إسلام ويب

القواعد لابن اللحام [17]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • فرَّق بعض العلماء في لفظ إقرار المدعى عليه إذا قال: أنا مقر بما يدعيه، وأنا مقر وسكت؛ لأن الثاني يحتمل إقراره بأن لا شيء عليه. ومن القواعد المهمة عند علماء الأصول تفسير الحروف التي تشتد حاجة الفقهاء إلى معرفتها منها الواو العاطفة وهل تفيد الترتيب أم لا.

    1.   

    القاعدة الثامنة والعشرون: إطلاق المشتق باعتبار الحال حقيقة

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

    الملقي: قال المؤلف رحمه الله: [القاعدة الثامنة والعشرون: إطلاق المشتق كاسم الفاعل واسم المفعول باعتبار الحال حقيقة بلا نزاع. هكذا ذكر غير واحد، وظاهره أنه حين الشروع في الفعل يسمى فاعلاً حقيقة قبل وجود ما يتناوله مطلق الاسم المشتق منه لحين القبول والإيجاب بالنسبة إلى المتبايعين. وقد قال أبو الطيب : لا يسمى فاعلاً إلا مجازاً، وكذلك قال القاضي أبو يعلى ].

    إطلاق اسم الفاعل حقيقة ومجازاً على حين الشروع في الفعل

    الشيخ: مثلاً: في البيع إذا قال البائع: بكم تشتري؟ فقال المشتري: أنا راغب فيها، فمجرد شروعه في هذا الأمر نوع من الإيجاب وإن كان ليس إيجاباً؛ ولهذا قال: يسمى فاعلاً حقيقة قبل وجود ما يتناوله مطلق الاسم الذي هو الإيجاب، وكذلك القبول، يقول: ولكن يقول أبو الطيب : ولا يسمى فاعلا ًإلا مجازاً، وكذلك قال القاضي أبو يعلى ، يعني: لا يسمى فاعلا ًإلا مجازاً إلا إذا تلفظ باللفظ المطلق حصل مطلق الاسم المشتق.

    تقسيم ابن تيمية إطلاق اسم الفاعل إلى نوعين

    الملقي: [وقال أبو العباس : وهذا غلط بل هو نوعان:

    أحدهما: أن يراد الصفة لا الفعل كقولهم: سيف قطوع، وماء مرو، وخبز نقيع، فقيل: هذا مجاز، وقال القاضي: بل هو حقيقة؛ لأن المجاز هو الذي يصح نفيه كأب الأب يسمى أباً مجازاً؛ لأنه يصح نفيه، فيقال: ليس بأب إنما هو جد، ومعلوم أنه لا يصح أن ينفي عن السيف الذي يقطع القطع، فيقال: إنه ليس بقطوع ولا عن الخبز الكثير والماء الكثير إنه غير نقيع وغير مرو، فعلم أن ذلك حقيقة.

    والثاني: أن يراد الفعل الذي يحدث وجوده في المستقبل، وأن لا يتغير الفاعل بفعله كأفعال الله، واشتهر عند أصحابنا وجمهور أهل السنة أن الله سبحانه موصوف في الأزل بالخالق والرازق حقيقة].

    الشيخ: هذا مهم جداً، فالعبد لا يسمى فاعلاً إلا بحصول الشيء ويمكن أن يُنفى، أما أن يكون هذا على أفعال الله فإن الله لم يزل ولا يزال فاعلاً وإن لم يوجد مفعول، فنحن نعلم أن أول مخلوقات الله على الراجح العرش، والله سبحانه وتعالى متصف بالفعل قبل وجود المفعول الذي هو العرش، فلا يسوغ أن نقول: لا يسمى فاعلاً إلا بوجود مطلق الاسم المشتق.

    إطلاق اسم الفاعل باعتبار الماضي حقيقة أو مجازاً

    الملقي: [قال أحمد : لم يزل الله متكلماً غفوراً رحيماً انتهى.

    وإن كان باعتبار الماضي ففي المسألة مذاهب أصحها عند الإمام فخر الدين وأتباعه أنه مجاز سواء أمكن مقارنته له كالضرب ونحوه أو لم يمكن كالكلام.

    والثاني: أنه حقيقة مطلقاً، وهو مذهب أبي هاشم و أبي علي و ابن سينا .

