إسلام ويب

رمضان شهر القرآن [1]للشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • رمضان شهر القرآن فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض فيه القرآن على جبريل مرة، وفي العام الذي توفي فيه عرضه مرتين، وهكذا كان السلف الصالح إذا جاء رمضان تفرغوا لقراءة القرآن فيه. ولا تخفى منزلة القرآن فقد شهد بذلك الأعداء قبل غيرهم، (والحق ما شهدت به الأعداء).

    1.   

    العلاقة بين القرآن ورمضان

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! رمضان شهر القرآن، هكذا سماه الله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[البقرة:185]، هناك علاقة وثيقة بين هذا الشهر الفضيل وبين هذا الكتاب الكريم، في هذا الشهر ابتدأ نزول هذا الكتاب، خير كتاب أنزل على خير نبي أرسل، إلى خير أمة أخرجت للناس، كتاب الله بدأ نزوله في هذا الشهر، وشرع الله عز وجل لنا أن نصلي هذه الصلاة، وأن يجتمع عليها المسلمون بقراءة جهرية، ليسمعوا فيها كلام الله، وليتلى عليهم كتابه سبحانه وتعالى، واستحب العلماء ألا ينقص الإمام في صلاة التراويح في كل ليلة عن جزء حتى يتم القرآن، فيستمع المسلمون إليه بكامله في هذا الشهر الفضيل، ليس هذا معناه ألا يقرأ المسلم هذا الكتاب إلا في رمضان، ولكن في رمضان مزيد اعتناءٍ ومزيد اهتمام ومزيد رعاية وعناية بهذا الكتاب، في رمضان كان عليه الصلاة والسلام يدارسه جبريل القرآن، يختار هذا الشهر من بين شهور السنة ليقرأ القرآن على جبريل، فيذكره ما نسي، وفي السنة التي مات فيها عليه الصلاة والسلام دارسه مرتين، هذا الشهر هو شهر القراءة والتدبر والإقبال على كلام الله قراءة واستماعاً وتدبراً، وهذا هدي المسلمين عبر تاريخهم الطويل، حتى أئمة الإسلام الكبار الذين كانوا يشتغلون بالتدريس والفتيا والتعليم كانوا إذا أقبل رمضان طووا كتب الحديث وأقبلوا على كتاب الله، كما روي ذلك عن مالك رحمه الله وغيره، هكذا كان هدي المسلمين، إذا أقبل رمضان أقبلوا على القرآن بشغف ونهم، منهم من يختم القرآن كل ليلة مرة، ومنهم من يختمه كل ثلاث، ومنهم من يختمه في الشهر مرة، وكلٌ بحسب ما يسره الله عز وجل له، وختمه أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه في ركعة واحدة، مع أنه قد ورد النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يختم القرآن في أقل من ثلاث ليال، ولكنهم في هذا الزمن الفضيل كانوا يرون بأنه مخصص وخارج عن ذلك النهي؛ لأهمية هذا الزمان وعلاقته الوثيقة بالقرآن.

    1.   

    منزلة القرآن وصفته وبيان ما تضمنه

    هذا الكتاب أيها الإخوة! أنزله الله ووصفه سبحانه وتعالى بصفات جليلة عظيمة القدر فيه، وصفه سبحانه وتعالى بأنه الهداية، فقال في مطلع ثاني سورة من سوره: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، أنزله ليكون هداية، ليكون دليلاً وبرهاناً بين يدي المسلم، يبصره بالحقائق، ويدله على الصواب، ويرشده إلى البر والتقوى، هو كتاب الله، كما وصفه علي رضي الله تعالى عنه حيث قال: فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.

    هو كما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مأدبة الله التي دعا إليها عباده، فالمسلم ينبغي له أن يستجيب لهذه الدعوة، ويقبل على هذه المأدبة، مأدبة الله، فاقبلوا من الله مأدبته، أنزله سبحانه وتعالى ليكون هادياً ودليلاً؛ فيتخذه المسلم دليلاً بين يديه، ينتهي بنهيه، ويأتمر بأمره، ويخاف بتخويفه، ويستبشر ببشارته، ويفرح إذا وعده الخير، ويحزن إذا خوفه الشر؛ ليكون مقوماً لأخلاقه، مهذباً لنفسه، مصححاً لسلوكه، لهذا أنزله الله سبحانه وتعالى، وسماه بعد ذلك: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، وسماه هدىً، وسماه رحمة، فقال سبحانه وتعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ[الإسراء:82]، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه تبيان لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، لهذه المقاصد أنزل الله عز وجل هذا الكتاب، فعالج قضايا المسلم المتفرقة، ففيه صلاح الدين، وفيه إقامة الدنيا، وفيه بيان المصير في الآخرة.

