إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب العدد [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أنواع المعتدات من ينقطع حيضها لسبب قد يكون معروفاً وقد يكون غير معروف، ولكل حكمه، ومن أنواع المعتدات كذلك من يغيب عنها زوجها، فلا تدري أهو حي أم ميت، وهذه كلها أحكامها مبينة في كتب العلماء رحمهم الله.

    1.   

    عدة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ الخامسة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه ].

    هذا النوع الخامس من النساء المعتدات، وحاصله: أن المرأة يرتفع حيضها وينقطع عنها، ولا تدري ما هو سبب الانقطاع، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله -كما سيبينه المصنف- أن هذا النوع ينقسم في الأصل إلى قسمين:

    القسم الأول: أن يرتفع الحيض وينقطع ولم تعرف سببه.

    والقسم الثاني: أن يرتفع وتعلم سبب الارتفاع.

    فهذا النوع من النساء في الأصل ينقطع عنهن دم الحيض، ثم إذا انقطع هذا الحيض إما أن تعلم سبب الانقطاع وإما أن لا تعلم، فإن علمت سبب الانقطاع فلها حكم، وإن لم تعلم سبب الانقطاع فلها حكمٌ آخر، والمصنف رحمه الله شرع في بيان هذا النوع فقال:

    (من ارتفع حيضها ولم تدر سببه فعدتها سنة).

    من ارتفع حيضها ولم تدر سبب انقطاع دم الحيض عنها فعدتها سنة، وهذا قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهذه السنة توجيهها: أنها تعتد تسعة أشهر لاحتمال أن تكون حاملاً، فإذا مضت عليها تسعة أشهر ولم يتبين أنها حامل فإنه حينئذٍ تبدأ عدتها بالأشهر وتكون عدتها ثلاثة أشهر بنص القرآن على أن المرأة التي لم تحض والمرأة اليائسة من الحيض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا أضيفت التسعة الأشهر إلى الثلاثة الأشهر أصبح المجموع اثني عشر شهراً -سنة كاملة- كما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك قالوا: لم يخالف في هذا الحكم، فإذا انقطع دم الحيض عن المرأة ولم تدر ما سبب انقطاعه فإنه يلزمها أن تعتد سنة كاملة، تسعة أشهر لاحتمال أن تكون حاملة استبراءً لرحمها من الحمل، وثلاثة أشهر التي هي العدة الأصلية للتي ليست ممن يحضن.

    يقول المصنف رحمه الله: [تسعة أشهر للحمل، وثلاثة للعدة، وتنقص الأمة شهراً].

    وتنقص الأمة شهراً؛لأنه بالنسبة للتسعة الأشهر تستوي فيها الأمة والحرة؛ لأن الحمل لا يختلف من حرة إلى أمة، فالتسعة الأشهر في الحرائر والإماء، فتعتد تسعة أشهر، والثلاثة الأشهر التي هي عدة اللائي لا يحضن من النساء تتشطر على مذهب الحنابلة، وقد ذكرنا أن الصحيح عدم التشطير وهو مذهب المالميكة والظاهرية رحمة الله عليهم، وقول بعض فقهاء المدينة كـالقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -أحد فقهاء المدينة السبعة- وسالم بن عبد الله بن عمر ، وهو قول مجاهد بن جبر والدليل على ذلك: أولاً: عموم الأدلة الواردة في كتاب الله عز وجل حيث لم يفرق سبحانه وتعالى بين الحرة والأمة.

    ثانياً: أن الذين قالوا بالتشطير خصصوا هذا العموم بقول الصاحب، والعموم أقوى. ثالثا: أنهم خصصوه من جهة العقل، وهذا مبني على المسألة الأصولية: تعارض العموم مع القياس، ودلالة العموم أقوى من القياس في هذه المسألة، فإن الله تعالى نص على التشطير في الحد ولم ينص على تشطيره في غيره من حيث الأصل العام، فبقي الغير على الأصول إذ ورد فيه دليلٌ عام فيبقى على عمومه؛ ولذلك يترجح مذهب من قال: إنه لا تشطير في عدة المرأة إذا كانت من الإماء.

    1.   

    عدة من بلغت ولم تحض

    قال المصنف رحمه الله: [ وعدة من بلغت ولم تحض، والمستحاضة الناسية، والمستحاضة المبتدأة: ثلاثة أشهر والأمة شهران]

    (وعدة من بلغت ولم تحض) المرأة إذا كانت صغيرة -الصبية- إذا بلغت لها حالتان:

    الحالة الأولى: أن تبلغ بالحيض وحينئذٍ لا إشكال؛ فعدتها بالأقراء -على التفصيل هل هو الطهر أو الحيض- وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] وهذه ذات قرءٍ فيجب عليها أن تتربص ثلاثة قروء بنص كتاب الله عز وجل.

    الحالة الثانية: أن تبلغ ولا يظهر بها حيض، كما لو بلغت الخامسة عشرة على الصحيح وقد بينا خلاف العلماء رحمهم الله في سن البلوغ، فإذا بلغت -مثلاً- خمسة عشرة سنة على القول بخمسة عشرة سنة، أو سبعة عشرة سنة في مذهب الحنفية في التفريق بين الذكر والأنثى، وثمانية عشرة سنة كما هو مذهب المالكية، فإذا بلغت ولم تحض فحينئذ قال طائفة من أهل العلم: إننا نستصحب حكم الأصل: أن التي لم تحض لصغرٍ تعتد بالأشهر لآية الطلاق، فإن الله تعالى بين في آية الطلاق أن اليائسة من الحيض والتي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا ثبت أن المرأة في صغرها لم تحض فبالإجماع أنها تعتد بالأشهر، فإذا وصلت إلى سن الحيض ولم يجر معها دم حيض استصحب الأصل، فبلوغها لم يؤثر في الحكم شيئاً؛ لأنها لا زالت غير حائض، والله يقول: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4] فبين أن اللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، وهذه لم تحض، فتبقى على حكم الأصل فتعتد ثلاثة أشهر، وهذا كما نص عليه المصنف رحمه الله وهو قول طائفة من أئمة العلم من السلف والخلف.

    1.   

    عدة المستحاضة الناسية

    (والمستحاضة الناسية)

    تقدم معنا من هي المستحاضة، وبينا أنها المرأة التي يجري معها دم الحيض، وإذا جرى دم الحيض فله صور، وبينا أنه تارة يكون لها عادة، وتارة يكون لها تمييز، وفصلنا في أحكام هذا في كتاب الحيض.

    والمسألة عندنا: امرأة مستحاضة كانت لها عادة ثم نسيتها، فلما نسيت عادتها أصبح حيضها مجهولاً، فقالوا: تعتد ثلاثة أشهر، حتى في مذهب الحنابلة فإنهم يردونه إلى الأصل في كتاب العبادات.

