إسلام ويب

القواعد لابن اللحام [26]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلف أهل العلم في اقتضاء أمر الشارع للفورية أو لا، فذهب أحمد والأحناف إلى أنه يقتضي الفورية خلافاً لمالك والشافعي، والصواب أنه يقتضي الفورية بالقرائن، ويتفرع على هذه القاعدة مسائل منها: قضاء الصلوات وأداء الزكاة أو الديون. وغيرها ومن القضايا المختلف فيها، واختلفوا هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ والصواب أنه نهي عن ضده من طريق المعنى.

    1.   

    القاعدة السابعة والأربعين في اقتضاء الأمر الفورية

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

    كنا قد توقفنا في تعليقاتنا على كتاب القواعد لـابن اللحام في مسألة إذا أريد بالأمر الندب فيقتضي الفور كالأمر الواجب، أولاً للتذكير: تحدثنا عما إذا ورد الأمر مجرداً هل يقتضي الفورية أم لا؟

    ذكرنا الخلاف في هذا الأمر، وقلنا: إن اقتضاء الفورية إذا كان مجرداً فإن المسألة فيها خلاف، فذهب أحمد رحمه الله: إلى أنه يقتضي الفورية، وهو قول للأحناف، وذهب مالك و الشافعي : إلى أنه لا يقتضي الفورية، وقد ذكرنا أن الذي يظهر والله أعلم: أن الأمر المجرد الغالب أنه تحتف به قرائن تؤيد الفورية من عدمها، فإذا كان هناك وقت فإنه يقتضي الفورية، وإذا لم يكن هناك وقت فاقتضاء الفورية من مجرد اللفظ يحتاج إلى دليل.

    وعلى هذا: فاستدلال الحنابلة ببعض المسائل إنما اقتضاها واقع الأدلة أو واقع الحال، أما مجرد اللفظ فإنه لا يقتضي الفورية والله أعلم، الآن نقرأ المسألة الأخرى.

    الملقي: قال المؤلف رحمه الله: [مسألة: وإذا أريد بالأمر الندب، فإنه يقتضي الفور إلى فعل المندوب كالأمر الواجب، ذكره القاضي أبو يعلى ملتزماً على قوله أمر حقيقة بما يقتضي أن الحنفية لا يقولون بالفور فيه. ومما يتعلق بالقاعدة من الفروع مسائل:

    منها قضاء الصلوات المفروضات، فإنه يجب على الفور؛ لإطلاق الأمر به، هذا هو المذهب المنصوص عن أحمد ، لكن محل ذلك إذا لم يتضرر في بدنه أو معيشة يحتاجها، نص عليه الإمام أحمد أيضاً، ولنا وجه لا يجب القضاء على الفور، فأوجب القاضي في مواضع من كلامه الفور فيما زاد على خمس صلوات، ومنها أداء الزكاة مع القدرة، فإنه يجب على الفور نص عليه الإمام أحمد ، قال الشيخ أبو محمد وغيره: لو لم يكن الأمر للفور قلنا به هنا].

    الشيخ: هذه المسألة داخلة في المسألة التي سبق أن تحدثنا عنها، وهي: أن الأمر المجرد هل يقتضي الوجوب أم الإباحة أم الاستحباب؟ هنا فرع المؤلف على من قال: بأن الأمر المجرد يدل على الندب، فلو قلنا: بأنه يدل على الندب، فهل يدل على الفورية أم لا؟ وما يتعلق بها من مسائل لا يظهر فيها دخولها في القاعدة؛ لأن قضاء الفوائت مثل قضاء الصلوات المفروضات واجب.

    هو يقول: لو قلنا: إن الأمر المجرد يدل على الندب، لكن قضاء الفوائت جاءت قرينة تدل على الوجوب، فهل يقتضي الفورية أم لا؟ الذي يظهر والله أعلم أن اقتضاء الفورية في قضاء الفوائت وجود دليل، كما جاء في صحيح البخاري من حديث أنس : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها )، فالفاء تقتضي الترتيب مع التعقيب.

    ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( لا كفارة لها إلا ذلك، ثم قرأ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] )، فاقتضاء الفورية هنا ليس لأجل اللفظ المجرد، بل لوجود ما يحتف به من قرائن.

