إسلام ويب

الصراع الأخيرللشيخ : محمد عبد الله الهبدان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الصراع بين الحق والباطل سنة الله في أرضه، فأينما وجد الإنسان وجد الصراع، وهو يتنوع ويأخذ أشكالاً مختلفة، إلا أنه تزداد ضراوته ولا يرجى زواله إذا كان صراعاً دينياً، مبنياً على اختلاف في العقائد. فعلى أمة الإسلام أن تحذر، فإن تاريخها يثبت إثباتاً قاطعاً أنه كلما ابتعدت عن دينها ذلت وهانت، وكلما رجعت إليه وتمسكت به عزت وسادت.

    1.   

    حقيقة الصراع بين الحق والباطل

    الحمد لله الأول والآخر، الباطن الظاهر، الذي هو بكل شيءٍ عليم، يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، يعز من يشاء ويذل من يشاء، خلق كل شيء فقدره تقديراً، والصلاة والسلام على خير الأنام محمد بن عبد الله النبي الأمي، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    أمة الإسلام: إن الصراع بين الحق والباطل سنة لله في أرضه، وأينما وجد الإنسان وجد الصراع وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251] ويتنوع هذا الصراع ويأخذ أشكالاً مختلفة، إلا أنه تزداد ضراوته ولا يرجى زواله إذا كان صراعاً دينياً، مبنياً على اختلاف في العقائد:

    كل العداوة قد ترجـى مودتها     إلا عداوة من عاداك في الدين

    وعند نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقت به أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، فقال ورقة: (يا ليتني فيها جذعاً -أكون حياً- حين يخرجك قومك، فقال عليه الصلاة والسلام: أوَ مخرجي هم؟! قال: نعم، لم يأتِ أحد بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) الحديث أخرجه البخاري ومسلم .

    وقد ذكر الله جل جلاله في كتابه عداوة الكافرين للمؤمنين، وذكر أسبابها وأنها لا تزول حتى يتحول المسلم إلى دينهم، ومهما اغتر المسلمون بالكفار وزعم من زعم زوال هذا العداوة واندثارها، وحاول التقريب بيننا وبينهم إلا أن الله جل جلاله قد أظهرها في كتابه، وبينها في محكم آياته.

    فقال الله عز وجل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109].

    وقال الله عز وجل: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].

    وذكر الله جل جلاله غايتهم التي يسعون إليها: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].

    وكل ما يظهر من جرائم وأحقاد إنما هي جزء يسير مما تخفي صدورهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].

    ومهما قدم المسلمون من تنازلات فلن تزيدهم إلا ذلا ًوخضوعاً، وعجزاً وخنوعاً، قال الله جل جلاله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] والواقع خير شاهد على هذه القضية الجلل.

    استخدام أعداء الإسلام شتى الوسائل لمحاربة الإسلام

    أمة الإسلام: إن أعداء الله يستعملون شتى الوسائل للصد عن سبيل الله، فتارةً يستخدمون التصفية الجسدية، وأحياناً يستعملون الفكر والثقافة في تغريب الأمة ومسخ هويتها، وهم لا يترددون في استعمال أي وسيلة في تحقيق أهدافهم، وكل ما يخدم غاياتهم وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].

    ففي شوال سنة خمس من الهجرة تجمعت قوى الكفر من قريش وحلفائهم من القبائل المشركة، في أول محاولة لاقتلاع الإسلام من جذوره، ومضوا مغترين بأعدادهم الهائلة، وأموالهم الطائلة، يريدون ليطفئوا نور الله، واشتد الكرب على المسلمين، وبلغت القلوب الحناجر، وقد بلغ بهم ما وصفه الله بقوله: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10-11].

    لقد رمتهم العرب عن قوس واحدة، وغدر اليهود كعادتهم، ونقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأ المنافقون والذين في قلوبهم مرض بالإرجاف والتخويف من الداخل وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب:12].

    وميز الله أهل الإيمان أهل البأس والصبر: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22]... الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] وبعد تلك اللحظات الحرجة جاء نصر الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب:9].

    لقد سلط الله على أعدائه ريحاً هوجاء في ليلة مظلمة باردة، فقلبت قدورهم، واقتلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، ودفنت رحالهم، فاضطروا للرحيل، وكفى الله المؤمنين القتال.

