إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. سلمان العودة
  5. شرح العمدة (الأمالي)
  6. شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع - البيوع المنهي عنها-2

شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع - البيوع المنهي عنها-2للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نهت الشريعة الإسلامية عن بعض البيوع بسبب ما يحيطها من غرر وجهالة وضرر وإفساد، ومن تلك البيوع المنهي عنها: بيع الملامسة والمنابذة، وبيع الحصاة، وبيع الرجل على بيع أخيه، وبيع الحاضر لباد، وبيع النجش، وبيعتين في بيعة، وبيع السلعة قبل قبضها؛ وقد بين العلماء معانيها وذكروا صورها المختلفة، ووضحوا أحكامها من ناحية النفاذ أو الفساد والبطلان.

    1.   

    بيع الملامسة والمنابذة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    هذه ليلة الخميس، التاسع عشر من شهر صفر من سنة (1423) للهجرة، اليوم ندخل في ما ذكره المصنف.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة وعن المنابذة ].

    نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الملامسة وعن المنابذة -كما ذكره المصنف- جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة وبيع المنابذة )، وله أيضاً شاهد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

    بعض معاني الملامسة

    الملامسة: تحتمل تقريباً معنيين:

    المعنى الأول: كما يقولون: أن يبيعه شيئاً ولا يشاهده، على أنه متى لمسه فقد وجب البيع.

    وعلى هذا التعريف يكون النهي عن بيع الملامسة؛ لأنه علق البيع على شرط مستقبلي، كأن يقول: إن لمست هذا الثوب فقد وجب البيع، فهنا يكون سر النهي عن الملامسة هو أنه علق البيع على شرط مستقبلي.

    هذا هو التعريف الأول، وبناءً على هذا التعريف يكون النهي عن بيع الملامسة؛ لأنه تعليق البيع على شرط مستقبلي، وهذا عند جمهور العلماء لا يصح، كما ذكرناه من قبل.

    الاحتمال الثاني: يعني: أن يبيعه الثوب وهو مطوي دون أن يعرفه، يقول مثلاً: إذا لمست هذا الثوب -أو شيئاً من هذا القبيل- فهو لك بكذا، فيضع يده ويختار ثوباً معيناً، وقد يكون هذا الثوب نفيساً أو رخيصاً أو حقيراً أو شتوياً أو صيفياً أو رجالياً أو نسائياً، وعلى هذا التعريف يكون النهي عن بيع الملامسة بسبب الجهالة؛ لأن البيع ليس محدداً أو معروفاً، فهو نوع من القمار، يمكن أن يقع له ثوب غال، ويمكن أن يقع له ثوب حقير.

    بعض معاني المنابذة

    ومثله أيضاً: المنابذة، قالوا في موضوع المنابذة: هي أن يطرح الرجل ثوبه إلى الرجل الآخر دون أن يقلبه ودون أن ينظر فيه، فهذا بيع المنابذة، فيعطيه الثوب ويشتريه دون أن ينظر فيه ولا يعرف حقيقته، وعلى هذا التعريف فإن النهي عن بيع المنابذة بسبب الجهالة؛ لأن الثوب غير معروف.

    وقد يكون من معنى المنابذة أن يقول مثلاً: إذا نبذت إليك ثوبي فقد وجب البيع، أو مثلاً يقول: إذا نبذت إليك هذه الحصاة فقد وجب البيع، فيكون النهي عن البيع في هذه الحالة لماذا؟ لأنه علق البيع على شرط مستقبلي، وجمهور العلماء لا يجيزون البيع المعلق على شرط مستقبل.

    بعضهم جعلوا للمنابذة معنىً ثالثاً، وهو مثل بيع الحصاة كما سبق أن ذكرناه.

    وبعضهم ذكروا معنىً رابعاً، وهو أن يقول له: إذا نبذت إليك هذا الشيء فإنه ينقطع الخيار ويجب البيع، هذه المعاني.

    حكم بيع الملامسة والمنابذة

    في الجملة يقول ابن قدامة في المغني : لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في فساد بيع المنابذة وفساد بيع الملامسة.

    لكن يبقى الإشكال في تعريف المنابذة والملامسة أي هذه التعريفات هو أصح؟

    الأقرب -والله أعلم- أن الأصح في تعريف الملامسة والمنابذة أن المقصود فيها: ما يرمي إلى الجهالة، أو ما يكون البيع فيه عن جهالة، مثل أن يقول: أي ثوب وقعت عليه هذه الحصاة فقد وقع عليه البيع، أو يقول مثلاً: ما وقع عليه هذا الشيء، ما رميته إليك من ثوب أو غيره فهو المبيع، ويكون مطوياً غير معروف الصفة، وقد يكون نفيساً أو خسيساً، فيكون النهي معناه الجهالة، فعلى هذا يكون النهي عن الملامسة والمنابذة بسبب الجهالة، والجهالة نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، والجهالة والغرر فيهما تقارب من بعض الوجوه كما أسلفنا.

    طيب على الوجه الثاني: الذي هو تعليق البيع بشرط، طبعاً جمهور العلماء وهم الأئمة الثلاثة لا يجيزون تعليق البيع بشرط، وبناءً عليه فحتى على التعريف الثاني أن الملامسة والمنابذة محرم عندهم، لكنه ليس كما يفهم ابن قدامة : أنه ليس في المسألة خلاف؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله يجيز تعليق البيع على شرط، ويقول: إذا كان تعليق النكاح على شرط جائزاً فالبيع من باب أولى. فيجوز عنده تعليق البيع على شرط إذا كان الشرط واضحاً ليس فيه لبس، مثل أن أقول مثلاً: أبيع عليك هذا الدار بشرط رضا مثلاً تركي، أو أبيعها عليك لمدة معينة تكون محددة فقط لا تكون مطلقة؛ لأن هذا يترتب عليه خلاف وخصومات، لكن لو بعته عليك بشرط محدد واضح معروف بيني وبينك وينتهي هذا الشرط إلى أجل معلوم، فالذي ذهب إليه الإمام أحمد بما نقل عنه وبفعله أيضاً، وروي عنه أنه رهن نعله عند رجل وقال: إن أتيتك إلى ثلاث وإلا فهي لك، مقابل الثمن يعني، فهذا دليل على أنه أجاز شيئاً من هذا المعنى كما ذكره ابن القيم رحمه الله.