    كذلك أداء الزكاة مع القدرة؛ لأن الإنسان إذا أخر الزكاة فقد أخرها على من وجب عليه أداؤها له كالفقير، فيتضرر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله )، يعني: ذلك أنه حينما كان غنياً لم يجد حاجة الفقير إليها فتأخر بذلك فتضرر الفقير، فهذا يدل على أن الزكاة تجب على الفورية بوجود قرائن.

    أما المسارعة فلا يلزم منها الوجوب المطلق، إنما يدل على الاستحباب؛ ولهذا حتى قضاء الفوائت الواجب الموسع يستحب التعجيل وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، مثل قضاء رمضان موسع ومع ذلك يستحب للإنسان أن يبادر ولا يقال بالوجوب.

    الفورية في أداء الزكاة وعدم تأخيرها

    الملقي: [ولنا قول: لا يجب على الفور، وعلى المنصوص يجوز للمالك التأخير إذا خشي ضرراً من عود ساع أو خاف على نفسه أو ماله أو نحوه].

    الشيخ: المنصوص عليه عند الحنابلة أن الزكاة أداؤها واجب على الفور، لكن يجوز تأخيرها إذا خاف على نفسه أو خاف على ماله، أو خاف عود ساع، فإن السعاة الذين يبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم أو يبعثهم ولي أمر المسلمين أحياناً يتأخرون، فالإنسان أحياناً يقول: أخشى لو أديت الزكاة ثم جاء الساعي فقلت له: قد أديتها لم يقبل مني، فأضطر إلى تأخير الزكاة، فهذا مثله مثل تأخير الزكاة للشركات حين طلبها من مصلحة الزكاة والدخل، فيؤخرها أحياناً سنة أو سنتين؛ لأجل الخلاف في مطالبة مصلحة الزكاة، فهذا إن شاء الله ليس عليه إثم، شريطة أن يخرجها من ماله محاسبياً، بحيث لا يستثمرها.

    الملقي: [وللإمام والساعي التأخير لعذر قحط ونحوه، وكذلك يجوز للمالك تأخير الإخراج لحاجته إلى زكاته، نص عليه، وهل يجوز للمالك التأخير لانتظار قريب أو ذي حاجة؟

    في المسألة وجهان، وقيد بعضهم ذلك بالزمن اليسير، وأطلق القاضي وابن عقيل روايتان في القريب، ونقل يعقوب بن بختان عن الإمام أحمد أنه قال: لا أحب أن تؤخر الزكاة إلا لقوم لا يجد مثلهم في الحاجة، ومنها أداء...].

    الشيخ: يعني تأخير الزكاة لأجل قريب لا حرج، لكن لا يكون تأخيراً مضراً بأدائها؛ لأنه أحياناً يكون القريب بعيد جداً، وربما يجد من يعطيه غيرك؛ فلا ينبغي تأخيرها، لكن هناك من المسائل ما هي مهمة قد أشار إليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ، مثل أن يكون تأخير الزكاة بسبب تأخير المال، كأن يكون شخص عنده عقار، ولا يريد بيعه اليوم أو السنة، فيريد تأخيره إلى خمس سنوات، فهل يجوز تأخير الزكاة حينئذ؟ نقول: لا بأس؛ لأن ذلك أنفع للفقير وللمزكي، يعني: كأنه نوع من الاستثمار لأنه كلما زادت زاد الثمن، ولو بيع لتضرر الإنسان، فهذا يسميه العلماء: تأخير الزكاة لمصلحة المال نفسه، لأن الزكاة تجب في عين المال ولها تعلق بالذمة.

    فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يؤدي الزكاة من عين المال فلا حرج، ولهذا قال علي بن أبي طالب : فليؤد زكاته إذا قبض إن كان قادراً، أما ابن عباس فيقول: لا بأس بالمتربص إذا باع، وهذا معناه أنه لا بأس أن يتربص، فإذا باع زكاه لما مضى من السنين وليس لسنة واحدة كما فهمه المالكية عن ابن عباس .