    كيف تعتد ثلاثة الأشهر؟ قالوا: تحمل على حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، وهو حديث حسنه غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، ومنهم الإمام البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال لها : (... أنعت لك الكرسف -قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك، قال لها: استذفري، ثم قال لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً، ثم صلي ثلاثاً وعشرين أو أربعاً وعشرين) فقوله: (تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً) ردها إلى الغالب من حيض النساء، فتتحيض ستة أيام أو سبعة أيام على حسب قوة الدم وضعفه، والتي تتحيض ستة أيام أو سبعة أيام وقد نسيت عادتها تنقسم إلى قسمين:

    أن تعلم مكان العادة -لأنها قد تنسى عدد العادة ولا تنسى مكانها- في أول كل شهر أو في آخر كل شهر، أو في منتصف كل شهر، فإن كانت عادتها تأتيها في أول كل شهرٍ فحينئذٍ نقول لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً من بداية كل شهر، وإن كانت عادتها تأتيها في آخر الشهر يقال لها: تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً من آخر الشهر، لأنها تعلم مكان الحيض.

    كيف نحكم بانتهاء العدة؟ الثلاثة الأشهر هنا فيها وجهان: الأول: من أهل العلم من يقول: ثلاثة أشهر كاملة كأن الحيض سقط اعتباره ورجع إلى التي لم تحض، وقال: لأنها لما كانت ذات حيض ولا تعرف عادتها، ولا يمكن تمييز عادتها أصبح وجود الحيض وعدمه على حدٍ سواء، فيرد إلى ثلاثة أشهر كاملة، وبناءً على هذا القول: لو طلقت في آخر ذي الحجة فإنها تعتد محرم وصفر وربيع الأول، وتخرج في آخر ربيع الأول من عدتها، وتحل للأزواج بنهاية شهر ربيع الأول.

    الثاني: من أهل العلم من يقول: تعتد ثلاثة أشهر، على تفصيل حديث حمنة رضي الله عنها وأرضاها، وفي هذا الحديث قلنا: إذا كانت تعلم وقت عادتها في بداية الشهر أو آخره أو وسطه، فيفصل في هذا القول على التفصيل الذي تقدم معنا في الحيض والطهر.

    هل عدة المرأة بالحيضات أو بالأطهار؟

    أولاً: إن قلت: إن عدة المرأة بالحيضات -كما اختاره المصنف- وهو مذهب الحنابلة والحنفية رحمهم الله: يقولون: تعتد ستاً أو سبعاً من بداية محرم، ثم ستاً أو سبعاً من بداية صفر، ثم ستاً أو سبعاً من بداية ربيع، فإذا انتهت من اليوم السابع أو السادس -على التفصيل- خرجت من عدتها؛ لأنها حاضت ثلاث حيضات، وهذا حيض تقديريٌ بنص الشرع يعني: الشرع اعتبرها في هذا النوع من النساء، وكما أن العبادة ترتبت على هذا الحيض التقديري فالمعاملة مرتبة عليه.

    ثانياً: إن قلت إن العدة بالأطهار، فتقول: تتحيض ستاً أو سبعاً من بداية محرم ثم صفر ثم ربيع وتنتهي بالطهر الثالث، وبناء على هذا تختلف: العدة على الوجهين في القول الثاني.

    فالقول الأول: يتم العدد. يعني: لا بد من مضي الثلاثة الأشهر.

    والقول الثاني: لا يرى مضي الثلاثة الأشهر، والإشكال حينما يقع الطلاق، فلو وقع الطلاق أثناء الشهر، فلو كانت في بداية الشهر كما لو طلقت في آخر ذي الحجة فلا إشكال أنها تبتدئ من محرم، وتعتد ثلاثة أشهر -كاملة أو ناقصة- قمرية؛ لأن أحكام الشريعة الإسلامية مرتبة على الأشهر القمرية لا الأشهر الشمسية، والأشهر الشمسية ليس لها في أحكام العبادات والمعاملات تأثير، إنما التأثير في الأشهر القمرية التي نص الله عز وجل على اعتبارها: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189] وبين تعالى بهذه الآية أن الأصل: الاعتبار بالأشهر القمرية، وهذا محل إجماع عند العلماء رحمهم الله.

    فلو أنها طلقت في آخر الشهر وابتدأت الثلاثة الأشهر من أول الشهر فتعتد الثلاثة الأشهر كاملة أو ناقصة، وحينئذٍ تارة يكمل الشهر الأول والثاني وينقص الثالث، وتارة ينقص الأول والثاني ويكمل الثالث، وتارة ينقص الأول والأخير ويكمل الوسط، وتارة العكس، فالعبرة في هذا كله بنقص الشهر وكماله فتارة تكون عدتها (89) يوماً وتارة (88) يوماً على حسب كمال الشهر ونقصه.

    لكن لو أنها طلقت في منتصف شهر محرم، أو طلقت في (10) من شهر رمضان، أي: طلقت أثناء الشهر، فللعلماء في هذه المسألة خلاف، والذي عليها جمهور العلماء رحمهم الله أنهم يقولون الآتي:

    عدة الوفاة والطلاق تحتسب بالأشهر، فما زاد عن الشهر يعتبر مضموماً إلى آخر شهر، فإذا طلقت في اليوم العاشر من رمضان فحينئذٍ تتبع عدتها من اليوم الحادي عشر إلى نهاية رمضان، ثم نحتسب شوال ناقصاً أو كاملاً، ونحتسب ذا القعدة ناقصاً أو كاملاً، فإن نقص في الأهلة فهي شهر، وإن كمل فهو شهر، ثم يبقى السؤال في شهر ذي الحجة: ما الذي يضاف إلى الأيام التي مضت؟ فبعض العلماء يقول: يضاف من ذي الحجة عشرة أيام؛ لأن الأيام التي خلت من أول رمضان عشرة أيام، فبناءً على ذلك قالوا: لا بد وأن تحتسب المدة كاملة بناء على الشهر ويقدر الثاني والثالث -أي الشهرين الذين في الوسط- كاملين ويبقى الشهر الأول والرابع على حسب النقص الموجود في الأول ويكمل من الشهر الرابع.

    وبناء على هذا القول: لو كان شهر رمضان ناقصاً فعندهم تعتد إلى عشر من ذي الحجة سواءً كان ناقصاً أو كاملاً، قال بعض العلماء: العبرة بالعدد، فما خرج عن الشهرين يرجع فيه إلى الأصل، وبناءً على ذلك: لو نقص فإنه لا بد وأن يحتسب ثلاثين يوماً، فتخرج في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، ومن حيث الأصل فالشهران اللذان هما في الوسط يكون الاحتساب بهما بالنقص والكمال، فلو كانا ناقصين فالعدة تامة كاملة، ولا يلتفت إلى الحساب بالتقدير من جهة أن يكون الشهران ستين يوماً، بل لو نقص الأول والثاني الذي هو شهر شوال وذو القعدة، وكان رمضان كاملاً فإنه يحتسب ويعمل به ولا يؤثر، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (شهرا عيدٍ لا ينقصان: رمضان وذو الحجة)، وقال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا قال الراوي: هكذا: فعد ثلاثين، ثم خنس الإبهام في العدد الثاني) يعني: يكون ثلاثين ويكون تسعاً وعشرين، وهذا من سماحة الشريعة أنها اعتبرت الرؤية، فإن رؤي الهلال فبها ونعمت، وإن لم ير أكملت العدة ولا عبرة بالحساب الفلكي وبينا هذا غير مرة، وبينا أن وصف الأمية لهذه الأمة وصف شرف وليس بوصف منقصة؛ لأن الله وصفهم بهذا، وقلنا بأن الأمية لا تستلزم الجهل، فالذي يقول: إن الأمي جاهل يخلط بين الأمرين، لأن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ أي: أنه باقٍ على حالته كيوم ولدته أمه، وقد يكون الشخص لا يقرأ ولا يكتب وهو أعلم الناس؛ فالأعمى لا يقرأ ولا يكتب، وقد يكون عنده علم، فالقراءة والكتابة ليست هي العلم، إنما العلم بالتحصيل والوعي، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رب مبلغٍ أوعى من سامع).