    وقد رجح الجواز ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحققين من متأخري الحنابلة وغيرهم، وهذا مأخذ جيد.

    أولاً: لأنه لا يوجد نص شرعي عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على منع تعليق البيع على شرط مستقبلي.

    الأمر الثاني: أنه سبق أن قررنا أن الأصل في العقود هو الحل والجواز، وأن هذا فيه مصلحة وحاجة وتوسعة على الناس.

    ولذلك نقول: إن الأصح في تحريم بيع الملامسة والمنابذة أن المقصود به ليس ما علق على شرط مستقبلي إن لمست هذا الثوب أو رميت هذا الثوب أو هذه الحصاة فقد وقع البيع، وإنما المعنى في بيع الملامسة والمنابذة هو الجهالة، أن يكون المبيع مجهولاً يصح أن يقع على هذا أو ذلك وبينهما فرق، أما لو لم يقع بينهما فرق فقد سبق أن بينا، إذا قال: بعتك عبداً من عبيدي أو شاة من الرعية، أو شجرة من هذه الشجرات وكانت متماثلة، أو متقاربة، الفروق بينها فروق زهيدة لا يلتفت إليها، فإن هذا لا بأس به.

    1.   

    بيع الحصاة

    قال: [ وعن بيع الحصاة ].

    يعني: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة.

    بيع الحصاة ورد النهي عنه، ولعلي ذكرت حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، ونهى عن بيع الحصاة ).

    من تعاريف بيع الحصاة

    هذه ثلاثة تعريفات في بيع الحصاة:

    التعريف الأول: أن يقول: أرمي هذه الحصاة فما وقعت عليه فهو المبيع، وبناءً على هذا التعريف يكون النهي عن بيع الحصاة بسبب جهالة المبيع، لأنها قد تقع على نفيس أو خسيس، هذا هو الأول، وهذا التعريف النهي فيه واضح أنه صحيح، وباتفاق العلماء أن هذا النوع من البيع لا يجوز؛ لأن المبيع فيه جهالة.

    قد يقول القائل: قد تكون المبيعات متساوية، فنقول: لو كانت متساوية لم يوجد سبب للحصاة، فبإمكانه أن يقول: خذ أي واحد منها.

    التعريف الثاني: أن يقول: أبيعك هذه الأرض فما بلغت -يعني: أرمي حصاة فما بلغت- من هذه الأرض فهو المبيع، أي: وقع عليه البيع، وهذا التعريف أيضاً نقول: إنه لا يجوز، بسبب الجهالة؛ لأن الحصاة قد تقع على مسافة عشرين متراً، أو على مسافة مائتي متر، أو أقل من ذلك أو أكثر، فالمبيع غير محدد، ومن شروط المبيع أن يكون معلوماً كما أسلفنا، فعلى هذا التعريف أيضاً لا شك أن بيع الحصاة بهذا التعريف منهي عنه.

    التعريف الثالث: أن يقول: أبيعك هذه الحصاة، وأمامه حصاة مجهولة لا يدري ما هي وما بداخلها، فلا شك أن هذا البيع منهي عنه بسبب الجهالة.

    هناك التعريف الرابع الذي ذكرناه سابقاً ويدخل في موضوع البيع المعلق على شرط، لو قال له: إذا نبذت إليك هذه الحصاة فقد وجب البيع، فهنا يكون تعريف بيع الحصاة: أنه بيع معلق على شرط، والبيع المعلق على شرط لا يصح عند الأئمة الثلاثة: مالك وأبي حنيفة والشافعي، ورواية عند الحنابلة، لكن القول الثاني عن أحمد -وهو الراجح كما ذكرنا- أن تعليق البيع على شرط جائز إذا كان هذا الشرط واضحاً لا يوجب لبساً ولا يحدث خصومة، ولذلك ابن قدامة وقبله الترمذي أيضاً في جامعه والنووي والبهاء المقدسي صاحب شرح العمدة كلهم ذكروا التعريفات الثلاثة لبيع الحصاة، وقالوا: إنها محرمة، بل في المغني قال: كلها بيوع فاسدة لا نعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم. وقد ذكرنا أن ثمة خلافاً قوياً في البيع المعلق على شرط إذا قال: إذا رميت إليك هذه الحصاة فقد وجب البيع، فإن الأصل فيه أنه صحيح بشرط أن يكون له أجل ينتهي إليه.

    ما يتعلق بالتعريفات الثلاثة الأولى هي كلها تدور حول جهالة المبيع، أن يبيع شيئاً مجهولاً سواءً من الأرض أو من السلع، أو أن يبيع حصاة لا يدرى عن محتواها.

    1.   

    بيع الرجل على بيع أخيه

    قال: [وعن بيع الرجل على بيع أخيه ].

    بيع الرجل على بيع أخيه أيضاً جاء في أحاديث ابن عمر المتفق عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يبع بعضكم على بيع أخيه ).

    وفي بعض الألفاظ: ( لا يبع بعضكم على بيع بعض، قال: ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق ).

    وفي لفظ: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض، أو يخطب على خِطبة أخيه)، والخُطبة هي الموعظة التي على المنبر، بضم الخاء، أما بالكسر (الخِطبة) فهي خطبة النكاح، يعني: كونه يخطب هذه المرأة ليتزوجها، أما إذا جلس في المجلس وأراد أن يعقد النكاح، ثم خطب بـ : إن الحمد لله نحمده ونستعينه، هذه تسمى خُطبة للخِطبة. فنهى أن يخطب على خطبة أخيه ( حتى يترك أو يأذن )، يعني: يأذن له بالخطبة.

