إسلام ويب

علم البلاغة [7]للشيخ : عبد العزيز بن علي الحربي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يحذف المسند في مواضع معروفة لأغراض بلاغية، كما أن في ذكره إلى جانب كونه هو الأصل أغراضًا بلاغية. وفي تعريف المسند إليه أغراض بلاغية تختلف باختلاف نوع ما عرف به.

    1.   

    مجمل الكلام عن أغراض حذف المسند إليه

    الحمد لله رب العالمين، الحمد لله علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على خير من نطق بالضاد، الذي أعطي جوامع الكلم، القائل: (إن من البيان لسحراً)، صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما بعد:

    فقد سبق وإن ذكرنا المسند إليه وعلمنا كيف يحذف، وأن الحذف في تلك المواضع التي ذكرناها هو أبلغ من الذكر، وذكرنا كلام عبد القاهر في وصف هذا الباب النفيس، وعلمنا أن المسنَد إليه يحذف للعلم به أو للجهل به أو للاختصار أو الإبهام أو للخوف منه أو للخوف عليه، أو كما قال صاحب التلخيص: لتخيير العدول إلى أقوى الدليلين من العقل واللفظ، أو لدرك الفرصة، أو لصونه عن لسانك، أو لصون لسانك عنه.. إلى آخر ما ذكرناه.

    وتبين لكم أن الملمح العام في حذف المسند إليه هو أنه لا حاجة إلى ذكره، ثم بعد ذلك يأتي البلاغي فيبحث عن النكتة الدقيقة التي حذف المتكلم من أجلها ذلك اللفظ.

    ولو سألتكم عن قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ[القارعة:10-11]، حذف هنا شيء، وهو المسند إليه، لماذا؟ لأن السياق قد دل عليه، وهو معلوم، ولأن الغرض هو المبادرة بذكر النار، والمقام مقام تخويف، ومقام إنذار وتحذير.

    وهكذا لو سألتكم عن قول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العلق:1]، الفاعل محذوف، هل نقول: إن الفاعل ههنا محذوف أم نقول: إن المسند إليه محذوف؟ لا نقول: إنه محذوف، لأنه هاهنا موجود، لكنه مستتر وجوباً، بحيث لا يمكن إظهاره، ولا تستطيع أن تنطق به أصلاً، لا تستطيع أن تنطق به اسماً ظاهراً، ويكون ذلك الكلام كلاماً عربياً مبيناً، تستطيع أن تنطق به ولكن لا نقبل هذا الكلام على أنه كلام عربي، وتستطيع أن تأتي بضمير لكننا نحواً لا نقول: إنه فاعل، فإذا قلت: اقرأ أنت، فإننا في الإعراب لا نعرب لفظ (أنت) فاعلًا، هذا ليس بسائغ، إنما نعربه إعراباً آخر، وقول الله مثلاً: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ[البقرة:35]، (اسكن) فعل أمر، فأين فاعله؟ ضمير مستتر، ويعرب (أنت) توكيدًا لذلك الضمير الذي استتر وجوباً، كأن الكلام: اسكن أنت أنت لا غيرك، وهكذا لأن لدينا مواضع يستتر فيها الضمير وجوباً، على حد قول ابن مالك:

    ومن ضمير الرفع ما يستتر كافعل أوافق نغتبط إذ تشكر

    هذه الأفعال الأربعة يستتر فيها الفاعل وجوباً.

    وحينما يكون المسند إليه مستتراً فلا تقل: إنه محذوف، وتبحث عن النكات، لماذا حذف؟

    قل كذلك في قول الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى[عبس:1-2]، عبس: فعل ماض، تولى: فعل ماض، من الذي عبس وتولى؟ النبي صلى الله عليه وسلم، لم يذكر هنا، ليس له ذكر بعد الفعل وليس له ذكر قبله، ولكنه معلوم، والكلام عنه، والقرآن تنزل على أصحابه الذين يعرفون أنه نزل عليه وأن هذه الواقعة حصلت له، فنحن نقول من باب التعليل الساذج: إنه حذف للعلم به، ولكننا نبحث بعد ذلك بحثاً بلاغياً لماذا حذف مع مسألة العلم به؟ فلنا أن نقول اجتهاداً لا جزماً ، لأنها من أسرار هذا الكتاب المبين المعجز.

    هنا يجزم كثير من الناس الآن الذين يبحثون في مثل هذه النكات البديعة ويقولون: إن الله قال كذا، وحذفت هذه اللفظة من أجل كذا، في مكان لا يمكن فيه الجزم، ولا يمكن فيه اليقين، هذا تقول على الله، لا يجوز.

    فهنا لنا أن نقول: إن الفاعل حذف لأن المقام مقام عتاب، والله أراد أن يتلطف مع نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر اسمه في هذا المقام، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما جعل الله تعالى يعاتبه من أجله، ولم يذكر اسمه؛ لأن المسألة سوف تصلح بعد ذلك الحادثة التاريخية، فلا يسلط لوم على اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال: عبس محمد وتولى محمد.. إلى آخره، وهكذا.

    ومعلوم العتابات التي جاءت في القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنها جاءت بألطف العبارات، حتى إنه يقدم له العذر أو العفو، تقدم العفو على العتاب؛ فيقول له: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا[التوبة:43].

