إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. حسن أبو الأشبال الزهيري
  5. سلسلة شرح صحيح مسلم
  6. كتاب الهبات
  7. شرح صحيح مسلم - كتاب الهبات - كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه

شرح صحيح مسلم - كتاب الهبات - كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليهللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الهبات والصدقات من العقود التي لا يقابلها عوض، بخلاف عقود البيع والشراء والإجارة وغير ذلك فهي عقود تكون بعوض، وقد نهى الشارع عن الرجوع في الهبات والصدقات، واختلف العلماء في مسألة الرجوع فيها بعد القبض، فمنهم من حرمه، ومنهم من جعل النهي للتنزيه، بينما أجمعوا على جواز رجوع الوالد في هبته لولده للحاجة.

    1.   

    باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كتاب الهبات ]

    الهبات: جمع هبة، والهبة هي: كل عطية بغير عوض. أي: بغير عوض مادي في الدنيا.

    كالهبات والصدقات.. وغير ذلك مما لا ينتظر المتصدق شيئاً مقابلاً وعوضاً عما تصدق به أو وهبه، ولك أن تقول: هي العقود التي بغير عوض، بخلاف عقود المعاوضات، فإنها كل عقد أجري بعوض، كعقود البيع والشراء:

    أعطيتك داراً في مقابل المال.

    أعطيتك مالاً في مقابل الأرض.

    أعطيتك مالاً في مقابل السلعة، فإن قولنا: في مقابل كذا، أي: عقد مقابلة، هذا شيء مقابل شيء، فهذا عقد المقابلة، أو عقد المعاوضة، يعني: لا أعطيك شيئاً إلا بعوض، أما عقود الهبات فكلها بغير عوض في الدنيا، أما عوضها فعند الله عز وجل.

    إذاً: فالهبات هي: العقود التي بغير عوض.

    قال: [ باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه ].

    يعني: لو أنك تصدقت بشيء على فلان فلا يجوز لك أن تشتري هذا الشيء من فلان هذا، لكن لو باعه هذا الرجل إلى غيرك فيجوز لك أن تشتري ما تصدقت به من غير من تصدقت عليه، أما ممن تصدقت به عليه فلا، ربما تكون الحكمة من ذلك أن المتصدَّق عليه إذا ذهب المتصدِّق ليشتري من محل الصدقة، أو محل الهبة، تسامحا في شيء من ثمنها، فربما يكون ثمنها الأصلي ألف دينار، فيبيعها بخمسمائة دينار فقط وليس بألف؛ فأكون قد رجعت في بعض هذه الصدقة مما يوازي ما نقص من ثمنها، وكون المرء يرجع في صدقته هذا أمر منهي عنه، ولذلك الذي يعطي المرأة المخطوبة ذهباً ينوي به هدية، أو هبة، أو صدقة فلا يجوز له أن يرجع فيه والحالة هذه لو أنه فسخ الخطبة؛ لأنه أعطاه لا على سبيل إتمام النكاح، وإجراء هذا الزواج والاستمرار فيه، وإنما أعطاه بنية الهبة؛ لكونها فقيرة أراد أن يتصدق عليها، سواء تم الزواج أو لم يتم لا يأخذ هذا الذهب منها.

    وربما استحى أن يقول لها: هذه صدقة عليك وعلى والديك، فقال لها: هذه هدية، أو هذه هبة، أو هذه منحة، وهو ينوي غير ما ينويه عامة الناس، من أن الذهب الذي يقدم للمخطوبة لأجل إتمام الزواج، وفي الغالب أنه من المهر، ولذلك الفرق بين تقديم الذهب لإتمام الزواج وتقديمه هبة أو صدقة؛ أن الأول إذا فسخ الخطبة بسبب منه أو بسبب منها فله أن يسترد الذهب، وإذا قدمه هبة أو صدقة فليس له أن يسترد الذهب، كأنه قال: أنا قدمت الذهب ولا يهمني إتمام هذا الزواج أو عدم إتمامه؛ لأني ما قدمته بنية الزواج أو النكاح، وإنما قدمته لله من باب التعاون.. أو غير ذلك.

    شرح حديث: (... العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)

    قال: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف بـالقعنبي أبو عبد الرحمن البصري وأصله مكي- حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم -وهو زيد بن أسلم العدوي المدني ، وكان مولى لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه- عن أبيه -أي: أسلم العدوي - أن عمر بن الخطاب قال: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله) ] (حملت على فرس عتيق) أي: حملت فلاناً على فرس لي سريع جيد، يعني: فرس عربي أصيل، فمعنى العتيق: الجيد الأصيل، والحمل تمليك بإجماع أهل العلم، إلا أن يشترط الحامل الحمل، كأن يقول: حملت فرسي هذا على الجهاد في سبيل الله، فإذا فرغ من الجهاد رد الفرس إليه، ولكن إذا نودي للجهاد وجب عليه أن يدفع فرسه لمن يحمل عليه، أي: للمحتاج إليه.

    الشاهد من هذا: أن حمل الفرس في الجهاد بخلاف حمل الفارس على الفرس، الحمل تمليك، إذا دفعت إليك الفرس وقلت لك: حملتك عليه، أي: ملكتك إياه ليحملك في الجهاد، وهذا معنى الحمل.