    وجاء في هذا أحاديث كثيرة جداً مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الغنم )، والتصرية: هي ترك اللبن حتى يكبر الثدي، ويظن المشتري أن لبنها كثير، وهذا يعتبر نوعاً من الغرر أو التدليس، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعاً من شعير )، والحديث رواه الستة. البخاري ومسلم وأهل السنن.

    والحديث المشهور أيضاً: ( لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه ). وهذه كلها أحاديث في نفس المعنى، وهو ما أشار إليه المصنف رحمه الله من النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه.

    معنى بيع الرجل على بيع أخيه

    ما معنى بيع الرجل على بيع أخيه؟

    المعنى: أن يقول: أبيعك بأرخص أو أبيعك خيراً منها بثمنها، يعني: لو رأيته اشترى سيارة أو أراد أن يشتري سيارة من رجل مثلاً بخمسين ألف ريال تقول: أنا أبيع عليك بمثل هذه السيارة بخمسة وأربعين ألفاً، أو تقول: أبيع عليك أفضل منها بخمسين ألفاً.

    مثلاً: هو يريد أن يشتري سيارة (فورد)، فتقول له: أبيع عليك (لكزز) بستين ألفاً، يعني بسعر الفورد وهي أفضل منها وأنفس منها، أو تقول: أبيع عليك سيارة أخرى (فورد) مثلها بخمسة وأربعين ألفاً، فهذا كله من البيع على بيع أخيه.

    ومثله تماماً الشراء على شراء أخيه، ما معنى أن تشتري على شرائه؟

    المعنى أنه إذا اشتراها منه مثلاً بثمن معين، فأنت تقول له: أنا أشتري منك هذه السلعة بأغلى مما أعطاك فلان، أدفع لك بها أكثر مما دفع فلان، فهذا مثله في الحكم من جهة أن فيه نوعاً من السوء والتأثير على الأخوة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يبع على بيع أخيه )، وربط هذا بالمعاني الإيمانية التي ذكرناها كلها مما يعمق جوانب الإخاء الديني بين المؤمنين والمحبة ويزيل عوامل البغضاء والشحناء بينهم، وهذا من أعظم مقاصد الشريعة.

    حكم البيع على بيع غير المسلم

    اختلف الفقهاء: هل هذا الحكم خاص بالبيع على بيع المسلم، أم يشمل البيع على بيع المعصوم مسلماً كان أو غيره كالذمي مثلاً؟

    قولان للعلماء: منهم من حمل الأخوة هنا على أخوة الدين، وبناءً عليه قال: لو كان غير مسلم فإنه يجوز أن تبيع على بيعه أو تشتري على شرائه، وهذا قول الظاهرية.

    وفي المسألة قول آخر هو المشهور وهو: أنه يمنع البيع على بيع أخيه المسلم، ويمنع البيع على بيع المعصوم، ويكون هذا أمراً عاماً؛ لأن المعصوم له حرمة ينبغي مراعاتها، وقد يكون في هذا تحبيباً له في الإسلام، وترغيباً في أخلاق أهل هذا الدين العظيم.

    1.   

    بيع الحاضر لباد

    قال: [ وعن بيع حاضر لباد ].

    يعني: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحاضر للبادي، وهذا جاء في الصحيحين أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد، قال طاوس : فقلت لـابن عباس : ما معنى لا يبيع حاضر لباد؟ قال ابن عباس : لا يكون له سمساراً ). ويشهد لهذا أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ).

    معنى بيع حاضر لباد

    الحاضر: هو ساكن الحاضرة.

    والبادي: هو ساكن البادية، وبعضهم يسمون أهل البادية: أصحاب العمود، ولهذا قد يقال للبادي: العمودي، وهذا كثير في الكتب، فإذا قيل لك: العمودي، فالمقصود به: البادي، سمي عمودياً لأنه يسكن الخيام، والخيام كما ترون اليوم ليس فيها عمد، لكن العبرة بما كان عليه الناس في الماضي من حيث أصل التعريف اللغوي.

    حكم بيع الحاضر لباد

    الجمهور على أن بيع الحاضر للبادي لا يجوز؛ قالوا: لأن هذا كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم: ( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض )، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    وهناك قول آخر لبعض السلف كـمجاهد كما ذكره عنه صاحب المصنف ابن أبي شيبة، وذكره أيضاً عن الشعبي قال: (نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأفعله)، وهذا يحمل على أنه تأول الحديث، ولا يحمل على أنه يعاند السنة، فإن هذا لا يعرف عن السلف رضي الله عنهم، وهو رواية أيضاً عن الإمام أحمد نقلها عنه بعضهم كما في المغني وغيره، أنه قال: ليس بهذا بأس، فذكروا له الحديث فقال: كان هذا أول الأمر في أول ما كان عهد المسلمين بـالمدينة؛ لأنهم كانوا بحاجة ومسغبة وفقر، وهو أيضاً قول الحنفية أنه لا بأس بذلك.

    وخلاصة ما يذهب إليه هؤلاء:

    أولاً: قالوا: إن الحديث منسوخ، كما أشار إليه كلام الإمام أحمد، وأنه كان في أول الإسلام.

    الأمر الثاني الذي استدلوا به قالوا: قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( الدين النصيحة ) فقالوا: بيع الحاضر للبادي فيه نصيحة له، يعني: ما معنى بيع الحاضر للبادي؟ أنا عندي دكان، فإذا جاءني مثلاً الأستاذ صالح من البادية ومعه إبل وبقر وغنم يريد أن يبيعها الآن ويمضي، قلت له: لا تبعها الآن، دعها عندي، أنا أدخلها في أحواش وأبيعها بالتدريج حتى تأتيك بأثمان غالية ونفيسة، هذا المقصود ببيع الحاضر للبادي.