    وهكذا، كذلك مثلاً في قصة إبراهيم عليه السلام في سورة والذاريات: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ[الذاريات:24-25]، ههنا شيء محذوف، وهو المسند إليه الذي أخبر عنه بقوله: (قوم) قوم: خبر، و منكرون: صفة، أو خبر آخر، والمسند إليه محذوف تقديره (أنتم) ولكنه لم يقل: أنتم قوم منكرون؛ لأن هذا المقام لا يحسن فيه الخطاب بمثل هذا اللفظ، هؤلاء ضيف، أو ضيوف كرام، الضيف في اللغة العربية يطلق على الواحد والواحدة والاثنين والاثنتين والثلاثة يعني الجمع، سواء كان مذكراً أو مؤنثاً، تقول: جاءنا ضيف واحد أو جاءنا ضيف واحدة، أو جاءني ضيف، وتعني بذلك رجلين، تقول: جاءني ضيف وهما اثنان، أو اثنتان، لا بأس في ذلك، وكذلك في الجمع؛ ولذلك وصفهم هنا بالجمع فقال: (المكرمين).

    فقال: (قوم منكرون) ولم يقل: أنتم؛ لأنه يخاطب ضيفه، وليس من كرم الضيافة أن يخاطبه بمثل هذا اللفظ؛ فإن هذا اللفظ حينما تقول لإنسان: أنت، وهو إنسان صاحب شأن وصاحب مقام ويحتاج إلى تعليم وتبجيل، لا يناسب ذوقاً، والبلاغة هي ذوق، ليس من الذوق أن تقول له: أنت، بهذا الخطاب، إنما تخاطبه بأسلوب آخر، إما باسمه أو بوصفه أو بلقبه أو بنحو ذلك، أو تلقي إليه الكلام من غير أن يكون في كلامك خطاب؛ لأنك تتحدث معه، ويستطيع هو أن يفهم كلامك من غير أن تخاطبه، حتى كلمة (هذا) عندما تقول عن إنسان في مجلس: هذا، يصل إلى نفسه ــ إن كان هناك سياق يدل على ذلك ــ أنك تحتقره، تقول: هذا فعل كذا أو هذا جاءني قبل.. لماذا اخترت مثل هذا اللفظ؟

    والأصل في الإنسان أن يتلطف مع الناس في العبارات وفي الخطاب، والأصل في الإنسان أن يتسامح مع الناس حينما يلقون إليه مثل هذا الخطاب أيضاً، وأن يعاملهم بما في قلوبهم لا بما نطقت به ألسنتهم، حتى لو واطأ القلب اللسان في ذلك فالشرع يحثك على التسامح أيضاً.

    والإنسان قد يتكلم بكلام ولكنه لا يقصده؛ كما حكى عن الشافعي: أن امرأة جاءت إليه وقالت له: أسأل الله أن يُشفيَك! فقال: اللهم بقلبها لا بلسانها! لأن الإشفاء هو إزالة الشفاء، فيصير بمعنى يمرضك، وهي ما أرادت ذلك ولكنها أرادت أن يزيل عنه المرض ولا يزيل عنه الشفاء، فأرادت: أسأل الله أن يَشفيَك، هناك فرق بين: شفى و أشفى، والهمزة لها معان منها الإزالة، إذا جاءت مع الفعل وكان ثلاثياً فصار معها رباعياً كانت الهمزة للإزالة، وليس هذا معناها الوحيد، فلها معان أخرى.

    في نفس القصة أيضاً: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ[الذاريات:29]، وحذفت المسند إليه، وقالت: عجوز عقيم، والمسند إليه محذوف، وتقديره: أنا كأن الدهشة هنا نقلتها إلى الخبر فوراً، ولم تأت بالمسند إليه، فلك أن تقول هنا مع القول بأن المسند إليه حذف للعلم به، أنه لضيق الفرصة وقوة التعجب وكثرة الدهشة قالت: عجوز عقيم، وإلا فقد قالت في سورة هود: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ[هود:72]، فجاءت بهذا اللفظ، وتجدون في القرآن الكريم حينما تتعدد القصة ألفاظاً مخالفة للألفاظ الأخرى، مختلفة معها، لكن هذا الاختلاف هو من باب التنوع لا من باب اختلاف التضاد؛ لأن المتكلم يتكلم بالكلام، فيكرره، وهي كانت هنا تتكلم مع إبراهيم، وهنا كانت في أول الأمر، وتجد في كل موضع في القرآن كررت فيه قصة لفظة ليست موجودة في القصة الأخرى، تجد هنا لفظاً ليس موجوداً هناك، وبعد ذلك يأتي من يريد أن يجمعها جمعاً موضوعياً، يجمع هذه الألفاظ كلها حتى يتم عنده القصة كاملة يجمّع ألفاظها، ولهذا حديث طويل.