    فقول عمر : (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)، كأنه أراد أن يقول: ملكت فلاناً الفرس للحمل عليه في سبيل الله عز وجل.

    ثم قال: [ (فأضاعه صاحبه) ] أي: مالكه ضيع هذا الفرس الذي حملته عليه، بمعنى لم يعتن به ولم يعلفه ولم يكرمه، بل قصر في خدمة الفرس من حيث الإطعام؛ لأن هذا المحمول كان فقيراً قليل المال، حتى أصيب الفرس بضعف وهزال، ولكنه على أية حال بمجرد أن انتقل من ملك عمر رضي الله عنه فقد تملكه هذا المسلم.

    ثم قال: [ (فأضاعه صاحبه فظننت أنه بائعه برخص) ] يعني: غلب على ظني لقلة مال المحمول أنه في يوم لا بد أن يبيعه؛ لأنه ليس له مال، ولا يستطيع أن يقوم على خدمة الفرس.

    فوقع في نفس عمر شراء هذا الفرس مرة أخرى؛ لأنه فرس عتيق جيد سريع.

    ثم قال: [ (فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك) ].

    يعني: أن الصحابة رضي الله عنهم ما تردد في أنفسهم شيء يتعلق بالحلال والحرام إلا ويرجعون إلى المرجعية العظمى، وهو النبي عليه الصلاة والسلام في معرفة الحلال والحرام في جميع شئونهم.

    ولما حاك في نفس عمر رضي الله عنه أن يشتري هذا الفرس لو أراد صاحبه أن يبيعه، ظن أن هذا البيع ربما يكون فاسداً وباطلاً، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [ (لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك) ] أي: لا تشتره، معنى الابتياع: الشراء.

    فالنبي عليه الصلاة والسلام سمى شراء الصدقة رجوعاً فيها، حتى ولو كان بعوض، فما بالك بمن يتصدق ويرجع في صدقته، أو يتصدق ويمنُّ بهذه الصدقة، لا شك أن المن بالصدقة من الكبائر؛ ولذلك أخرج مسلم في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان، والمسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب).

    (المنان)، أي: الذي يعطي العطية ثم يقول لمن أعطاه: أنا أعطيتك يوم كذا وكذا وكذا، ويظل يمن بها عليه، فهذا بلا شك قد أضاع أجره، ولو قال قولاً معروفاً ولم يتصدق لكان خيراً له، فهنا قال: [(لا تبتعه ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)].

    يعني: الذي يتصدق ويأخذ الصدقة مرة أخرى، ولو عن طريق الشراء، كالكلب يقيء ما في بطنه، ثم يأكل هذا القيء مرة أخرى.

    جمهور أهل العلم على أن القيء نجس، خاصة قيء الكلب، ولذلك مثل به النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لم يقل: كالرجل مثلاً يعود في قيئه، وإنما قال: (كالكلب)؛ لأن الكلب نجس لعابه، وهذا مذهب جميع الفقهاء، فإذا كان اللعاب نجساً، فكذلك قيئه يكون نجساً.

    وذهب جماهير العلماء إلى أن آكل القيء كآكل النجس، وهو حرام، وهذا مذهب من قال: إن العودة في الصدقة حرام، وبعضهم قال: مكروه إلا الوالد مع ولده.

    شرح حديث: (... لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم)

    قال: [ وحدثنيه زهير بن حرب أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد، قال: حدثنا عبد الرحمن يعني: ابن مهدي - وعبد الرحمن بن مهدي إمام كبير ثقة، بل حجة حافظ، تلميذ الإمام الثوري ، وهو بصري- عن مالك بن أنس بهذا الإسناد وزاد: (لا تبتعه، وإن أعطاكه بدرهم) ].

    أي: لا تشتر صدقتك التي تصدقت بها ممن تصدقت عليه، ولو كان سيبيعها منك بأبخس الأثمان، لا تفرح بذلك.

    فهذا الفرس الذي تصدق به عمر رضي الله عنه يشار إليه بالبنان، ومع هذا لو باعه صاحبه بدرهم فليس لـعمر رضي الله عنه أن يشتريه منه؛ لأنه قد وهبه له أو تصدق به عليه، ولا يجوز الرجوع في الهبة ولا في الصدقة.

    شرح حديث: (... لا تشتره وإن أعطيته بدرهم..)

    شرح حديث: (... لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)

    قال: وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع -وهو نافع الفقيه مولى ابن عمر - عن ابن عمر : (أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله فوجده يباع، فأراد أن يبتاعه -أي: يشتريه- فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك).

    وحدثناه قتيبة بن سعيد وابن رمح جميعاً عن الليث بن سعد، (ح) وحدثنا المقدمي -وهو محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي - ومحمد بن المثنى البصري قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - (ح) وحدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبي، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - كلهم عن عبيد الله ، كلاهما عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث مالك ].

    و عبيد الله هو ابن عمر العمري أخو عبد الله ، لكن عبيد الله المصغر إمام كبير ثقة حجة، بخلاف عبد الله المكبر فهو ضعيف، وكلاهما من نسل عمر بن الخطاب .

    أما قوله: (كلاهما) الأصل عدم وجودها؛ لأن الأربعة يروون عن عبيد الله ، وعبيد الله تلميذ نافع، وليس تلميذ ابن عمر ؛ فالصواب حذف (كلاهما)؛ لأن (كلاهما) تدل على اثنين.

