إسلام ويب

البدعة - تعذيب الميت ببكاء أهله عليهللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حياة البرزخ هي المرحلة الثانية للإنسان بعد الحياة الدنيا وقبل الحياة الأخروية، فإذا انتقل الإنسان إلى حياة البرزخ وبكى عليه أهله وناحوا فإنه يعذب إن أوصى بذلك أو لم ينه عنه أو كان الفعل الذي يبكى عليه لأجله معصية أو كان الوصف الذي يذكرونه به عند البكاء مبالغاً فيه، وهذا مما يثبت سماع الأموات وأنهم يفرحون بما يجري عندهم من طاعات ويحزنون على ما يقع عندهم من مخالفات، وهذه الحياة البرزخية لا يجوز لنا أن نتكلم فيها إلا عن طريق الوحي.

    1.   

    معاني حديث: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

    اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً؛ فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد: معشر الإخوة الكرام! تقدم معنا أن البدعة من أسباب سوء الخاتمة عند الإنسان، وهذه البدعة التي يتسبب عنها سوء الخاتمة قلت: إننا سنتدارسها ضمن ثلاثة مباحث:

    أولها: في تعريف البدعة.

    وثانيها: في النصوص التي حذرتنا من البدعة.

    وثالثها: في أقسام البدعة.

    ولا زلنا إخوتي الكرام في المبحث الأول من هذه المباحث الثلاثة.

    وقلت فيما سبق: إن البدعة هي الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، وهذا الحدث الحاصل لا تشهد له نصوص الشرع الحسان.

    وقلت: إن هذا التعريف ضل فيه فرقتان: فرقة غلت في تعريف البدعة وأفرطت؛ فأدخلت في البدعة ما ليس منها، وفرقة فرطت وقصرت في تعريف البدعة فابتدعت في دين الله عز وجل، وزعمت أنها تعبد الله! وهاتان الفرقتان على ضلال، ولا بد من أن نحذر مسلكهما، ونسأل الله أن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه، وأن يحببه إلينا، وأن يرينا الباطل باطلاً وأن يرزقنا اجتنابه، وأن يكرهنا إياه، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    إخوتي الكرام! لا زلنا نناقش ونرد على الفرقة الأولى التي وسعت مفهوم البدعة وغلت في ذلك، وقلت: إنها ضلت وانحرفت عن طريقين اثنين بسبب أمرين اثنين:

    أولهما: حكمت بالبدعة والتضليل على ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل، بل جاوزت هذا الأمر فحكمت بالبدعة على ما ورد صراحةً بأدلة الشريعة المطهرة الثابتة؛ لأن ذلك لم يرق لعقولهم القاصرة الناقصة! فما وسعهم ذلك؛ فحكموا عليه بالبدعة، وعلى فاعله بالتضليل! ومثلت لذلك بعدة أمثلة ينبغي أن نكون على علم وبينة منها، من هذه الأمثلة ما أشرت إليه سابقاً من وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع كالهيئة التي يكون عليها المصلي قبل الركوع، ومنها صلاة التراويح وأنها عشرون ركعة ويوتر الإنسان بثلاث، ومنها قراءة القرآن على الموتى عند القبور، ومنها تلقين الميت، ومنها: القول بأن الأموات يسمعون ما يجري عندهم، ويعلمون بزيارة الأحياء لهم، ويستبشرون بما يقع عندهم من طاعة، ويتألمون بما يقع في حضرتهم من معصية، وتعرضت عند هذا إلى بيان حكم زيارة النساء للقبور.

    وبقي علينا أمر كان في نيتي أن نتدارسه في هذه الموعظة لأختم الكلام على التحذير من أقوال هذه الفرقة، وهذا: القول هو إهداء القربات بأسرها من قربات بدنية ومالية ومركبة إلى الأموات، كان في نيتي أن نتدارس هذا الأمر في هذه الموعظة لكنني سأرجئ الكلام عليه إلى الموعظة الآتية إن شاء الله، وأتكلم في هذه الموعظة على أمر كنت ذكرته في الموعظة الماضية وما تمكنت من الكلام عليه، وهذا الأمر هو حديث صحيح ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، احتمل ستة أمور، كل منها حق مقبول، وقال بجميع هذه الأقوال التي يحتملها الحديث أئمتنا الكرام، السادس منها يدل على مسألتنا التي تدارسناها ألا وهي: سماع الأموات، وسرورهم على ما يجري عندهم من الطاعات، وحزنهم وتألمهم بما يجري عندهم من المخالفات، فلنتابع خطوات البحث في ذلك إخوتي الكرام.

    ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أمير المؤمنين الخليفة الراشد الثاني المهدي سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، والحديث ثبت في الصحيحين أيضاً من رواية عبد الله بن عمر ، ومن رواية المغيرة بن شعبة ، والحديث مروي في غير ذلك من دواوين السنة المطهرة عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه )، وفي رواية: ( إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه )، وهذا الحديث احتمل ستة أمور -كما قلت- كلها حق مقبول، وقال بذلك أئمتنا الكرام الفحول، سأوجه هذه الأقوال، وأختمها بالسادس الذي يدل على مسألتنا ألا وهو أن الأموات يسمعون ويفرحون بما يجري عندهم من طاعة، ويحزنون ويتألمون على ما يجري عندهم من معصية.

    المعنى الأول: تسبب الميت في حصول النياحة عليه

    المعنى الأول: الذي يحتمله هذا الحديث الشريف الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام: أن الميت يعذب في الآخرة عند الله عز وجل، إذا تسبب في حصول النياحة والعويل عليه؛ بأن أوصاهم بذلك، وسن لهم هذا الأمر المنكر المبتدع في الدين، وإلى هذا ذهب سيد المسلمين وأمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري عليه رحمة الله، فبوب في صحيحه في كتاب الجنائز باباً يشير به إلى هذا القول الذي ذهب إليه ومال إليه، فقال: باب الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، فإذا لم يكن النوح من سنته فلا يعذب؛ لأن الله يقول: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] .

    فقول هذا الإمام المبارك الكريم عليه رحمات رب العالمين هو: أن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، فالمراد بالبكاء هنا النياحة، وهي التي فيها جزع ورفع صوت وتسخط على المقدور، واعتراض على العزيز الغفور الذي قدر الأمور وخلق الخلق وإليه سيئولون، فإذا حصل هذا النوع من البكاء الذي فيه صراخ وعويل واعتراض فهذا هو الذي يحاسب الإنسان عليه ويعاقب بسببه إذا كان من سنته، وأما مطلق البكاء على الميت فلا حرج على الإنسان فيه على الإطلاق؛ لأن هذا من باب الرحمة التي أودعها الله في قلوب الرحماء من خلقه.

    وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ( اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عن الصحابة أجمعين فاشتد وجعه؛ فذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى عيادته وزيارته، وذهب معه سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود ، وجم غفير من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فلما دخل نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه على سعد بن عبادة وجده وعليه غاشية )، والغاشية تحتمل أمرين كما قرر أئمتنا إما أن المعنى: غشيه أهله وأحاطوا به لشدة وجعه واشتداد كربه، أو غشي عليه وفقد وعيه في تلك الحالة، (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قضى سعد -يعني خرجت روحه وقبض وتوفي-؟ فقالوا: لا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما اقترب منه النبي عليه الصلاة والسلام ونظر إليه استعبر وبكى وذرفت عيناه بالدموع عليه صلوات الله وسلامه، فبكى الصحابة الكرام أجمعون ببكاء نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ألا تسمعون! إن الله لا يعذب -أي لا يؤاخذ- بدمع العين وبحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار النبي إلى لسانه- أو يرحم ) أي: أن البكاء حاصل والأعين تذرف الدمع، والقلب يحزن لفراق الحبيب، فهذا لا لوم عليه لا على الباكي ولا على من يبكي عليه، إنما إذا حصل جزع واعتراض على الله جل وعلا وصراخ وعويل بهذا -وهو اللسان- فالله يعذب أو يرحم سبحانه وتعالى على اللسان، فإما أن يعذب وإما أن يعفو وهو خير الغافرين وأرحم الراحمين.

    وقد ثبت في الصحيحين أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن إبراهيم ولد نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه عندما اشتد مرضه ذهب النبي عليه الصلاة والسلام لزيارته مع بعض أصحابه، وكان في فترة الرضاعة)، وقد توفي هذا الغلام المبارك سيدنا إبراهيم بن سيدنا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بثلاثة أشهر، وهو في فترة الرضاعة (فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام وحمله وشمه عليه صلوات الله وسلامه، ثم ذرفت عيناه بالدمع، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه!)، -أي أنت لا تملك نفسك، ولا تصبر وأنت تأمرنا بالصبر، وأنت تبكي وقد نهيتنا عن الجزع! فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها رحمة )، ثم أتبعها بأخرى، إما بدمعة أخرى تسيل من عينيه المباركتين عليه صلوات الله وسلامه، وإما بجملة أخرى وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون).

    وإلى هذا أشار الإمام البخاري عليه رحمة الله فقال: باب الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، ثم محل استنباطه هو آخر الترجمة قال: إذا كان النوح من سنته -من سنته التي جمعها سنن- أي: من طريقته، بضم السين وفتح النون المشددة، وضبط بضم السين المهملة بعدها موحدتان، أي: من سببه، وهما بمعنىً واحد كما حقق أئمتنا شراح الحديث فإذا كان النوح من سنته، أي: من طريقته، وإذا كان النوح من سببه أي: لأجل أنه أوصى أن ينوح أهله عليه، فإذا فعل ذلك عذب عند الله عز وجل، والسبب في ذلك: أنه أوصاهم بمعصية؛ بتسخط على المقدور، واعتراض على العزيز الغفور، (ومن سن سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها من بعده إلى يوم القيامة).

    وقد أشار إلى هذا الأمر نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد والكتب الستة إلا سنن أبي داود من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فـقابيل عندما قتل أخاه المبارك الجليل هابيل، فكل نفس تقتل بعد موت هابيل إلى يوم القيامة ظلماً يتحمل قابيل نصيباً من ذلك القتل والوزر؛ لأنه أول من سن القتل.

    نعم عندنا في الشريعة المطهرة من سن خيراً واتبع فيه فله أجره وأجر من عمل به بعده، وهكذا إذا سن وزراً واتبع فيه فعليه وزره ووزر من عمل به بعده.

    وقد ثبت هذا في المسند، والحديث رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد، والإمام مسلم في صحيحه، وأهل السنن الأربع إلا سنن أبي داود أيضاً، من رواية جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سن في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )، فهذا هو المعنى الأول لهذا الحديث الثابت في الصحيحين من رواية عمر وابن عمر والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) أي: بما يناح به عليه إذا أوصى بالنوح والاعتراض على الله عز وجل، وهذا المعنى الأول حق، وقواعد الشريعة تقرره، وأئمة الإسلام كلهم يقبلونه.

    المعنى الثاني: إذا علم أن من عادة أهله النياحة فلم ينههم في حياته

    والمعنى الثاني: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أي: بما ينوح به أهله عليه إذا علم من عادتهم أنهم ينوحون ويبكون ويعترضون على الحي القيوم، وما أوصاهم في حياته أو عند احتضاره بعدم النياحة عليه، وما حذرهم من ذلك وزجرهم عنه، فإذا مات وناحوا عليه فإنه يعذب عند الله عز وجل؛ لأنه عليه إثم المعصية حيث ترك تربية أهله ونصحهم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله جل وعلا يأمرنا أن نتقيه، وأن ننشئ أهلنا على تقواه، يقول جل وعلا في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ، (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) أي: تعلموا الخير وعلموه، واعملوا به، كما ثبت هذا التفسير عن علي رضي الله عنه في تفسير الطبري ومستدرك الحاكم ، وفي مصنف ابن أبي شيبة وسنن سعيد بن منصور ، وتفسير عبد بن حميد ، والأثر رواه عنه الإمام البيهقي في المدخل، وابن المنذر في تفسيره وغيرهم، إذاً معنى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6] علموا أنفسكم وأهليكم أمور الخير.

    وثبت في تفسير عبد بن حميد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، قال: ( علموا أهلكم وأدبوهم )، فأنت مسئول عنهم، فينبغي أن تحذرهم من كل معصية، فإذا حذرتهم وفعلوا ذلك فلا إثم عليك، وإذا لم تحذرهم فقد شاركتهم في تلك المعصية؛ لأنك ما نهيتهم عنها وما زجرتهم عنها.

    إذاً هذا هو التأويل الثاني، وهو تأويل أيضاً حق مقبول مبرور؛ لأنه إذا ترك نهي أهله عن هذا المنكر الذي يفعله أهله، فقد شاركهم في ذلك وأقرهم عليه.