    الحذف لا يقتصر على المسند إليه، سوف يأتينا أيضاً كذلك في المسند، ويأتينا في متعلقات الفعل، إلا أن صاحب التلخيص لم يدرس الحذف الذي يكون في الحروف إلا في متعلقات الفعل، حينما يحذف المفعول به، وسوف نمر على ذلك إن شاء الله في المسند وفي المتعلقات، ونذكر الآن طرفاً يسيراً في موضع واحد في القرآن الكريم، أنا أقصد في سورة الكهف، تجدون في قصة الخِضر أو الخَضر، هكذا ينقط على وجه: الكَبد وعلى وجه الكِبد أيضاً، قصة الخضر مع موسى عليه السلام قال له في المقام الأول: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا[الكهف:72]، ولكنه بعد ذلك حينما قتل الغلام واعترض عليه بعد ذلك موسى أراد أن يؤكد له الكلام، وأن يخاطبه بخطاب أبلغ وأقوى، ويحتاج إلى زيادة في اللفظ، قال له: ((أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا))، وهكذا بعد ذلك في قوله: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا[الكهف:78]، ثم بعد ذلك قال: ((تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا))، فقال له في الأولى: تستطع، وقال له في الثانية: تسطع، وذلك أنه خاطبه بالفعل الذي فيه التاء في أول الأمر؛ لأن غرابة هذه المسائل لم تنجلي عنه بعد، والإشكال لا يزال عنده، ويحتاج إلى مشقة وإعمال ذهن، حتى يفهم تلك الأسرار التي من أجلها فعل الخضر ما فعل، فعبر عن ذلك بالفعل الذي فيه زيادة التاء؛ لأن المقام هنا يحتاج إلى زيادة، ولكن حينما انجلى الإشكال وفهم موسى عليه السلام لماذا حصل من الخضر ما حصل قال له: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا[الكهف:82].

    وهكذا بعد ذلك بقليل قوله تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا[الكهف:97]؛ وذلك أن ذا القرنين قال عنهم: إنهم لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا[الكهف:93]، أو: (لا يكادون يُفقِهون قولاً) فهم لا يفهمون ولا يكادون يُفهمِون، لأن في قراءة بالضم وفي قراءة بالفتح، بعد ما بنى لهم الردم قال: ((فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا))، (ما اسطاعوا أن يظهروه) بحذف التاء، أن يظهروه، أي: يصعدوا على ظهره، وهذا ممكن، لو كانت هنالك وسائل مساعدة، ويمكن أن يتصور أنه سهل حين لا يرى، ولكنه قال بعد ذلك: ((وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا))، نعم، وجاء بالفعل بالتاء، والنقب هو: أن يحدثوا فيه نفقاً في عرضه، من أوله إلى آخره، فعبر عن العمل الخفيف بفعل خفيف، وعبر عن العمل الثقيل بفعل فيه زيادة؛ لأن هذا يحتاج إلى عمل أشق، وهكذا في كثير من المواضع التي جاءت في القرآن الكريم، ليس هنالك حرف حذف إلا لسر، أو نكتة بليغة، وليس هنالك حرف زيد إلا لنكتة بليغة.

    وقد يقول قائل وهل معنى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ[الكهف:97] أنهم ما استطاعوا ولن يستطيعوا بعكس: وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا[الكهف:97] بأنهم لم يستطيعوا، ولكنهم سيفعلون كما ذكر في الحديث؟

    يعني هو يشير إلى الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق بالسبابة والإبهام)، فهو يشير إلى هذا؛ لأنهم ما استطاعوا أن يظهروه ويصعدوا عليه، ولكنهم استطاعوا أن يفتحوا فيه فتحة؛ فهو يريد أن يقول: إن اللفظ الذي جاء فيه الفعل بالتاء وهو الأثقل والعمل فيه أشق استطاعوا أن يفعلوه، وما استطاعوا أن يظهروا عليه، مع أنه عبر عن ذلك بالفعل الذي هو خفيف، ليس فيه تاء: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ[الكهف:97].

    الجواب: الجواب على ذلك سهل، وهو أن هذا العمل الذي عملوه هو طيلة قرون؛ حتى توصلوا إلى هذا، والصعود قد يسهل، ولكنه ليس سهلًا عليهم كلهم، قد يسهل على بعض الأفراد، هب أنهم تسابقوا إلى أن يصعدوا عليه، فقد يصعدوا عليه وينجح في ذلك عدد، لكن لا يكون المجال مفتوحاً للعدد كله، فيستطيع أن يظهروا عليه، لكن المحاولة مع كونها شاقة وكانت طويلة الأمد استطاعوا من بعد ذلك أن يفتحوا فيه تلك الفتحة اليسيرة، ثم وسعوه وسعوه، ويوسعونه إلى أن يأتي اليوم الذي يخرجون منه، وإن كان بعض العلماء يقول: إنهم قد خرجوا في أيام التتار والمغول، وبعضهم يقول: يأجوج ومأجوج هم هؤلاء أهل الصين ومن حولهم، والله أعلم، إلا أننا نؤكد أن خروجهم هو علامة من علامات الساعة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    أغراض ذكر المسند إليه

    الحال الثانية هي ذكر المسند إليه، ولا عجب في أن نتكلم عن ذكر المسند إليه مع أنه الأصل؛ ولذلك تجدون في كتب البلاغة أنه ذكر لأنه الأصل، فهل الأصل هو الذكر أم الحذف، الذين شككوا في هذه المسألة وقالوا: إن الأصل هو الحذف كلامهم ليس بصحيح، والذين قالوا: إن كلاً منهما أصل، هذا ليس بصحيح.

    الأصل هو الذكر، ولكن هل الأبلغ الحذف؟ الأبلغ الحذف حين يكون الكلام مفهماً، وحين يكون هنالك داع للحذف، أما حين لا يكون هنالك من داع فلا يكون الحذف أبلغ، فالأصل هو الذكر، أن يذكر المسند إليه، فعندما تقول: محمد قائم، هذا هو الأصل وليس الأصل أن تحذف لفظ محمد؛ ولذلك قال: لأنه الأصل، ولا مقتضي للعدول عنه، أي: ليس هنالك ما يطلب أن تعدل عنه، هل هو ضيق فرصة؟ أم هو العلم به أم الجهل به أم ماذا؟ تريد أن تصون لسانك عنه؟ ليس هنالك من داع، هذا معروف، وهذا الأمثلة فيه كثيرة.