    اقتضاء الفورية في أداء واجب الحج والعمرة

    الملقي: [ومنها: أداء النذر والكفارة، وفي لزوم الفورية وجهان المذهب المنصوص عن الإمام أحمد اللزوم، وقد ذكر غير واحد من أصحابنا من الصور المسقطة لنفقة الزوجة فعل النذر الذي في الذمة، والصوم للكفارة قبل ضيق وقته، ولم يكن ذلك بإذن الزوج، وهذا مشكل إذ قد تقرر أن المذهب المنصوص لزوم الفورية فهو كالمعين، أشار إلى ذلك أبو العباس رضي الله عنه، ومنها أداء الحج والعمرة، والمنصوص عن الإمام أحمد رضي الله عنه لزوم الفورية لإطلاق الأمر، وهو المذهب عند الأصحاب، وذكر ابن أبي موسى وجهاً أنه على التراخي، وذكره ابن حامد رواية، زاد أبو البركات : مع العزم على فعله في الجملة، وقد تقدم الكلام عن العزم في قاعدة الواجب الموسع].

    الشيخ: يعني معروف مذهب الإمام أحمد في أداء واجب الحج والعمرة، أنه على الفور، هذا هو المشهور عند الإمام أحمد ، وإن كان ابن أبي موسى الهاشمي ذكر رواية عند الإمام أحمد بأنه على التراخي، والذي يظهر والله أعلم: أنه على الفور.

    لكن الفورية هنا بحسبها والله أعلم، هذا المعروف عند الإمام أحمد ، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس الذي رواه الإمام أحمد و أبو داود : ( تعجلوا الحج ).

    اقتضاء الفورية في قضاء ديون الآدميين

    الملقي: [ومنها أداء ديون الآدميين عند المطالبة، فإنه واجب على الفور، جزم به الأصحاب، وبدون المطالبة هل يجب على الفور أم لا؟ في المسألة وجهان: أحدهما ما قاله أبو المعالي و السامري وغيرهما وهو المذهب: أنه لا يجب، قال شيخنا أبو الفرج : محل هذا إذا لم يكن عيناً له وقتاً للوفاء، فأما إن كان عين له وقتاً للوفاء كيوم كذا، فلا ينبغي أن يجوز تأخيره، لأنه لا فائدة للتوقيت إلا وجوب الوفاء فيه بدون المطالبة، فإن تعين الوفاء فيه أولاً كالمطالبة، والله أعلم].

    الشيخ: نعم أداء ديون الناس إن كان له وقت فيجب أداؤه، لأن في ذلك ضرراً على صاحبه، وكيف يعطيه مهنأه وعليه مغرمه؟ وأما إذا كان من دون مطالبة، أو عرف بقرائن أن صاحبه لا يطالبه بذلك ويسمح بعدم أدائه فحينئذ لا يلزمه ذلك، أما المسألة المعروفة: أنه يطالبه ويؤخر فهذا آثم، فهذا آثم، فهذا آثم.

    الملقي: [قلت: وينبغي أن يكون محل جواز التأخير إذا كان صاحب المال عالماً بأنه يستحق في ذمة المدين الدين، أما إذا لم يكن عالماً فيجب إعلامه به، والله أعلم].

    الشيخ: وهذا منها، إذا كنت أنا استدنت من زميلك ولم يعلم، وسكت أنا مع أني أعلم أن زميلك ناس؛ فأنا آثم حينئذ، لأن زميلك ربما لا يعلم لا هو ولا ورثته، فلا بد أن أخبر زميلك بهذا الأمر، والله أعلم.

    الفورية في إخراج النفقة على الزوجات

    الملقي: [والثاني: ما قاله القاضي في الجامع والشيخ أبو محمد في المغني في قسم الزوجات: أنه يجب على الفور، ذكرها محل وفاق].

    الشيخ: هذا في النفقة فإنها تجب على الفور، أما في العطايا فالذي يظهر والله أعلم أنه إذا كتبها فلا بأس، خاصةً أنه أحياناً يعطي الزوجات العطايا بالعدل؛ لأجل تحفيزهن، بمعنى أنه يعطيهن النفقة الواجبة في حقه، أما العطايا فيكون من باب تحفيزهن، فيقول: إذا أنتم درستم أولادي فلكم كذا، وإذا أنتم اهتممتم بحال أمي وأبي؛ فلكم كذا، فإذا كنتم تهتمون بحالي فلكم كذا، فيجعل هذه العطايا نوعاً من الحوافز لهن، مع أنه سوف يؤدي هذا الأمر، فهذا لا حرج فيه إن شاء الله، شريطة ألا يكون التأخير إلا قريباً.