    ماذا تقرأ، أو ماذا تسمع في كلام الله؟ إنك تقرأ الحديث عن الله، يعرف الناس بربهم من هو الرب، من هو الخالق، من هو الذي يستحق العبادة: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36]، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام:102]، فيه إخبار عن صفات الله، من هو الله، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[البقرة:255]، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24]، فيه بيان أسماء الله الحسنى، وصفات الله العليا، فيه دعوة إلى توحيد هذا الموصوف بهذه الصفات، توحيده بالألوهية، فلا يعبد الإنسان غيره، وتوحيده بالربوبية فلا يعتقد أن أحداً يدبر الأمر غيره، حيث قال سبحانه وتعالى في أواخر سورة مريم وهو يتحدث عن نفسه سبحانه وتعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، أي: هذا الرب الذي وصف هو الذي يستحق العبادة، فليس له نظير، وليس له شبيه، في القرآن حديث عن الأنبياء والنبوات، وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأوضح برهان، وبأوضح مقال: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51].

    القرآن المعجزة الخالدة

    هذا القرآن معجزة الله الباقية، معجزة الله الدائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يزال يتحدى به الناس جيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، ويعلنها بصراحة في ثنايا هذا الكتاب في مواضع عديدة، فيقول لهم: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، لو تعاون الملآن، لو تعاون الجن والإنس وأطبقوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن فإنهم عاجزون عن أن يأتوا بمثله، بل عاجزون عن أن يأتوا بسورة من مثله، تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، فنزل معهم قليلاً وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ[هود:13]، ولما عجزوا عن عشر سور تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ[البقرة:23]، وتحداهم أن يأتوا ببعض آية من كتابه، إنه حجة الله على عباده، وسلطان الله عز وجل القاهر الذي يدخل إلى القلوب بدون استئذان، ويقيم الحجج على العقول بدون رضا أصحابها، ما سمعه من أحد إلا أذعن له واستسلم، وإن كان في باطنه مكابراً معانداً، سمعه الكفار، بل صناديدهم وأئمة ضلالتهم، سمعوه فنطقوا بتلك الشهادة التي دونها عليهم التاريخ، ولا نزال نقرؤها: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، قالها الوليد إمام الكفر وصنديده، شهد لهذا القرآن بأن له شأناً، وأنه ليس من كلام البشر، سمعته الجن ففتح الله عز وجل أفئدتهم، ووجههم إلى استقباله، وحسن رعايته والعمل به، فقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:29-30]، (يهدي إلى الحق)، هكذا شهدوا له منذ اللحظات الأولى، كما قال في مطلع سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2]، يهدي إلى الرشد، يقود الناس إلى الفلاح، يجرهم إلى ما فيه خير عاجلهم وآجلهم، هذا هو الرشاد الذي ضمنه الله عز وجل في كتابه.

    بيان كون القرآن مباركاً

    سماه مباركاً، قال: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ[الأنعام:92] والبركة تعني: كثرة الخير، ففيه الخيرات كلها، الخير في قراءته، والخير في استماعه، والخير في العمل به، الخير كله ضمنه الله في هذا الكتاب، الخير كل الخير في أن تردد حروفه على لسانك: ( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )، ففي كلمة: (الم) ثلاثون حسنة، أين تجد كل هذا الأجر سوى في هذا الكتاب العزيز، في الوجه الواحد من القرآن تكسب آلاف الحسنات في صفحة واحدة منه، لا تأخذ منك دقيقتين اثنتين من عمرك، إنه بركة، بركة في الثواب المرتب عليه، يقول عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ( من يحب منكم أن يغدو إلى بني فلان فيرجع بناقتين كوماوين )، أي: بناقتين عظيمتين سمينتين كبيرتين؟ ( قالوا: ما منا أحد إلا ويحب ذلك يا رسول الله! قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل )، الخير كل الخير في هذا الكتاب، في قراءته، في استماعه، في العمل به، سمعه المؤمنون من النصارى فسماهم الله سبحانه وتعالى مؤمنين؛ لأنهم بمجرد سماعه آمنوا به وصدقوه: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا[المائدة:83]، إنه الكتاب المهيمن على القلوب، المهيمن على الأفئدة، إذا افتتحت القلوب لسماعه وتدبرته ففيه الخير كل الخير.

    1.   

    الحث على استغلال شهر رمضان في الإقبال على كتاب الله وتدبره

    إننا أيها الإخوة! ينبغي أن نستغل ليالي هذا الشهر وساعات هذا الشهر في الإقبال على كتاب الله، نقرؤه، ونتدبر ما فيه، لتشملنا هذه البركات ولينزل علينا هذا الخير.