    والثالث: التفصيل بين الممكن وغيره وتوقف الآمدي و ابن الحاجب فلم يصححا شيئاً.

    والرابع: قول أبي الخطاب ، قاله في مسألة خيار المجلس وهو الفرق بين ما يعدم عقب وجود مسماه كالبيع والنكاح والاغتسال والوضوء، فإن الاسم يقع عليه بعد ذلك حقيقة وما يتعذر وجود المسمى جميعه كان الاسم مجازاً.

    والخامس: قول أبي الطيب الطبري حكاه عنه القاضي أبو يعلى : أن هذه الأسماء عنده حقيقة عقب وجود المعنى المشتق منه بخلاف ما إذا طال الزمان.

    إذا تقرر هذا فحاصل ما ذكره الإمام الآمدي وغيرهما وصرح به التبريزي في اختصار المحصول أن محل الخلاف فيما إذا لم يطرأ على المحل وصف وجودي يناقض المعنى الأول كالسواد مع البياض، والقيام مع القعود].

    الشيخ: الوصف الوجودي، يعني: حال وجود هذا الموصوف، أسود أبيض، طويل قصير، هذا يسمونه وصف وجودي، هذا هو المقصود بذلك.

    اعتبار الحال في إطلاق اسم الفاعل

    الملقي: [أن محل الخلاف فيما إذا لم يطرأ على المحل وصف وجودي يناقض المعنى الأول كالسواد مع البياض والقيام مع القعود، فإنه يكون مجازاً اتفاقاً، وهذا كله إذا كان المشتق محكوماً به، كقولك: زيد مشرك أو قاتل أو متكلم.

    فإن كان محكوماً عليه كقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2]، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا [المائدة:38]، وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36]، ونحوه فإنه حقيقة مطلقاً سواء كان للحال أم لم يكن، إجماعاً، ذكره القرافي.

    قال: وإلا لتعذر علينا الاستدلال بهذه الآيات؛ لأنه ما من نص يستدل به إلا وللمخالف أن يقول: هذا إنما يتناول من كان موجوداً حالة نزول الآية وأما من كان غير موجود فلا يتناوله إلا بطريق المجاز، والأصل عدم التجوز إلى هذه الصورة، فيحتاج كل دليل إلى دليل آخر من إجماع أو نص يستدل به على التجوز إلى هذه الصورة، وهو خلاف ما عليه الناس بل كل لفظ من هذه الألفاظ يتم الاستدلال به من جهة اللغة فقط، انتهى.

    وأما الاستدلال بالمجاز الذي ثبتت صحة التجوز به فقد صرح القاضي أبو يعلى من أصحابنا بصحة الاحتجاج به، قال: والدلالة عليه أن المجاز يفيد معنى من طريق الوضع، كما أن الحقيقة تفيد معنى من طريق الوضع، ألا ترى إلى قوله تعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [المائدة:6]، فإنه يفيد المعنى وإن كان مجازاً، وكذلك قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، ومعلوم أنه أراد عين الوجوه لا تنظر، وقد احتج الإمام أحمد بهذه الآية في حصول النظر إلى وجه الله يوم القيامة في رواية المروذي و الفضل بن زياد و أبي الحارث ].