    وما هي إلا سنوات قليلة حتى وصلت حدود الدولة الإسلامية إلى الصين ، ولم نجد ما نحدد به اتساع ممالك الإسلام، إلا أن يقول خليفة من خلفاء المسلمين وهو يخاطب السحاب: [أمطري حيث شئت، فإن خراجك سيحمل إلينا].

    رد فعل اليهود والنصارى أمام الفتوحات الإسلامية

    إن هذه الحركة العظيمة من فتوحات الإسلام، وهذا الاتساع العظيم جعل اليهود والنصارى لا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم بال، فبدأت الحملات الصليبية للقضاء على الإسلام، ففي عام [492]هـ سقط بيت المقدس في أيدي الصليبيين، وقتلوا فيه أكثر من [60.000] ألف قتيل، فجاسوا خلال الديار وتبروا ما علو تتبيراً، ولقد كان سلاح المسلمين في ذلك الوقت الدموع المنهالة.

    مزجنا دمانا بالدموع السواجم     فلم يبق منا عرضة للمراجم

    وشر سلاح المرء دمع يريقـه     إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

    واستمرت الحملات قرنين من الزمان، كان أخطرها التحالف الصليبي مع التتر، وما نتج عنه من تلك الحملة المسعورة على المسلمين، لقد أهلكوا الحرث والنسل، وعلا أمر النصارى، ورفعت الصلبان وعلا شأنها حتى قال الشاعر وهو يصف الحال:

    يا نار قلبي من نار لحرب وغى     شبت عليه ووافى الربع إعصار

    علا الصليب على أعلى منابرها     وقام بالأمر من يحويه زنار

    وكم حريم سبته الترك غاصبة     وكان من دون ذاك الستر أستار

    وهم يساقون للموت الذي شهدوا     الموت يا رب من هذا ولا العار

    إلى قوله -وهنا بيت القصيد، والسبب الرئيس لتسلط الأعداء-:

    والله يعلم إن القوم أغفلهم     ما كان من نعم فيهن إكثار

    فأهملوا جانب الجبار إذ غفلوا     فجاءهم من جنود الكفر جبار

    وأصدق من ذلك قول الله جل جلاله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ الشورى:30].

    سقوط المسلمين عند بعدهم عن دينهم

    لقد دفع المسلمون في ذلك الوقت ثمن معاصيهم، وبعدهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، وإخلادهم إلى الأرض، وحبهم الدنيا - الثمن غالياً، فقد سقطت بغداد عاصمة الدولة الإسلامية في أيدي التتر، وقتل الخليفة العباسي، وسفكت الدماء، وقتل الأبرياء، وانتهكت أعراض النساء في مشاهد بشعة تكاد تنكرها العقول لولا ثبوتها، وربما ظن البعض أن شجرة الإسلام اجتثت من أصولها، وهذا المؤرخ ابن الأثير رحمه الله وهو شاهد عيان لبعض أحداثها يقول: " من الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني مت قبل هذا أو كنت نسياً منسيا" أ.هـ

    لقد قتل في هذه الحملة الوحشية مئات الآلاف من الناس، وإليكم نموذجاً واحداً مما حدث، لقد قتل أهل نيسابور جميعاً، وقطعت رءوسهم وجعلت في ثلاث أهرامات، هرمٌ لرءوس الرجال، وهرم لرءوس النساء، وهرم لرءوس الأطفال:

    أحل الكفر بالإسلام ضيماً     يطول عليه للدين النحيب

    فحق ضائع وحمى مباح     وسيف قاطع ودم صبيب

    أتسبى المسلمات بكل ثغر     وعيش المسلمين إذاً يطيب

    أما لله والإسلام حـق     يدافع عنه شبان وشيب

    فقل لذوي البصائر حيث كانوا     أجيبوا الله ويحكم أجيبوا

    عودة العزة والنصر بالعودة إلى الله

    أيها المسلون: ورغم قسوة الأحداث، وضخامة المصاب، وجلالة الخطب، وفداحة الكارثة، إلا أن أهل الإسلام لما غيروا أوضاعهم، وعادوا إلى ربهم، واستعدوا للنزال، وتأهبوا للقتال؛ أنزل الله عليهم نصره، وأيدهم بقوته فظهر قادة كبار حملوا لواء الإسلام، ورفعوا راية الجهاد، فقامت الأمة معهم، وثبتوا ضد عدوهم.