    إننا مدعوون إلى أن نفتح قلوبنا، ونفتح آذاننا لاستماعه، إن هذا القرآن وصف عباد الله سبحانه وتعالى بأنهم إذا سمعوه لم يستمعوه بآذان مغلقة، لم يستمعوه بقلوب مقفلة، إنما إذا سمعوه كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [الفرقان:73]، من الناس من يستمع القرآن لكن بقلب غافل، بقلب محجوب، أذنه تستمع إلى كلام الله، وقلبه متطلع متأمل في أودية أخرى، وهيهات أن ينتفع مثل هذا الإنسان بهذا الكتاب إذا تلي عليه أو إذا قرأه بنفسه، إننا بحاجة أن نتدبر الكلام، ولا بأس أن يكرر الواحد منا الآية مرات ومرات، حتى ينفتح لها القلب، وحتى تستوعبها النفس، وحتى يعلم الإنسان ما مقصود الله عز وجل من هذه الآية، ولماذا أنزلها إلينا، هكذا كان شأن الصالحين من قبلنا، هكذا كانت الأمة قبلنا حين انتفعت بهذا القرآن، كانوا يقولون كما قال الحسن : كانوا يعدون القرآن رسائل وجهت إليهم من ربهم فيقرءونها في الليل ويطبقونها في النهار. الواحد منهم يقرأ الآية ويستشعر أن هذه الآية خطاب من الله له هو وليست لغيره من الناس، فيسأل نفسه: هل فهم هذه الآية؟ ماذا عمل بها؟ هل استشعرها قلبه وأيقنها واقتدى بما فيها؟ يقرءونها بالليل، وينفذونها بالنهار، وكان الواحد منهم يقرأ فإذا مر بآية رحمة سأل الله عز وجل ما فيها من الرحمة، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قام الليل فافتتح سورة البقرة في ركعة واحدة، ثم افتتح سورة النساء، ثم افتتح آل عمران، و حذيفة يصلي وراءه، يقول: لا يأتي على آية رحمة إلا سأل، ولا يأتي على آية عذاب إلا تعوذ، أو كما قال رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يقرأ القرآن ويستشعر بأن هذا الكلام موجه إليه، فإذا رأى بشارة سأل الله عز وجل في التو أن يجعله من أهلها، وإذا رأى تخويفاً ووعيداً سأل الله في التو أن يصرفه عنه، هكذا كانت تتجاوب النفوس مع القرآن ليعملوا به ويهتدوا به.

    عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه دخل على أسماء بنت أبي بكر وهي قائمة تصلي، وهي تقرأ قول الله سبحانه وتعالى في سورة الطور: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]، تكرر هذا المقطع من الآية، وهو كلام المؤمنين يوم القيامة، المؤمنون عندما يرون الفوز والفلاح ويرون ما بشرهم الله عز وجل به يقولون هذه العبارة: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]، باتت هذه المرأة الصالحة ترددها وتكررها، يقول عروة : فلما طال بي المقام قلت: أذهب إلى السوق وأرجع، فذهبت إلى السوق ورجعت وهي تكرر: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27].

    والنبي صلى الله عليه وسلم قام ببعض أصحابه طوال الليل يكرر آية واحدة: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، يكرر هذه الآية ويبكي طوال الليل، هكذا ينبغي للإنسان المسلم أن يقرأ الكلام الوارد له عن الله، وأن يقرأ رسالة الله سبحانه وتعالى إليه، ويطبق ما فيها من أحكام، فإذا قرأ حكماً فيه الحلال عزم في نفسه على أن يمتثل هذا وألا يتجاوزه، وإذا قرأ آية فيها تحريم ونهي عزم في نفسه على أن يمتثل هذا فلا يتجاوزه إلى الحرام، وإذا قرأ آية فيها وعد من الله استبشر وطمع فيما عند الله، وإذا قرأ آية فيها تخويف خاف من وعيد الله ومن تهديد الله، فيورث ذلك عبادات قلبية، الخوف من الله، والطمع فيما عند الله، والرجاء مما عند الله، فيؤثر القرآن فيه زيادة تلك الصفات، فإن هذا القرآن كما قال قتادة رحمه الله إمام المفسرين في زمنه: هذا القرآن مائدة الله، كل من جالسه قام عنه إما بزيادة أو نقصان، هكذا قال الله في كتابه: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]، فالقرآن إما زيادة لك، وإما نقص عليك، إما حجة لك وإما حجة عليك، إما شافع لك وإما شاهد عليك، ولا يخلو من أحد هذين الحالين، كلما قرأت القرآن قمت بزيادة، ويختلف الناس ويتفاوتون، والتفاوت فيما بينهم كما بين السماء والأرض، لكن احرص على أن تكون من أهل الزيادة، احرص على ألا تخرج منه بالنقصان، كما قال الله عز وجل: وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، فالظالمون كلما قرءوا القرآن زادهم خساراً إلى خسارتهم، وزادهم وبالاً إلى وبالهم، فكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، يقرأ وهو قاطع للرحم، يقرأ الآيات التي فيها لعن لقاطعي الأرحام، يقرأ القرآن وهو ظالم، ولا ينزجر ولا يندفع عن ظلمه، والقرآن بين يديه يلعن الظالمين، وهكذا: وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82].

