إسلام ويب

الدروس المستفادة من تحويل القبلةللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من القضايا الهامة التي كانت اختباراً وامتحاناً للمؤمنين، وقد كان الرسول متشوفاً إلى ذلك، فلما قضى الله الأمر بذلك فرح الرسول وأصحابه، وغضب اليهود والمشركون، ولم يضيع الله صلاة من صلى إلى بيت المقدس قبل التحويل، بل سمى صلاتهم إيماناً.

    1.   

    تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أيها الإخوة! افتتح الله سبحانه وتعالى أول الجزء الثاني من كتابه بالحديث عن تحويل القبلة، هذه القضية التي كانت اختباراً وامتحاناً لإيمان المؤمنين، من يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم ويثبت على ما جاءه به، ومن يستسلم للشائعات والأراجيف والشبه التي يلقيها أعداء الله تعالى، فقال سبحانه وتعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142].

    حادثة تحويل القبلة حادثة طويلة، والكلام عليها يطول، ونحن نريد أن نخلص منها إلى قضية أخرى في الحقيقة، لكن فقط نريد أن نذكر بحكمة الله تعالى، وتفضيله لهذه الأمة على غيرها من الأمم حين خصها الله سبحانه وتعالى بهذه القبلة.

    تشوف النبي صلى الله عليه وسلم وتطلعه إلى تحويل القبلة إلى الكعبة

    الأنبياء جميعاً كانوا يستقبلون الصخرة في بيت المقدس، كانت قبلتهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل بأن يستقبل مكة، فصلى إلى القبلة الأولى طوال الفترة المكية، ولما انتقل إلى المدينة صلى إلى هذه القبلة أيضاً ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً كما جاء في الحديث، واليهود كان مكتوب في كتبهم أن هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم سيستقبل الكعبة في مكة، ولكن الله عز وجل جعل ممهدات، موطئات، تسهيلات، قبل أن يحول المؤمنين عن القبلة هذه إلى الكعبة، فتكلم عن النسخ في سورة البقرة، والنسخ يعني: تغيير الأحكام، وتبديل الأحكام، فالله عز وجل يحكم بما يشاء بحسب المصلحة، وينقل الناس من حكم إلى حكم.

    والرسول عليه الصلاة والسلام كما أخبر عنه في هذه السورة أيضاً كان يتشوف ويتطلع إلى اليوم الذي يؤمر فيه بأن يستقبل الكعبة، وينتظر هذا الأمر من السماء ببالغ الشوق والانتظار، ودائماً يطالع في السماء ينتظر متى يأتيه جبريل بالبشارة بأن يتوجه إلى الكعبة، قال الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، جاء الأمر، ونفوس المؤمنين متشوفة، متشوقة، متطلعة إلى هذا الأمر، وهو تغيير القبلة.

    انقسام الناس عند مجيء الأمر بتحويل القبلة

    لكن لما جاء هذا الأمر انقسم الناس إلى طوائف: طائفة استقبلت هذا الأمر بفرح واستبشار، كحال النبي صلى الله عليه وسلم. وطائفة عاندت هذا الأمر، وهم اليهود من جهة، والمشركون من جهة.

    أما اليهود فقالوا: لو كان محمد نبياً ما ترك قبلة الأنبياء قبله، يعني: كيف أن الأنبياء كلهم عبر التاريخ يصلون إلى بيت المقدس، وهذا يزعم أنه نبي وحول القبلة، لو كان نبياً ما ترك قبلة الأنبياء من قبله.

    والمشركون أيضاً ما أعجبهم الأمر فقد قالوا لأنفسهم: محمد الآن تحول إلى بيتكم وإلى كعبتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم، خلاص انتهت المسألة، لم يبق إلا قليل ويرجع إلى دين آبائه كما كان.

    وهؤلاء هم السفهاء كما قال الله عز وجل وكما سماهم الله؛ لأن السفيه هو الذي يعترض على أحكام الله تعالى، فيبيع نفسه، قال الله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[البقرة:142]، فهؤلاء سفهاء يعترضون على شرع الله وعلى أمر الله من غير حجة ولا برهان، وهذا حال كل من اعترض على أمر الله، كل من عاند شرع الله، كل من خالف حكم الله فهو سفيه، يعني يضع الأمر في غير موضعه، ويبيع نفسه بأبخس الأثمان؛ لأن الله عز وجل هو المالك، هو الخالق، يتصرف في الخلق كما يشاء، يفعل ما يشاء، يحرم ما يشاء، ويحلل ما يشاء، يأمر بما يشاء، وينهى عما يشاء, ولذلك قال لهم في آخر الآية: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ[البقرة:142] أي: الله هو الذي يملك المشرق ويملك المغرب، إذا أمركم بالتوجه إلى المغرب فتوجهتم إليه، فعلتم ما يرضيه، وإذا أمركم بالتوجه إلى المشرق فتوجهتم إليه فعلتم ما يرضيه، فهو سبحانه وتعالى مالك الملك، يأمر بما يشاء ويحكم ما يريد، والمعترض هو السفيه والمعاند وهو المخذول: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[البقرة:142].