    فمن هؤلاء الأبطال: عماد الدين زنكي ، ونور الدين محمود ، وصلاح الدين الأيوبي الذي استرد بيت المقدس من أيدي الصليبيين، والقائد قطز الذي قاد معركة عين جالوت ، وغير بانتصاره في تلك المعركة موازين القوى، حيث كان في الناس هيبة عظيمة من جنود التتر، فألحق بهم خسائر مادية ومعنوية، انتهت بطردهم من بلاد الشام.

    لقد ظن المسلمون أنهم لا طاقة لهم بلقاء التتر الذين سقطت الخلافة العباسية على أيديهم، وعاثوا في بغداد والشام الفساد، ثم توجهوا إلى مصر ليستأصلوا الإسلام، في جميع البلدان كما يزعمون، وبعث هولاكو برسالة تهديد إلى قطز، وأنذره بما حل بغيره من الأمراء، وأمره بالتسليم، فخرج الملك المظفر بجميع عسكر مصر ومن انضم إليه من عساكر الشام، ومن العرب والتركمان، وكان للعلماء الدور الرائد في تحميس القادة وحث الناس على الجهاد والشهادة، وتكامل عنده العسكر، وسار معه بعض القادة على كره، فلما كان يوم الجمعة [15] من شهر رمضان التقى الجمعان، وفي قلوب المسلمين همٌ عظيم من التتر، فتحيد التتر إلى الجبل، وعندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتقر طرف منه، فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته من رأسه وصرخ بأعلى صوته، وا إسلاماه! وا إسلاماه! وا إسلاماه! ثم قال رحمه الله: يا ألله! انصر عبدك قطز على التتر، يا ألله! انصر عبدك قطز على التتر، ثم حمل بنفسه ومن معه حملة صادقة فأيده الله عز وجل بنصره وتمكينه، وقتل مقدم التتر وانهزم باقيهم، ومنح الله ظهورهم للمسلمين يقتلون ويأسرون، ونزل السلطان وصلى ركعتين شكراً لله عز وجل، وعاد العسكر وقد امتلأت أيديهم بالغنائم.

    لو عاينت عيناك يوم نزالنا     والخيل تطفح في العجاج الأكدر

    وقد اصطخم الأمر واحتدم الوغى     ووهى الجبان وساء ظن المجتري

    حتى سبقنا أسهماً طاشت لنـا     منهم إلينا بالخيول الضمر

    فتسابقوا هرباً ولكن ردهم     دون الهزيمة رمح كل غضنفر

    وجرت دماؤهم على وجه الثرى     حتى جرت منها مجاري الأنهر

    1.   

    أسباب النصر الحقيقية وأسباب الهزيمة

    إذاً -يا عباد الله- النصر ليس بالقوة العسكرية، ولا المعايير المادية كما يظنها الماديون، كلا كلا. إنما النصر من عند الله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160] النصر لمن نصر الدين: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126].. وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

    إذاً فالوعد بالنصر وعد إلهي ووعد رباني: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران:139] ولكن .. ولكن بشرط إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].

    ومن هم المؤمنون الموعودون بالنصر والتمكين؟

    إنهم كما قال الله: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً [الأنفال:2-4].

    ولذا سأل ملك الروم فلول جيشه المهزوم: ما بالهم ينتصرون؟ فقال شيخ من عظمائهم: إنهم يهزموننا بأنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويتناصفون فيما بينهم.

    فهل أحيينا تلك السجايا الكريمة، والخصال العظيمة حتى يتنزل نصر الله علينا؟!

    أيها المسلمون: أليس الله جل جلاله عليماً بكل شيء؟ هل يكون في هذا الكون أمرٌ بدون علمه جل جلاله؟

    إذاً ربنا عز وجل يعلم ما يصل إليه أعداؤه من القوة العسكرية، والتطور التقني، ومع ذلك يأتي الوعد الإلهي: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56].

    لقد كتب الله على كل كافر ذلاً يجده في قلبه، وهلعاً يحسه في نفسه: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [آل عمران:151] ذلك بأن الذي يقاتل لله يكن في عونه التأييد الإلهي، ومن كان معه الله فلا يد لأحد بكفاحه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11].

    وهذا ما أدركته قريش على كفرها وضلالها، فعندما سارت بخيلها ورجلها مغترين بعددهم وعتادهم إلى بدر، عرض عليهم خفاف الغفاري المدد بالسلاح والرجال، فقالوا له: لئن كنا نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فما لأحد بالله طاقة.