    1) إذا لم يكن هناك مقتضى للعدول عن اللفظ، فحينما نقول: الله أكبر، في الصلاة، وفي الأذان، الله: مبتدأ، وأكبر: خبر، هذا مسند إليه ومسند، ما الداعي إلى الحذف؟ لا يمكن الحذف هنا، ولا يصلح، فلا حاجة إليه ولا مقتضي للعدول عنه، لا حاجة إلى الحذف ولا مقتضي للعدول عن الذكر، هكذا.

    كذلك عندما تقول: سمع الله لمن حمده، (سمع الله لمن حمده) هنا يمكن أن تقول: سمع لمن حمده؛ لأنه قد سبق، لكن الصلاة أقيمت للذكر، وهنا الذكر أولى من الحذف؛ ولهذا جاءتنا هذه الصيغة بإثبات هذا اللفظ، والضمائر قليلة في الأذكار التي تكون في الصلاة، إلا إذا كان الضمير يعود إلى قريب مذكور، نحو: سبحان ربي العظيم وبحمده، و سبحان ربي الأعلى وبحمده، فلم يحتج إلى أن يقول: وبحمد الله؛ لأن المذكور قريب، أما حين يكون في الركوع فالركوع عمل مستقل، والقيام عمل مستقل، وهكذا، والصلاة إنما أقيمت للذكر، وقد قال الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[طه:14].

    2) ومن أغراض الذكر التسجيل والإقرار، وهذا نعرفه في المكاتبات التي تكون بين الناس، فإنهم يحرصون على أن يذكروا المسند إليه حتى لا يتوهم متوهم أو يشك شاك بأن المراد غيره، أو حتى يأتي المدَعى عليه ويقول: لا هذا الضمير يعود إلى فلان، وهو الشاهد، أو المزكي، أو الضمير لا يعود إليّ، فهنا لابد من التسجيل من أجل الإقرار؛ كما تجدون مثلاً في كتابة العدل: زيد هذا الحاضر اشترى كذا وكذا فيذكر اسمه، ثم يأتي بعد ذلك السياق مرة أخرى فيذكر الاسم وهكذا، المدعو فلان بن فلان، ثم يأتي عند حيثيات الحكم فيذكر اسمه ثم عند الحكم فيذكر اسمه، هذا مقام ليس فيه تساهل، ويحتاج إلى أن يذكر المسند إليه.

    3) وأحيانا عندما تكون القرينة التي تدل على تعيين المحذوف ضعيفة، الكلام مفهوم، ولكن لا نستطيع أن نعين المسند إليه؛ لأنه قد التبس بأشياء أخرى، لا ندري هل المحذوف هو أو شيء آخر يشبهه، فإذا قلت مثلاً: المال يطغي الإنسان، لو حذفت (المال) وقلت: يطغي الإنسان، فهو كلام مفهوم، ولكن ما هو الذي يطغي الإنسان؟ لا ندري، هل تريد الجاه أم المنصب أم المال؟ لا نعرف! فنحتاج هنا ــ حتى لا يلتبس علينا الأمر ــ إلى أن نحدد المسند إليه، لماذا؟ لأن الخبر يحتمل أن يكون خبراً عنه أو عن غيره، وليس عندنا قرينة تدلنا على المراد، أما إذا كانت هناك قرينة أو قرائن فيكفي، والقرينة تكون أحياناً باللفظ وأحياناً بالإشارة وأحياناً بدلالة المطابقة أو بدلالة التضمن أو بدلالة الالتزام أو السياق، لا يقصدون بالسياق الكلام الذي يكون قبل النص، وإنما يريدون الكلام الذي يكون حوله، قبله أو بعده، كذلك أحياناً تكون الدلالة حالية، الدلالة أحياناً أعرفها من وجهك، يعني دلالة حسية، أعرفها من قسمات وجهك، ومن لفظك ومن نطقك ولهجتك، ونبرة صوتك، ألم تر إلى قول الله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ[محمد:30]، وتعرفون أحياناً المراد من الكلام من خلجات اللسان، من كلام المرء، الإنسان الذي يتعثر في كلامه ويضطرب في مقام الاعتذار أو في مقام الاتهام يدخل ذلك ريبة في قلبك، وهكذا حينما يبدو على الإنسان صفرة من الوجل أو حمرة من الخجل.

    كل هذا يعبر عن أمور، الذكي يستطيع أن يجعل من ذلك قرائن وليست أدلة، هذه ليست أدلة، إنما هي قرائن يفهم من ورائها أشياء، حينما تجتمع قرينة وقرينة وقرينة يجعل منها كلها دليلاً قد يصل إلى اليقين، دليلاً قاطعاً على أن فلاناً هو الذي فعل كذا أو أراد كذا أو قصد كذا أو لم يفعل كذا إلى غير ذلك، الحاصل أنه حينما تضعف القرينة لا نعدل عن ذكر المسند إليه، بل نذكره.