    والراجح أن بيع الحاضر للبادي لا يجوز، لكن بشروط خمسة، بمعنى أن الفقهاء الذين قالوا بمنعه وهم الجمهور اشترطوا شروطاً كثيرة تتلخص في خمسة شروط:

    الشرط الأول: أن يكون البادي أحضر هذه السلعة من أجل أن يبيعها، فلو كان أحضرها لغرض آخر غير البيع فإنه لا يدخل في النهي، يعني: لو أحضرها ليس ليبيعها وإنما جاء بها معه مثل كونه راكباً على بعيره فأعجبك البعير فتقول له: تبيعني هذا البعير؟ فقال لك: نعم، يعني: لم يكن جاء به من أجل البيع، وإنما أحضره معه لغير البيع.

    فالشرط الأول: أن يكون أحضرها ليبيعها.

    الشرط الثاني: أن يكون أحضرها ليبيعها بسعر يومها، فإن كان سيتربص بها فلا حرج؛ لأن المؤدى واحد والمعنى واحد، سواءً كان سيتربص بها وينتظر أسبوعاً حتى يبيع هذه الأشياء، بينما أنت تقول له: دعني أبيعها عنك أو أكون وكيلاً لك واذهب في شغلك مثلاً، ففي هذه الحالة ليس هناك ضرر على الناس؛ لأن النتيجة واحدة سواءً باعها البادي أو باعها وكيله أو سمساره.

    إذاً الشرط الثاني: أن يكون أحضرها ليبيعها بسعر يومها.

    الشرط الثالث: أن يقصده الحاضر، يعني: أنت تأتي إليه وتقول: يا رجل، يا فلان! دع هذه الأشياء عندي لأبيعها لك، أما لو كان العكس أن البادي جاء إليك وقال: عندي هذه الأشياء وأريدك أن تبيعها لي، في هذه الحالة يكون الأمر جائزاً؛ لأنه ابتدأ بها من عند نفسه، ولو اعتذرت أنت لوجد غيرك، والأصل هو الموافقة؛ لأن الرجل في هذه الحالة لا يريد أن يبيعها بنفسه، لأنه يعرف أنه قد يهضم مثلاً أو يبيعها برخص، فيبحث عمن يعرف الأسعار ويريد أن يختار أغلى الأسعار.

    الشرط الرابع: أن يكون جاهلاً بالسعر، فلو كان الأعرابي عارفاً بالسعر، ففي هذه الحالة سيان أن يبيعها هو أو تبيعها له؛ لأنه مادام عرف أن سعر الشاة اليوم مثلاً أربعمائة ريال، فهو لن يبيعها حتى يصل بها إلى السعر الذي عرفه.

    الشرط الخامس: أن تكون من السلع التي تمس حاجة الناس إليها، أما لو كانت من السلع التي لا حاجة للناس إليها والأمر فيها على التراخي، فيتجه أن يكون الأمر مأذوناً فيه أيضاً، لأنه لا ضرر على عامة الناس من الانتظار والتربص بها وبيعها بالتدريج، ويكون في ذلك أحياناً مصلحة من ذلك لصاحب السلعة، وبهذه الشروط نكون جمعنا بين مصلحة أهل المدينة: ( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض )، وبين مصلحة البادي أو البادين الذين هم أيضاً بحاجة إلى أن يحصلوا على قيم معقولة، وبهذا أيضاً نجمع بين النهي عن بيع الحاضر للبادي وأن يكون له سمساراً، وبين النهي عن تلقي الركبان كما سوف نذكره بعد قليل.

    اختلاف الفقهاء في صحة عقد بيع الحاضر لباد

    بالنسبة للبيع، لو باع الحاضر للبادي، في هذه الحالة هل نقول: إن البيع صحيح أو إن البيع فاسد؟ طبعاً عند الجمهور المسألة لاشك فيها قولان:

    القول الأول وهو قول الجمهور: أن البيع صحيح، يعني: لو باع الحاضر للبادي فالبيع صحيح، والدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نهى عن تلقي الركبان قال: ( فمن تلقاه فاشترى فإذا أتى صاحبه السوق فهو بالخيار ) إلى آخر الحديث.. وقالوا: إن البيع هنا أو أن المخالفة أو النهي ليس لركن يتعلق بالبيع، ولا لشرط يتعلق بالبيع، ولا لجهالة في المبيع أو غرر، وإنما هو لأمر خارج يتعلق بمصلحة الناس، فلذلك جمهور العلماء صححوا البيع.

    وهناك قول آخر عند الحنابلة وغيرهم أن البيع فاسد لمخالفته نهي الرسول صلى الله عليه وسلم، والنهي عندهم يقتضي الفساد.

    1.   

    بيع النجش

    قال: [ وعن النجش ].

    يعني: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش، والنجش يجوز فيه سكون الجيم وفتحها فتقول: النجْش، أو النجَش.

    من معاني بيع النجش

    النجش عند اللغويين يدور حول معان، فمن معانيه عندهم: الاستتار، قالوا: لأن النجش مثل نجش الطيور، فالإنسان الذي يصيد يتخفى عن الطير حتى يصيده، فهذا من المعاني.

    ومن معاني النجش عندهم: الإثارة، قالوا: ينجش الصيد، أي: يثيره، وهكذا الناجش كما سوفي يأتي في تعريفه.

    والمقصود بالنجش عند جميع الفقهاء: هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، يأتي إلى مثلاً ناس يتزايدون في سلعة في سوق المزاد فيما يسمى بالحراج أو بالمزاد، فيزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وإنما قصده بذلك أن يضر المشترين الآخرين.