    الشيخ: كل هذا مبني على مسألة الإضمار ومسألة الحقيقة والمجاز، فإن المؤلف قسم إطلاق المشتق هل يفيد الحقيقة أو يفيد المجاز، إطلاق اسم المشتق كاسم الفاعل واسم المفعول، قال: له اعتباران: اعتبار الحال واعتبار الماضي، وقصده باعتبار الحال مثل ما قسمه، أي: لو قال: اقتلوا المشركين، فهل قوله: اقتلوا المشركين يعني لا تقتلوا إلا من كان مشركاً وقت اللفظ، هذا باعتبار الحال، أم أن العبارة كما ذكر صاحب السبكي في المنهاج أنه قال: إننا لا نعني بالحال حال نقصنا بل حال اتصافه بالمشتق منه، يعني: إذا قال: اقتلوا المشركين، يعني: حال وجود الشرك منه ولو لم يكن مشركاً حال نطق الشارع، يقول: وهذا هو الصحيح، وقد غلط به كثير من الناس، والمعنى الآخر باعتبار الماضي، قال: (وإن كان باعتبار الماضي ففي المسألة مذاهب) ومعنى اعتبار الماضي أنه إذا قال: اضربوا كذا باعتبار من صدر منه هذا الشيء حتى انتهى منه، وأما باعتبار المستقبل فلا، الذي هو حال من اتصف بهذا اللفظ المشتق، فإذا قلت أنا: اقتلوا المشركين، فيقال: ماذا تقصد هل باعتبار الحال أم باعتبار الماضي؟ والفرق بينهما أننا إذا قلنا باعتبار الحال يصدق هذا القول حتى لو كان صبياً لم يبلغ، فإذا بلغ وكان مشركاً يقتل، وأما باعتبار الماضي فإننا لا نقتل إلا حال من كان مشركاً فجاء هذا اللفظ، فلو أشرك شخص بعد ذلك فلا يقتل. والشارح حينما يعلق الحكم على وصف يدل ذلك على أنه متى ما وجد ذلك الوصف عُلق الحكم به سواء لم يكن موجوداً أو كان موجوداً في ذلك الوقت، ولهذا أدلة النصوص الشرعية عندما قال: اقتلوا المشركين؛ وأدلة كثيرة في المشركين، وبعضهم إلى الآن في أصلاب آبائهم، هذا يدل على أن الحكم باعتبار الحال وهو حقيقة، والله أعلم، وأما باعتبار الماضي فإنه لا يمكن قصده إلا بقرينة، هذا الذي يظهر.

    ومعنى (حال اللفظ) إذا قلت: اقتلوا المشركين، فلا تقتلوا إلا من كان مشركاً وقت اللفظ، فلو أن عندنا عشرة أشخاص؛ خمسة كفار مشركون وخمسة غير مشركين، فقلت أنا: اقتلوا المشركين، فحينما تلفظت لا تقتلوا إلا الخمسة، فلو كفر الخمسة الآخرون لا يقتلون؛ لأنه باعتبار وقت لفظي فقط، فمن كان مشركاً وقت لفظي يقتل، ومن أشرك بعد لفظي فلا يقتل؛ لأنه لم يكن في وقت الحال الذي تلفظت به، وأما باعتبار حال اللفظ المشتق فإنك تقتل كل من كان مشركاً حال لفظي أو من أشرك بعد ذلك، وهذا هو الذي عناه المؤلف بقوله: باعتبار الحال، باعتبار الماضي، فإنكم لا تقتلون إلا من كان قد أشرك قبل لفظي، وأما من أشرك بعد لفظي فلا، وقلت أنا: لا بد في هذا من قرينة؛ لأن الأصل أن اللفظ يحتمل الوصف المناسب له. كما لو قلت: اقطعوا يد السارق، فكل من كان سارقاً يقطع سواء كان ماضياً أو مستقبلاً، ولا يُصار على الماضي فقط إلا بقرينة.

    وهنا أنا أريد أن أبين أن أكثر الألفاظ التي تحمل لفظ الشارع لم يقصدها الشارع، فهي بعيدة كل البعد، فهذا كلام الأصوليين فلا تجد كلاماً من الذين عرفوا بالفقه في المذهب إلا نادراً.

    الملقي: [وأيضاً فإن المجاز قد يكون أسبق إلى القلب، كقول الرجل: لزيد علي درهم، فإنه مجاز وهو أسبق إلى الفهم من قوله يلزمني لزيد درهم، وإذا كان يقع بالمجاز أكثر ما يقع بالحقيقة صح الاحتجاج به.

    إذا تقرر هذا فها هنا فرعان يتعلقان باسم الفاعل:

    أحدهما: إذا قال الكافر: أنا مؤمن أو مسلم فإنه يحكم بإسلامه، نقله أبو طالب عن أحمد وقاله القاضي أبو يعلى ، وأبدى احتمالا آخر أن هذا في الكافر الأصلي، وفي من جحد الوحدانية، أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة أو نحو هذا فإنه لا يصير مسلماً بذلك؛ لأنه ربما اعتقد أن الإسلام ما هو عليه، فإن أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر، فإن جعلنا اسم الفاعل حقيقة في الحال كان مسلماً وإلا فلا؛ لأنه لو قال: أنا مسلم بعد ساعة أو يوم لم يحكم بإسلامه، وظاهر كلام أحمد و القاضي إن قال: أنا مسلم ولا أنطق بالشهادة أنه يكون كما لو تلفظ بالشهادتين، وقال: لا أتلفظ بهما بعد ذلك.