    وقد أخبرتنا نصوص الشريعة المطهرة: أن الإنسان إذا فرط فيما يجب عليه من نصح وأمر بمعروف ونهي عن منكر يحاسب على ذلك عند الله عز وجل، ولذلك فإن أول من يختصم عند الحق جل وعلا جاران متلاصقان في السكن في هذه الحياة، فأول خصومة تكون بين الخليقة بين يدي الله مع الجيران، عندما يقصر كل جار في نصح جاره، وفي تذكيره، وفي التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وقد أشار إلى هذا نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه ابن أبي عاصم وإسناده صحيح، كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح، قال: إلا أبا عشانة ، وهو ثقة، وأبو عشانة اسمه حي بن يؤمن المصري ، توفي سنة ثمان عشرة ومائة للهجرة، وحديثه في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري ، وقد أخرج له أصحاب السنن الأربع إلا الإمام الترمذي عليهم رحمة الله، فالحديث صحيح، ولفظ الحديث من رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أول من يختصم بين يدي الله جل وعلا جاران متجاوران، لا يتناصحان، ولا يتواصيان بالحق، ولا يتواصيان بالصبر )، فالخصومة تقع بينهما أمام الله عز وجل، فإذا كانت الخصومة ستقع بينك وبين جيرانك إذا تركتم النصح فيما بينكم، فمن باب أولى أنك ستتحمل عقوبة أهلك إذا ما نصحتهم وحذرتهم وزجرتهم عن النياحة والبكاء عليك بعد موتك، فهذا هو المعنى الثاني وهو أيضاً حق مقبول مبرور.

    المعنى الثالث: إن كان الفعل الذي يبكى عليه لأجله معصية

    والمعنى الثالث: قرره أئمتنا أيضاً وهو حق وهو أن معنى الحديث ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، أي: أنه يعذب بنظير ما يبكيه به أهله، إذا كان ذلك الفعل الذي يبكى عليه من أجله معصية لربه جل وعلا، وهذا يجري في كثير من الموتى لا سيما في الرؤساء والزعماء، ولا سيما فيمن يقومون ببعض الأمور العظيمة في هذه الحياة، لكن على غير هدي رب الأرض والسموات، فيثنى على الزعيم إذا مات بأنه وطني، وأنه كان يحرص على مصلحة الوطن، وهذا يزيده بكاءً ويعذب عليه عند الله عز وجل، ويثنى أيضاً على الإنسان بأنه كريم لكنه كان ينفق ماله في معصية رب العالمين! ويثنى على الإنسان بأنه كان يتصف بالشجاعة، لكن ذلك في غير الطاعة! فيموت وقد أثنى عليه الناس ثم تذكروا هذه الأشياء وبكوا عليه بسببها؛ يقولون كان حريصاً على وطنه، كان كريماً، كان شجاعاً، لكن كل هذا على غير شرع الله، فالناس يذكرونه بهذه المآثر على زعمهم ويحزنون عليه ويبكون لفقده بسبب هذه الأشياء، وهو يعذب عليها عند الله عز وجل، وما أكثر ما يقع هذا في هذه الأيام!

    ولعلكم تذكرون -إخوتي الكرام- ما تتطاير به الصحف ما بين الحين والحين من تأبين أعداء رب العالمين، والبكاء والنياحة عليهم لما قدموه من مآثر وهي في الحقيقة بلايا ورزايا، فالعبد المخذول قاسم أمين الذي أفضى إلى ما قدم، ونسأل الله أن يحسن ختامنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، عندما نشر البدعة الردية في هذا العصر بدعة تحرير المرأة في كتابه الذي سماه بهذا الاسم! وهكذا في الكتاب الآخر الذي هو أخبث من هذا الكتاب ألا وهو المرأة الجديدة، ودعا إلى السفور والعري والتهتك! إنه دعا إلى معصية ولا شك، لكن أخبث منه وأشر من جاءوا يؤبنونه وينشرون في الصحف العامة صور الرجال وهم يراقصون النساء وهن عاريات كاسيات، ثم يكتب بعد ذلك فوق هذا المشهد ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، ويكتب بعد هذا الحديث الثاني الذي ذكرته: ( من سن في الإسلام سنةً حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء )!

    وأما الحديث الأول: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ) فهو حديث صحيح في المسند وفي كتاب الأدب المفرد للبخاري وفي صحيح مسلم ، وقد أخرجه أهل السنن الأربع إلا سنن ابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهو من أصح الأحاديث، فيرون أن دعوته إلى السفور عمل صالح مقبول مبرور يثاب عليه عند العزيز الغفور! هذا ما يقال في حفلات تأبينه في هذا الحين، وهذا العبد الضال المضل الذي انتقل إلى سجين أخذه الله سنة ست وعشرين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، أي: صار له قرابة تسعين سنة في الدار الآخرة، ونسأل الله حسن الختام، ولا زال يؤبن ما بين الحين والحين، ويثنى عليه، ويتباكون على ما قدم، إذاً هذا هو المعنى الثالث للحديث: ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ).

    فهذان الكتابان اللذان نشرهما: تحرير المرأة، والمرأة الجديدة، يبكى عليه من أجلهما، وكأنه نشر في الأمة مفخرةً، سبحان ربي العظيم! وقد وصل الأمر والشطط ببعض الضالين أنه يقول في حفلات تأبينه أبياتاً من الشعر بعد أن صدرها بالحديثين المتقدمين! يقول:

    كنت في الحق للإمام نصيراً والوفي الصفي من أصحابه

    ويقصد بالإمام تلميذ جمال الدين الأفغاني ألا وهو محمد عبده .

    نعم، إن قاسم أمين ما نشر ذلك الضلال اللعين إلا بإيحاء من هذا الشيخ، وقد أفضى الشيخ والتلميذ إلى رب العالمين ليلقى كل واحد جزاء سعيه.

    كنت في الحق للإمام نصيراً والوفي الصفي من أصحابه

    نم هنيئاً فمصر نالت ذرى المجد وفازت بمحضه ولبابه

    منك عزم الداعي وفضل المجلي ومن الله ما ترجو من ثوابه

    منك عزم الداعي: أي أنت دعوت بعزم إلى هذه الخصلة (تحرير المرأة) وفضل المجلي: أي أنت الذي سبقت إلى هذه الدعوة، ولك أيضاً من الله ما ترجو من ثوابه، سبحان ربي العظيم، والله إن الجاهلية ما كانوا يؤملون أجوراً على جاهليتهم عند رب البرية! وإن الشيطان الغرور ما وصل به الغرور أنه يرجو أجراً على فسقه وضلاله وخبثه عند العزيز الغفور! لكن الناس في هذه الأيام اشتد غرورهم بحيث صاروا يريدون أجوراً على معصيتهم لربهم جل وعلا! ينشر بدعة السفور، والدعوة إلى الإباحية، واختلاط النساء بالرجال -وهو ضلال لا شك- ثم يؤبن بعد ذلك ويبكى عليه بأنه قدم للأمة خيراً! ولن ينقطع عمله عند الله عز وجل! نعم لن ينقطع وزره، وما دامت امرأة تسفر في البلاد الإسلامية فإن هذا الشيطان الرجيم قاسم أمين يتحمل وزرها كما تحمل وزر نشر هذا الكتاب!