    وقد يكون من معاني النجش غير المباشرة، وهذا يدخل في المعنى اللغوي؛ لأن هناك معنىً لغوياً ثالثاً في النجش قالوا: وهو المدح والثناء، فقد يدخل في هذا المعنى أن يأتي إنسان ويبالغ في السلعة ويمدحها بأشياء غير واقعية، فيغرر بالمشترين الذين لا يعرفون الحقيقة، فيقول لهم: والله مثلاً هذه السلعة فيها كذا وفيها كذا والصناعة مثلاً يابانية جيدة، وهذا الآن أثبتت الدراسات أن هذا هو أفضل ما هو موجود في الأسواق، والشركة هذه فيها كذا، ويأتي بمبالغات وأخبار غير صحيحة تحمل الحاضرين على المزايدة، فهذا من النجش المحرم.

    والأحاديث الواردة في النجش معروفة، منها: ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش )، ومنه ما ذكرناه قبل قليل من حديث أبي هريرة : ( ولا تناجشوا ).

    طبعاً يمكن أن يقيد النجش أيضاً بما إذا تعدى بها سعرها الذي تستحقه، فهذا لا شك إذا تجاوزت لا شك في تحريم النجش إذا تعدت سعرها، أما لو كان أقل من سعرها، يعني: إنسان مثلاً أحياناً يبدأ السوم كما يقولون، إذا عرضت مثلاً هذه الماسة للبيع، فبدأ مثلاً عندنا الأخ عبد الله وقال مثلاً: أسوم هذه الماسة بعشرة ريالات، وهو لا ينوي الشراء، لكن يريد أن يفتح السوم كما يقال، هل نقول: هذا بيع محرم؟ لا، ليس محرماً؛ لأنها لا زالت في أقل من سعرها التي تستحق، لكن لو وقفت هذه الماسة على سعر مثلاً مائتي ريال، والظن أنها لا تأتي بأكثر من هذا، ثم جاء وقال: بمائتين وعشرة من أجل أن يغري الآخرين برفع السعر، فهذا هو النجش الذي يكون محرماً.

    اختلاف الفقهاء في صحة عقد بيع النجش إذا تم

    هل يفسد البيع بالنجش أو لا يفسد؟ ذكر ابن العراقي في طرح التثريب ربما ما يزيد على خمسة أقوال، لكنها تدور على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: أنه إذا حصل النجش وزيادة فإنه يبطل البيع، وهذا حكاه ابن عبد البر عن طائفة من أهل الحديث، وهو قول أهل الظاهر أيضاً، وهو رواية في مذهب الإمام مالك ورواية في مذهب الإمام أحمد ؛ أن البيع الذي حصل فيه النجش باطل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تناجشوا )، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش.

    القول الثاني: أن البيع صحيح، ولا خيار للمشتري؛ لأنه يقول: ما دام مغفلاً يتحمل نتيجة قراره الذي هو غير مدروس، فيقولون: البيع صحيح ولا خيار، وهذا هو قول الشافعي وأبي حنيفة .

    هناك قول ثالث وسط بين هذين القولين: أن البيع صحيح، لكن الخيار ثابت للمشتري في أحوال، والأحوال التي يثبت فيها للمشتري الخيار مثلما إذا كانت الزيادة فاحشة، وهنا يدخل عندنا خيار يسمونه خيار الغبن، يعني: لو سلعة مثلاً مثل هذا القلم بريال، واشتراه مثلاً بثلاثة ريالات، أليس هذا غبناً؟ لاشك أن هذا غبن، وبناءً عليه يكون له خيار الغبن، فهذا حال.

    الحالة الثانية: إذا كان النجش بمواطأة من صاحب السلعة، يعني: اتفقت معك يا أبو عمر أن أبيع وأنت غداً تأتي وتزيد والربح بيننا، أو حتى لو ما كان في ربح لكن هو ولدك أو قريبك أو نسيبك أو شيء من هذا القبيل يريد أن يزيد في السلعة حتى ترتفع، بمعنى: أن توجد مواطأة بينك وبينه على الزيادة، فيكون في هذه الحالة للمشتري الخيار؛ لأن النجش كان بمواطأة، لكن لو كان النجش لم يتسبب في رفع السعر بطريقة غير معقولة، أن السعر ارتفع بشكل معتدل، وكذلك كان النجش بغير مواطأة، وإنما بعض الناس فيه -والعياذ بالله- خبث أو شر على الناس، يعمل بعض هذه الأعمال من دون أن يكون له فيها مصلحة، يعني: قد يتلذذ بأنه خدع الناس مثلاً، أو يريد أن يضر بالمشتري أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحالة البائع يعني ليس له ذنب ولا يكون هناك خيار.

    1.   

    بيعتان في بيعة

    قال: [ وعن بيعتين في بيعة ].

    يعني: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وهذا جاء في حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة )، الحديث رواه الترمذي، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، وذكر تعريف بيعتين في بيعة، كما سوف أشير إليه بعد قليل.

    والحديث له شواهد ذكرها جماعة، منها شواهد عن ابن مسعود وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وغيرهم. فالحديث صحيح عن النهي عن بيعتين في بيعة، لكن نبقى في تفسير الحديث، أيضاً في تفسير الحديث إشكال بل وإشكالات:

    المعنى الأول من معاني (بيعتين في بيعة)

    قيل: إن المقصود ببيعتين في بيعة كما فسره الترمذي وغيره: أن يقول: أبيعك هذا الثوب مثلاً نقداً بكذا ونسيئة بكذا، وبشرط أن يتفرقا دون أن يتم تحديد الصفقة هل هو بيع صفقة نجاز ونقد أو صفقة تأجيل؟ هذا غير محدد، وبناءً عليه يكون النهي عن بيعتين في بيعة بسبب الخصومات التي تقع لعدم تحديد البيع، ففي البيع هنا إشكال هل هو بيع ناجز أو بيع غائب؟ وهذا قد يقع، فالمشتري يقول: بعتك ناجزاً وذاك يقول: اشتريت غائباً وهكذا.. ولا يتفارقا على أحد البيعين، أما إذا تفارقا على أحد البيعين فلا بأس بذلك إذا كانت العقدة بينهما واضحة كما ذكره الترمذي .