    الفورية في أداء الوديعة إذا سرقت من غير حرز

    الملقي: [ومنها: إذا أودع شخص شخصاً وديعةً في السوق وقال: أحرزها في بيتك. فتركها في السوق إلى وقت المصير إلى منزله فعدمت، فإنه يضمن، قاله الأصحاب؛ بناءً على القاعدة، وأبدى في المغني احتمالاً ومال إليه، وصححه الحارثي أنه لا ضمان، إذ عادة الإيداع في السوق إمساكها في حانوته إلى وقت المصير إلى منزله، فصار كالمأذون فيه نطقاً].

    الشيخ: هذا الذي يظهر كما أشار إليه صاحب المغني، أما أن يخرج من السوق إلى أداء الأمانة فهذا تكلف لا داعي له؛ لأن صاحب المال هو الذي أعطاه إياه في السوق، وهذا هو يتحمله.

    الفورية في التعريف باللقطة

    الملقي: [ومنها: الأمر بتعريف اللقطة حولاً، فإنه يجب على الفور، جزم به غير واحد من الأصحاب، قال القاضي: لا خلاف أن التعريف معتبر عقيب التقاطها، قلت: فلو أخر مع الإمكان فلا إشكال في الإثم واستقرار الضمان، ذكره في التلخيص وغيره].

    الشيخ: يعني لو أنه وجد اللقطة في السوق، فإنه يجب عليه أن يعرفها عقيب التقاطها من عند أهل السوق، لأنه ربما يجد صاحبها، وأما قوله: (يضمن)، فمحل توقف؛ لأن أكثر الناس ربما يجهل مثل هذا، ولربما وجدها في مكان غالب أهله ليس عندهم من الأمانة التي ربما يتنزهون عنها، بل ربما ادعوها لأنفسهم، فقوله بالضمان يحتاج إلى نظر؛ ذلك أن الضمان إنما يكون بسبب تفريط في الحفظ، لا تفريط في التعريف والله أعلم.

    الملقي: [وهل يسقط التعريف؟ ذكر القاضي أبو يعلى و أبو محمد : أنه يسقط في ظاهر كلام أحمد ، ولنا وجه بانتفاء السقوط، قال الحارثي : وهو صحيح].

    الشيخ: هذا الذي يظهر فإذا لم يعرفها أسبوعاً من أول التقاطها فلا يلزم منه سقوط التعريف، بل التعريف يبقى والله أعلم.

    الملقي: [قال في المغني: وعلى كلا القولين لا يملكها بالتعريف؛ لأن شرط الملك التعريف في الحول ولم يوجد، وكذا لو قطع التعريف في الأول وأكمله في الثاني لا يملك بذلك].

    الشيخ: مسألة اللقطة الراجح والله أعلم: أنه لا يملكها ألبتة، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاستنفقها ولتكن وديعةً عندك )، فالاستنفاق شيء والملك شيء آخر، ولهذا قال: ( ولتكن وديعةً عندك )، ومن المعلوم أن هذا نوع من تجويز التصرف في الوديعة، والتصرف في الوديعة ليس دلالةً على الملك، والله أعلم.

    وعلى هذا: فالملك إنما قيل عنه بأنه مالك لأجل التصرف، كتصرف ماله، لا أنه يحق له أن يرثها ورثته والله أعلم.

    الملقي: [وهل يحسبها للمالك أو يتصرف فيها؟ على روايتين ذكرها القاضي و أبو محمد ، وإن أخر التعريف لحبس أو نسيان أو نحو ذلك فوجهان: ذكرهما أبو محمد ].

    الشيخ: إذا أخر التعريف، فالذي يظهر والله أعلم أنه يعرفها السنة الثانية أو الثالثة ولتكن وديعة عنده ويستنفقها، لكن الأولى ألا يستنفقها إلا إذا عرفها.

    1.   