    إذاً ( الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، أي: بنظير ما يبكيه به أهله مما يعتبر معصيةً لله، وهذا يقع بكثرة، فكم من ضال في هذه الأيام يموت وقد نشر الضلالات في هذه الحياة، ثم تتباكى عليه إذاعات العالم وتحزن! ولعلكم تستحضرون الضالة الخبيثة التي ماتت من سنين وحزن عليها في جميع إذاعات المسلمين، وأنها كانت داعية السلام، وقد قتلت هي وأسرتها وأهل الإجرام من المسلمين في ذلك المكان ما لو جمعت دماؤهم لسال منها نهر عظيم! ثم بعد ذلك يقال عنها: إنها داعية السلام! ثم عند تحريقها -وهذا مما يندى له جبين الإنسان- يجتمع ثلاثة من الضالين، شيخ يقرأ القرآن، وبوذي يقرأ في كتاب بوذه، وهنوكي يقول مراسم الهنادكة عند تحريقها من أجل أن توزع بعد ذلك ذرات جسمها على العالم ليحصل للعالم بركة من هذه الذرات النجسة! والناس يتباكون أيضاً عليها، وقد أراقت من الدماء المسلمين ما لو جمعت تلك دماء لسال منها نهر عظيم، ثم يبكي الناس عليها ويصفونها بأنها داعية السلام!

    نعم، صدق نبينا عليه الصلاة والسلام: ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، نعم يبكون عليها لهذه الخصال التي فيها وهي تعذب عند الله من أجلها، وهذا معنى ثالث حق قرره أئمتنا وقواعد الشرع تقرره وتدل عليه.

    المعنى الرابع: أن التعذيب ببكاء الأهل خاص بالكافر

    والمعنى الرابع: ذهبت إليه أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهو حق لا غبار عليه، لكن سأنبه على ما في قولها مما ينبغي أن نكون على وعي به، تقول أمنا عائشة عندما حدثها عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين: ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، يعذب ببكاء الحي عليه، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما حدث بهذا، لكنه قال: إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، ثم قالت: حسبكم القرآن، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] ، وقالت رضي الله عنها وأرضاها: يرحم الله عمر ! إن النبي عليه الصلاة والسلام ما حدث بهذا، وكانت رضي الله عنها تقول إذا حاجها ابن عباس وقال: حدث بهذا عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام كانت تقول: والله إنكم لا تحدثون عن كاذبين مكذبين، لكن السمع يخطئ، إن النبي صلى الله عليه وسلم مر على يهودية وأهلها يبكون عليها وهي ميتة؛ فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب، وكانت تقول أيضاً: (يغفر الله لـأبي عبد الرحمن -يعني ابن عمر - أما والله إنه لم يكذب لكنه أخطأ أو نسي، مر النبي صلى الله عليه وسلم على يهودي ميت وأهله يبكون عليه فقال عليه الصلاة والسلام: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه).

    وعليه كأن أمنا عائشة رضي الله عنها تريد أن تقول: إن هذا الوعيد لمعين معلوم، وهو اليهودي واليهودية، وينسحب ذلك الوصف وذلك الحكم على من اتصف بذلك الوصف الملعون، فكل من مات على الكفر فإنه يعذب عند بكاء أهله عليه، فكأنها تريد أن تقول: هذا ورد من النبي عليه الصلاة والسلام في حق كافر.

    ولا شك في صحة ما تقوله أمنا عائشة رضي الله عنها، وعليه فالباء هنا تحتمل أمرين كما قرر أئمتنا: إما أن تكون للحال، أي: أن الميت يعذب حال بكاء أهله عليه، والسبب في ذلك -كما قرر أئمتنا- أن الكافر عندما يقبر يشتد حزن أهله عليه كما هو الحال في جميع المقبورين، فأعظم ما يكون الحزن عليهم من قبل أهلهم عند دفنهم؛ لأنه قطعت الآن أخبارهم ورؤيتهم، ولن يحصل بعد ذلك اتصال بينهم، فأعظم الحسرة في الأحياء والبكاء عندهم يكون عند الدفن، وهو عند الدفن يحاسب على عمله ويعذب على سعيه، وعليه فمعنى ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، يعني: عند بكاء أهله عليه، وحال بكاء أهله عليه يعذب على أعماله ويحاسب على ذلك.

    ويمكن أن يخرج أيضاً على التفسير الذي ذكرته أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها عندما قالت أيضاً: ( إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه )، أن تكون الباء سببية، وأن الله يزيد الكافر عذاباً إلى عذابه عندما يبكي عليه أهله؛ لأنه فرط في حق نفسه وفي حق أهله؛ فما اهتدى ولا أرشد أهله إلى الهداية، وكما قلت: لا غبار على هذا القول، وأن الكافر يعذب ببكاء أهله عليه عند بكاء أهله عليه؛ لأنه تسبب في ضياع نفسه وضياع أهله فيعذب على الأمرين، لكن إذا ثبت هذا في حق الكافر، وأن الله يزيده عذاباً إلى عذابه كما قالت هي رضي الله عنها وأرضاها؛ لأنه ضيع نفسه وضيع أهله، فما المانع أن يحصل هذا في حق المؤمن الذي فرط في حق نفسه وفي حق أهله، وتقدم معنى: إذا أوصى بالبكاء والنياحة أنه يعذب إذا علم هذا من سنتهم وطريقتهم وما نهاهم ونصحهم.

    إذاً ما الداعي لإنكار هذا والحديث قد ثبت؟! وكون بعض الوقائع التي قيل فيها الحديث من كونه قيل في يهودي أو في يهودية لا يخصص هذا عموم الحديث الذي قيل في غير اليهودي واليهودية، وعليه فاعتراض أمنا عائشة رضي الله عنها على عمر وعبد الله بن عمر وعلى من روى هذا الحديث، مردود، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

    نعم تأويل هذا الحديث بما أولته حق مقبول، وحكايتها للحديث بما نقلته ( أن النبي عليه الصلاة والسلام مر أحياناً على يهودي ويهودية وأهلهما يبكون عليهما، فقال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، لا يمنع أن يخص هذا الحكم باليهودي واليهودية، والعلم عند الله جل وعلا.