    ولأن الإسناد الأول ينتهي إلى الليث ، والثاني ينتهي إلى القطان ، والثالث إلى ابن نمير، والرابع إلى أبي أسامة ، فهؤلاء كلهم عن عبيد الله ، وعبيد الله عن نافع، أما (كلاهما) فلم أجد لها مسوغاً هنا، حتى إن الحافظ ابن حجر حينما علق على هذا الإسناد لم يذكر (كلاهما) في الفتح.

    شرح حديث (... لا تعد في صدقتك يا عمر)

    الفوائد المستنبطة من باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه

    فوائد هذا الباب: إذا كان الغرض من الصدقة هو ثواب الآخرة، فكأن الراجع في صدقته قد آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وكأنه يقول بلسان حاله: ثواب الدنيا خير من ثواب الآخرة؛ ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام.

    ويلتحق بالصدقة والهبة الكفارات والأجور والزكوات.. وغيرها، فلو أن رجلاً عنده إبل، أخرج زكاة الإبل، أو غنماً أخرج منها خمس شياه، فوجد هذه الشياه بعد أن وصلت إلى يد الفقير يبيعها في السوق، هل يجوز له أن يشتريها؟ هل الزكوات من عقود الهبات أم المعاوضات؟

    فكل خارج يخرج من يدك إلى الآخرين بغير عوض؛ فهو من عقود الهبات، فالكفارات كلها بجميع أنواعها، والنذور بجميع أنواعها، والزكوات والواجبات والصدقات بعمومها وإطلاقها؛ كل هذه أموال تخرج من يدك بغير عوض، فحكمها واحد.

    وأفاد الحديث كذلك: كراهة الرجوع في الصدقة، وبعضهم حرمه قال: لفظ الحديث وظاهره يفيد التحريم، وذلك بضرب المثل، ثم هو ظاهر النهي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبتعه يا عمر !) هنا نهي، والنهي يدل على التحريم، ما لم يصرفه صارف، لكن قال الجمهور: النهي هنا للتنزيه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهاه نهي إرشاد، فحملوا النهي على الإرشاد.

    ودليل القائلين بأن النهي هنا للتحريم: المثل المضروب، فإن الراجع في هبته أو في صدقته كالكلب يرجع في قيئه، قالوا: وهذا زجر شديد جداً لا يستقيم مع الكراهة، إنما يستقيم مع التحريم. والذي يترجح لدي أن الراجع في صدقته يحرم عليه ذلك.

    كما أفاد الحديث: فضل الحمل في سبيل الله عز وجل للغزو والقتال والجهاد، والمعاونة على ذلك بشتى أنواع الحمل، لا يلزم أن تحمله على فرس، بل تجهيز الغازي في سبيل الله عز وجل بالمال كاف؛ لأن المال حمل، بالطعام كاف، بالفرس، بالطائرة، بالدبابة.. بغير ذلك مما هو في مقدور الحامل، فلو فعله لكان حاملاً في سبيل الله عز وجل؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من لم يغز ولم يجهز غازياً، ولم تحدثه نفسه بالغزو، فمات يوم يموت، إلا مات ميتة جاهلية).

    ومن لا ينفع غيره، ولا تحدثه نفسه أن يشارك، فإلى متى يظل بهذا الشكل؟ لابد للإنسان أن يقعد مع نفسه مرة ويسأل نفسه: إلى متى نظل نسمع الدعاة يعظوننا في المشاركة في الجهاد، وليس عندنا أي استعداد أبداً للتجاوب مع أي دعوة؟ لا، لابد أن نستعد من الآن؛ حتى إذا أتى الوقت المناسب لا ننتظر حتى نستعد، ولا ينادى علينا للجهاد، فنقول: لماذا الجهاد؟ وما الذي حصل؟

    إذاً: ينبغي أن يظل الواحد منا يحدث نفسه عن الجهاد، وضرورة الاستعداد له.

    كما أفاد الحديث كذلك: أن الحمل في سبيل الله تمليك، فإذا أعطيتك فرساً، فإن هذا الفرس ملكك؛ ولذلك لا يجوز لي أخذ هذا الفرس مرة أخرى، ولو بالبيع والشراء.

    كما يجوز للمحمول على الفرس أن يبيعه، وأن ينتفع بثمنه، إما قبل الغزو والجهاد، وإما بعد الغزو والجهاد عليه، يستوي هذا وذاك.

    كلام النووي في حديث عمر: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)

    قال النووي : (قوله: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)، معناه: تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، والعتيق: هو الفرس النفيس الجواد السابق) أي: المسرع الذي يسبق غيره.

    ثم قال: ( قوله: (فأضاعه صاحبه)، أي: قصر في القيام بعلفه ومؤنته.

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)، هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء أو أخذه في زكاة أو كفارة أو نذر.. ونحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه، أو يهبه، أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه).

    يعني: الوالد إذا وهب ولده شيئاً؛ فله أن يرجع في هذه الهبة، أما الولد إذا وهب والديه أو أحدهما شيئاً؛ فلا يجوز له أن يأخذ هذه الهبة إليه مرة أخرى، إلا عن طريق الميراث؛ لأنه لما وهبه وهبه بالطريقة الشرعية، ولما انتقل إليه الميراث انتقل بطريق شرعي.

