلما انتهيت من قراءة سورة الكهف، وجدته يقرأ في الأجزاء الأخيرة من القرآن؛ في جُزأي (تبارك، وعم) قبل دخول الخطيب بخمس دقائق أو عشر دقائق -اسمعوا! حتى نحتقر أنفسنا، ونرى ما هي هممنا، وما هو التميز الذي عشناه- يقول: وقبل دخول الإمام ببضع دقائق رفع الرجل يديه إلى السماء وأخذ يدعو الله تعالى، فقلت في نفسي: لعلي أكلمه عن سبب تركه قراءة سورة الكهف! -نحن نجيد النقد السريع وتلمُّس العثرات والأخطاء دون النظر للحسنات والخيرات والبركات- يقول: لعلي أكلمه بعد الصلاة، ثم امتنعتُ.

    وفي الجمعة التالية حرصت على أن أصلي بجانب هذا الرجل، ولما جئت إلى الصف الأول وجدته قد جاء قبلي، فلما انتهيت من قراءة سورة الكهف وجدتُه يقرأ في الأجزاء الأخيرة أيضاً قبل دخول الخطيب بخمس دقائق، وإذا به ينتهي من سورة الناس، مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:6] ثم يرفع كفيه إلى السماء ويدعو الله، فقلت: لعلي أكلمه بعد الصلاة، فلما قُضِيَت الصلاة جئتُ إليه وقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردَّ عليَّ السلام، فقلت له: يا أخي! جزاك الله خيراً وأحسن إليك، وشكر الله لك تبكيرك، وحسن تلاوتك وحرصك؛ ولكن رأيتك تترك قراءة سورة الكهف أو لعلك تقرؤها قبل أن آتي، فلماذا يا ترى؟

    فرد عليه وقال: جزاك الله خيراً يا أخي! ولكني ولله الحمد أبدأ بقراءة سورة البقرة من صلاة فجر يوم الجمعة، وقبل أن يصعد الخطيب بخمس دقائق أو عشر دقائق أكون قد ختمت القرآن كاملاً: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

    فأين أهل النوم؟!

    أين أهل الكلام؟!

    أين الذين يَغُطُّون يوم الجمعة في سباتٍ عميق؟!

    لعلنا نتساءل ونقول: عجباً لهذا الرجل! هذا غير قراءته في الأوقات الأخرى.

    ولقد توفي رجلٌ من الفضلاء عندكم هنا بـالدمام في الإجازة الماضية، يحدثني بذلك أحد الصالحين فيقول: طالما سابقناه فلم نستطع -هذا هو السباق- كان يبدأ صلاة الفجر بسورة البقرة فما يأتي العشاء إلا وهو في سورة طه، وما يأتي فجر اليوم الآخر إلا وقد بدأ بسورة البقرة من جديد.

    لا إله إلا الله! إنها همم يا أهل القرآن! فأين أولئك الناس؟! ألا نبكي على أنفسنا؟! إن هؤلاء تشبهوا بأسلافهم، ومن شابه أبه فما ظلم.

    فهذا أبو حنيفة ، وواصل بن عبد الرحمن ، ووكيع بن الجراح ، ومسعر بن كدام ، والحسن بن صالح ، وأخوه، وأمه، ويحيى بن سعيد القطان ، والشافعي ، وأبو العباس بن عطاء ، وعطاء بن السائب ، وأبو بشر بن حسنويه النيسابوري ، وغيرهم كثير وكثير وكثير يختمون القرآن كل ليلة، هل نضمُّ اسمك مع أسمائهم؟! وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] كل ليلة يختمون القرآن!

    أبو بكر بن عياش إمام من أئمة المحدثين لما نزلت به سكرات الموت بكت أخته عند رأسه، فقال لأخته -اسمع كلمة نعجز جميعاً أن نقولها- قال: [لا تبكي على أخيك، انظري إلى تلك الزاوية، فلقد ختم أخوك القرآن في تلك الزاوية فقط (18.000) ختمة].

    والهدفُ من هذه القصص والله ليس سردَها، إنما تحريكُ هممنا لطاعة الله، دعوةً وجهاداً وإنفاقاً وبذلاً وتعليماً ونصحاً وتوجيهاً، لنقوم بطاعة الله، ولا يمل الله حتى تملوا.