    يعني لو قلت لك: أبيعك هذا الثوب نقداً بخمسين ونسيئة بسبعين، فاختر إحدى البيعتين، وأنت جلست تفكر بحيث إنك في نهاية المجلس قلت: اشتريته نسيئة بسبعين، هذا يجوز أو لا يجوز؟ يجوز؛ لأنه لا إشكال في الأمر حينئذ. لم يتفرقا وبينهما شيء.

    المعنى الثاني من معاني (بيعتين في بيعة)

    كذلك مثل هذا أن يقول: بعتك هذا الثوب أو هذه السلعة بعشرة دراهم صحاح أو دنانير صحاح أو بعشرين مكسرة -يعني رديئة- فهنا إذا كان الأمر في الحال بشرط ألا يتفرقا وبينهما شيء إلا وقد أنجزا أحد الصفقتين فإنه يجوز، لكن لو تفرقا على أنه إما عشرة صحاح أو عشرين نسيئة فعلى هذا لا يجوز؛ لأن البيع لا يكون محدداً، وهذا ما فسره به الإمام مالك وإسحاق والثوري، وهذا البيع باطل عند جمهور العلماء.

    المعنى الثالث من معاني (بيعتين في بيعة)

    كذلك من تعريفات بيعتين في بيعة أن يقول: بعتك هذا البيت على أن تبيعني ذاك البيت، أنت عندك بيت مثلاً في الإسكان وأنا عندي بيت في الصفراء فأقول مثلاً: أنا أبيعك بيتي الذي في الصفراء؛ لأنه عمارة قديمة وإن كانت كبيرة مقابل أن تبيعني الذي عندك في الإسكان، هذا النوع من البيع الذي هو صفقتان في عقد واحد، أبيعك هذا البيت على أن تبيعني ذاك البيت، أو لو لم يكن شرط بيع قد يكون شرط تأجير، أبيعك هذا البيت على أن تؤجرني ذاك البيت، أو أبيعك هذا البيت على أن تزوجني موليتك أو بنتك مثلاً، يعني: هذا كأنه تعليق البيع على شرط كما ذكرنا، ولذلك الأقرب أن هذا النوع من البيع وإن كان الجمهور لا يجيزونه، إنما يجوزه الإمام مالك رحمه الله ويرى أنه لا بأس به، وكذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ذكروا هذا وأجازوه، والشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، قالوا: لأنه ليس في هذا من بأس حقيقة، فالبيع واضح هنا، وليس فيه إشكال؛ ولذلك في الحديث الآخر الذي رواه أبو داود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا )، فقالوا: قوله: ( فله أوكسهما ) فيما يتعلق بأبيعك هذا البيت على أن تبيعني ذاك لا توجد مسألة (أوكسهما) لأنه لا توجد بيعة راقية وبيعة رديئة، وإنما بيعتان منفصلتان.

    الصحيح في تعريف بيعتين في بيعة

    ولذلك قالوا: إن الصحيح في تعريف بيعتين في بيعة الذي ينطبق عليه الحديث، وينطبق عليه النهي هو ما يسمى ببيع العينة، وهو أن أبيعك هذا البيت مثلاً نسيئة بكذا وأشتريه منك نقداً بكذا، كما لو بعته منك نسيئة بمائة ألف ريال ثم اشتريته منك نقداً بسبعين أو ثمانين ألف ريال، هنا وقعت بيعتان، بعت عليك ثم اشتريته منك، وأيضاً هنا وجدت أوكس البيعتين، والأوكس هو الثمانون أو السبعون، فيكون الحكم الشرعي أن الشرع يقول لك: إما أن تقتصر على أن تأخذ من هذا الإنسان سبعين فقط ولا تأخذ عليه الزيادة، وإلا فإن أخذت عليه الزيادة فهي الربا، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (بيعتان في بيعة ربا)، وهو هذا الحديث نفسه.

    فنقول: إن المقصود ببيعتين في بيعة التعريف الأقرب لها، والذي ينطبق عليه أنه بيعتان في بيعة ويتحقق فيه الوكس والشطط ويتحقق فيه النهي هو بيع العينة: أن تبيع السلعة نسيئة بكذا ثم تشتريها نقداً بأقل منها، ولذلك جوز الإمام أحمد رحمه الله أن يعطي الخياط ثوباً ويقول: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف درهم، فبعضهم قالوا: إن الإمام أحمد يتوسع في الإجارة ما لا يتوسع في البيوع، وبعضهم قال: إن هذا قد يدل على أن عنده رواية في المسألة، والصحيح أن هناك رواية في المذهب إن هذا لا بأس به، يعني: أبيعك هذا البيت على أن تبيعني ذاك البيت إذا كان برضا الطرفين، إنما ينهى عنه -كما ذكرنا- إذا كان من باب بيع العينة، أو إذا كان البيع غير محدد، أو إذا ترتب عليه صفقة ربا، مثل: أن أبيعك قمحاً أو براً أو شعيراً أو غيره مقابل أن تبيعني قمحاً أو براً أو شعيراً آخر، فيكون هناك بر ببر ومع ذلك فيه تفاوت، وقلنا: هذا نوع من التحايل على الربا، وإلا فالأصل في بيعتين في بيعة كما ذكرنا هو أن يكون المقصود بها: العينة.