    فيا لله يا لله! قريش بكفرها وضلالها تدرك أن الله عز وجل ينصر حزبه المؤمنين، وبعضنا يتخالج إليه شك وريب في نصر الله وتأييده!!

    وفي مطلع القرن الثاني للهجرة رفض ملك سجستان والرخج الذي كان لقبه رتبيل أداء الخراج للمسلمين، وكان ذلك في عهد بني أمية، وقد كان يدفع الجزية كغيرة عن يدٍ وهو صاغر، فأرسل إليه الخليفة الأموي وفداً من المسلمين يطالبه بالخراج، فلما وصل إليه الوفد قال لهم: أين القوم الذين كانوا يأتوننا قبلكم، كانوا ضامري البطون من الجوع، يلبسون نعال الخوص، وفي وجوههم سيماء من أثر السجود؟ فقيل له: قد مضوا، فقال: إنكم لا شك أنضر منهم وجوهاً، ولكنهم أصدق منكم وعداً وأشد بأساً.

    وصدق والله وهو كذوب، فإن القوة الحقيقية لأمة ما ليست في جيوشها الزاحفة، ولا في أسلحتها اللامعة، ولا في جنودها المتأنقين في المآكل والمشارب، ولكن بقوة إيمانها، وقربها من ربها، وتمسكها بهدي نبيها صلى الله عليه وسلم، لذا قال الملهم عمر: [إنكم لا تقاتلون الناس بكثرة العدد، بل تقاتلونهم بهذا الدين، فانظروا ماذا أحدثتم في دينكم].

    فعندما يضعف مصدر القوة الحقيقي عند المسلمين فهم كباقي الناس ميزان نصرهم العدد والعدة: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25].

    والأمر الذي يجب أن يُعلم هو أن الأمة عبر تاريخها الحافل لم تمن بالهزائم والنكبات إلا عند بعدها عن كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، عندما نسوا قول الحق: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال:60] عندما نسوا قول الحق جل جلاله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109] عندما نسوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118] عندما أخلدوا إلى الأرض وأقبلوا على الدنيا، عندما غزتهم جيوش جرارة من الذنوب والمعاصي والشهوات.

    أيها اللاهون هلا     تهجرون الملهيات

    وتقولون وداعاً     لزمان الترهات

    قد مضى عهد الرقاد     وأتى يوم الجهاد

    فاحملوا اليوم السلاح     جددوا عهد صلاح

    إن عهد الظلم ولى     وأتى فجر جديد

    إيه يا بغداد صبراً     إن بعد العسر يسرا

    وجموع الكفر مهمـا     عربدت سوف تزول

    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.

    1.   

    ضرورة الثقة بأن النصر للإسلام

    الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وصلى الله وسلم على النبي المصطفى، والهادي المجتبى، وعلى من سار على نهجه واقتفى.

    أما بعد:

    فيا أمة الإسلام: إن شجرة الإسلام لا تروى إلا بالدماء، وكلما تسلط الأعداء على الأمة كلما قويت شوكتها، وتوحد صفها، ورجعت إلى كتابها الذي هو سر قوتها، ومبعث عزتها، وأساس نهضتها.

    فالذين تروعهم الأحداث المؤلمة التي تعصف بالأمة ويظنون أن أحداً يستطيع أن يستبيح بيضتها، ويطفئ نورها، جهلوا سنن الله جل جلاله.

    فلا تقلق أيها المسلم! فالله جل جلاله هو الذي يدير رحى الصراع، وقد كتب الله البقاء لهذه الأمة إلى أن تقوم الساعة، وتكفل سبحانه بحفظ هذا الدين: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

    وسيظل هذا الدين صخرة شماء تتكسر عليها أمواج الكفر المتلاطمة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].

    وقد دعا عليه الصلاة والسلام ألا يهلك أمته بسنة عامة وقد أجيبت دعوته صلى الله عليه وسلم.

    فعلى المؤمن ألا تهتز ثقته بربه، وليعلم أن الله جل جلاله لا يقدر شراً محضاً، بل لا بد للشر من خير يعود للعبد، ولنعد إلى الوراء قليلاً، فعندما فوجئ العالم الإسلامي بالهجوم الصليبي الحاقد على البوسنة والهرسك ، وعلى كوسوفا وغيرها من بلاد الإسلام الذي ما يزال قائماً في بعضها حتى الآن، كم من المسلمين مات في تلك البلاد، إنه عدد قليل بالنسبة لمن حيي قلبه بالإسلام الصحيح، المبني على الولاء للمسلمين، والبراء من الكافرين ما لو أنفقت ملايين الريالات، وعمل آلاف الدعاة لما تحقق عشره، والله أعلم.