    1.   

    عدة المستحاضة المبتدأة

    (والمستحاضة المبتدأة)

    كذلك الحكم بالنسبة للمستحاضة المبتدأة: تعتد ثلاثة أشهر.

    (والأمة شهران)

    على مذهب التشطير وبينا أنه مرجوح وليس براجح.

    1.   

    عدة من ارتفع حيضها وعلمت سببه

    قال رحمه الله: [ وإن علمت ما رفعه من مرضٍ أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض ]

    هذا النوع الثاني من النساء: من ارتفع حيضها وعلمت سبب الارتفاع كمرض، وقال لها الأطباء: إن الحيض انقطع عنك بسبب المرض، أو كان بسبب الرضاع، ففي هذه الحالة يحمل هذا النوع من النساء على العدة التي سبقت وتقدمت، فتعتد سنة كاملة، وبهذا قضى الصحابة -رضوان الله عليهم- أن المرأة إذا ارتفع حيضها وعلمت سبب ارتفاعه فإنها تبقى على حالها حتى يعود إليها الحيض، وبهذا قضى الصحابة.

    فـعلقمة بن قيس رحمه الله -صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- كانت له زوجة فطلقها طلقة أو طلقتين، فحاضت حيضة أو حيضتين والشك من الراوي -والأثر عند مالك في الموطأ من طريقه، ورواه البيهقي بسندٍ صحيح- فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها الحيض، ثم بقيت سنة ونصف سنة، قيل: إنها توفيت بعد سبعة عشر شهراً، وقيل: بعد ثمانية عشر شهراً، ولم يعد إليها الحيض؛ لأنها كان عندها مرض، وعلمت السبب فحاضت الأولى ثم الحيضة الثانية وجاءها المرض فلم تحض الثالثة، وهذا لطفٌ من الله عز وجل، فلما لم تحض الثالثة توفيت قبل أن يعود إليها الحيض، فرفع أمره إلى عبد الله بن مسعود فورثه منها، وقال له: (حبس الله لك ميراثها). يعني: الله عز وجل حبس عنها الحيض؛ لأنها لو حاضت الثالثة ما ورث منها شيئاً؛ لأنها تخرج بها من العدة، والرواية صحيحة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وبناءً على ذلك: إذا ارتفع الحيض بمرض وعلمت السبب -كما ذكر المصنف رحمه الله- تبقى حتى يزول هذا السبب وترجع إلى الأصل؛ لأن هذه ليست يائسة من الحيض، بل هي ذات حيضٍ جاءها عذر أو طارئ، فتبقى على الأصل من إلزامها بالحيض حتى يعود إليها حيضها ولو مكثت سنتين أو ثلاثاً فإنها تبقى على عدتها، وهي في حكم المعتدة حتى يعود إليها الحيض وتتم العدة على الوجه المعتبر.

    (فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض وتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته).

    فيستمر الأمر معها حتى تدخل سن اليأس، وقد بينا قضية سن اليأس وهل له سن معين أو لا وبينا أن الصحيح أنه لا حد لليأس، وما دام أن دم الحيض يجري على المرأة فهي حائض، لكن لو انقطع فيما يشبه سن اليأس في غالب النساء أو في أترابها وقرائنها وكذلك أهل بيتها، ومعروف في بيتها أن النسوة اللاتي يبلغن سن خمس وخمسين عاماً ينقطع عنهن الحيض، فجلست تنتظر بعد المرض الذي أصابها ولم يزل المرض ودخلت في سن اليأس، فالغالب كالمحقق، والغالب: أن وضعها ووضع أهل بيتها وعادة أترابها أنها تكون آيسة؛ فحينئذٍ يحكم لها بعدة الإياس فتنتقل من عدة ذات الحيض إلى عدة ذات الإياس، وتلزم بالعدة ثلاثة أشهر.

    1.   

    عدة امرأة المفقود

    قال رحمه الله تعالى: [ السادسة: امرأة المفقود ]

    والمفقود هو: الذي غاب ولا يعرف خبره. وبعضهم يقول: غاب وانقطع خبره، وبعضهم يقول: لا يعرف خبره، فيخرج الحاضر، والذي يعرف خبره، مثل الذي يراسل زوجته أو أقاربه فحينئذٍ لا يكون في حكم المفقود، فالمفقود يغيب وينقطع خبره، فلا يعرف حاله، وينقسم إلى قسمين:

    1.   

    أقسام المفقود

    القسم الأول: أن يكون غائباً في حال يغلب عليها الهلاك

    ومن أمثلته: الذي يفقد في القتال في سبيل الله عز وجل، فيكون بين الصفين، أو تحدث فتنة وقتال وهرج ومرج ويدخل فيها ثم يفقد، فهذا فقد في شيء غالبه الهلاك، أو يحدث زلزال في المدينة أو القرية أو المكان الذي هو فيه وينقطع خبره ولا يدرى أهو حي أو ميت.

    أو مثلاً: يحدث فيضان، أو سيل على المكان الذي هو فيه -والعياذ بالله- أو تحصل حرائق أو كوارث أعاصير ثم ينقطع خبره ولا يعرف أحيٌ فيرجى أو ميت فيحكم بهلاكه.

    فإذا كان في غيبة غالبها الهلاك فقضاء الصحابة -رضوان الله عليهم- أنه ينتظر أربع سنوات، فإذا لم يأتِ شيء ولم يتبين شيء حكم بموته تقديراً، وهذا على قاعدة: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود)؛ لأن الموت ليس محققاً، لكن ننزله منزلة الموجود، أو (تنزيل الموجود منزلة المعدوم). وهذا الأصل في التقدير كما ضبطه العلماء.

    وفي هذه الحالة نقدر الموجود منزلة المعدوم وهو حياته فنقدرها كأنها ليست موجودة، أو نقدر المعدوم منزلة الموجود وهو موته فنقول: إنه ميت؛ لأن الأصل أنه حي، وعلى كل حال يحكم بموته تقديراً ثم تعتد عدة الوفاة، فإذا اعتدت عدة الوفاة حكم بعد ذلك بحلها للأزواج، إن شاءت أن تنكح وإن شاءت أن لا تنكح، فهي حرة في أمرها.

    وقد أثر هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقضى بذلك واشتهر هذا القضاء عنه رضي الله عنه وأرضاه، وعمل به الأئمة، وقال بعض السلف: ينتظر سنة كاملة، كما أثر عن سعيد بن المسيب ؛ والرواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي عن طريق سعيد بن المسيب ورواية سعيد رحمه الله عن عمر بن الخطاب فيها خلاف: هل سمع أو لم يسمع؟ وهل هي متصلة أو منقطعة؟ لكن العمل عند أهل العلم على هذا القضاء.

    واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه الأربع سنوات. هل هي معللة أو غير معللة؟ يعني: هل عمر لما قضى بالأربع السنوات قصد شيئاً من تحديد الأربع دون زيادة أو نقص أو لم يقصد؟ فقال بعض العلماء: قصد شيئاً، فهي معللة، وقالوا: قصد أنها أقصى مدة للحمل، فهي تتربص على هذا الوصف وعلى هذه المدة استبراءً لهذا الميت في حقه بالنسبة لها، ثم تعتد عدة الوفاة.