    4) أحياناً يكون الغرض من ذكر المسند إليه وعدم الحنث هو التنبيه على غباوة السامع، أنك تتكلم مع إنسان لا يفهم إذا حذفت المسند إليه فتحتاج إلى أن تذكره له، أو أن تنبهه حتى يستيقظ وأن يتبنه للمسند إليه، هذه هي البلاغة، نحن قلنا من قبل: إن البلاغة هي مراعاة مقتضى الحال، أي: ما يتطلبه الحال، فخطاب الذكي غير خطاب الغبي، وخطاب العالم غير خطاب الجاهل، وخطاب الصغير غير خطاب الكبير، وقد يكون خطاب الأنثى غير خطاب الرجل، والجماعة غير الفرد وهكذا، يكفي أن تقول مثلاً إذا أذن المؤذن: أذن، لكن يحتاج أحياناً أن تقول له: أذن المؤذن، وتؤكد له ذلك، وتذكر له المسند إليه؛ لأنه قد يفهم فهماً آخر، قد يكون فهم أنه أذَّن مؤذن بشيء آخر غير الأذان، كما في القرآن: أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ[يوسف:70]، وهذا حينما تقول له: أذن تجد أحياناً من الأغبياء من يذهب فهمه بعيداً جداً، وفهمه يسبق فهم الأذكياء ويشطح بعيد جداً، فيفهم بغبائه أن هنالك مؤذناً أذن بالرحيل! يرحل، ولم يفهم أن المؤذن أذن للصلاة، لكن عندما تقول: أذن المؤذن، و (أل) هنا للعهد انتهى الأمر، ونعرف أن المؤذن هو الذي يؤذن للصلاة، ألا تجدون مثل هذا؟ أحياناً بعض الأغبياء يذهب بعيداً جداً ويقطع مسافات شاسعة.

    5) أحياناً يكون للتلذذ بذكره، يعني أنت تذكره لأنك تتلذذ بذكره، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره، وهذا في مقام الذكر، أيضاً كذلك حينما يذكر الإنسان ربه يردد لفظ الجلالة مع الخبر طبعاً، المسند والمسند إليه، أما لفظ الجلالة هكذا وحدها: الله.. الله.. الله.. فهذا لم يرد، وليس في كلام العرب، إلا أن يكون في مقام تعجب، كأن يرى الإنسان شيئاً فيقول: الله! يقصد جميل! يريد هذا، أما أن يكون ذكراً يتعبد به فهذا لم يرد؛ لأن هذه اللفظة وحدها لا تعتبر كلاماً مفيداً، فيحتاج إلى أن يضم إليها الخبر، فيقول: الله ربي، الله حسبي، الله خالقي، الله رزقني.. إلى غير ذلك.

    والتلذذ معروف، عند الشعراء حينما يذكرون من يحبون، كما قال مجنون ليلى:

    بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ليلاي منكن أم ليلى من البشر

    (ليلاي منكن) الأصل أن يقول: أم هي من البشر، ولكنه ذكرها هنا؛ قالوا: لأنه أراد أن يتلذذ بذكرها، فلم يقل: أم هي من البشر، وكذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته:

    صببت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمين

    كان الأصل أن يقول: وكان مجراها اليمين؛ لأنه قد ذكر الكأس قبل ذلك، والكأس المراد بها الخمر، الكأس: الإناء إذا كان مملوءًا بالخمر، الإناء الذي يشرب فيه الذي هو كالكوب، يقال له: كأساً، كما في القرآن، و (الكأس)، وهو لفظ مؤنث، كما جاء في القرآن: كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا[الإنسان:5]، فقال: كان مزاجها وأعاد إليها الضمير مؤنثاً.

    6) وأحياناً يكون الإظهار لتعظيمه أو إهانته أو التبرك به، هذا قد عرفناه، أحياناً يكون لبسط الكلام؛ كما قال عندكم في التلخيص: حيث الإصغاء مطلوب، أحياناً يكون ذكر المسند إليه من أجل أن يبسط المتكلم الكلام؛ لأن من يستمع إليه إصغاءه مطلوب، استماعه مطلوب ومحبوب، المثال الأول على ذلك، يعني الذي يذكره تقريباً كل البلاغيين هو: قول موسى عليه السلام حينما سأله الله وقال له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى[طه:17]، كان الأصل في الجواب أن يقول: عصاي، ولكنه لم يقل ذلك وحده، وإنما جاء بالمسند إليه؛ ليتكئ عليه، ويأتي بعد ذلك بكلام طويل؛ لأن المقام مقام خطاب مع من يحب، وهو الله سبحانه وتعالى؛ فأراد أن يغتنم هذه الفرصة، وأن يلتذ بها، وأن يطيل الكلام مع الله سبحانه؛ فقال: هي، هذا هو المسند إليه، ثم بنى عليه وقال: عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي[طه:18]، ولم يكتف بذلك، بل قال: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى[طه:18].

    قال بعض المفسرين: أجمل هنا وقال: ((وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى))، حتى يُسئل سؤالاً آخر: ما تلك المآرب التي قلت: إن لك في تلك العصا مآرب أخرى؟ ما هي تلك المآرب؟ ولكنه لم يسأل هذا السؤال، فهو ذكر المسند إليه لأنه أراد أن يبسط الكلام، فقال: (هي عصاي).

    ولا يقال في اللغة العربية: عصاتي، هذا من اللحن الجلي، إنما يقال: عصاي.