    ولكن قد قال القاضي أبو يعلى الصغير في مفرداته في مسألة ترك الصلاة: لا خلاف أن الكافر إذا قال: أنا مسلم ولا أنطق بالشهادة أنه يقبل منه].

    الشيخ: الآن مسألة القاعدة أن إطلاق اللفظ المشتق يُحمل على الحقيقة أو المجاز، إذا قال الكافر: أنا مسلم، فـ(مسلم) هل هو اسم فاعل أو لا؟ وهل يُحمل الإسلام على الحقيقة أو المجاز؟ وهل يحمل على الحقيقة العرفية أو الحقيقة اللغوية؟ أنا مسلم من باب استسلام، يعني: مهادي؟

    يقول: ظاهر كلام أحمد أنه يُحمل على الحقيقة الشرعية، أي: أنه مسلم إسلاماً شرعياً، ولو قال: ولا أنطق بالشهادتين، الذي يظهر والله أعلم أن الكافر إذا قال: أنا مسلم، فإن كان يعيش في أرض المسلمين مثل أهل الذمة فإنه يُحكم بإسلامه، وحينئذ لا بد من أن يُسلم أو أنه يُعتبر مرتداً، هذا في حق الذمي الذي يعرف اللفظ الشرعي، وأما الذين لم يعيشوا في بلاد الإسلام وربما عاشوا في بلاد لغتهم غير اللغة العربية فإذا قال: أنا مسلم ولكنه لا يصلي ولا يؤدي فهذا لا يلزم؛ لأنه ربما يقول: أنا مسلم، يعني: أنا أفكاري أفكار المسلمين، لكن لا يلتزم بإسلامه، وعلى هذا فلا يقال: إنه أسلم ثم ارتد؛ لأنه لم يتحقق منه وجود هذا الاسم، والله أعلم.

    مسألة قول الكافر: أنا مسلم، ومسألة إقرار المدعى عليه

    الملقي: [ الفرع الثاني: إذا قال المدعى عليه: أنا مقر بما يدعيه فإنه يكون إقراراً جزم به الأصحاب بخلاف ما لو قال: أنا مقر، ولم يقل: بما يدعيه فإنه لا يكون إقراراً على أشهر الوجهين لاحتمال أنه يريد الإقرار بأنه لا شيء عليه].

    الشيخ: يعني: فرق بين قوله: أنا مقر ويسكت وبين قوله: أنا مقر به أو بما يدعيه، قالوا: لأنه إذا قال: أنا مقر بما يدعيه، فإذاً هو أقر بكلام المدعي الخصم.

    وقوله: (إذا قال: المدعى عليه) أي: سواء كان المدعى عليه هو المدعي أو المدعى عليه، كيف يصير هذا؟ يصير إذا قال المدعي: أنا مقر بما يدعيه فصار هو المدعى عليه أصالة، وأحياناً يقول المدعى عليه: أنا سددت له مبلغاً عند المكان الفلاني، قال المدعي: أنا مقر بما يدعيه، فصار هو المدعى عليه، ولهذا تعرفون مسألة الدفوع، إذا دفع المدعى عليه بدفع فإنه إذا أتى ببينة صار المدعي مدعى عليه.

    هنا يقول: إذا قال: أنا مقر فسكت فلا يقال: إنه أقر بما ادعاه خصمه؛ لأن قوله: أنا مقر ويسكت، يحتمل أن يكون مراده: أنا مقر بما يدعيه الخصم, أو أنا مقر بأنه لا شيء عليه، وأنتم تعلمون أن قولنا: أنا مقر بأنه لا شيء عليه، هل يسمى إقراراً أم يسمى دعوى؟ يسمى دعوى، ما الفرق؟ العلماء يقولون: الإقرار والدعوى كلاهما دعوى، ولكنها غلبت الدعوى في حق الإقرار على الغير فصارت دعوى؛ لأنها تحتاج إلى دليل، أما لو ادعى على نفسه، فإن دعواه على نفسه هي بحد ذاتها دليل. إذا قال: أنا مقر بما يدعيه فهي دعوى على نفسه، فصارت الدعوى على نفسه بمثابة الدليل فصارت إقراراً، أما لو ادعى على الغير فهذه دعوى، فهو وإن كان إقراراً إلا أنه يحتاج إلى دليل ولا دليل, وهذا هو الفرق بين الإقرار والدعوى.