    كما أن تلك الأحداث بينت بصورة عملية مستوى الحقد الدفين في قلوب أولئك الأشرار.

    1.   

    أهمية الجهاد بالمال والنفس

    أيها المسلمون: ليسأل كل واحد منا نفسه: ماذا قدم لنصرة الدين والمستضعفين؟ وما هو عطاؤه؟

    فليس من الحزم يا مسلمون ألا نستيقظ من نومنا إلا عند الضربات، ومقدار اليقظة لا تتجاوز أياماً معدودات، ثم نعود إلى سباتنا الطويل.

    إن على الأمة اليوم أن توحد صفها، لا سيما في وقت الأزمات والملمات، وأن يكون التعاون بينهم؛ لأنه السبيل إلى تصحيح الأوضاع وتوزيع الأدوار لمواجهة الأخطار، فالتجار بأموالهم، والعلماء بأقوالهم وأقلامهم، وأئمة المساجد بقنوتهم حتى ترتفع النازلة، والشباب بدمائهم، والنساء بشيء من أموالهن ودعائهن، وتحريض أبنائهن ومن تحت أيديهن، وأهل الرأي والمشورة وأصحاب الرياسات بجاههم، ولا يكلف نفساً إلا وسعها.

    علينا جميعاً العمل لهذا الدين، وبذل الغالي والنفيس من الجهد والمال لنصرة إخواننا، فإنه لا سبيل لكسر العدو بعد تقوى الله عز وجل والتوكل عليه إلا بأموال المؤمنين الصادقين، فقد أمر الله بذلك في قوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] وجاء الترغيب في ذلك في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261] وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذا في سبيل الله، فقال عليه الصلاة والسلام: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة، كلها مخطومة) وجاء الأمر بجهاد المشركين بالنفس والمال، قال عليه الصلاة والسلام: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) رواه أحمد .

    والذين يتقاعسون عن بذل الزكوات والصدقات في وقت محنة المجاهدين، ووقت تطاير الرءوس وتقطع الأشلاء يعدون مفرطين، ولا تلتمس لهم الأعذار في هذه الغلطة، فقد توهن في صفوف المجاهدين، وتعزز زحف الصليبيين، وهذا ذنب كبير وخذلان مبين.

    وأخيراً: لا تنسوهم من الدعاء، وحث الصالحين عليه وتذكيرهم، فالدعاء شأنه عظيم وهو سلاح المؤمن.

    يا أمة الدين القويم كفاكم     ما عاد يجدي المسلمين هروب

    حشدت لكم أمم الفساد جحافلاً     في العاديات لواؤها منصوب

    هم قد أتوا بالحقد يدفعه الأذى     ليذل هامات الهلال صليب

    هم بادروكم بالعذاب وبالردى     وأتاكم يوم أصم عصيب

    إن تكرهوه فإنما هو خيركم     ويكون فيه الفصل والتعصيب

    يا أمة الإسلام إلا تنفروا     فالسهم من قوس العدو مصيب

    ومتى ينادي الحر نصـر عقيدةٍ     فالسابحات الضامرات تجيب

    اللهم يا ذا الجلال والإكرام! يا ناصر المظلومين! ويا مغيث المستغيثين! يا واحد يا أحد! اللهم انصر أمة الإسلام، اللهم انصر أمة الإسلام، اللهم انصر دينك وكتابك، وأعل سنة نبيك، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والشرك والعناد، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا ذا الجلال والإكرام.

    اللهم عليك بدولة الكفر والطغيان، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم الظالمين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والنصارى الحاقدين، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم خالف بين كلمتهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم.

    اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين والشيشان وأفغانستان، اللهم انصرهم في كل مكان، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وامكر لهم ولا تمكر عليهم، وسدد رميهم، واجمع على الحق شملهم.

    اللهم إنهم ضعفاء فقوهم، ومساكين فارحمهم، وجياع فأشبعهم، وعراة فاكسهم.

    اللهم فك أسرانا وأسرى المسلمين، اللهم عجل لهم بالفرج، اللهم عجل لهم بالفرج يا ذا الجلال والإكرام.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756434850