    وقال البعض: الأشبه أنه غير معلل وهذا قول فيه قوة، وقضاء الأربع السنوات يشبه أن يكون الغالب أن الأربع السنوات إذا لم يعرف فيها خبر الإنسان يكون أشبه بالهالك، خاصة إذا كان حاله حال هلاك، مثل أن يفقد في مواضع غالباً لا يعيش صاحبها، مثل أن يسافر إلى أرض مسبعة فيها سباع، أو يكون البحر في حال هيجان، فالأربع السنوات مدة كافية أنه لو كان حياً لحصل أقل شيء الخبر والعلم بحاله.

    القسم الثاني: أن يكون غائباً في حال يغلب عليها السلامة

    مثل أن يسافر للتجارة في بلدٍ آمن، أو أن يسافر ومن عادته أن يسافر، وفجأة انقطعت أخباره ولم يعرف هل هو حي أم ميت، أو سافر لصلة رحم وبعد ما تركهم لم يعرف ماذا صار له وماذا جرى؛ فإذا سافر على وجه غالبه السلامة كالتجارة والنزهة والصيد ونحو ذلك وفقد فمذهب جمهور العلماء: أنه ينتظر. يعني: الأصل أنه حي وتبقى امرأته على هذا الأصل حتى تستيقن موته، إما أن يأتيها خبر أنه ميت أو تمكث مدة يغلب على مثله أن يموت، هذا وجه. أو تمكث إلى أن يقدر عمره تسعين سنة، وقيل: إلى مائة، وقيل: إلى مائة وعشرين.

    صورة المسألة: الرجل عمره ستون سنة مثلاً، والمرأة شابة عمرها ثماني عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، فتنتظره إلى التسعين، قالوا: والغالب أنه لا يجاوز التسعين.

    وقال بعض العلماء: تنتظر إلى مائة وعشرين.

    ومن أهل العلم من قال: ينظر إلى أقرانه ومن في سِنّه، فإذا انقرضوا وماتوا حكم بوفاته، وهذا كله لأجل قضية الإرث والحقوق التي سترتب على الحكم بوفاته، فهم يقولون: نبقى على الأصل أنه حي حتى يغلب على الظن هلاكه، والقول بأنه ينظر إلى من هم في مثل سنه ومن هم أقرانه حتى ينقرضوا أشبه، وكل الأقوال هذه عند الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ذكروا أنه ينتظر على التفصيل الذي ذكرناه، فمنهم من قدر التسعين، ومنهم من قدر المائة، ومنهم من قدر المائة والعشرين كما نص عليه بعض فقهاء الحنفية والشافعية رحمة الله عليهم.

    فينتظر هذه المدة، فإذا مضت هذه المدة حكم بوفاته.

    وفي هذه الحالة لو قلنا: إن المرأة تنتظر. فالمرأة قد تخاف على نفسها الحرام والفتنة، ولا تستطيع أن تنتظر هذه المدة، وتريد حقوقها، وتريد من يعولها ويقوم عليها، كأن ترغب في الزواج، فترفع أمرها إلى القاضي وتشتكي، وفي بعض الأحيان من حق القاضي أن يطلق عن الزوج إذا رأى ظلم المرأة، وخشي عليها.

    إذاً: فالمرأة لها أن تنتظر، لكن متى نحكم بإرثها منه؟ ومتى نحكم باعتدادها من عدة الوفاة؟ وهذا الكلام في حال إذا رضيت أن تبقى وتعتد عدة الوفاة، فإذا قالت: أنا سأبقى، ولا أريد تركه، وأريد حقي في إرثه مثلاً، ففي هذه الحالة نقول: لا حق لك ولا إرث لك حتى تمضي المدة التي غالباً أنه يهلك فيها، ثم بعد ذلك يحكم بموته تقديراً، على تفصيل في مسألة الإرث والميراث، ولكن الذي يهمنا هنا أنها تمكث منتظرة إلى أن يغلب على الظن هلاكه بهلاك أقرانه، أو بمضي مدة على التفصيل الذي ذكرناه.

    قال رحمه الله: [تتربص ما تقدم في ميراثه ثم تعتد للوفاة].

    تتربص ما تقدم في ميراثه من كتاب الفرائض وقد تقدم، والعلماء دائماً يحيلون المسائل على مواضعها ومظانها، فمظان هذه المسألة في ميراث المفقود وقد تقدم، وهذا التفصيل في كتاب الفرائض وفي غيره أنهم يقولون: إنها تنتظر إلى أن يغلب على الظن هلاكه.

    1.   

    عدة الوفاة لامرأة المفقود

    قال رحمه الله: [ثم تعتد للوفاة].

    إن حكم بوفاته تقديراً ومضت المدة أو هلك أترابه -الأتراب الذين في سنه- عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:37] يعني: أنهم في سن واحدة- فلو هلك أترابه وانقرضوا، فحينئذٍ يحكم القاضي بوفاته، ثم بعد ذلك تعتد عدة الوفاة فيحكم بإرثها.

    1.   

    تربص أمة المفقود

    قال رحمه الله: [وأمة كحرة في التربص].

    تتربص مثلما تتربص الحرة، يعني: تمكث أربع سنين مثلما ذكرنا، ولا يشطرون المدة هنا.

    قال رحمه الله: [وفي العدة نصف عدة الحرة]

    التشطير في العدة فقط، والغريب أن بعض المالكية قال بالتشطير -فتمكث سنتين- مع أنهم خالفوا في العدة، وقال: تتم العدة.

    وعلى كل حال طالب العلم ربما وجد عند بعض العلماء أقوالاً مختلفة، فليعلم أن وراءها أسباباً، يعني: في بعض الأحيان التفريق بين المجتمع والجمع بين المفترق دليلٌ على فقه العالم؛ لأنه أعطى كل مسألة حقها، والشريعة تفرق بين المجتمع وتجمع بين المفترق، وهذا طبعاً لأنه الأحكام تختلف وتتأثر بعللها وموجبات التغيير فيها.

    وعلى كل حال: فالذي عليه العلماء هنا أنهم لم يروا تشطيراً في مدة التربص، فعندنا مدتان:

    المدة الأولى: أربع سنين، وهي مدة من لا تغلب عليه السلامة، وهذه المدة لا تشطير فيها.

    والمدة الثانية: مدة عدة الوفاة وهذه فيها التشطير -وقد تقدم معنا - لأنهم يشطرون عدة الوفاة بالنسبة للأمة، وبينا أن الصحيح أنه لا تشطير في عدة الوفاة ولا في عدة الطلاق.

    1.   

    وقت ابتداء التربص بالنسبة لامرأة المفقود

    قال رحمه الله: [ولا تفتقر إلى حكم حاكم بضرب المدة وعدة الوفاة ]

    اختلف العلماء رحمهم الله: لو أن المرأة أرادت أن تتربص الأربع السنين فهل تحتسب الأربع السنين منذ سفره، أو منذ انقطاع خبره، أو منذ شكواها ورفعها إلى القاضي؟

    الجواب: هناك قولان للعلماء رحمهم الله:

    القول الأول: تبتدئ الحساب من الوقت الذي انقطع خبره، كأن يكون يراسلها كل شهر وانقطع عنها في شهر محرم، فتبدأ التربص من محرم وتحتسب الأربع السنوات من محرم، وهذه رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقد كان حُكي عن أصحابه أنها تحتسب منذ فقده؛ لأن الضرر جاءها من حين فقده وفقد خبره.