    الملقي: [والوجه الثاني: حكاه المجد وغيره واختاره أبو العباس أنه يكون إقراراً؛ لأن المعقول ما في الدعوى كما فيما إذا قال الزوج في عقد النكاح: قبلت ولم يقل: نكاحها، فإنه ينعقد على المنصوص عن الإمام أحمد وهو الصحيح عند الأصحاب].

    الشيخ: نعم, هذا هو المذهب أنه إذا قال: أنا مقر فإن الإقرار ينصرف إلى الإقرار في الدعوى نفسها؛ ولهذا قالوا: لأن المعقول ما في الدعوى، وهذه قاعدة عند أهل الفقه، يقولون في مثل هذه المسألة: الشيء يعود إلى أقرب مذكور، فهنا إذا قال: أنا مقر، فأقرب مذكور هو الدعوى نفسها, ولهذا نقول: الإقرار يعود إلى أقرب مذكور، وهو المعهود.

    ودائماً الشيء يأخذ الحقيقة العرفية أو الشرعية، وإن كان ثمة أصل يخالفهما، لكن حينما عهد الشيء على لسان الشارع أخذ حقيقة أخرى، أو عهد الشيء على عرف الناس أخذ حقيقة أخرى، وإن كان له أصل في اللغة، كالغائط، فالغائط في اللغة: هو ما خفض ونزل وهبط من الأرض فصارت الحقيقة العرفية لها معنى آخر.

    فإذا سمعنا أحداً يتكلم بهذا اللفظ ذهبنا إلى المعهود وهو الحقيقة العرفية، كذلك في القضايا والدعاوى فإن الإنسان يأخذ المعهود؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( يمينك على ما يصدقك به صاحبك )، وفي رواية: ( اليمين على نية المستحلف ) ؛ لأن اليمين هنا إنما يحلف على ما هو معهود، وما هو المعهود؟ هي الدعوى نفسها.

    المضاف بعد زوال موجب الإضافة

    الملقي: [وهنا قاعدة من جنس قاعدة المشتق من معنى بعد زوال ذلك المعنى، وهي المضاف بعد زوال موجب الإضافة؛ كقوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [الأحزاب:27]، وقوله: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أيما رجل وجد ماله عند رجل قد أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه )، قال بعض الحنفية: صاحب المتاع هو المشتري, وقال القاضي وغيره :معناه الذي كان صاحب المتاع].

    الشيخ: وهذا تكلف؛ لأنه يجب علينا عند تفسير النص الشرعي أن نجمع جميع الأحاديث الواردة؛ ولهذا يقول الحافظ ابن حجر في شرحه للنخبة: (وتتبع الطرق لذلك هو الاعتبار).

    قوله: ( وصاحب المتاع أحق بمتاعه ) يفسرها الحديث الآخر؛ لأن هذا اللفظ ربما لم يكن قد قاله صلى الله عليه وسلم، ربما قاله الراوي بالمعنى؛ لأن أكثر أهل الحديث يرون تفسير رواية الحديث بالمعنى؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أفلس الرجل ووجد متاعه بعينه فهو أحق به )، هل يمكن أن يفسر خلاف البائع؟ لا، وفي رواية: ( فوجد الرجل متاعه عند الذي أفلس ) فهذا لا يمكن، ولا نقول في مثل هذا: أن المضاف بعد زوال موجب الإضافة، هذه ربما تكون في تفاسير القرآن لكنها في الأحكام الفقهية ربما يصعب تطبيقها؛ لأن استدلالنا في المسألة ربما لا يكون لأجل المضاف بعد زوال الإضافة، ولكن لأجل معنى آخر، كما قلنا هنا فإن المعنى بسبب جمع الطرق التي تبين خلاف المراد.

    الملقي: [قلت: والدليل على ذلك ما روى مالك و أبو داود مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء )، وقد أسند هذا اللفظ من وجه غير قوي والله أعلم ].