    ومعنى قوله: وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي[طه:18]، أنه يضرب بها الغنم، أو يحرك بها الغنم حتى تمشي هذا قول وهذا قول، والمتبادر إلى الذهن هو هذا القول: أنه يحرك بها الغنم حتى تمشي، يردها من هنا ويردها من هنا، يهش بها على الغنم، ذكر هذا القول واختاره قليل من المفسرين، مع أنه المتبادر الأقرب.

    فهو قال: ((عَلَى غَنَمِي))؛ لأنه إذا قال: أهش بها غنمي؛ لكان المعنى أنه يضرب بها الغنم ضرباً، ولكنه حينما قال: على غنمي أفادنا ذلك أنه يخوفها تخويفاً، فهو يحرك العصا من فوقها، ويحركها من هنا وهنا حتى تمشي.

    7) هنا شيء ذكره السكاكي ولم يذكره صاحب التلخيص، وقد أصاب في ذلك فلا حاجة إلى ذكره، وهو أنه أحياناً يكون الخبر عاماً، يصلح لأن يكون لكل شيء، يعني يصلح أن يكن لمتعدد، لفلان وفلان أو لهذا وهذا وذاك وذلك، فهنا حينئذ لابد أن نذكر المسند إليه؛ كأن تقول مثلاً: في الدار، ماذا تقصد؟ زيد في الدار، عمرو في الدار، أنت في الدار، تريد أن تقول: أنا في الدار، المال في الدار، المتاع في الدار، فهنا لابد من ذكره، هذا داخل فيما سبق، وهو حينما يتعين، لا مقتضي للعدول عنه، حين لا مقتضي للعدول عنه فإننا نذكره، ليس هنالك ما يطلب العدول عنه، كذلك عندما تقول: جاء، من الذي جاء؟ لابد أن تأتي بالمسند إليه، هذا بالنسبة للذكر.

    1.   

    تعريف المسند إليه والغرض من التعريف بكل نوع منه

    الحال الثالثة هي حال المسند إليه في تعريفه، يعني متى يعرف، التعريف تعرفون أن التعريف يكون بالضمير، ويكون باسم الإشارة، ويكون باسم الموصول، ويكون بالعلمية، ويكون بالإضافة، ويكون بـ(أل)، ويكون بالنداء، هذه سوف ندرسها؛ لأن المعارف سبعة كما جمعها بعضهم في نصف بيت، فقال::

    إن المعارف سبعة فيها سهل أنا صالح ذا ما الفتى ابني يا رجل

    هذا فاق كلام ابن مالك، ابن مالك ذكر ستة من المعارف، قال:

    وغيره معرفة:كهم، وذي وهند، وابني، والغلام، والذي

    ولم يذكر المنادى؛ لأن المنادى هو معرفة؛ لأنك عندما تنادي تنادي إنساناً بعينه، فيكتسب التعريف من النداء، والذي خلع عليه التعريف هو أنت حينما ناديته، فليس مثل الأسماء الأخرى المستقلة، إما بالألف واللام وإما بكون الاسم علماً أو بكونه اسم إشارة أو بكونه اسم موصول أو بكونه ضميراً، فهذا أنت الذي أكدته وهو نكرة في الأصل، لكن أنت خلعت عليه لباساً من المعرفة فأصبح معروفاً، فقلت: يا رجل، لذلك ألحقوا هذا بالمعارف، ولما كان الأمر مختلفاً فيه لم يذكره ابن مالك، إنما ذكره بعض العلماء في كتبهم. البيت واضح الآن؟

    إن المعارف سبعة فيها سهل أنا صالح ذا ما الفتى ابني يا رجل

    التعريف بالضمير والغرض منه

    طبعاً الضمير هو أهم هذه المعارف؛ ولذلك بدأ به صاحب التلخيص وغيره، وتعرفه بالإضمار، الضمير إما أن يكون ضميرًا للمتكلم، وإما أن يكون للخطاب، وإما أن يكون للغيَبة، فحينما تختلف المقامات يكون الخطاب بحسب المقام، هذا أمر معروف، حينما يكون المقام للتكلم يأتي المتكلم بضمير متكلم، وكذلك الخطاب، وكذلك الغيبة، فالمتكلم حينما يقول: أنا الطالب، أنا طالب علم، أو أنا القارئ، وفي القرآن: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ[طه:13]، طبعاً حينما نتكلم ونقول: إن الإنسان يأتي بضمير التكلم؛ لأن المقام يحتاج إلى تكلم، ويأتي بضمير خطاب؛ لأن المقام يحتاج إلى خطاب، هذا كلام نحوي.

    أما النكتة البيانية والبلاغية فهذا شيء آخر، يبحث عنه بعد ذلك؛ فمثلاً في قوله: ((وَأَنَا اخْتَرْتُكَ)) سبق في السياق ما يمكن بسببه حذف هذا الضمير، اقرأ السياق من أوله: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى[طه:9-10]، بعد ذلك: إِنَّنِي أَنَا اللهُ[طه:14]، بعد ذلك قال: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ[طه:13]، كان يمكن أن يكون الكلام (واخترك)، لكن هنا المقام أيضاً كان مقام خطاب لموسى عليه السلام، وكان فيه ملاطفة، وذكر المسند إليه فيه ما يورثه زيادة في الاطمئنان؛ لأن الله يخبر عن نفسه، في قراءة: (وأنّا اخترناك) قد يكون أحياناً من أجل التعظيم ومن أجل الامتنان، وأحياناً من أجل اللوم والعتاب، كل هذا بحسب المقام.