    القول الثاني: تحتسب المدة من قضاء القاضي لها أن تتربص أربع سنين، فتبتدئ الأربع السنوات من قضاء القاضي كما هو في مذهب الإمام مالك رحمه الله، وعن الإمام مالك أنه نص على ذلك، أن تبدأ بالحساب منذ أن رفعت أمرها إلى القاضي.

    والفرق بين القولين: أنه ربما انقطع خبره من محرم فسكتت وانتظرت إلى أن جاء شهر -مثلاً- شعبان فرفعت إلى القاضي أمره في شعبان، فعلى القول الأول تحتسب من محرم وتمضي أربع سنين حتى يأتي محرم من السنة التي تكمل فيها أربع سنين فتخرج من الإلزام بالأربع، وتدخل في عدة الوفاة.

    وعلى القول الثاني: يبتدئ حسابها من شعبان منذ أن حكم القاضي، وليس العبرة بابتداء الفقد أو انقطاع الخبر، والفرق بين القولين: إذا نظر إلى أن الأربع السنوات تبعدية وأنها تقدير من الشرع اعتماداً للغالب ففي هذه الحالة يقوى أنها تتوقف على حكم القاضي، وإذا نظر إلى أنها اجتهادية وفيها معنى التعليل ففي هذه الحالة العلة موجودة منذ الفقد، ومنذ انقطاع الخبر، فيقوى القول الأول على القول الثاني من أنها معللة؛ لأنه إذا انقطع خبره في هذه الحالة حصل الضرر لها فتبدأ الحساب من ذلك الوقت، وكلا القولين له وجهه، وظاهر الذي اختاره المصنف هنا: أنها لا تفتقر إلى حكم القاضي، يعني: تحتسب المدة من حين انقطاع الخبر.

    1.   

    مسألة: إن تزوجت امرأة المفقود وجاء قبل أن يطأها الزوج الثاني

    قال رحمه الله: [ وإن تزوجت فقدم الأول قبل وطء الثاني فهي للأول وبعدها له أخذها زوجة بالعقد الأول ولو لم يطلق الثاني]

    (إن تزوجت) هذا تسلسل في الأفكار، وميزة هذه الشريعة العظيمة الكريمة التي هي: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].. يََقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] أنها شريعة تامة كاملة.

    ولذلك تجد أن الفقه الإسلامي ضرب أجمل الصور وأروعها في معالجة المسائل والمشاكل والنوازل بدقة وعناية وشمولية، بينما القوانين الوضعية قاصرة، يجلس أصحابها مدة يعاينون الناس وينظرون أعرافهم حتى يسنون القانون بعد ما تحدث القضايا، ويدرسون الأقضية التي تسمى: دراسة القضاء، فيقولون: هكذا في القضاء الفلاني والعلاني، فيجمعون هذه الأقضية ويجمعون تصورات ثم بعد ذلك يحدثون، فلو شاء الله أن الأعراف تغيرت، وأحوال الناس تبدلت واختلفت المعايير في المجتمع واختلفت أوضاع الناس ذهبت قوانينهم أدراج الرياح، وما عادت تنفع؛ لأن البيئة التي فيها التزام ومحافظة ليست كالبيئة التي لا يوجد فيها التزام، والبيئة الغنية ليست كالفقيرة، والبيئة الجامعة بين الغنى والفقر ليست كالمتمحضة فقراً أو غنى، لكن الشريعة الإسلامية هؤلاء علماؤها وأئمتها -رحمة الله عليهم- قد خرجوا المسائل من أصول صحيحة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بأجمل وأكمل ما يكون، فهنا لم يقولوا: إن امرأة المفقود يحكم بأنها تنتظر، فإذا انتهت مدة الانتظار حكم بأنها أجنبية وأنها تحل للأزواج ويقفون عند هذا فحسب؛ ما الذي يترتب على هذا الشيء؟ تحكم الشريعة في الشيء ولا تقف عاجزة، وقد كانت دولة الإسلام من المحيط إلى المحيط ولم تقف الشريعة ولا الفقه الإسلامي يوماً من الأيام عند نازلة أو مسألة أبداً، بل إنها وفت وكفت وجاءت على أتم الوجوه وأكملها، لكن القوانين الوضعية تعجز في كثير من الأشياء والأمور التي تطرأ أو تجد، وهذا ما يسمونه بمسائل (الطوارئ) في لغة العصر، وتسمى: مسائل النوازل عند العلماء، فإذا نزلت النوازل اختلفت المعايير واختلفت الأقيسة، لكن الشريعة الإسلامية لا يحدث تغير فيها ولا عجز، والعلماء -رحمهم الله- منذ فجر الفقه الإسلامي عندهم ما يسمى بمسائل التخريج، وهذه المسائل اعتني بها تقريباً من القرون الأولى في الفقه الإسلامي، يخرجون ما حدث ووجد على ما مضى، حتى أنك تجد أن الفقيه ليس عنده دليل ينص على حكم المسألة لكن يستطيع أن يقول الحكم في المسألة ويصيب الحق؛ ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه -وكان من فقهاء الصحابة ومفتيهم وكان عمر رضي الله عنه يقول فيه: (أتسألونني وفيكم صاحب السوادين والنعلين)- قال: (أقول فيها برأيي -في مسألة سئل فيها- فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان ثم قضى بأن عليها العدة ولها الميراث. فقال له الأشجعي : أقسم بالله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا). الله أكبر! يقول: أقول فيها برأيي، ويقول: إنه: ليس هناك نص، ولكنها بصائر تنورت، وقلوب صقلت بروحانية الكتاب والسنة، وأمة تلقت هذا الفقه بضوابط وأصول صحيحة، ومن هنا كان التأدب مع العلماء الراسخين، فهذا يقول: (أقول فيها برأيي) وما كذب رضي الله عنه وأرضاه، وإذا هي برأيه المحض، وهناك من يتهكم بالفقهاء ويقول: أهل الرأي!! والصحابي هنا يقول: (أقول فيها برأيي) فالرأي إذا كان مستنبطاً من الشرع فلا يلام عليه أحد، وأئمة الإسلام ودواوينه ما جاءوا بالرأي من جيوبهم بل من الكتاب والسنة، وإنما الرأي المذموم هو الذي يكون غير مستند إلى العلم، كأن يأتي شخص ويفتي دون أن يكون قد درس الفقه على أصوله.

    هذه المسألة من مسائل النوازل وتترتب على الأصل المقرر، وهي مسائل المستتبعات التي يذكرها العلماء، وتختلف مناهج المتون الفقهية، وتقسم تقريباً إلى ثلاث درجات:

    الأولى: متون تعتني بالأصول فقط ولا يدخلون في التفريعات، وكأنها مختصر المختصر، وأصحاب الفقه والأصول ينهجون هذه الطريقة.

    الثانية: ومتون هي وسطٌ بين المختصر والمطول، وتعتني بالأصول والتنبيه على نكت وطرائف وتتمات وفوائد لطيفة، ولا يدخلون في التفريعات.