    هذا الشهر أيها الإخوان! شرع الله عز وجل فيه الإكثار من قراءة القرآن، والإكثار من سماعه وتدبره، لما جعله الله عز وجل من الخير والبركة، والنفع لهذا الإنسان في هذا الكتاب العزيز.

    أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    فلسطين قضية المسلمين الأولى

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فضل المسجد الأقصى

    إخوتي في الله! سمعت لليلتين متواليتين درس الشيخ العلامة الدكتور يوسف جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً في آخر الدرس ينادي الخطباء في عموم دولة قطر لأن يجعلوا خطبة الجمعة موضوعاً للحديث عن المسجد الأقصى، وتذكير الناس بالمسجد الأقصى، وما يحاك ضده من المؤامرات، وما يحاك ضده من المخططات لهدمه والقضاء عليه.

    المسلمون أيها الإخوة في غنىً عن أن تذكر لهم النصوص التي وردت في فضل هذه البقعة المباركة، وقد أرشد الله عز وجل في مواطن في الكتاب العزيز وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أهمية هذه البقعة ولمن السيطرة عليها ولمن الحكمفيها، ولمن الولاية عليها، حيث كان من حكمته سبحانه وتعالى أن أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم أولاً إلى المسجد الأقصى قبل أن يرفعه إلى السموات العلى، وكان بالإمكان أن يرفع مباشرة من مكة إلى السموات العلى، فيتلقى عن الله ثم ينزل، لكن لحكمة يعلمها الله بدأ أولاً بالإسراء به إلى تلك البقعة، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ[الإسراء:1]، والمباركة تعني: كثرة الخيرات؛ لأنها مهبط الوحي، بها نزل الوحي على الأنبياء، فهي بلاد الأنبياء، ولذلك جعلها الله عز وجل أولى القبلتين لهذه الأمة، مع أنه سبحانه وتعالى يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه إلى الكعبة، فيقول سبحانه وتعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا[البقرة:144]، كان يعلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب التوجه إلى الكعبة، ولكنه مع ذلك جعل المسجد الأقصى قبلة للمسلمين طوال الفترة المكية، فمن بعد أن شرعت لهم الصلاة إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مأمور بأن يستقبل بيت المقدس، وفي المدينة استقبل المسجد الأقصى وبيت المقدس ستة عشر شهراً، وبعد هذه المدة الطويلة، وبعد أن تثبت في النفوس عظمة هذه البقعة وأهمية هذه البقعة صرفهم الله سبحانه وتعالى إلى استقبال بيته الحرام في مكة، فالأقصى أولى القبلتين، هذا المسجد شقيق المسجدين العظيمين، فمن فرط فيه فلا يؤمن بعد ذلك أن يفرط في الآخرين، لا يؤمن أن يفرط في المسجد الحرام في مكة، والصلاة فيه مضاعفة كما ضوعفت في المسجد الحرام وإن اختلف المقدار في التضعيف، فإن الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، أخبر سبحانه وتعالى بأنه المكان المبارك، واستجاب المسلمون عبر تاريخهم الطويل لنداء الله لهم، فتوجهوا بعد أن مكنهم الله من القوة، توجهوا إلى تلك الديار فاتحين، وفتحها عمر رضي الله تعالى عنه، ونفض الغبار في بعض المواطن فنفض القمامة التي كان يلقيها اليهود في إحدى بقاعه وتولى تنظيفها بنفسه ونفض بعضها بثوبه، وأقام للمسلمين هذا المسجد الذي لا يزال قائماً إلى اليوم، ولما كرت الأيام على الناس واستضعف المسلمون، واستولى عليه النصارى، ونصبوا عليه الصليب، وعطلت فيه الجمعة قريب مائة عام، فاستنهض المسلمون أمرهم من جديد، ونهضوا واستشعروا واجبهم، فالتفوا جميعاً حول صلاح الدين ، وتوجهوا إليه محررين، قاصدين نصر الله، متوكلين على الله، فنصرهم الله سبحانه وتعالى في يوم مؤزر، وصعد الخطيب على المنبر بعد أن دارت المعركة، وفتح المسجد ضحى يوم الجمعة، وكانت أول جمعة تقام فيه، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، وكرت الأيام من جديد، واستضعف المسلمون مرة أخرى، وتولى أعداء الله وليست هذه نهاية التاريخ، وليس هذا نهاية الزمن، بل المسلمون موعودون بأن الغد هو لدين الله، وأن المستقبل لهذا الدين، وأنه لن يبقى بيت مدرٍ ولا بر إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز، أو بذل ذليل، المسلمون موعودون بالنصر، موعودون بالتمكين، إذا رجعوا إلى كتاب ربهم، وقاموا بما أمرهم الله عز وجل به.