    حينما تقول لإنسان: أنا الذي أعطيتك، أنا الذي علمتك، أنا الذي فهتمك، أنا الذي ربيتك، حينما تقول لابنك مثلاً الذي ربيته، تمتن عليه بذلك، يعني تكرر كلمة (أنا) أنا.. أنا.. أنا الذي. أنا الذي.. كان يكفي مثلاً أن تقول له: أنا ربيتك وعلمتك وأعطيتك ومنحتك كذا وكذا وكذا.. ولكنك أعدت المسند إليه من أجل هذا، المقام مقام لوم ومقام امتنان أيضاً، تمتن عليه بذلك، قد يكون أحياناً المقام مقام شخصي؛ كما قال المتنبي:

    أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

    هو يفتخر بهذا.

    وكما قال بشار بن برد:

    أنا المرعَّث لا أخفى على أحد ذرت بي الشمس للقاصي وللداني

    أنا المرعث، ماذا يعني مرعث؟ هو الذي في أذنه أقراط، يعني هو مخروم الأذن، وفيه قرط في أذنه، فهو يفتخر بذلك، وهو اشتهر به واتخذه بعد ذلك فخراً، وصار يفخر به، والناس يقولون: المرعَّث المرعَّث، فجعل من ذلك الاسم الذي اشتهر به فخراً، لكن بناه على المسند إليه، وهو (أنا) فقال:

    أنا المرعَّث لا أخفى على أحد

    وهكذا.

    قد يكون المقام مقام خطاب فيحتاج المتكلم إلى التعبير بنظير الخطاب، هذا نحواً، بعد ذلك بلاغة لماذا اختار نظير الخطاب؟ فقال لفلان: أنت عالم، أنت علامة، أنت أستاذ في كذا وكذا، أنت صاحب جاه، أنت شجاع، أنت كريم، أنت جواد إلى غير ذلك، ماذا يقصد بذلك؟ المدح، كان يمكن أن يستغني عن الضمير وهو (أنت) ويكتفي بالخبر، ويكتفي بالإشارة بيده، أو حينما يكرره أيضاً فيقول: أنت كريم وأنت جواد وأنت معطاء وأنت سخي، كان يكفي أن يقول: أنت كريم ومعطاء وسخي، ولكنه كرره؛ لأن المقام مقام مدح.

    هذه أشياء لم يذكرها البلاغيون لكنها مفهومة نفهمها، حينما ذكر الله التحاور الذي بين أهل النار وخاطب بعضهم بعضاً فقال بعضهم لبعض: لا مَرْحَبًا بِهِمْ[ص:59] قال الآخرون: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ[ص:60]، (بل أنتم) هنا خاطبوهم بهذا الخطاب؛ لأنهم هنا يذلونهم، والمقام مقام غضب، المتكلم ناقم على المخاطب فيقول له هذا اللفظ، عندما يقول لك إنسان: أنت جاهل، تقول: أنت الجاهل! فترد الضمير إليه؛ بل أنت الجاهل.

    وهكذا في الغيَبة؛ قد يكون للمدح، وقد يكون للذم.. إلخ، هذا أمر معروف تستطيع أن تعرفه بذوقك السليم، حينما قال الشاعر:

    هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله

    هذا ماذا يريد؟ المدح.

    ذكر هنا عندكم في التلخيص أن الخطاب في الأصل قد يكون لمعين، ولكنه قد يترك إلى غيره ليعم كل مخاطب في الدنيا، ويعم كل مخاطب يمكن أن يستقبل هذا الخطاب؛ كقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ[السجدة:12]، الخطاب لمن؟ لكل أحد هنا، يعني ليس هنالك إنسان معين، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ[الأنعام:27]، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ[الأنعام:30].

    وحينما يقول إنسان أيضاً في خطابه أو حين يؤلف مؤلفاً ويذكر قصة، ويقول: ولو ترى إذ فعل فلان كذا وكذا، هو لا يخاطب إنساناً بعينه، قد تجد في بعض التفاسير أن الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد الجميع، المراد كل أحد، وهنا عندكم يقول: إن حال هؤلاء المجرمين.. ولا نقصد الظهور، بحيث إن كل أحد يمكن أن يراهم، كل أحد له بصر يمكن أن يرى حالهم؛ لأنه يصور الآن حالاً من الأحوال، كذلك مثلاً عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، (بشر) هل كان يخاطب أبا بكر؟ أم يخاطب عمر؟ الخطاب هذا لكل أحد، كل من يمكن أن يحصل منه تبشير فالخطاب له، هذا التعميم للجميع، (بشر المشائين)، فلا يقصد به واحد بعينه، كذلك حينما قال المتنبي:

    إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

    من يريد؟ سيف الدول أم يريد واحداً بعينه؟ لا يريد، إنما يريد كل من يمكن أن يخاطب بهذا الخطاب، وهو الجميع، كما قال: عش عزيزاً، هو يقصد كل أحد، كل من أراد أن يعيش عزيزاً، وهذا البيت اشتمل على حكمة، هذا ضابط ممتاز للئيم وللكريم، بعبارة مختصرة: إذا أردت أن تعرف الكريم فهو الذي إذا أكرمته ملكته، وإذا أردت أن تعرف اللئيم فهو الإنسان الذي إذا أكرمته تمرد عليك، هذا تعريف وضابط للئيم وللكريم.