    الثالثة: متون موسعة، وهي متون ومختصرات في الفقه، لكنها تعتني بالأصول وما بني على الأصول، وما يطرأ من مسائل الآثار، وربما في بعض الأحيان يأتي بغرائب المسائل، وهذا يختلف من مذهب إلى مذهب ومن فقه إلى فقه.

    وعلى كل حال فقد ذكر المصنف -رحمه الله- المسألة الأخيرة وهي: إذا تزوجت امرأة المفقود وجاء المفقود، وفي هذا قضاءٌ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قضى به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عن الجميع.

    أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فإنه قضى أنها لزوجها الأول، ويخير بين أن تعود إليه وبين أن يعطى الصداق وتبقى مع زوجها الثاني، وهذا الحكم من عمر رضي الله عنه مبني على الأصل؛ لأن القاعدة في الشريعة تقول: (لا عبرة بالظن البين خطؤه).

    يعني: إذا ظننت ظناً وعندك له دلائل وبنيت عليه أحكاماً ثم تبين أنه خطأ، فهذا الظن لاغٍ، وما بني عليه من حيث الأصل لاغ أيضاً، مثلاً: لو أن شخصاً استدان من شخص عشرة آلاف ريال ثم ظن أنه سدده، ورفع إلى القاضي فحلف بالله فقيل له: هل لك بينة؟ قال: ليس عندي بينة. فقيل: يا فلان! أتحلف؟ قال: نعم أحلف، فحلف بالله على غلبة الظن، فهو يظن أنه دفع له، ويجوز للمسلم أن يحلف على غلبة الظن، مثلما يحصل بين التجار حين يتعاملون مع بعضهم، فجاء في ظنه أنه دفع له عشرة آلاف من معاملة قديمة، فظن أن هذه المعاملة هي التي عليها الخصومة، ثم بعد سنة أو سنتين أو ثلاث تبين له أنه مخطئ. فهل يسقط حق الرجل بسبب ذلك الظن؟ نقول: لا عبرة بالظن البين خطؤه ونرجع إلى الأصل، فنحن هنا حكمنا بأنه ميت وأنها خرجت من عدتها وحلت للأزواج، ثم تبين أنه حي، ولم يطلق ولم يحدث بينه وبينها مخالعة وفسخ، والأصل: أن العصمة بيد الزوج، وفي هذه الحالة يلغى الظن ويرجع إلى الأصل من أنها زوجته، فقضى -رضي الله عنه- بهذا، وهذا مبني على القاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).

    وقضى رضي الله عنه بهذا القضاء في امرأة من بني شيبان اختصمت إليه رضي الله عنه وأرضاه، فقضى بخروجها واعتدت أربع سنين واعتدت عدة الوفاة ثم جاء زوجها الأول فخيره بين رجوعها وصداقها.

    وكذلك أيضاً: ارتفعت قضية إلى عثمان رضي الله عنه وأرضاه ومضى إليه أهل المرأة وكانوا قد زوجوها فقال عثمان - -وكان رضي الله عنه في الحصار-: (كيف أقضي بينكم وأنا في هذه الحال؟) وهذا من فقهه رضي الله عنه وأرضاه، فقد رجع إلى مسألة القضاء، فقالوا: قد رضيناك، فقضى فيها رضي الله عنه بالقضاء الذي ذكرناه، فلما توفي رفعت القضية إلى علي فأثبت الذي قضى به عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فأصبح قضاء عمر وعثمان وعلي ، وحينئذٍ يخير بين أن يرجع إلى زوجته وبين أن يأخذ الصداق.

    ثم بقي النظر: هل يرجع في الصداق على المرأة؟ أو يرجع على الزوج ثم الزوج يرجع على المرأة؟ وجهان للعلماء؛ ولذلك جاء في قصة الشيبانية أنها دفعت الألفين -وكان صداقها ألفين- قالت: (ثم أخذ من زوجي ألفين فأغناه الله)، ألفين من عندها، وألفين من زوجها، وقالوا: إن هذا بطيبة نفسٍ منه، لكن من حيث الأصل فإن الصداق يرجع فيه على الزوجة؛ لأنها هي التي نيط بها الحكم، وقال بعض العلماء: يرجع فيه إلى الزوج ثم الزوج يرجع على من غره وهي الزوجة، والغالب على هذا.

    ولكن إذا رغب الزوج الأول في زوجته فهنا يرد السؤال عن صداق الثاني؛ لأن الثاني دفع الصداق، فقال: يرجع إلى من غر.

    وهذا كله إذا حصل الدخول، أما إذا لم يحصل الدخول فقد ذكر المصنف -رحمه الله- أنها للأول، وقد قضى به غير واحد من أئمة السلف رحمة الله عليهم، وفرقوا بين بين أن يقع رجوع قبل الدخول أو يقع بعد الدخول.

    الوطء قبل الخروج من عدة الثاني

    قال رحمه الله: [ولا يطأ قبل فراغ عدة الثاني ]

    (ولا يطأ قبل فراغ ) استبراء للرحم حتى لا يخلط ماءه بماء غيره، ولا بد أن يحصل استبراء، يعني: لو قال: أريد زوجتي. والزوج الثاني قد وطئها، فينبغي أن يتحرى، فلا يطأ إلا بعد أن تستبرئ لرحمها، فإذا استبرئ الرحم فيحل له حينئذٍ أن يطأها.

    تجديد العقد الثاني إن ترك الأول

    قال رحمه الله: [ وله تركها معه من غير تجديد عقدٍ ]

    قال بعض العلماء: يستحب أن يجدد الثاني العقد إذا ترك الأول، وقال: لا أريدها، عافتها نفسي، أو أنه لا يحب أن يسيئ إلى أخيه أو قريبه. فقال: لا أفسخ النكاح، فهل يجدد عقد الثاني أو لا يجدد؟ هذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، وقد نص المصنف على اختياره -رحمه الله- لعدم التجديد.

    قال رحمه الله: [ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني، ويرجع عليها بما أخذه منه ]

    إذا اختار أن تبقى المرأة عند زوجها فيرد له صداقه، ومثلما ذكرنا: هل يرجع على الزوجة أو يرجع على زوجها؟ إن قيل: يرجع على زوجها، فيرجع الزوج بعد ذلك على الزوجة، وإن قيل: إنه يرجع إلى الزوجة مباشرة فلا إشكال، لأن المرأة هي التي أخذت صداق الرجلين الأول والثاني، فحينئذٍ: إما أن ترد الصداق إلى الأول أو للثاني، على التفصيل الذي ذكرناه.

    1.   

    الأسئلة

    عدة من ارتفع حيضها بسبب الرضاع

    السؤال: من ارتفع حيضها بسبب الرضاع فهل لها أن تقطع الرضاعة وتعتد بالحيض أم تبقى على الإرضاع وتعتد ثلاثة أشهر؟

    الجواب: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فإذا انقطع الحيض عن المرأة فإنها لا تستطيع أن ترده وليس الأمر بيدها، فتنتظر حتى يذهب هذا المانع والرافع للحيض على التفصيل الذي ذكرناه سابقاً، إذاً: الأصل أنها تنتظر حتى يعود إليها الحيض، ثم إذا عاد إليها الحيض حكم بعدتها كعدة ذوات الأقراء. والله تعالى أعلم.