    الشيخ: الحديث هذا رواه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة , واختلف على أبي بكر هذا، فرواه بعضهم بهذا الإسناد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وأكثر أهل الحديث يروونه مرسلاً من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    فالعلماء يقولون: إن الراوي عندما روى عن أبي هريرة رواه على الجادة، فالحديث أصله من حديث أبي هريرة , ولكن الراوي أبا بكر لم يروه عن أبي هريرة ولكن رواه على الجادة, فظن من ظن أنه من حديث أبي هريرة ؛ لأن الحديث أصله من حديث أبي هريرة وهذا خطأ، وهذا معروف عند العلماء أن الراوي أحياناً يروي الحديث على الجادة، يعني: على أصل الشيء، فيخطئ، كما يقولون: محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فمرة يرويه عن أبي هريرة مرفوعاً ومرة موقوفاً، فإذا رواه عن أبي هريرة مرفوعاً رواه على الجادة وهو يخطئ, والصواب أنه من قول أبي هريرة .

    وهذا هو الراجح أن الحديث مرسل، وفيه ألفاظ أخذ بها الحنابلة: ( إذا مات الرجل ووجد متاعه بعينه ) قالوا: إذا لم يجده بعينه وقد تغير فلا يجوز له أن يأخذه، والذي يظهر -والله أعلم- أنه إذا وجد متاعه ولو لم يكن بعينه فإننا نقول للغريم الذي هو صاحب المتاع: إما أن تأخذه بكامل دينك وإما أن تدعه، فأنت بالخيار، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فصاحب المتاع أسوة الغرماء )، ( فصاحب المتاع أحق به )، فأنت الآن أحق به، فإما أن تسقط حقك، ولا تطالب بشيء بعد ذلك أو تتركه وتكون أسوة الغرماء، مع أنها محاصة بالدين، أما أن يأخذ هذا الشيء ثم يقول: بقي عشرة آلاف ريال سأكون فيها مع أسوة الغرماء، فنقول له: لا، هذا الذي يظهر.

    الملقي: [ قال القاضي: وهذا مجاز مستعمل يجرى مجرى الحقيقة، وقد قال الله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [الأحزاب:27]، ومعناه التي كانت أرضهم وقال: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12]، وإنما كن أزواجنا ومنه قولهم: درب فلان وقطيعة فلان ونهر فلان.

    قال أبو البركات : والصواب أن هذا حقيقة؛ لأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، لكن قد يكون عند الإطلاق له معنى، وعند الاقتران بلفظ آخر له معنى، فيرجع إلى أن القرينة اللفظية الدالة بالوضع، هل يكون ما اقترن بها دلالة بالحقيقة أو المجاز؟ قال: والصواب المقطوع به أنه حقيقة، وإن كان قد قال طائفة من أصحابنا وغيرهم إنه مجاز, والله أعلم].

    الشيخ: كلام أبي البركات رحمه الله معروف، يقول: إن الإنسان أحياناً يتكلم بالكلام فلا يقال: إنه مجاز أو حقيقة, ولكن على حسب القرائن والإضافات المحتفة بها، فهذه الإضافات تجعل الشيء له معنى, فلولا وجود هذه الإضافات لما فهمناها بهذا المفهوم.

    وهذه هي قاعدة ابن تيمية حينما نفى المجاز في اللغة قال: لأنه ما من كلام إلا وفيه قرائن وإضافة, فإذا انتزعت الإضافة فهمنا معنى آخر, وإذا وجدت الإضافة ووجد حال الكلام فإنه يمنعه من قولنا المجاز.

    وهذه كما قلت دائماً: إن الخلاف حقيقته لفظي، لكن الذي أحب أن أبينه أن كثيراً من القواعد الأصولية اللغوية ربما تثبت بغير هذا الدليل الذي مثلوا له كما قلنا, فربما يذكرون قاعدة من القواعد فنحن نقول: إنها تثبت بغير هذا الدليل، والدليل على هذا أن ثمة أموراً مثلها لا تأخذ حكم هذا الشيء، كما قلنا في مسألة اللائط ومسألة النباش, فأحياناً يذكرون قاعدة أن القياس في اللغة معتبر أو ليس بمعتبر، وسواء قلنا: إنه معتبر أو غير معتبر فالأمثلة الثلاثة التي ذكروها ربما نقول: إنه يجري مجرى القياس، وآخر لا يجري مجرى القياس، وليس في هذا دلالة على أن القياس مأخوذ في اللغة أو ليس مأخوذاً, ولكن لأجل وجود دليل آخر.

    ولهذا قلنا دائماً قاعدة: نفي الدليل المعين لا يستلزم منه نفي المدلول؛ لأنه ربما يثبت بدليل آخر.

    لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم, وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755949840