    واجب المسلمين تجاه الأقصى

    اليوم المؤمنون مأمورون بنصرة المسجد الأقصى، وللأسف يا إخوان! أن العلماء وقادة الأمة الحقيقيين لا يجدون من الخطاب ما يوجهون به الأمة إلا أن يستنهضوهم بكلمات يقولونها في الدروس وعلى المنابر، إذا كان كبار علمائنا ووجهائنا لا يجدون من الكلام إلا ما يوجهونه للناس، فكيف بعد ذلك بحال هذه الأمة، إننا مأمورون بأن يستنهض كل واحدٍ منا جهده لنصرة هذه القضية بما استطاع:

    إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع

    المسلمون مأمورون بأن يثبتوا اليوم إخوانهم الباقين في تلك البقاع، بأن يواسوهم بحاجاتهم، ويثبتوهم على إيمانهم، ويثبتوهم على أرضهم، وخير ما أنفقت فيه الأموال أن تنفق في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، ولإظهار دين الله، المسلمون مأمورون بأن يلموا الشمل، وأن يصلحوا بين الإخوان، وأن يحاولوا جمع كلمة الفلسطينيين على كلمة واحدة سواء، حتى لا يمزقهم الأعداء ويأخذوهم يميناً وشمالاً، المسلمون مأمورون بأن يحيوا هذه القضية في منتدياتهم وفي مساجدهم وبين أسرهم وأولادهم؛ حتى لا تموت هذه القضية، ولا يشعر الأعداء بأنه لم يعد للأقصى أنصار، إنهم يجسون النبض، ويقيسون مدى غيرة الأمة على هذا المسجد بين لحظة وأخرى، كلما تعاقبت عشرات السنين أرسلوا جملة من الرسائل ليعرفوا مدى غضب هذه الأمة وغيرتها وحنقها على هذه البقعة، فإذا وجدوا في الناس حمية، إذا وجدوا في الناس غيرة، إذا وجدوا في الناس اندفاعاً للدفاع عنه تراجعوا وتقهقروا، وإذا رأوا في الناس بروداً وتكاسلاً تقدموا، ويا ليتهم لم يفعلوا، يتقدمون ويتقدمون كثيراً، المسجد اليوم يئن، المخططات تحاك له من فوقه، ومن جنبه، ومن تحته، الأنفاق تحفر كل يوم وتزيد، والمسلمون من حوله يهجرون، ويمنع المسلمون من الوصول إليه، لا يصل إليه إلا كبار السن، وحتى كبار السن يضيق عليهم غاية التضييق، ويسعى إلى تقسيمه بين المسلمين وغير المسلمين، لتكون للمسلمين زاوية فيه يصلون ويمارسون عباداتهم كما يفعل غيرهم، وماذا سيكون بعد ذلك، لا يعلم به إلا الله، نسأل الله ألا يجعلنا شر هذه الأجيال التي تعاقبت على هذا المسجد، نسأل الله ألا يرينا هذا المكروه بأعيننا، وألا يهدم هذا المسجد ونحن شهود، ونحن نتأمل، نسأل الله ألا يجعلنا شر جيل تعاقب على هذا المسجد، وأن يهيء لهذه الأمة من أمرها رشداً، المسلمون مأمورون بأن يفتحوا آذانهم ليسمعوا توجيهات علمائهم وكبرائهم، ليقدم الواحد منهم ما يقدر عليه وما يستطيعه.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل الكفر والعناد، اللهم يا حي يا قيوم! أقم علم الجهاد، واقمع راية الشرك والعناد، واخذل أهل الإلحاد، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعز الإسلام والمسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمارنا من الرياء وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة.

    اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحدٍ فيها شيئاً، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

    عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

    وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757335103