    حكم صلاة الميت على المفقود

    السؤال: إذا لم يرجع الرجل المفقود هل يصلى عليه صلاة الميت؟

    الجواب: لا. لم يحصل أن أحداً من أهل العلم قال بذلك، ولا أعرف أن أحداً من أهل العلم قال: يصلى على المفقود أبداً. وحصل الفقد في عصر عمر وعثمان وعلي وهم ثلاثة أئمة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم وما صليت صلاة الغائب على واحد مفقود، فهذا لا أصل له، فربما ظهر أنه حي، والأشبه أن الصلاة عبادة توقيفية لا يمكن أن يحكم بها وبشرعيتها إلا إذا دل الدليل، والدليل دل على مشروعية الصلاة إذا وجدت الجنازة أو الصلاة على الغائب على اختلاف في ذلك كما تقدم معنا في كتاب: الجنائز، والله تعالى أعلم.

    حكم إعانة المرأة على مخالعة زوجها

    السؤال: امرأة أرادت أن تخالع زوجها وليس لديها ما تخالع به، فاقترضت من رجلٍ قدر مهرها ولكن المقرض اشترط أنه إذا شاء تزوجها بهذا القرض، فما حكم هذه المسألة؟

    الجواب: لا يجوز هذا؛ لأن هذا يدخل في تخريب المرأة على زوجها، وإذا فتح هذا الباب أمكن لكل شخص له غرض في امرأة أن يقول لها: أنا أعطيك صداقه واختلعي منه وما أعطيته لك فهو لك صداق، وبهذا تفسد بيوت المسلمين، وتدمر الأسر، وتشتت العوائل، وفي هذا من البلاء ما لا يخفى.

    والمرأة إذا أرادت أن تقترض تقترض على الوجه المعتبر للقرض، وهي امرأة في عصمة رجل، فلا يجوز لأحدٍ أن يغريها، ولا يجوز لأحد أن يدفعها إلى ذلك بالإغراء المادي وأنه متكفل بكل شيء، إلا إذا كان أخاً من إخوانها أو قريباً من قرابتها رأى الظلم عليها والأذية، ورأى أنها يخشى عليها الفتنة، وزوجها مقصر في حقها أو كذا، وليس هناك طريق غير الخلع. فقال لها: أنا أعينك وأساعدك وأقف معك حسبة وقياماً بالحق.

    وبالمناسبة: الخلع حقٌ من حقوق النساء، ولكنه للأسف -خاصة في هذه الأزمنة- ضيع عند كثير إلا من رحم الله، حتى إن بعض من يرفع إليهم أمر الخلع من القضاة وغيرهم لا يجريه على السنة، وهذا أمر يحتاج إلى أن يتقى الله عز وجل فيه، المرأة إذا جاءت تشتكي ولا تريد أن تعاشر زوجاً تمكن من الخلع، ولا يجوز تأخيرها ومماطلتها والضغط عليها. إذا ما أرادت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فكما أن الرجل يطلق متى شاء وكيف شاء، فالمرأة من حقها أن تترك الزوج إذا لم ترغب فيه، وليس لها محبة له، وقل أن تخالع امرأة زوجها، والخلع له وجهين: إما أن الرجل فيه شيء من العيوب موجب للخيار، أو أمور ليست بعيوب موجبة للخيار -أي: دون الكمال- والمرأة خافت على نفسها الحرام، فتخالع زوجها، ولا يجوز أن تماطل المرأة في ذلك، وأعرف بعض القضايا جلست المرأة سنة كاملة وهي تطالب بالخلع ولا مجيب، وهذا مخالف لشرع الله عز وجل، فالمرأة إذا جاءت تطالب وهي مستعدة أن تؤدي للرجل حقه فهذا حق من حقوقها، وتمكن من حقها.

    ولا شك أن بعض القضاة يجتهد -جزاه الله خيراً- ويقول: ربما تكون سفيهة، أو طائشة، لكن لا يجوز هذا، وهذا خلاف السنة، وهذا اجتهاد مع النص، والنص جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) وقد أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني لا أعيب في ثابت خلقاً ولا ديناً، ولكني أخاف الكفر بعد الإسلام) امرأة من الصحابة وفي عهد النبوة وفي خير القرون تقول: (يا رسول الله! ولكني أخاف الكفر بعد الإيمان) ولذلك بادر النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها حقها.

    إذاً: المرأة لها أن تخالع ولكنها لا تعان على سبيل التخريب والإفساد، فيقال لها: زوجك لا يصلح، ما رأيك لو أعطيتك، هذا ماذا تريدين من عنده؟! ما عنده وظيفة، ما عنده كذا، فهذا من باب الإفساد والتحريش؛ النبي صلى الله عليه وسلم يقول في هذا وأمثاله: (لعن الله من خبب امرأة على زوجها) ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، وهذا أمر عظيم جداً.

    فلا يجوز إفساد نساء المؤمنين على أزواجهن، وعلينا أن نتقي الله عز وجل، وإذا أراد أن يساعدها بالمعروف فجزاه الله خيراً، أما إذا كان على سبيل الإفساد؛ فإنه محرم ومنكر، وكبيرة من الكبائر، والله تعالى أعلم.

    الجمع بين اختيار النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر وبين كون عظم الأجر مع المشقة

    السؤال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فكيف يجمع بين هذا وبين كون عظم الأجر مع المشقة؟

    الجواب: تخيير النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيما لم يبت فيه، والفضائل في المشقات فيما بتَّ في حكمه، وتوضيح ذلك: أنه إذا خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين أحدهما أيسر للجماعة وللأفراد كان عليه الصلاة والسلام يختار الأيسر؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، ويختار ما هو أخف على الناس حتى في بعض الأشياء التي تكون منه عليه الصلاة والسلام في شأنه وسمته يختار أيسرها، ومع أهله وزوجه يختار أيسرها؛ لأن التخفيف يكون فيه إحسان إلى الغير إذا كان الغير له تبع كما هو حاله مع أهله وأزواجه، فالمسلم إذا اختار الأيسر في معاشرته لأهله ومعاشرته لمن ولّاه الله أمره من العمال والخدم والأجراء ييسر عليهم، ولا يعنفهم، ولا يشق عليهم ويأخذهم باليسر فهذا أفضل. مثلاً: لو أن رجلاً أراد أن يبني عمارة وهذه العمارة يمكن أن تبنى خلال خمسة أشهر ويمكن أن تبنى في خلال عشرة أشهر، ولكنه خلال الخمسة الأشهر يضيق على العمال ويضغط عليهم، فيختار النبي صلى الله عليه وسلم -كمثال- في هذا الأيسر، ويخفف على الناس ولو طال الأمد. وكان صلوات الله وسلامه عليه يختار اليسر في سمته وشأنه كله، ولذلك جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت للميسرين) أما في مجال العبادات والرقائق - مثلاً - إذا رأيت شخصاً على منكر فإنك مخير بين يسر وعسر، فالعسر أن تأتي بقوة وتقول: يا أخي! اتق الله! فهذا منكر، وما كان ينبغي لمثلك أن يفعل هذا. فهذا لا تُلام فيه؛ لأنك قلت حقاً وصدقاً، وقلت شيئاً يستند إلى أصل شرعي، فالذي فعله منكر، بشرط أن لا تتجاوز الحد في النهي، مثل أن تقول له: أنت كذا وأنت كذا، وتتهجم عليه، وإنما تأتيه بقوة في اللفظ تقول له: يا أخي، اتق الله.