    فإذاً هنا نقول: لا مانع أيضاً أن يكون هذا في كافر معلوم، وينسحب الحكم إلى كل من اتصف بوصفه المذموم، فكل من أمر بالنياحة عليه أو ما حذر أهله من النياحة عليه فيعذب في قبره، وعند ربه، هذه معان أربع وكلها حق.

    المعنى الخامس: أن العذاب هو توبيخ الملائكة

    والمعنى الخامس: قال أئمتنا: المراد من العذاب هنا ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) توبيخ الملائكة للميت، ومعاتبتهم له، وتقريعهم له، هل هذه الأوصاف فيه، وهذا المعنى حق، وقد دلت عليه نصوص كثيرة صحيحة، كما أن المعاني السابقة حق، فإذا أوصى بالنياحة فإنه يعذب، وإذا علم من حالتهم النياحة وما نهاهم فإنه يعذب، وإذا كان فيه وصف مذموم وبكوا من أجله فإنه يعذب، وإذا كان الميت كافراً وناح أهله عليه فإنه يعذب، فجميع هذه المعاني صحيحة.

    فالمعنى الخامس: أنه لم يوص بالنياحة ونهاهم عن البكاء وما بكوا عليه بأمر يعذب به من أجله، وليس هو بكافر، إنما نيح عليه وهو من الصالحين، وقد حذرهم من النياحة؛ فلن يعذب عند الله، إنما لن ينجو من هذه إلا إذا لطف الله به ورحمه؛ فالمراد بالعذاب على هذا القول توبيخ الملائكة له! فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ارفقوا بموتاكم، ولا تزيدوهم غمةً على غمتهم، ومشكلةً إلى مشكلتهم، وشدةً إلى شدتهم، فعندما تبكون عليهم سيوبخون من قبل الملائكة عند البكاء عليهم.

    وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وفي سنن الترمذي وابن ماجه وإسناده صحيح كالشمس، من رواية موسى عن أبي موسى ، عن النبي عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( إذا مات الميت وقام باكيه فقال: واجبلاه! واسيداه! بعث الله ملكين يلهزانه ويقولان له: أأنت كذلك؟) ومعنى يلهزانه أي: يضربانه في صدره بقوة، ويقولان له: أأنت كذلك؟! أنت السيد، وأنت الجبل الذي يأوي إليك الناس.

    وفي رواية المسند والمستدرك من رواية أبي موسى أيضاً ( أنه إذا قالت النائحة: واعضداه! واناصراه! واكاسياه! جذبه الملك جذبة -أي شده بقوة وعنف- وقال له: أأنت ناصرها؟! أأنت عضدها، أأنت كاسيها؟! )، أي: هل أنت تقوم بهذه الأمور، أو هذه تكفل بها العزيز الغفور الذي تكفل برزق المخلوقات جميعاً؟! وكما قلت: من نيح عليه وما أوصى بالنياحة، وحذرهم منها، وما نيح عليه بفعل يعذب من أجله، وهو ليس بكافر لم يسلم من معاتبة الملائكة وتوبيخهم دون أن يعذب في البرزخ في القبر ودون أن يعذب عند الله في النار، لكن يقال له: أأنت كذلك؟ أأنت فيك هذه الصفات؟! وهذا حقيقةً عذاب للميت وإيلام له، فينبغي على الحي أن يشفق على ميته، وهذا الحديث الثابت كما قلت في هذه الكتب عندما رواه موسى عن أبيه قال له أسيد بن أسيد : انظر ما تحدث يا موسى ! قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] ، فقال له موسى : سبحان الله! والله ما كذبت على أبي موسى ، ولا كذب أبو موسى على النبي عليه الصلاة والسلام! وكأنه يقول: أنت تعترض وأنا نقلت هذا عن أبي، وأبي عن النبي عليه الصلاة والسلام، ثم تعترض على هذا!

    وهذا الحديث المروي عن أبي موسى الأشعري في المسند والمستدرك وسنن الترمذي وابن ماجه قد ثبت ما يشهد له في صحيح البخاري والسنن الكبرى للإمام البيهقي من رواية النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: إن عبد الله بن رواحة عندما احتضر أغمي عليه، وهذا اعتراه في المدينة المنورة، وجاءته ساعة الاحتضار وأغمي عليه لكن الأجل ما حضر، ففسح الله في أجله بعد ذلك حتى شهد غزوة مؤتة رضي الله عنه وأرضاه، واستشهد فيها وهو آخر الأمراء الثلاثة الذين حملوا الراية في تلك الموقعة، بعد زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وكلهم استشهدوا إلى رحمة الله وجنته ورضوانه، ثم حمل الراية خالد بن الوليد رضي الله عنهم أجمعين.

    عبد الله بن رواحة اعتراه مرض شديد في المدينة المنورة -على منورها صلوات الله وسلامه- وساعة تشبه ساعة الاحتضار، وهذا -كما قلت- في صحيح البخاري وغيره من رواية النعمان بن بشير ، والنعمان بن بشير ولد أخت عبد الله بن رواحة ، فـعبد الله بن رواحة خاله، يقول: لما احتضر قالت أخته عمرة وهي أم النعمان بن بشير : واجبلاه! وبدأت تعدد مناقبه، وتندبه، فلما أفاق قال: يا أختاه! والله ما قلت لي شيئا! إلا قال لي الملك: أأنت كذلك؟

    وثبت في كتاب المستخرج لـأبي نعيم أنها قالت: واعضداه، والأثر رواه ابن سعد في الطبقات عن الحسن البصري أنها قالت: واجبلاه! واناصراه! واعزاه! فلما أفاق قال لها: قال لي الملك: أأنت عزها؟! أأنت ناصرها؟ أأنت جبلها؟! والأثر رواه ابن سعد أيضاً من رواية أبي عمران الجوني أنها قالت: (واظهراه! فقال له الملك: أأنت ظهرها؟! فلما زاره النبي عليه الصلاة والسلام ورآه في تلك الحالة قال: اللهم إن كان عبد الله بن رواحة قد حضره أجله فيسر عليه)، أي: خروج الروح ليخرج من هذه الشدة التي يعانيها في المرض، ( وإن كان بقي في أجله بقية ففرج عنه؛ فوجد خفةً رضي الله عنه وأرضاه بعد دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله! والله ما قالت لي أختي عمرة كلمةً إلا تلقاني الملك بمرزبة -ويقال لها: إرزبة وهي المطرقة الكبيرة من حديد- وقال لي أأنت كذلك؟! فلو قلت: نعم، لقمعني بها)، ثم نهى عن البكاء رضي الله عنه وأرضاه، فلما استشهد ما بكت عليه أخته عمرة رضي الله عنهم أجمعين.