    القاعدة الثامنة والأربعون: الأمر بالشيء نهي عن ضده

    أقوال العلماء في مسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده

    الملقي: قال المؤلف رحمه الله: [القاعدة الثامنة والأربعون قاعدة: الأمر بالشيء نهي عن أضداده، والنهي عنه أمر بأحد أضداده من طريق المعنى دون اللفظ، في قوله أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة و الشافعي و مالك وقال الأشعرية: من طريق اللفظ، قال أبو البركات : بناءً على أصلهم أن الأمر والنهي لا صيغة لهما، وزيف الجويني قول أصحابه بأن المعنى القائم في النفس المعبر عنه بـ(افعل) مغاير للمعنى القائم في النفس المعبر عنه بـ(لا تفعل)].

    الشيخ: هذا مذهب الأشاعرة هداهم الله وغفر الله لنا ولهم في مسألتهم عندما قالوا: إن الكلام الشرعي ليس هو الكلام الملفوظ، ولكنه حكاية وعبارة، فإذا جاء عن الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43، فهذا هو المعبر عنه بالإقامة وليس هو اللفظ، وهذا مذهب الأشاعرة، والصحيح: أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده بالمعنى دون اللفظ.

    الملقي: قال: [ومن أنكر هذا فقد باهت وسقطت مكالمته، وقال طوائف من المعتزلة وبعض الشافعية منهم الجويني : لا يكون نهياً عن أضداده ولا أمراً بأحد أضداده لا لفظاً ولا معنى، بناءً على أصل المعتزلة في اعتبار إرادة الناهي والآمر قاله القاضي، وقول بعض الشافعية مبني على أن ما لا يتم الواجب إلا به غير واجب].

    الشيخ: يقولون: إن الأمر بالشيء لا يلزم أن يكون نهياً عن أضداده؛ لأن الناهي والآمر لم يرد ذلك، يعني لم يرده في اللفظ، فالمعنى تحقق، هكذا قال المعتزلة؛ لأنهم يرون أن كلام الله ككلام البشر، وليس حقيقة كلام الله ككلام البشر، لكنهم يجعلونه ككلام البشر، فتعالى الله عن ذلك.

    ولهذا يجعلون لازم القول قولاً لصاحبه، والصحيح أن لازم الحق حق، وكلام الله وكلام رسوله حق، أما كلام البشر فإنه يعتريه ما يعتريه من النقص والنسيان والذهول والسهو ونحو ذلك، ولكننا حينما نقول: الأمر بالشيء نهي عن أضداده، فإن فيه دلالة على أن الشارع حينما أمر العبد بأن يفعل أداء الصلاة، فقد نهاه عن جميع أضداد ما يخالف هذا الأمر ولو كان مباحاً، كالشرب والنوم والأكل والذهاب والمجيء، والشرب الحرام والزنا وغير ذلك أثناء أداء هذه العبادة وليس على إطلاقه، ولهذا قال بعض الشافعية: إنه مبني على أنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يعني تقريباً.

    اشتراط ضيق الوقت في مسألة الأمر بالشيء نهي عن أضداده

    الملقي: [ويشترط في كون الأمر بالشيء نهياً عن أضداده أن يكون الواجب مضيقاً، كما نقله شارح المحصول عن القاضي عبد الوهاب ، وقاله القاضي أبو يعلى من أصحابنا في مسألة الوجوب].

    الشيخ: هذا الذي يظهر أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده إذا كان الواجب مضيقاً، وأما إذا كان موسعاً فليس نهياً عن أضداده، لأن الإنسان حينما يفعل خلاف المأمور فلا يأثم، فلا يكون الأمر بالشيء نهياً عن أضداده.

    مسألة الأمر بالشيء نهي عن أضداده وتعلقها بالواجب والمستحب

    الملقي: [وإذا قلنا: الأمر بالشيء نهي عن ضده، فهل يعم الواجب والندب أم يخص الواجب؟ في المسألة قولان، حكاهما الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، وأصحهما أنه لا فرق، والله أعلم].

    الشيخ: الإشكال أن الأمر بالاستحباب يلزم منه نهي عن أضداده، ويشكل على هذا الترابط بين السنة والكراهة، هل يلزم من ترك السنة فعل الكراهة؟ سبق أن تحدثنا عن هذه القاعدة مراراً وتكراراً، وقلنا: إن ترك السنة إذا لزم منها فعل غير المشروع؛ لزم منها الكراهة، وأما إذا كان ترك السنة لا يلزم منها فعل غير المشروع فلا يلزم منها الكراهة.