    تفسير آخر لبيعتين في بيعة

    ومن تفسيرات بيعتين في بيعة يقول مالك رحمه الله من التفسيرات عنده: أن تشتري من الإنسان مزرعتين أو بيتين أحدهما بمليون والثاني بمليون وخمسمائة، وتنصرفا دون أن يتحدد المبيع، فهذا أيضاً داخل في النهي عن بيعتين في بيعة؛ لأن المبيع غير محدد، ويترتب عليه خلاف وخصومات، عندك سيارتان مثلاً فأقول: أنا يمكن أن أشتري منك مثلاً هذه السيارة بمائة ألف أو تلك بتسعين ألف وننصرف دون أن يتحدد المبيع، وهذا نظير ما أشرنا إلى شيء منه في ذلك.

    صورة جائزة من صور بيعتين في بيعة

    مما يتعلق بما بينا جوازه في مفهوم بيعتين في بيعة: أن أبيعك مثلاً هذه الأرض على أن تبيعني تلك الأرض، أو ما يستخدمه بعض المحلات اليوم من كونهم يبيعون القديم ويشترون الجديد، يعني: تأتي بثلاجة قديمة عندك فتقول: أشتري منك هذه الثلاجة بشرط أن تشتري مني القديمة وأدفع لك الفرق بينهما، فهذا فيه توسعة ولا بأس به.

    طبعاً فسر المؤلف البيعتين في بيعة: [ أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة، أو بعتك هذا على أن تبيعني هذا أو تشتري مني هذا ].

    1.   

    النهي عن تلقي السلع

    قال المصنف: [ وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق ) ].

    هذا الحديث الذي ذكره المصنف متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وذلك أنهم كانوا يتلقون الأجلاب فيشترون منهم الأمتعة قبل أن يهبط بها إلى السوق، وربما غبنوهم بذلك غبناً فاحشاً بيناً فيضر ذلك بهم ويضر أيضاً بأهل البلد.

    هنا مثلاً: ( لا تلقوا السلع )، قد يبدو لبعضنا أو لغير المتأمل نوع من الإشكال أو التناقض بين عدم تلقي السلع، وبين النهي عن بيع الحاضر للبادي، فنحن نقول: إن الشريعة أرادت مصلحة الناس وأرادت مصلحة البادي أيضاً، فتلقي الإنسان السلع قد يكون معناه أنهم تلقوها خارج البلد، ولذلك من الفقهاء من قال: ميل، أو ميلين أو ما يقارب مسافة قصر، ومنهم من قال: خارج حدود البلد، وقال بعض الفقهاء: تلقيها هو قبل أن يصل بها إلى السوق أو مكان البيع، وهذا قوي، قوي ألا يتلقاه قبل أن يصل به إلى السوق؛ لأنه في هذه الحالة يحرم الناس من شراء هذه السلعة والاستفادة منها، فهذا فيه مصلحة للناس، وفيه مصلحة للبادية كما ذكرنا.

    1.   

    بيع السلعة قبل قبضها

    قال: [ ومن اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ].

    وهذا فيه مسألة مهمة لابد أن نخرج بها الآن، وهو مسألة: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه)، ورد فيها نصوص كثيرة، جاء طبعاً في حديث ابن عمر وهو مشهور أو متفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه )، وكذلك الحديث نفسه جاء في الصحيحين عن ابن عباس ذكر هذا في الطعام، قال ابن عباس : (وأحسب كل شيء مثله) يعني: من السلع وليس الطعام فقط، يعني أن كل شيء ينبغي ألا يباع حتى يستوفى، وابن عمر رضي الله عنه يقول كما في البخاري : ( رأيت الذين يشترون الطعام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مجازفة كانوا يضربون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ألا يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم )، وكذلك ابن عمر يقول في رواية أخرى: ( أو كنا نشتري الطعام من الناس جزافاً، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ) هذه ألفاظ الحديث.

    حكم بيع السلعة قبل قبضها

    عندنا مسألة بيع السلعة قبل قبضها هذه مسألة مهمة جداً، وتمس حاجة الناس إليها اليوم.

    مسألة بيع السلع قبل قبضها فيها ثلاثة أقوال، وطبعاً الأحاديث والأدلة ذكرناها الآن، وسنذكر أقوال الفقهاء:

    القول الأول وهو مذهب الشافعية ورواية عن الإمام أحمد واختارها أبو الوفاء ابن عقيل : أنه لا يصح بيع السلع قبل قبضها مطلقاً، لا المنقول ولا العقار.. ولا غيرها، لا طعام ولا غيره، فلا يحل بيع سلعة حتى تقبضها، وإن كان القبض عرفياً، ما معنى القبض؟ يختلف بحسب السلع، لكن المقصود: أنه لا يحل بيع السلعة حتى تقبضها.

    وأدلة هؤلاء هي ما ذكرنا: ( إذا اشتريت طعاماً -وفي رواية: بيعاً، وفي رواية: سلعة- فلا تبعه حتى تقبضه ).

    ومن أدلتهم حديث: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن )، وقالوا: إن المقصود بربح ما لم يضمن ربح الأشياء التي لم تقبض، لأن غير المقبوض غير مضمون، يعني: لو تلف المقبوض في ذمة مالكه فهو على المالك أو على المشتري؟ على المالك، ما دام تلف عنده قبل أن يستلمه المشتري، فقالوا: معنى ربح ما لم يضمن ربح: ما لم يقبض، أو من معانيه: ربح ما لم يقبض.

    وكذلك من أدلتهم العقلية، قالوا: إن الملك قبل القبض ضعيف، بدليل أنه لا يضمن بأن ينفسخ العقد بالتلف، فقالوا: التملك قبل القبض يعتبر ضعيفاً، ولذلك لا يصح البيع إلا بعد أن يقبض الإنسان السلعة، طيب. هذا القول الأول.

    القول الثاني وهو مذهب الحنفية، وهو تقريباً مثل القول الأول إلا أنهم قالوا: بالنسبة للمنقول: لا يصح بيعه قبل قبضه للأحاديث المذكورة؛ لأن بيعه فيه غرر، بحيث يحتمل أن السلعة تنفسخ كما ذكرنا بالتلف مثلاً.