    فالمراد من العذاب -كما قلت- توبيخ الملائكة لمن يناح عليه ويبكى عليه هذا إذا لم يوص، وإذا نهاهم عن النياحة عليه، وإذا لم ينح عليه بأمر يعذب به، وإذا لم يكن كافراً سلم من تلك الأمور وهو صالح مبرور، ثم ناح عليه أهله فإنه يعاتب من قبل الملائكة.

    المعنى السادس: أن العذاب هو التألم والحسرة

    المعنى السادس: وهو محل الشاهد ومن أجله أوردت هذا الحديث وذكرت هذه المعاني التي قررها أئمتنا وكلها حق، وهذا المعنى السادس يقرر ما تقدم معنا وهو: سماع الأموات، وفرحهم بما يجري عندهم من الطاعات، وحزنهم بما يجري عندهم من المخالفات والموبقات والمنهيات، فمعنى الحديث على القول السادس أن المراد من العذاب في قوله: (يعذب ببكاء أهله) أنه: يتألم ويتحسر ولا يشعر بارتياح ولا لذة ولا سرور، وهذا كما يتألم الإنسان في هذه الحياة عندما يرى المنكرات ينقبض قلبه، وتشمئز نفسه، وهنا عندما ينوح أهله عليه -والنياحة معصية- ويتسخطون على قدر الله عز وجل يستاء الميت ويحزن، وهذا المعنى هو الذي ذهب إليه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري ، وقد توفي سنة عشر وثلاثمائة للهجرة، وقد رجحه أئمة كرام منهم الإمام ابن المرابط وهو من أئمة المالكية الكبار، وله شرح لصحيح البخاري ، وقد توفي سنة خمس وثمانين وأربعمائة للهجرة واسمه محمد بن خلف ، ورجحه القاضي عياض ، المتوفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة للهجرة.

    وهذا القول نصره شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في المجلد الرابع والعشرين صفحة أربع وسبعين وثلاثمائة، وإليكم خلاصة كلامه العذب المحكم، يقول هذا الإمام المبارك: إن العذاب أعم من العقاب، ما قيل: يعاقب ببكاء أهله عليه، أو يعاقب عند الله ما قيل هذا! إنما قيل: يعذب، وما ورد في رواية المغيرة بن شعبة من ( أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه يوم القيامة ) فيتخرج كما تقدم معنا على التخريجات الأربعة المتقدمة.

    إذاً العذاب أعم من العقاب، فهو يطلق على ما يؤلم الإنسان ويحزنه ويشتد عليه وإن لم يكن عقوبةً عند الله عز وجل، ثم قرر الإمام ابن تيمية هذا بنصوص كثيرة؛ منها حديث النبي عليه الصلاة والسلام: ( السفر قطعة من العذاب )، وليس بعذاب في الآخرة، إنما المراد أنه قطعة من المشقة والألم والشدة والكرب والحزن.

    وهذا الحديث ثابت في المسند والصحيحين وسنن ابن ماجه ، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد، وهو في أعلى درجات الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الخطيب أيضاً في تاريخ بغداد عن أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله )، أي: فليسرع إلى أهله، فالعذاب في الحديث ( السفر قطعة من العذاب )، المراد منه من الألم والمشقة والشدة، وهنا كذلك: ( الميت يعذب ببكاء أهله عليه )، أي: إذا بكوا عليه ولم يتسبب في تلك المعصية فإنه يحزن ويتألم ويكرب؛ لأنه فعل عنده معصية، ولو قرءوا بجواره سورة يس، و(قل هو الله أحد) لفرح وسر وانشرح صدره، وطار فرحاً؛ لأنه حصل بجواره طاعة.

    يا عبد الله! أنت إذا كنت حياً ولك جار يؤذيك بسماع الغناء والبلاء أما تتألم؟ بل تتألم ولا عقوبة عليك عند الله الأكرم، وإذا كان بجوارك جار صالح تسمع منه القرآن وذكر الرحمن أما تفرح؟ بلى تفرح، وهنا كذلك فإن الميت شعوره أدق بكثير من شعور الحي، فإذا فعلت بجواره طاعةً فرح والتذ وسر وابتهج، وإذا فعلت بجواره معصية تألم وكرب وانقبض.

    إخوتي الكرام! حذرنا نبينا عليه الصلاة والسلام من الاعتداء على الميت، وأخبرنا أن الاعتداء عليه كالاعتداء على الحي تماماً، لأن شعوره كشعور الحي بل أدق، فقد ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث في سنن أبي داود وابن ماجه ورواه ابن حبان في صحيحه، ورواه الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى، ورواه أبو نعيم في الحلية وفي تاريخ أصبهان وهو في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، وإسناد الحديث صحيح من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ).

    وفي رواية ابن ماجه عن أمنا أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين عن نبينا عليه الصلاة والسلام: ( كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم )، أي: من كسر عظم ميت واعتدى عليه فإنه يأثم كما لو كسر عظم حي تماماً، لماذا؟ لأنه يتألم كما يتألم الحي، لكن هذا التألم في دار ليس عندنا موازينها.

    إذاً لا يجوز لنا نطأ على القبور، وأن نؤذي الموتى إذا زرناهم، كما لا يجوز أن نطأ على حي إذا كان مستلقياً في مسجد أو في بيت؛ لأنه يؤذيه، وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك، ففي مسند الإمام أحمد ، والحديث في صحيح مسلم ، ورواه أهل السنن الأربع إلا سنن الترمذي وهو في أعلى درجات الصحة، فهو في صحيح مسلم وغيره من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر )، وفي رواية: ( خير من أن يطأ على قبر ).

    وثبت في سنن ابن ماجه ومصنف ابن أبي شيبة ، وإسناد الحديث جيد وهو صحيح كما قرر ذلك شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، والإمام الهيثمي في مجمع الزوائد، ولفظ الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لأن أطأ على جمرة، أو على حد سيف، حتى يخطف رجلي؛ أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم، وما أبالي إذا قضيت حاجتي وسط القبور أو وسط السوق ) إذاً تقطع رجلك أيسر عليك من أن تطأ على قبر.