    1.   

    الخوف من عدم رضا الله

    إن بطل قصتنا الأخرى وصاحب التميز فيها: ربعي بن خِراش ، الإمام القدوة، والولي الحافظ الحجة أبو مريم الغطفاني .

    فعن الحارث الغنوي قال: آلى ربعي بن خراش أن لا تتبسَّم أسنانُه ضاحكاً -لماذا؟- حتى يعلم أين يكون مصيره.

    واستَمِع إلى الحارثي يقول: وأخبرني الذي غسله قال: لم يزل متَبَسِّماً على سريره ونحن نغسله، حتى فرغنا منه، رحمه الله.

    والشيخ صلاح شحادة قائد كتائب القسام لعل بعضكم قد رآه -نسأل الله تعالى أن يتقبله شهيـداً- لَمَّا أُحرق -أَحرق الله اليهود في كل مكان، اللهم احرقهم في كل مكان، ولا تدع لهم مكاناً إلا أحرقتهم فيه وأحرقت مكانهم معهم- لَمَّا أحرق رأيتُ صورتَه كما عرضتها شبكات الإنترنت وهو بهذه الهيئة؛ يداه مرتفعتان إلى السماء وهو في ابتسامة رائعة!

    وذكر ابن الجوزي رحمه الله تعالى في أول كتابه الثبات حتى الممات قصة أحد السلف، أنه توفي ولده، فجلس يبكي، فقيل له: تبكي على ولدك الصالح المجاهد الفاعل والعامل؟!

    فقال: إنني لا أبكي لأنه مات على خيرٍ وطاعة؛ ولكن أبكي وأنا أقول: هل مات وهو راضٍ عن الله؟ وهل الله راضٍ عنه؟

    اسأل نفسك واسألي نفسكِ: هل نحن جميعاً -ونحن جالسين- قد رضي الله عنا، أم لم يرضَ عنا؟! وهل نحن رضينا عن الله أم لم نرضَ عنه سبحانه؟!

    زُرْنا رجلاً في مستشفىً وهو في حالة غيبوبة لمدةٍ تقاربُ التسع ساعات، فلما وضعتُ يدي على جبهته، وقرأت عليه بدأت شفتاه تتحركان وهو ينظر؛ ولكن لا يعي ولا ينطق، فحرَّك شفتيه وهو يشير بيده ويقول: عاودوا .. عاودوا .. ثم قال: جزاكم الله خيراً، فقيل له: لقد صبرك الله، ثم قال بلسان الحال: الحمد لله.

    تأملوا! تسع ساعات وهو في حالة غيبوبةٍ على سريره.

    وبعد محاضرة في قطر وفي الساعة التاسعة والنصف صباحاً من اليوم التالي اتصل أحد الشباب القطريين فقال: أنا حضرت البارحة محاضرة (الواعظ الصامت)، ثم قال: أنا الآن أكلمك وأنا في المستشفى، أحد أقاربي هنا في غيبوبة، وقد أفاق قبل قليل، وبدأ يقرأ سورة الكهف مباشرة، ثم مات بعد أن انتهى منها. انتهى كلامه.

    اللهم اختم حياتنا بـ(لا إله إلا الله).

    اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، ونسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك.

    اللهم إنا فقراء إليك.

    اللهم تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيْعُ الْعَلِيْمُ [البقرة:127] ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ [البقرة:128].

    اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا (لا إله إلا الله).

    اللهم إنا نسألك عيش السعداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء.

    اللهم اهلك اليهود.

    اللهم فك أسرانا وأسرى المسلمين، اللهم فك أسرانا في كل مكان، اللهم فك أسرانا وردهم لنا سالمين غانمين مأجورين ثابتين صابرين يا رب العالمين.

    اللهم اجعلنا يا رب العالمين ممن فعل أفعال أهل الجنة فجعلت لهم المقام الأسمى.

    نسألك اللهم الفردوس الأعلى، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء.

    اللهم يا رب العالمين إنا نسألك الصبر والثبات على طاعتك.

    اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755835820