    حدثت مشكلة منذ عدة أشهر وهي: أن رجلاً كان موسعاً عليه في المال، وكان يعطي والده ووالدته من بعد والده من ماله، فلما ماتت والدته نازع الورثة بأن هذا الولد الذي كان يعطي لوالديه المال لا يجوز له أن يأخذ من هذا الميراث، واستدلوا بهذا الحديث، قالوا: لأنه كان واهباً ومتصدقاً، وهذا المال الذي ينتقل الآن عن طريق الإرث معظمه مال هذا المتصدق، وبالتالي فلا يحل له أن يأخذ منه شيئاً.

    فجاءوا إلي فقلت لهم: ينتقل إليه عن طريق الميراث.

    قالوا: دليلك؟

    قلت: دليلي كيت وكيت وكيت..

    قالوا: كثير من العلماء لم يقولوا كذا.

    المهم حصلت مشكلة مفادها أن ذلك اتباع للهوى، وهذا هو حال كثير من الناس، ما دام في صالحه وافقك، وإلا لو أتيته بمئات الأدلة من كتاب الله ومن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الأدلة تمنعه من أخذ بعض متاع الدنيا، فإنه لا يوافقك.

    المهم أنك إن وافقتهم وافقوك، وإن خالفتهم ولو كان معك الكتاب والسنة خالفوك.

    ثم قال: (وقد سبق بيان هذا في كتاب الزكاة، وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه المتصدق فلا كراهة).

    يعني: لو أن هذا الرجل الذي تصدقت عليه وحملته على هذا الفرس اسمه عمرو، فقام عمرو وباع هذا الفرس من غيرك، فيجوز لك أنت كمتصدق بهذا الفرس أصلاً أن تشتريه من غيره بلا كراهة، إنما المحظور أن تشتريه ممن تصدقت عليه، أما من غيره فلا حرج في ذلك، لكن يشترط أن يكون البائع الآخر مالكاً له، لا موكلاً من قبل صاحبه؛ لأن الموكل والوكيل كلاهما سيحابي صاحب الفرس المتصدق به أولاً.

    أما الآخر فإنه يبيعه دون محاباة، وينازع في الحصول على أعلى سعر لهذا الفرس، بخلاف المتصدق عليه.

    ثم قال: (هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته للتحريم لا للكراهة، والله أعلم).

    1.   

    ذكر الفوائد المستنبطة من باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه

    فوائد هذا الباب: إذا كان الغرض من الصدقة هو ثواب الآخرة، فكأن الراجع في صدقته قد آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وكأنه يقول بلسان حاله: ثواب الدنيا خير من ثواب الآخرة؛ ولذلك نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام.

    ويلتحق بالصدقة والهبة الكفارات والأجور والزكوات.. وغيرها، فلو أن رجلاً عنده إبل، أخرج زكاة الإبل، أو غنماً أخرج منها خمس شياه، فوجد هذه الشياه بعد أن وصلت إلى يد الفقير يبيعها في السوق، هل يجوز له أن يشتريها؟ هل الزكوات من عقود الهبات أم المعاوضات؟

    فكل خارج يخرج من يدك إلى الآخرين بغير عوض فهو من عقود الهبات، فالكفارات كلها بجميع أنواعها، والنذور بجميع أنواعها، والزكوات والواجبات والصدقات بعمومها وإطلاقها؛ كل هذه أموال تخرج من يدك بغير عوض، فحكمها واحد.

    وأفاد الحديث كذلك: كراهة الرجوع في الصدقة، وبعضهم حرمه، قال: لفظ الحديث وظاهره يفيد التحريم، وذلك بضرب المثل، ثم هو ظاهر النهي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبتعه يا عمر !) هنا نهي، والنهي يدل على التحريم، ما لم يصرفه صارف، لكن قال الجمهور: النهي هنا للتنزيه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهاه نهي إرشاد، فحملوا النهي على الإرشاد.

    ودليل القائلين بأن النهي هنا للتحريم: المثل المضروب، فإن الراجع في هبته أو في صدقته كالكلب يرجع في قيئه، قالوا: وهذا زجر شديد جداً لا يستقيم مع الكراهة، إنما يستقيم مع التحريم. والذي يترجح لدي أن الراجع في صدقته يحرم عليه ذلك.

    كما أفاد الحديث: فضل الحمل في سبيل الله عز وجل للغزو والقتال والجهاد، والمعاونة على ذلك بشتى أنواع الحمل، لا يلزم أن تحمله على فرس، بل تجهيز الغازي في سبيل الله عز وجل بالمال كاف؛ لأن المال حمل، بالطعام كاف، بالفرس، بالطائرة، بالدبابة.. بغير ذلك مما هو في مقدور الحامل، فلو فعله لكان حاملاً في سبيل الله عز وجل؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من لم يغز ولم يجهز غازياً، ولم تحدثه نفسه بالغزو، فمات يوم يموت إلا مات ميتة جاهلية).

    ومن لا ينفع غيره، ولا تحدثه نفسه أن يشارك، فإلى متى يظل بهذا الشكل؟ لابد للإنسان أن يقعد مع نفسه مرة ويسأل نفسه: إلى متى نظل نسمع الدعاة يعظوننا في المشاركة في الجهاد، وليس عندنا أي استعداد أبداً للتجاوب مع أي دعوة؟ لا، لابد أن نستعد من الآن، حتى إذا أتى الوقت المناسب لا ننتظر حتى نستعد، ولا ينادى علينا للجهاد فنقول: لماذا الجهاد؟ وما الذي حصل؟

    إذاً: ينبغي أن يظل الواحد منا يحدث نفسه عن الجهاد وضرورة الاستعداد له.