    الحكمة من تحويل القبلة

    ثم أخبر سبحانه وتعالى في آخر المقطع في الصفحة التي تليها عن الحكمة من تغيير القبلة فقال: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [البقرة:150]، حتى لا يكون للناس عليكم حجة، كيف سيكون للناس عليكم حجة؟ قال العلماء: اليهود كانوا يعرفون؛ مكتوب عندهم أن محمداً سيتوجه إلى الكعبة، ولذلك قال الله عز وجل مباشرة بعد آية القبلة: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، أي: الذين آتيناهم الكتاب يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، فهم يعرفون بأن محمداً مأمور بأن يتوجه إلى الكعبة، ولو لم يتوجه محمد إلى الكعبة، واستمع للأراجيف صحيح هم في الظاهر يقولون: لو كان نبياً ما ترك قبلة الأنبياء، لكن لو بقي مستقبلاً بيت المقدس تظنون ماذا سيقولون؟ سيقولون له: أحسنت، أصبت؛ لأنك بقيت على قبلة الأنبياء؟ لا، لن يقولوا هكذا، سيقولون: لو كان نبياً لفعل ما بشرنا به نحن في كتبنا، وتوجه إلى الكعبة، فستكون لهم حجة على المؤمنين، فقطع الله هذه الحجة، وأمر الناس وأمر نبيه بالاستقبال إلى بيته في المسجد الحرام.

    والمشركون في المقابل كانوا يعلمون بأن هذا البيت من إرث إبراهيم، ومحمد يزعم أنه من نسل إبراهيم وعلى دين إبراهيم، وعلى ملة إبراهيم، فكانوا يقولون: لو كان على ملة إبراهيم لاستقبل هذا البيت، فقطع الله عز وجل حجة أهل الكتاب وحجة المشركين، وأمر الناس باستقبال الكعبة.

    حال صلاة من مات قبل تحول القبلة

    في آخر الآية أنزل الله عز وجل جواباً على المؤمنين، في قوله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143]، هذه الآية نزلت جواباً على المؤمنين الذين قالوا: إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى أين صلاتهم؟ إخواننا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس وماتوا قبل أن يؤمر الناس بالتوجه إلى الكعبة كيف سيفعل الله بهم؟ أين ستذهب صلاتهم؟ فأنزل الله هذه الآية جواباً عليهم قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ[البقرة:143]، إذاً: معنى (إيمانكم) صلاتكم؛ لأنهم كانوا يتكلمون عن الصلاة، يقولون: أين ستذهب صلاتهم؟ كيف سيفعل الله بصلاتهم؟ فقال الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، يعني: صلاتكم. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].

    1.   

    وقفة مع تسمية الصلاة إيماناً في قوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)

    قال العلماء: هذه الآية دليل على أن الإيمان عمل كما هو قول واعتقاد. الإيمان الذي يرضاه الله ويدخل به الإنسان الجنة، وينجو به من العذاب، قول باللسان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واعتقاد بقلبه، وعمل بجوارحه وأركانه، كما قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل. هذا هو الإيمان: قول، واعتقاد، وعمل. لا يجزئ بعضها عن بعض، لا يكفي واحد منها عن الآخر، الله سمى الصلاة هنا إيماناً، قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، يعني: صلاتكم، فدل هذا على أن أعمال الإنسان الصالحة كلها من الإيمان.

    كيفية زيادة الإيمان

    وهنا سؤال: الشخص الذي يقول: أنا كيف أقوي إيماني؟ كيف يزيد إيماني؟ لأن الإيمان يزيد وينقص بلا شك ولا ريب، كما أخبر الله في كتابه: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124]، فالإيمان يزيد وينقص، كيف يزيد وكيف ينقص؟ متى يزيد ومتى ينقص؟

    كلما كثرت من الطاعات زاد الإيمان؛ لأن الإيمان طاعات، الإيمان صلاة، الإيمان صدقة، الإيمان ذكر، الإيمان قربة، حج، وهكذا، كلما زدت عملاً زاد إيمانك، وفي مقابله كلما فعلت معصية نقص إيمانك، هذا هو الإيمان باختصار، النبي عليه الصلاة والسلام يقول لنا: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، إذاً ما زنى إلا لأن الإيمان نقص نقصاً كبيراً، كما قال عليه الصلاة والسلام بالنسبة للزاني: ( يرفع الإيمان فوق رأسه حتى يكون عليه كالظلة، فإذا تاب رجع إليه )، فالإيمان يزيد كلما فعلت طاعة، وينقص كلما فعلت معصية.

    عصمة الإيمان صاحبه من المعاصي

    وانظروا جيداً لهذه الحقيقة التي يقررها الرسول عليه الصلاة والسلام، كلما زاد إيمانك عصمك الله عز وجل بهذا الإيمان عن الذنوب والمعاصي، وهذا الإيمان نفسه يكون حائلاً بينك وبين الوقوع في الذنب والمعصية، هكذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( الإيمان قيد الفتك )، ما الذي يقيدك ويحبسك عن الوقوع في سخط الله؟ ما الذي يحجز رجلك عن المشي إلى غضب الله، يحجز عينك عن النظر إلى ما حرم الله، يحجز يدك عن أن تمتد إلى ما حرم الله، ما الذي يحجزك عن هذا كله؟ قال: ( الإيمان قيد الفتك )، فإذا أردت أن تحفظ نفسك من المعصية، المعصية هذه لا تضر إلا فاعلها، لا تضر إلا صاحبها، والله عز وجل لا تضره معصية العاصين، كما لا تنفعه طاعة الطائعين، لكن من رحمته بنا يدلنا على ما يعصمنا من الوقوع في سخطه، فإن سخط الله لا تقوم له السموات والأرض، فكيف بهذا الإنسان المسكين، الإنسان الحقير، الإنسان الضعيف.

    الذي يحجزك عن الوقوع فيما يغضب الله قوة الإيمان، وإذا أردت أن تعرف كيف تقوي إيمانك بالطاعات، وهذه الليالي والأيام أزمان فاضلة للإكثار من الطاعات، فيستكثر الإنسان منها ما استطاع، من حكمة الله، أن جعلها محطة سنوية يتقوى بها الإنسان ويتزود لسائر العام.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يوفقنا لكل خير.

    وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757198900