    وعلى هذا: فإن الأمر بالشيء في السنة لا يلزم أن يكون نهياً عن أضداده مطلقاً والله أعلم.

    حكم من قال لزوجته: إن خالفت أمري فأنت طالق فخالفت نهيه

    الملقي: [فمن فروع هذه القاعدة: إذا قال لزوجته: إن خالفت أمري؛ فأنت طالق، ولا نية، ثم نهاها فخالفته، لأصحابنا في ذلك ثلاثة أوجه:

    أحدها: تطلق؛ لأن النهي عن الشيء أمر بضده، فإذا خالفته وفعلت المنهي عنه؛ فهو ترك ضده المأمور به.

    والثاني: لا تطلق، تمسكاً بصريح لفظه، فإنه إنما علق طلاقها على مخالفتها أمره، وهي إنما خالفت نهيه، ولعل القائل بهذا يرى أن النهي عن الشيء ليس أمراً بضده.

    والثالث: إن كان الحالف عارفاً بحقيقة الأمر والنهي لم يحنث، وإلا حنث، ولعل هذا أقرب إلى الفقه والتحقيق].

    الشيخ: إن كان الحالف عارفاً بحقيقة الأمر والنهي؛ لم يحنث وإلا حنث، ولعل هذا أقرب إلى الفقه والتحقيق، يعني: إذا قال: إذا خالفت أمري فأنت طالق، ويقصد بالأمر مجرد الطلب وهذه نيته فإنها تطلق وهذا الذي يظهر، والله أعلم: أن العبرة بنيته وقصده.

    تطبيق قاعدة: النهي عن الشيء أمر بضده على وجوب النكاح للنهي عن الزنا

    الملقي: [وأما عكسها فلم أرها مذكورةً فيما وقفت عليه من كتب أصحابنا، ويتوجه تخريجها عليها، إلا أن يفرق بينهما بفرق مؤثر فيمتنع التخريج والله أعلم.

    ومنها: ما ذكره بعض أصحابنا أن النزاع في وجوب النكاح مبني على هذه القاعدة، وهي: أن النهي عن الشيء أمر بضده، قال: لأنا إذا قلنا بذلك فالمكلف منهي عن الزنا، فيكون مأموراً بضده وهو النكاح، والأمر يقتضي الوجوب؛ فيكون النكاح واجباً، ونازعه الطوفي وقال: هذا تخريج ضعيف؛ لأن التحقيق أن الشيء إذا كان له أضداد فالنهي عنه أمر بأحد أضداده، والزنا لم ينحصر ضده في النكاح، بل ليس ضداً له أصلاً، وإنما ضد الزنا تركه، ولكن تركه قد يكون بالنكاح، وقد يكون بالتسري، وقد يكون بالاستعفاف مع العزوبة فلا يتعين النكاح للتلبس، بل يلزم قائل ذلك أن يكون المكلف المنهي عن الزنا مأموراً بالنكاح أو التسري على التخيير؛ لأن ترك الزنا يحصل بكل واحد منها، فيصير من باب الواجب المخير، فإن قال بذلك؛ صح له التخريج المذكور، ولكن التسري لم نعلم أحداً قال بوجوبه تعييناً ولا تخييراً، والله أعلم].

    الشيخ: هو يقول: من أمثلة ذلك: أن النزاع في وجوب النكاح مبني على هذه القاعدة وهي: أن النهي عن الشيء أمر بضده؛ لأننا إذا قلنا بذلك فالمكلف منهي عن الزنا، فإذا نهى الشارع العبد عن الزنا فكأنه أمره بالنكاح، والطوفي رحمه الله خالف في هذا وقال: إن النهي عن الزنا لا يلزم منه أمر بالنكاح؛ لأنه ليس ضده أصلاً، بل ضد الزنا هو تركه، ثم إنه إذا ترك الزنا فإما أن يتركه مطلقاً، وإما أن يتركه إلى التسري، وإما أن يتركه إلى العزوبة والاستعفاف وإما أن يتركه إلى النكاح، فدل ذلك على أن الزنا ضده الأربعة، فلا يلزم حصره على النكاح.