    ومعنى: ( وما أبالي إذا قضيت حاجتي وسط القبور أو وسط السوق ) أنك في الحالتين عصيت الله، وفي الحالتين سوأتك كشفت ورآها الناس، لكن هناك رآها أهل السوق وهنا رآها أهل القبور.

    إذاً هل القبور يرون ويشعرون، ويعلمون، ويحسون ويفرحون، ويتألمون كما يجري منا ولنا بل أكثر.

    فكما أنك تستحي من الأحياء فاستح من الأموات يا عبد الله! وإذا ذهبت إليهم فلا تؤذهم، حذار حذار أن تطأ على القبور! وحذار حذار أن تتكلم عندهم بمعصية! والله إن الإساءة إليهم أعظم من الإساءة إلى الحي بكثير، وإن الإحسان إليهم أعظم من الإحسان إلى الحي بكثير.

    إن الميت لو تصدقت عنه بنصف تمرة فحسب لقدر ذلك وطار فرحاً، ولو أعطيت الحي حفنةً من تمر لاستقل؛ لأن ذاك صارت موازينه دقيقة، وصارت موازين الذر من الخير والشر لها عنده اعتبار، وأما هذا الحي فلا زال يغط في جهله وفي نومه وفي غفلته، فإذا مات تبينت له الأمور كما قال الله: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، فنصف التمرة يقدرها، والدعوة يقدرها، وهكذا عندما تمر بجوار أهل القبور وتتكلم باللغط فإنهم يحزنون كما يحزن الحي إذا آذاه جاره بلغط وبسفاهة؛ ولذلك إذا وطئ الإنسان على جمرة، أو وطئ على حد سيف، أو قطع من رجله وخصف بها نعله إذا كان يعقل فإن كل هذا أيسر من أن يطأ على القبر؛ لأن هذا الأذى الذي سيتسبب له أخف من الأذى الذي سيؤذي به الميت عندما يطأ على قبره.

    وكما أن الحي لا يمكن أن يقضي حاجته في وسط السوق فكذلك ينبغي أن لا يقضيها بين القبور؛ فاستح يا عبد الله من قضاء الحاجة في وسط القبور! فإنهم يرون سوأتك وعورتك!

    وتقدم معنا كلام أمنا عائشة وهو أثر صحيح، أنه عندما دفن عمر رضي الله عنه وأرضاه ما دخلت على حجرتها إلا وشدت عليها ثيابها حياءً من عمر ، فعندما دفن نبينا عليه صلوات الله وسلامه كانت تدخل وتخرج كعادتها، تقول: زوجي! فلما دفن أبوها صديق هذا الأمة أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين تقول: أبي وزوجي! فتدخل وتخرج وتضع خمارها عن رأسها، ولا تتحجب الحجاب الذي تتحجبه المرأة أمام الأجانب! فلما دفن عمر ما دخلت حجرتها رضي الله عنهم أجمعين إلا وثيابها مشدودة عليها حياءً من عمر أن يرى شعرها، أو وجهها، أو جسمها، ولا يجوز أن يراها لو كان حياً فتحترس منه إذا كان ميتاً.

    إذاً: المعنى السادس الذي قرره شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية ونصره، واختاره الإمام ابن جرير ، ورجحه الإمام ابن المرابط والقاضي عياض عليهم جميعاً رحمة الله: أن المراد من العذاب هو الألم الذي يجده الميت عندما يفعل بجواره معصية، فكما أنه يلتذ بالطاعة فهو يتألم بالمعصية، وهذا دليل صريح صحيح على هذا التوجيه الذي قرره أئمتنا وهو أن الميت يشعر ويحس ويدرك ويعلم بحال من يزور، ويفرح إن فعل عنده طاعة، ويحزن إن فعل عنده معصية.

    إخوتي الكرام! مما لاشك فيه أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وسيأتينا هذا ضمن مباحثنا إن شاء الله عند ذكر أحوال البرزخ ويوم القيامة -بعون الله- بعد الانتهاء من صفة الخوف وما يتعلق بها، يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] ، عند بيان اليوم الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار أشرح ما يتعلق بالحالة البرزخية، إنما أريد أن أقول: إن الميت في قبره في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار، وهذا لا يكون إلا إذا كان له شعور سليم، شعور كامل دقيق مستقيم، يزيد على شعور الحي بكثير، إن ذلك الألم وتلك اللذة لا يمكن أن يحس بهما الميت إلا إذا كان عنده شعور وعنده إدراك وعنده إحساس كإحساس الحي بل أدق.

    إخوتي الكرام! هذا ما يتعلق بهذه القضية، وأما ما يتعلق بإهداء القربات إلى الأموات فأتكلم عليها في الموعظة الآتية إن شاء الله.

    أقول هذا القول وأستغفر الله.

    1.   

    وقفات مع الحياة البرزخية

    إخوتي الكرام! هذا المبحث يتعلق بأمر غيب، وإدخال العقل فيه من أشنع أنواع العيب، فما يتعلق بالحياة البرزخية لا يجوز أن نتكلم فيه إلا عن طريق مشكاة خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فقد دلت نصوص الشرع -كما تقدم معنا- على هذه القضية فأخرجوا عن ذلك العقول البشرية.

    تعلقات الروح ببدن الإنسان

    إخوتي الكرام! إن الإنسان يعيش في ثلاثة دور: يعيش في الحياة الدنيا وهي الدار الأولى، ويعيش في الحياة البرزخية وهي الدار الثانية، ويعيش في الحياة الأخروية وهي الدار الثالثة، وروحه تتعلق ببدنه في هذه الدور خمسة تعلقات، كل تعلق له حكم لا يعلمه إلا الذي أوجد هذا التعلق في بدنك.

    وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

    التعلق الأول: تعلق الروح بك عندما تكون جنيناً في ظلمات ثلاث على رأس أربعة أشهر، فتنفخ فيك الروح على رأس عشرين ومائة يوم فتتحرك في بطن أمك.

    التعلق الثاني: عندما تولد وتكون حياً يقظاً.

    التعلق الثالث: عندما تنام وأنت حي، وهذه التعلقات الثلاثة كلها تعلقات في الدار الأولى وهي الدار الدنيوية.

    والتعلق الرابع: تعلق الروح ببدنك عندما تكون في الحياة البرزخية.

    والتعلق الخامس: تعلق الروح ببدنك عندما تكون في الحياة الأخروية.