    كما أفاد الحديث كذلك: أن الحمل في سبيل الله تمليك، فإذا أعطيتك فرساً فإن هذا الفرس ملكك؛ ولذلك لا يجوز لي أخذ هذا الفرس مرة أخرى، ولو بالبيع والشراء.

    كما يجوز للمحمول على الفرس أن يبيعه، وأن ينتفع بثمنه، إما قبل الغزو والجهاد، وإما بعد الغزو والجهاد عليه، يستوي هذا وذاك.

    1.   

    كلام النووي في حديث عمر في باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه

    قال النووي رحمه الله تعالى: (قوله: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)، معناه: تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، والعتيق: هو الفرس النفيس الجواد السابق) أي: المسرع الذي يسبق غيره.

    قال: ( قوله: (فأضاعه صاحبه)، أي: قصر في القيام بعلفه ومؤنته.

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)، هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء أو أخذه في زكاة أو كفارة أو نذر.. ونحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه، أو يهبه، أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه).

    يعني: الوالد إذا وهب ولده شيئاً فله أن يرجع في هذه الهبة، أما الولد إذا وهب والديه أو أحدهما شيئاً فلا يجوز له أن يأخذ هذه الهبة إليه مرة أخرى إلا عن طريق الميراث؛ لأنه لما وهبه وهبه بالطريقة الشرعية، ولما انتقل إليه الميراث انتقل بطريق شرعي.

    حدثت مشكلة منذ عدة أشهر وهي: أن رجلاً كان موسعاً عليه في المال، وكان يعطي والده ووالدته من بعد والده من ماله، فلما ماتت والدته نازع الورثة بأن هذا الولد الذي كان يعطي لوالديه المال لا يجوز له أن يأخذ من هذا الميراث، واستدلوا بهذا الحديث، قالوا: لأنه كان واهباً ومتصدقاً، وهذا المال الذي ينتقل الآن عن طريق الإرث معظمه مال هذا المتصدق، وبالتالي فلا يحل له أن يأخذ منه شيئاً.

    فجاءوا إلي فقلت لهم: ينتقل إليه عن طريق الميراث.

    قالوا: دليلك؟

    قلت: دليلي كيت وكيت وكيت..

    قالوا: كثير من العلماء لم يقولوا كذا.

    المهم حصلت مشكلة مفادها أن ذلك اتباع للهوى، وهذا هو حال كثير من الناس، ما دام في صالحه وافقك، وإلا لو أتيته بمئات الأدلة من كتاب الله ومن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لكن هذه الأدلة تمنعه من أخذ بعض متاع الدنيا فإنه لا يوافقك.

    المهم أنك إن وافقتهم وافقوك، وإن خالفتهم ولو كان معك الكتاب والسنة خالفوك.

    قال: (وقد سبق بيان هذا في كتاب الزكاة، وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه المتصدق فلا كراهة).

    يعني: لو أن هذا الرجل الذي تصدقت عليه وحملته على هذا الفرس اسمه عمرو، فقام عمرو وباع هذا الفرس من غيرك، فيجوز لك أنت كمتصدق بهذا الفرس أصلاً أن تشتريه من غيره بلا كراهة، إنما المحظور أن تشتريه ممن تصدقت عليه، أما من غيره فلا حرج في ذلك، لكن يشترط أن يكون البائع الآخر مالكاً له، لا موكلاً من قبل صاحبه؛ لأن الموكل والوكيل كلاهما سيحابي صاحب الفرس المتصدق به أولاً.

    أما الآخر فإنه يبيعه دون محاباة، وينازع في الحصول على أعلى سعر لهذا الفرس، بخلاف المتصدق عليه.

    قال: (هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته للتحريم لا للكراهة، والله أعلم).

    1.   

    باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل

    قال: [ باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض، إلا ما وهبه لولده وإن سفل ].

    قوله: (وإن سفل).

    يعني: وإن نزل، يعني: ولده أو ولد ولده وإن نزل.

    فقوله: (باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض)، يعني: لو أني الآن نويت أن أتصدق عليك بصدقة، وهذه الصدقة لم أدفعها إليك، ولكني ميزتها عن بقية المال، فقلت: هذه الصدقة أو هذا الفرس سوف أعطيه غداً صباحاً إن شاء الله لفلان، فلما جاء الليل قلت: لا، هذا الفرس لن أتصدق به، ثم أتيت في اليوم الثاني فقلت: بل أتصدق به، وأتيت بهذا الفرس بخطامه ولجامه فدفعته إليك فقبضته مني فانصرفت عني. فصورة الرجوع الأولى التي بدَّلت فيها وغيَّرت نيتي، هل آثم بذلك؟ والصورة الثانية بعد أن دفعته إليك وقبضته مني، هل يجوز لي الرجوع فيها بعد القبض؟ هذا الذي يفرق فيه أهل العلم بين الصدقة المقبوضة وغير المقبوضة.

    في غير المقبوض يجوز للمتصدق أو الواهب أن يرجع عنها، أما بعد القبض فلا يجوز له ذلك.