    التعريف بالعلمية والغرض منه

    تعريفه بالعلمية، لماذا يعرف بالعلمية؟ قال عندك في الكتاب: لإحضاره بعينه في ذهن السامع باسم مختص به؛ لأنك تريد أن تحضره في ذهن السامع باسمه الذي اختص به حتى لا يذهب الذهن إلى شيء آخر، نحو: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ[الإخلاص:1]، أتى بهذا المثال، المشركون شاكون في وحدانية الله، يجادلون في ذلك، والمقام يحتاج إلى دقة ويحتاج إلى أن يذكر الاسم، حتى لا يكون هنالك شك ولا التباس، فذكره باسمه، فقال: ((اللهُ أَحَدٌ))، طبعاً عند الإعراب، الإعراب المشهور الصحيح أن (هو) هذا ضمير فصل، و الله: مبتدأ، و أحد: خبر، هذا هو الصحيح، أحسن من الإعراب الآخر الذي يقول: هو: مبتدأ، و الله: مبتدأ ثاني، و أحد: خبر المبتدأ الثاني، وبعد ذلك كل من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول. المقام فيه رد على المشركين الجاحدين لوحدانية الله سبحانه وتعالى.

    كذلك عندما تقول: (الله أعلم) تريد أن تكل العلم إلى الله وأن تحضر ذلك في ذهن السامع، وهذا على حسب المقاصد، قد يكون للتعظيم أو الإهانة أو الكناية أو الاسترداد أو التبرك أو نحوه، وهذا عرفناه في الذكر مجملاً، لكن هنا الآن عندما قلنا، تكلمنا عن ذكره ذكرنا ذلك على سبيل الإجمال، ويأتي أحياناً إظهار بعض النكات بالتفصيل، حينما يكون إشارة، حينما يكون علماً، حينما يكون اسم موصول، حينما يكون ضميراً، وهكذا؛ وإلا فهو من حيث الجملة داخل في باب الذكر، قد يكون أحياناً للتفاؤل أو التطير؛ كما ذكر عندكم في الكتاب، ومثل له بقوله: سعد في دارك، والسفاح في دار صديقك! أراد أن يمثل بهذا للتفاؤل وللتطير، فمثل بمثالين: سعد في دارك حتى تتفاءل بهذا اللفظ الذي يشتمل على السين والعين والدال، وفيها معنى السعادة، والسفاح هذا اللفظ الذي فيه السين والفاء والحاء، أصله يذكرك بالدم والقتل، وفيه تشاءم به، وذلك فيه تفاؤل، فيذكر الاسم العلم أحياناً للتفاؤل به، وقد يكون للتطير به.

    التعريف بالموصولية

    لماذا تأتي باسم موصول؟ تأتي باسم موصول؛ لأن المخاطب لا يعرف شيئاً من الأحوال المختصة بمن تتحدث عنه إلا الصلة، فتأتي بذلك، تأتي بالمسند إليه اسم موصول لتبني عليه بعد ذلك ما عرفه هو، فتقول: الذي كان معنا بالأمس رجل عالم، هو يعرف أنه كان يوجد واحد وكان معنا بالأمس، فأردت أن تأتي بالصلة مبنية على اسم موصول، فجئت باسم موصول، الذي هو مسند إليه، وبنيت عليه ما عرفه هو؛ لأنه لا يمكنك إلا بذلك فقلت: الذي كان معنا بالأمس رجل عالم، الذي جاءك بالأمس هو فلان، ونحو ذلك.

    أحياناً يكون لاستهجان -يعني استقباح- التصريح باسمه أو زيادة في التصريح، وهذا يمثلون له بقول الله تعالى في سورة يوسف: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ[يوسف:23]، أصح ما في هذه الآية من ذكر المسند إليه موصولاً -اسم موصول- أنه للتقرير؛ لأنها هي التي فعلت ذلك، وأيضا كذلك فيه معان أخرى بلاغية، فالآية: ((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ))، البلاغي حينما يدرس هذه الآية يجد فيها بحراً زاخراً من المعاني العظيمة التي تنفتق له، حينما يتفهم كل لفظة في هذه الآية يجد أن فيها معاني ومعاني.

    (فراودته) هذا الفعل أصله: راد يرود، وهذا أيضاً جاء به على وزن (فاعل)، و (راد) وحدها هي للذهاب وللمجيء، كما يقال: رادت الإبل، ذهبت وجاءت، فكيف إذا كان الفعل قد جاء بصيغة المفاعلة فقال: (وراودته) هذا تصوير لحال هذه المرأة أنها كانت تذهب وتجيء، وتستجيش وتلتجي، وتأتي من هنا ومن هنا، وتحركه يمنة ويسرة، ولكنها لم تصل إلى مطلوبها، فصور حالها بهذا اللفظ: (وراودته) راودته من؟ (التي هو في بيتها) المرأة التي ما هو إلا عامل عندها، وكالخادم لديها، ومع ذلك تنزلت إلى هذه المنزلة؛ (فراودته)، فعبر عنها بأقل ما يمكن أن يصدق على المرأة وهو (التي)، كأنها امرأة لا تستحق أن تذكر باسمها، ولا أن تفخم بلفظ آخر، وإنما ذكرها بأقل ما يصدق عليها وهو (التي).

    ونسأل الله التوفيق والإعانة للجميع.

    وصلى الله وسلم على نينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756892488