    وقالوا أيضاً: إن الأصل أن كل شيء مثل الطعام، كما ذكرنا الآن حديث ابن عمر في الطعام، وقال ابن عباس : (أحسب كل شيء مثله)، يعني: مثل الطعام، وبناءً عليه لا تبع مثلاً طعاماً، ولا ثياباً ولا أواني ولا غنماً ولا غيرها إلا بعد قبضها، لكن الأحناف استثنوا من ذلك العقار وما في معناه، قالوا: يجوز بيعه قبل قبضه استحساناً، قالوا: لأن الأصل أن العقار تلفه نادر، وتسليمه سهل وممكن، يعني: أن العقار في العادة لا يتلف، وليس مثل الأشياء التي تتلف، وكذلك هو مقدور التسليم، ولذلك قالوا: يستثنى العقار ويبقى الحكم في المنقولات أنها لا تباع قبل قبضها.

    القول الثالث هو قول الإمام مالك رحمه الله، قال: إن المحرم المفسد للبيع المنهي عنه بيع الطعام دون غيره، سواءً كان هذا الطعام ربوياً كالقمح أو البر أو الشعير أو كان غير ربوي مثل الخضروات، تفاح، برتقال، والأشياء التي ليست من الأجناس الربوية ولا مما يقاس عليها، فقالوا: الطعام كافة -يعني: المأكول سواءً كان ربوياً أو غير ربوي عند المالكية- لا يجوز بيعه قبل قبض هذا الطعام، أما غير الطعام فيجوز بيعه قبل قبضه.

    وعند الإمام مالك رواية أخرى في المذهب أن هذا خاص بالربويات من الأطعمة، وبناءً على القول الثاني يكون النهي عن بيع الربويات فقط، نهي بيع التمر مثلاً قبل قبضه، النهي عن بيع الشعير قبل قبضه، النهي عن بيع البر مثلاً، الملح، الزبيب وما في معناها، هذه الأشياء لا تباع قبل قبضها إذا كانت أجناساً ربوية، لكن لو باع طعاماً غير ربوي، باع التفاح مثلاً أو البرتقال أو غيره من الأجناس التي لا تدخل في الربويات، ففي هذه الحالة يجوز، هذه رواية أخرى في مذهب الإمام مالك .

    وهذا طبعاً عند الإمام مالك مشروط أن يكون على سبيل المعاوضة، يعني: أن يكون بيعاً، لكن لو كان إهداءً أو هبة أو عطية فإنه ليس في ذلك شيء.

    وكذلك اشترطوا أن يكون البيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع، هذه أربعة أشياء، أما لو اشتراه جزافاً فإنه عنده يجوز، هذا الاستثناء عند مالك أنه أجاز بيع الجزاف ومنع المعدود والمذروع، وليس هذا الاستثناء بقوي؛ لأننا قبل قليل ذكرنا حديث ابن عمر أن الذين يشترون الطعام جزافاً كانوا يمنعون ويضربون، ونص على الجزاف.

    إذاً: التفريق بين الجزاف وغير الجزاف نقول: هذا التفريق في مذهب مالك ضعيف؛ لأنه مخالف للنص حديث ابن عمر، لكن قول مالك أقوى من قول الجمهور وهو المختار.

    وبالمناسبة فإن مذهب المالكية في المعاملات وفي البيوع من أجود المذاهب، كما ذكر هذا جماعة ممن يشتغلون بالفقه المقارن، فيقول ابن عبد البر رحمه الله: إن الأصح أن الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن بيع الطعام قبل قبضه )، فيدل ذلك على إباحة ما سواه، وهذه أيضاً رواية عن الإمام أحمد، وهو مروي أيضاً عن جماعة من الصحابة كـعثمان بن عفان، ومروي عن بعض التابعين كـسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي، وإسحاق، ويدل على صحة هذا المذهب عند المالكية الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا نبيع الإبل بالبقيع أو قال: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذ بسعر يومك أو بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيئاً )، فكونه رضي الله عنه باع الإبل بالدراهم ثم أخذ الدنانير هذا بيع وشرط، بمعنى أنه تشرط في المبيع قبل قبضه، والشرط نوع من البيع، وهكذا إذا باع دراهم وأخذ دنانير، والنبي صلى الله عليه وسلم أجاز له ذلك ما لم يتفرقا وبينهما شيء إذا كان بسعر الوقت، فهذا دليل على ما ذهب إليه المالكية من أن المنهي عنه هو بيع الطعام.

    1.   

    الأسئلة

    حكم أخذ الشيكات مقام النقد في الاستلام

    السؤال: هذا سؤال يقول: ذكرت قبل أيام أنه يجب على المشتري أنه يحضر المال، فهل يدخل ضمن ذلك الشيكات؟

    الجواب: نعم، يعني: إذا كان قصد الأخ القبض أو الاستلام فإن استلام الشيك يقوم مقام استلام النقد.

    مخالفات عند تلقي الركبان

    السؤال: يقول: حتى أن بعض السماسرة الذين يقابلون البائع -أو الحكم الذين يقابلون البائع- خارج السوق بأمتار ويعطيه سعراً أعلى ثم يأخذه خارج السوق، فإذا خرج وابتعد عن السوق ماطله في السعر؟

    الجواب: طبعاً هذا لاشك أنه لا يجوز؛ لأنه خيانة وخديعة، فهو جمع بين أمرين، أولاً: أنه جاءه خارج السوق وبايعه، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، فإذا كان من هذا الباب فهو ممنوع، وإذا كان على سبيل الغدر للإنسان وحجب الأمر عن الباعة.. وأيضاً كونه يعطيه سعراً ثم إذا ابتعد عن الناس ماطله بعدما فاتت عليه فرصة البيع، فهذه غلطة أخرى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756170288