    فقوله هنا: (باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل) هنا استثنى واحداً، وهو أن يتصدق الوالد على ولده؛ فله أن يرجع في صدقته إن احتاجه، فالأصل ألا يرجع هو كذلك؛ لكن إذا احتاج إلى الرجوع فله أن يرجع ولا حرج عليه؛ لأن الولد وما يملك لأبيه.

    شرح حديث: (مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله)

    قال: [ حدثني إبراهيم بن موسى الرازي وإسحاق بن إبراهيم -أي: ابن راهويه - قالا: أخبرنا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، حدثنا الأوزاعي -وهو عبد الرحمن بن عمرو البيروتي اللبناني إمام الشام في زمانه- عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن ابن المسيب - وهو سعيد بن المسيب المدني - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يرجع في صدقته، كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله) ].

    هذا مثل نبوي عظيم جداً يصور الأمر كأنه صورة حية أمامه، كلب يقيء ما في بطنه ثم يعود فيأكل قيئه، وهكذا المتصدق الذي يعود في صدقته.

    قال: [ وحدثناه أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني الكوفي أخبرنا ابن المبارك عن الأوزاعي قال: سمعت محمد بن علي بن الحسين يذكر بهذا الإسناد، نحوه.

    وحدثنيه حجاج بن الشاعر حدثنا عبد الصمد -وهو ابن عبد الوارث - حدثنا حرب حدثنا يحيى -وهو ابن أبي كثير اليمامي - حدثني عبد الرحمن بن عمرو -وهو الأوزاعي - أن محمد بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بهذا الإسناد نحو حديثه.

    وحدثني هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى قالا: حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب القاضي المصري - أخبرني عمرو -وهو عمرو بن الحارث المصري - عن بكير -وهو ابن عبد الله الأشج - أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما مثل الذي يتصدق بصدقة ثم يعود في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يأكل قيئه) ].

    شرح حديث: (العائد في هبته كالعائد في قيئه)

    قال: [وحدثناه محمد بن المثنى -وهو العنزي البصري المعروف بـالزمن- ومحمد بن بشار -وهو الملقب بـبندار- قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو الملقب بـغندر، وغندر في لغة أهل الحجاز المشاغب، وكان محمد بن جعفر يشغب على ابن جريج ؛ فلقبه بهذا- قال: حدثنا شعبة : سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب ].

    قتادة بن دعامة السدوسي البصري إمام من أئمة الرواية، ولكنه مدلس، والمدلس إذا صرح قبل حديثه وإلا فلا، وهنا قد صرح، فقول شعبة : (سمعت قتادة يحدث عن سعيد ) كأنه يقول: قال سعيد أو عن سعيد ، لكن رواية قتادة عن شيوخه إذا كانت من طريق شعبة ؛ فمحمولة على السماع وإن لم يصرح؛ لأن شعبة قال: أنا أكفيكم رواية قتادة ؛ فإني كنت أتتبع فاه، فما قال فيه: سمعت وحدثنا رويته عنه، وما قال فيه: قال، أو عن لم أروه عنه.

    والتدليس خمس مراتب، والمدلسون على خمس طبقات، والكلام في التدليس إذا كان كلاماً عاماً مطلقاً فهو محمول دائماً على النوع الثاني من التدليس.

    وسنتكلم عن أنواع التدليس بعد أن ننتهي من الباب.

    لكن اعلم أن حديث قتادة وإن لم يصرح فيه بالسماع إذا كان من طريق شعبة فهو محمول على السماع، فما بالك إن صرح كما هو الآن، كما لم ينفرد بهذه الرواية، إنما له عشرات الرواة وافقوه على روايته هذه.

    قال: [ حدثنا شعبة : سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العائد في هبته كالعائد في قيئه).

    وحدثناه محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة بهذا الإسناد مثله ].

    بعض الرواة صحف سعيداً إلى شعبة ؛ لأنهما في الرسم واحد، فحينما تكتب سعيداً وتكتب شعبة بغير ضبط ولا نقط ولا تشكيل؛ يمكن تصحيف سعيد إلى شعبة، وشعبة إلى سعيد؛ لأن الرسم واحد، كـحمزة وجمرة أو حمرة الرسم واحد، ودائماً حينما تأتي تنظر في المخطوطات القديمة تجدها بغير نقط ولا ضبط ولا تشكيل ولا غير ذلك، ولذلك تصحف على كثير من المحدثين والعلماء كثير من قراءتهم من المخطوطات القديمة.

    ويدرك ذلك أهل العلم الذين تلقوا العلم من أفواه العلماء، أو أهل اللغة الذين يعرفون استقامة المعنى من عدمه في أثناء سماعهم لهذا من أفواه العلماء.

    ولذلك إذا روى عن قتادة سعيد فهو سعيد بن أبي عروبة ، فإذا أتاك أي إسناد في أي كتاب من كتب السنة سعيد عن قتادة وسعيد هذا غير منسوب، فهو سعيد بن أبي عروبة لا غيره، مع أنه روى عن قتادة من اسمه سعيد كثيرون، لكن بغير نسبة فهو سعيد بن أبي عروبة ؛ لأنه كان معروفاً بالملازمة لـقتادة ، وعلى يديه تخرج سعيد بن أبي عروبة .