    وكل تعلق من هذه التعلقات لا تدركونه ولا كيفيته ولا ماهيته -كما سيأتينا البحث المستفيض في ذلك إن شاء الله عند الحياة البرزخية وما يتبعها في الدار الأخروية- لكن قال أئمتنا الكرام: يقع الألم في الحياة الدنيوية على الروح والبدن، واللذة يشعر بها البدن والروح، لكن البدن يشعر بذلك أصالةً والروح تبعاً بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، فأنت عندما تنعم في هذه الحياة فالنعيم يقع أصالةً على البدن، وعندما تعذب فالعذاب يقع أصالةً على البدن، والروح تشعر بذلك تبعاً، أما في البرزخ فالأمر بالعكس تماماً، فالعذاب والنعيم يقع على الروح أصالةً والبدن تبعاً بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، ولذلك لا دخل للعقول في هذه القضية، فتلك حياة خاصة لها موازين خاصة!

    وأما الدار الأخروية فالبدن والروح يشعران بالعذاب والنعيم أصالةً دون تبعية واحد منهما للآخر؛ لأنها أكمل الدور، وموازينها أدق الموازين، فما يتعلق بحياة البرزخ لا يمكن لإنسان أن يبحث فيه، وكما قلت: لا طريق لنا في الكلام في ذلك إلا بما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

    قصة تقرر ما يكون في حياة البرزخ

    أختم الموعظة -إخوتي الكرام- بقصة جرت في العصر الأول عصر الصحابة الكرام وهي قصة ثابتة صحيحة تقرر ما يكون في حياة البرزخ، والقصة رواها أبو بكر بن لال في كتاب المتآخين، ونقلها عنه حذامي المحدثين الإمام ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة، وأبو بكر بن لال هو أحمد بن علي بن أحمد ، توفي سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة للهجرة، وهو من المحدثين له كتاب في السنة وله مسند وهو من الفقهاء الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، والقصة أشار إليها الإمام ابن القيم في كتاب الروح في صفحة خمسة وصفحة تسعة فما بعدها، وقال: ثبت بإسناد صحيح عن حماد بن سلمة ، عن ثابت بن أسلم البناني ، عن شهر بن حوشب وشهر من أئمة التابعين، حديثه في الأدب المفرد وصحيح مسلم والسنن الأربع، وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائة للهجرة، وهو صدوق عدل إمام رضا، يقول هذا التابعي المبارك: كان الصعب بن جثامة وهو من الصحابة الكرام، وقد توفي في خلافة عثمان رضوان الله عنهم أجمعين، وعوف بن مالك الأشجعي وهو من الصحابة وكان بيده راية من الرايات يوم فتح مكة، وقد امتدت حياته ثم ذهب إلى بلاد الشام وتوفي هناك سنة اثنتين وسبعين، قال: كان الصعب بن جثامة وعوف بن مالك متآخيين في الله، فقال أحدهما لصاحبه: إن مات أحدنا قبل الآخر فليتراءى له، يقول عوف بن مالك : فلما مات الصعب بن جثامة.

    رأيته بعد فترة من موته فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني بعد المصائب! أي: تعرضنا لأخطار وأسئلة لكن في النهاية حصلت المغفرة والرحمة، قلت: ما هذه اللمعة السوداء التي أراها في عنقك، قال: سبحان الله! عشرة دنانير استسلفتها من جاري، وهي في قرني -أي: في صندوق خاص في البيت أشار إليه في الرؤيا- وما أنفقتها، وأدركتني منيتي، فإذا استيقظت اذهب إلى أهلي، وافتح ذلك القرن وخذ تلك الدنانير وأعطها لجاري، وأخبرك أنه ما وقع شيء في بيتي بعد موتي إلا علمت به، حتى هرة لنا توفيت من أيام، وأخبرك أن ابنتي فلانة ستموت بعد سبعة أيام! -وهذا في حالة البرزخ يكلم هذا النائم!- فلما استيقظ عوف بن مالك ، قال: إن في هذا لمعلمة، أريد أن أتحقق من هذه الأمور، فذهب إلى بيت أخيه الصعب بن جثامة رضي الله عنهم أجمعين، فعاتبه أهل أخيه وقالوا: هكذا تفعل بأهل أخيك بعد موته، كنت تزورنا ثم هجرتنا، يقول: فتعللت بما يتعلل به الناس، حتى غفلتهم وذهبت إلى المكان الذي حدده لي وفيه القرن، فأخذت القرن وفتحته فإذا فيه عشرة دنانير، فأخذتها خفية وانتشلتها ووضعتها في جيبي، ثم ذهبت إلى جار الصعب بن جثامة وقلت: هل لك مع الصعب شيء؟ قال: كان من خيار أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، رحمه الله وسامحه، قلت: أخبرني هل لك معه شيء؟ قال: وماذا تريد؟ رحمه الله وسامحه! ولا أطالبه بشيء، قال: أخبرني! فقال: كان قد استسلف مني عشرة دنانير، ثم عاجلته المنية وما ردها إلي، يقول: فأخرجت له الدنانير وقلت: هذه هي؟ قال: والله هي هي ما تصرف فيها! قلت: هذه دنانيرك، ثم رجعت إلى بيت أخي الصعب بن جثامة رضي الله عنهم أجمعين قلت: هل طرأ طارئ بعد موت الصعب ؟ قالوا: ما حصل شيء يذكر، قلت: أخبروني بما وقع، قالوا: ماتت هرة بعد موت الصعب بن جثامة بأيام، قلت: هذه ثانية، ثم قلت: أين ابنة أخي فلانة؟ فأحضروها وهي صغيرة، بحدود خمس أو ست سنين رضي الله عنهم أجمعين، يقول: فمسستها فإذا هي محمومة، فقلت: استوصوا بها خيراً، يقول: فلما مضت ستة أيام ماتت في اليوم السابع.

    إنها حياة برزخية لا يعلم موازينها إلا رب البرية، فجرد العقول البشرية، واعزلها عن الكلام في هذه القضية، فما ثبت عن خير البرية عليه صلوات الله وسلامه نثبته، وما لم يثبت فلا يجوز أن نتكلم فيه لأن هذه مسألة تتعلق بأمر غيب ولا يجوز أن نتكلم فيها عن طريق العقل، فهذا من أشنع العيب.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم قنا شرور أنفسنا، اللهم قنا شح نفوسنا يا أرحم الراحمين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك، ومن المقربين لديك، وإذا أردت فتنةً بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ومحبتك، يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا عليه حتى نلقاك به.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756523841