    ولذلك تجد البعض إذا أنكر ينكر بقوة وبشدة، ولا يمس حق أخيه المسلم، ولا يستطيل في عرضه، ولا يسبه ولا يشتمه، فهذا الذي أخذ بالقوة يعطي هيبة للدين، وللشرع، ولا يأتي شخص يسفهه ويقول: انظر إلى هذا لا يعرف كيف يأمر وينهي. لا. فهو أخذ بشيء حسن، وقال صدقاً، فلا يستطيع صاحب المنكر أن يرد ما قاله، وأمر به؛ لأنه من شرع الله عز وجل وهذا طبعه وهذه طريقته، أخذ بالحسنى، وقال بالحسنى، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر.

    لكن لو جاءه وقال له: يا أخي! اتق الله عز وجل، فمثلك ينتسب لدين الله وشرع الله ولا يليق بمثلك هذا، وأنت عندي أفضل من أن تفعل هذا الشيء، أو رأه على منكر قال: أسأل الله أن يعافيك من هذا البلاء، أسأل الله أن ينزع من قلبك حبه، أسأل الله عز وجل أن ييسر لك التوبة منه، فشرح صدر الرجل إلى القبول، وشرح صدر الرجل إلى الأخذ بهذا الذي قاله، فهذا قد أخذ باليسر والسهالة.

    الأول: أخذه بالقوة وبعزيمة الشرع: (ولتأطرنه على الحق أطراً) وجاءه على الأصل وهذا حسن.

    الثاني: أخذ باليسر، وهو أحسن؛ لأنه رغبه ودعاه إلى الخير، وكلاهما من شرع الله عز وجل وكلٌ منهما في حسن؛ فالأول نظر إلى الثمرة والنتيجة فلو أن الناس أخذوا بالعزيمة بقيت هيبة الدين وقوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني رغب الناس إلى الخير، لكن ربما يعامل الفاسق والفاجر والمتهتك بذلك فيستطيل على أهل الحق ويستطيل على من يأمر وينهي، فيؤخذ باليسر في موضعه والحزم في موضعه؛ وحينئذٍ الكمال والتمام.. يأتي بالتي هي أحسن فإن رفع صوته عليه رفعه عليه، وإن أغلظ له أغلظ عليه ورد عليه منكره، فتعطي كل ذي حقٍ حقه.

    مثلاً: في بعض الأحيان تقع في وضع لو أنك أخذت باليسر والسهالة لتهتك الناس به ولربما تأتي في موضع لا يستحق الشدة وترى فيه خطأ فتعنف بقوة، وأنت عالم أو شيخ أو داعية، وكان بالإمكان أن تأخذ بالتي هي أحسن لكن قد ترى أن ممن يحضر أناس وتعلم أنك لو أخذته باليسر سيرتكب غيره نفس الخطأ وتعلم أنك لو أخذت بالقوة في هذا أنك تعالج أمراً فيه مصلحة للغير، فحينئذٍ تكون الشدة والقوة في مكانها، واليسر في مكانه، فتأخذ باليسر في موضعه، وتأخذ بالقوة والشدة في موضعها، فإذا أخذت بالذي فيه مشقة، فربما تضجر الناس من ذلك وقالوا: ما ينبغي لهذا الداعية أن يفعل هذا، وربما يسفه رأيك، وربما يستهجن فيعظم أجر الإنسان أكثر، ولربما يحصل بالبلاء ما لا يحصله بغيره.

    وفي اليسر يحصل جانباً آخر مثل: أنه يمنع الناس من الكلام في أهل العلم، ولذلك لما مشى بعض أئمة السلف، وكانت به عاهة وبجواره عالم آخر فيه عاهة ثانية، فقال: إذا رآنا الناس قالوا: كذا وكذا. يعني: يقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، فقال له العالم الآخر: مالك وللناس فليقولوا ما قالوا، قال: وما عليك أن يسلم الناس ونسلم.

    الأول يقول: أريد الأجر والثاني يقول: وما عليك أن يسلموا ونسلم، انظر كيف النظر الأبعد؛ فمثل هذا يأجره الله.

    وهناك جوانب في اليسر تدرك فيها فضائل العسر، وهناك جوانب في العسر تدرك فيها فضائل اليسر، وهذا يرجع إلى الفقه، ولذلك قالوا: الفقه عن الله عز وجل يحصل الإنسان به ما لم يحصله غيره؛ لأن غيره لا يستطيع أن يزن الأمور بموازينها.

    وكنا نجد بعض علمائنا ومشايخنا رحمة الله عليهم -نحن عندما نقول: قال بعض مشايخنا كذا، فإنا والله لا نشك أن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم غنيان عن كل أحد، لكن ضرب الأمثلة من الواقع والحياة التي يعيشها الناس يؤثر كثيراً- كنا نجد بعض علماءنا يتعاملون بعنف وبعض الأحيان يتعاملون بيسر، حتى أنك تتألم وتقول: كان ينبغي أن يأخذ بالقوة والحزم، ولكن تمضي الأيام تتتابع، وإذا بالذي اختاره الله له عين الصواب وعين الحق، ويجعل الله من حسن الأثر وحسن العاقبة ما لم يكن في الحسبان، وهذه كلها ترجع إلى أمر واحد وهو: توفيق الله جل وعلا.

    فالإنسان عندما يمارس العسر واليسر في دعوته إلى الله لا يريد إلا وجهه، فلن يندم عليها أبداً، وسيوفقه الله عز وجل للصواب ويعينه؛ لأن أهل العلم والدعوة وطلبة العلم والخطباء وكل من تولى ولاية شرعية لحمل الناس على طاعة الله لا يوفقهم الله إلا إذا علم فيهم الخير والصدق، وانظر إلى أهل الدنيا من التجار وأهل الأموال كيف يقفون مع من يعينهم على دنياهم، وكيف أنهم يغارون -وحق لهم ذلك- لأنهم نصحوا لهم وقاموا معهم، فكيف بمن نصح لله جل وعلا ولدينه؟ أبداً لا يخيب، فعسره سيجعل الله به الخير إن اتقى الله فيه، ويسره سيجعل الله فيه خير، وسبحان الله العظيم! بعض الأحيان يختار الإنسان المشقات التي فيها الأجر أعظم، لأنه كما جاء في الحديث: (ثوابك على قدر نصبك) وقلنا: إن هذا فيما بت في أمره.

    مثلاً: في التشريعات -مثلاً- المشي في الحج. لو ركب أو مشى، فإنه إذا ركب تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو مشى تعب وحصل له الأجر بالعناء والتعب، لكن لا يعتقد أن المشي أفضل من الركوب من جهة كونه سنة، وإن اتفق له أن يمشي فليمش، وله الأجر الأعظم في المشقة، لكن إذا جاء وخير بين الركوب والمشي فيختار سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب، فإذا أخذ باليسر تأسياً أو كان الأمر فيما بت فيه فلا إشكال، والخير في اتباعه وتتبع سنته عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك قالوا: الوارد أفضل من غير الوارد، فالوارد إذا اتبع فيه الشرع كان الأجر أعظم عند الله عز وجل، بل فيه الرحمة والهدى؛ لأن الله جل وعلا جعل الرحمة والهدى لمن اتبع سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755992230