    شرح حديث: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)

    قال: [ وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -المعروف بـابن راهويه - أخبرنا المخزومي -وهو المغيرة بن سلمة أبو هشام البصري - حدثنا وهيب حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه -وهو طاوس بن كيسان اليماني - عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) ].

    يقول الإمام النووي : (هذا ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضهما، وهو محمول على هبة الأجنبي، أما إذا وهب لولده وإن سفل؛ فله الرجوع فيه كما صرح به في حديث النعمان بن بشير ، ولا رجوع في هبة الإخوة والأعمام.. وغيرهم من ذوي الأرحام، وهذا مذهب الشافعي ، وبه قال مالك والأوزاعي ، وقال أبو حنيفة وآخرون: يرجع كل واهب إلا الولد، وكل ذي رحم محرم).

    الذي يترجح هو مذهب جماهير العلماء دون مذهب الأحناف، أن كل واهب يحرم عليه أن يرجع في هبته إلا الوالد، فله أن يرجع في هبته لولده، ولو كان ذلك بعد القبض.

    1.   

    حقيقة التدليس وأنواعه

    التدليس: هو الإيهام، أي: ذكر كلام يفهمه المستمع على نحو، ويريد منه المتكلم نحواً آخر. يعني: أنا أوهمك أني سمعت فلاناً يقول شيئاً، وأنا قد سمعته فعلاً وتتلمذت على يديه، لكن هذا الكلام بالذات الذي أنقله لك الآن لم أسمعه منه، فأنا لا أقول: حدثني فلان، ولا أخبرني فلان، ولا سمعت فلاناً، وإنما أقول: قال فلان، وعن فلان.

    فمثلاً: سمعت منه جزءاً حديثياً له، وهذا الجزء فيه مائة حديث، لكني لم أسمع منه إلا تسعين حديثاً فقط، وتوفي الشيخ أو رحل قبل أن أسمع العشرة الباقية، ولكن وقع في يدي نسخة الأحاديث لهذا الشيخ، فعز علي بعد أن سمعت معظم هذا الجزء أن أروي بعضه، فقلت في التسعين حديثاً: حدثني فلان.. حدثني فلان.. حدثني فلان، والناس يعرفون أني تلميذ له، وأني سمعت هذا الجزء الحديثي منه، ثم أتيت على العشرة الأحاديث الباقية فقلت فيها: عن فلان، أُعَرّضُ للمستمع بروايتي عنه، وأنا لم أسمع منه هذه الأحاديث العشرة.

    فهذا يسمى تدليس الإسناد؛ ولذلك نحن نقول: شرط تدليس الإسناد: أن يصرح المدلس بالسماع من شيخه.

    أما تدليس التسوية فهو نوع ثان من أنواع التدليس، وهو أشر من تدليس الإسناد.

    وتدليس التسوية: أن يكون المدلس أدرك الشيخ الذي يروي عنه، بل وهذا الحديث بعينه الذي يرويه قد سمعه حقاً من الشيخ، فهو يقول فيه: حدثني فلان، وهو صادق في هذا، لكن المدلس بهذا النوع يعمد إلى راو ضعيف فوق شيخه لا تقبل روايته فينقصه من الرواية والإسناد، فمثلاً: إذا كان بقية بن الوليد يروي عن الأوزاعي عن الحارث عن فلان، والحارث ضعيف، فيقوم بقية فيسقط الحارث ؛ لأنه ضعيف، فبدل ما كان الأوزاعي يقول: حدثني الحارث عن إبراهيم أو عن سعيد، يقول: قال الأوزاعي : عن سعيد ، ويكون قد أسقط راوياً ضعيفاً بين راويين ثقتين، وسمي هذا بتدليس التسوية؛ لأن المدلس يعمد إلى شيخ شيخه وهو ليس عدلاً ولا أهلاً للرواية فيسقطه ليسوي الإسناد كله ثقات، وهذا ما كان يفعله بقية ؛ ولذلك يقول علي بن مسهر : كن من بقية على تقية؛ فإن أحاديثه ليست نقية.

    فـبقية هو أستاذ تدليس التسوية، فأي إسناد فيه بقية احذر منه، وتوقف عند كل راو، وانظر كيف تحمَّل، هل تحمل سماعاً أو عنعنة، ولذلك بقية لما كان يسقط شيوخ الأوزاعي الضعفاء، والأوزاعي مع إمامته كان يروي عن ضعفاء، فقيل لـبقية : لم أسقطت فلاناً؟ قال: لأنه ضعيف، وأنا أجلُّ الأوزاعي أن يروي عن ضعفاء. ما يخصك من ذلك؟ هو روى عنه، فأنت لا تسقط من روى عنه، فمن أثبت الإسناد فقد برئت ذمته وعهدته، وهذا من الأصول عند أهل العلم.

    يقول العلماء: في تدليس الإسناد يلزم المدلس فقط التصريح بالسماع من شيخه، أما في تدليس التسوية فيلزم المدلس بالتصريح بالسماع من عنده إلى آخر السند؛ لأن تدليسه يقع على الإسناد كله وليس على طبقته هو فقط، ولذلك أي إسناد فيه مدلس معروف بتدليس التسوية يُلزم التصريح بالسماع في جميع طبقات السند فوق المدلس.