    إلا إذا قصد بالزنا هو ترك الزنا، ولهذا قال: بل يلزم قائل ذلك: أن يكون المكلف المنهي عن الزنا مأموراً بالنكاح أو التسري على التخيير، وهذا ليس بصحيح، فلا يلزم أن يكون مأموراً بالتسري أو النكاح، ودليل ذلك أن التسري لا يستطيعه إلا بالنكاح، والنكاح منهي عنه إذا احتاج إلى ذلك.

    الملقي: [قلت: هذا الذي قال الطوفي متجه فيما إذا كان المكلف لا شهوة له، أو له شهوة ويأمن على نفسه من مواقعة الزنا، وأما إذا كان له شهوة فخاف على نفسه الوقوع في الزنا، فإن الوطء المباح يتعين دون بقية الأضداد، إذ ليس غيره يقوم مقامه في كسر الشهوة.

    وأما قوله: إنه لا يعلم أحداً قال بوجوب التسري تعييناً ولا تخييراً فلم يطلع على ما قاله الأصحاب في ذلك].

    الشيخ: الآن المؤلف أعاد المسألة بطريقة أخرى، قال: إن النهي عن الزنا أمر بضد الزنا، يعني هو حصل وطء بالحرام، فضده الوطء بالحلال، وهو حاصل بالنكاح أو حاصل بالتسري؛ لأنه مأمور بالوطء المباح، ولا يحصل الوطء المباح إلا بأحد أمرين، ولعل الطوفي أشار إلى ذلك، ولهذا قال: (بل يلزم قائل ذلك أن يكون المكلف المنهي عن الزنا مأموراً بالنكاح أو التسري على التخيير)، هو ليس مأموراً بالنكاح، ولكن مأمور بالاستعفاف بالوطء المباح، الذي لا يحصل إلا بالنكاح أو بالتسري.

    تطبيق إرسال الطلاق على قاعدة النهي عن الشيء أمر بضده

    الملقي: [وقد ذكر غير واحد إذا قلنا بوجوب النكاح، ففي الاكتفاء بالتسري وجهان لنا، والذي يظهر الاكتفاء والله أعلم.

    ومنها: ما ذكره الطوفي : أن إرسال الطلقات الثلاث عندنا بدعة في رواية، لتضمنه قطع مصلحة مأمور بإقامتها والاستمرار عليها وهو استدامة النكاح، وقطع المأمور باستدامته منهي عنه، وظاهر المذهب ليس ببدعة، انتهى.

    وفيما ذكره نظر من حيث النقل ومن حيث المعنى، أما من حيث النقل: فالمذهب الذي نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن هانئ و أبي داود و المروزي و أبو بكر بن صدقة وأبو الحارث واختاره أكثر أصحابنا: أن الثلاثة بدعة، وفي كون الثنتين بدعة قولان].

    الشيخ: يعني أن يقول: أنت طالق طالق طالق، أو يقول: أنت طالق ثلاثاً، كلاهما بدعة.

    الملقي: [وأما من حيث المعنى: فالمعنى الذي ذكره ليس مختصاً بإرسال الطلقات، بل يعم الطلاق المانع من استدامة النكاح، فلو قال: إن الطلاق من غير حاجة ينبني على ذلك، لربما توجه ذلك، ولنا في تحريمه من غير حاجة روايتان، وقد يحصل بناء التحريم روايتي الطلاق من غير حاجة على أصل، قاله أبو يعلى في تعليقه الصغير، و أبو الفتح ابن المني وهو أن النكاح لا يقع إلا فرض كفاية، وإن كان ابتداء الدخول فيه سنة والله أعلم].

    الشيخ: يعني إن فرض الكفاية إسقاطه على مسألة الطلاق هل هو حرام أم لا؟ الذي يظهر والله أعلم: أنه ليس بحرام، وأما الحديث الوارد: ( إن أبغض الحلال عند الله الطلاق )، فالصحيح أنه مرسل، وذلك أن المحارب بن دثار لم يصح سماعه من ابن عمر، والله أعلم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756223603