    أما تدليس الشيوخ فهو: أن يكون المدلس ليس له إلا شيخ واحد، فيسميه مرة، ويكنيه مرة، ويلقبه مرة، مما يوهم المستمع أن هؤلاء شيوخ متعددون وكثرة، وهو في الحقيقة شيخ واحد.

    واشتهر بهذا الخطيب البغدادي وابن الجوزي ..وغيرهما من أهل العلم.

    أما تدليس البلاد، فالحامل عليه والغرض منه إيهام المستمع الرحلة في طلب العلم، كأن تقول مثلاً: حدثني فلان فيما وراء النهر، وفي الحقيقة إنما توجد ترعة بينك وبين الذي حدثك، فتقول: حدثني فلان في بلاد ما وراء النهر، وأنت تقصد تلك الترعة التي بينك وبينه، فالمستمع له يظن بلد ما وراء النهر حقيقة. كذلك مثلاً: لو قال: حدثني فلان بالأندلس، المستمع سيظنه الأندلس القطر المعروف، ثم يفاجأ بأن الأندلس هذه اسم لشارع، أو اسم حي شعبي، ففي هذه الحالة هذا تدليس.

    كذلك حينما يقول شخص: وقد ألفت هذا الكتاب في مدينة الرياض في سنة كذا، وانتهيت منه بعد صلاة العشاء، فالقارئ سيقع في قلبه أنها الرياض التي في أرض الحجاز، وهي في الحقيقة عبارة عن عزبة اسمها الرياض، فذلك من تدليس البلاد، وهو نوع من أنواع كثيرة، لكن على أية حال أخطر أنواع التدليس على الإطلاق تدليس التسوية، ثم يليه الإسناد، ثم يليه الشيوخ.

    1.   

    طبقات المدلسين

    أما طبقات المدلسين فخمس طبقات:

    الطبقة الأولى: أناس لم يدلسوا قط إلا في حديث أو حديثين؛ فننظر إلى الشخص من حيث الإمامة والمكانة، مثل: يحيى بن سعيد الأنصاري ، هذا روى أكثر من ثلاثمائة ألف حديث، ولم يدلس إلا في حديث، وهو نفسه يقول: ما دلست إلا في حديث واحد، فما بورك لي فيه. ولكن لم يقل ما هو هذا الحديث، ولم يعرف أحد هذا الحديث، فهل نطرح هذه الآلاف المؤلفة من الأحاديث من أجل حديث واحد؟ لا، ولا يقول بهذا إلا إنسان مجنون.

    فهذه الطبقة الأولى، فنحن احتملنا هذا التدليس، ولا نبحث حتى مجرد البحث عن هذا الحديث الذي ثبت أنه دلس فيه.

    الطبقة الثانية: أناس عرفت أمامتهم وجلالتهم دلسوا، ولكن تدليسهم بجنب روايتهم لا يكاد يذكر، مثل: سفيان بن عيينة والثوري مع إمامتهما وجلالتهما، واتفاق الشيخين البخاري ومسلم على الرواية لهما.

    الطبقة الثالثة من المدلسين: هم كثرة كاثرة من الرواة دلسوا تارة تدليس التسوية، وتارة الإسناد الذي قد ذكرته هنا، فهذا التدليس نتوقف فيه إلى أن يثبت لنا السماع.

    الطبقة الرابعة: قوم مدلسون وهم ضعفاء، أو مختلف فيهم، فالذي يثبته يقبل حديثه بشرط الطبقة الثالثة، أي إذا صرح، والذي يضعفه يرد روايته.

    وينظر في ضعفهم، هل ضعفهم مما يجبر، أو لا يجبر؟

    وهذا محل ضبط وبحث عند أهل السند.

    الطبقة الخامسة: قوم وضاعون أو كذابون أو ضعفاء ضعفاً لا يحتمل، ومع ذلك هم مدلسون، فهؤلاء لو صرحوا بالتحديث لا تقبل روايتهم؛ لأنهم كذابون وضاعون أو ضعفاء جداً أو منكرو الحديث.

    ومناط البحث في التدليس هو الطبقة الثالثة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من حلف عدة أيمان ولم يكفر عنها وقد نسي مقدارها

    السؤال: حلف شخص عدداً من الأيمان، ولا يتذكر منها إلا القليل، ولم يكفر عن هذه الأيمان فماذا يفعل؟

    الجواب: على أية حال هو غير مكلف بتكفير الأيمان التي نسيها، وإنما ما تذكره يكفر عنه وجوباً، وإن كثرت الأيمان على الشيء الواحد كثرت الكفارات، يعني: لو حلف على شيء واحد عدة أيمان، وحنث فيها؛ فإنه يلزمه مع كل يمين كفارة، ليس مع كل عمل.

    حكم بيع الفرس الموهوب للجهاد قبل الجهاد به

    السؤال: ما الدليل على جواز البيع للفرس الموهوب قبل الجهاد به؟

    الجواب: هذا الحديث نفسه من رواية ذكرها الإمام البخاري في كتاب الهبة، يقول: (حمل عمر على فرس له في سبيل الله عز وجل، فوجد المحمول فرسه هزيلاً من قلة الطعام)، يقول الحافظ ابن حجر : أي وجده المحمول لا يصلح للجهاد. فرجح الحافظ ابن حجر في الفتح جواز بيع الفرس الموهوب قبل أداء مهمة الهبة أو الصدقة.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755916684