إسلام ويب

مقياس تمايز الناسللشيخ : أحمد القطان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تمايز الناس في الدنيا والآخرة هو بعقائدهم، ولقد ميّز الله المسلمين بعقيدة الأنبياء والمرسلين، وما تخبط من تخبط من المسلمين أو غيره إلا بسبب انحرافه عن صفاء هذه العقيدة إلى العكر والكدر من عقائد أهل الكلام والمنطق والفلسفة. وما ذكره الشيخ من أمثلة لهؤلاء كافٍ في أخذ العبرة وترك السير في طريقهم، مع البحث عن العقيدة الصافية النقية.

    1.   

    أثر العقيدة السليمة في تميز أصحابها

    الحمد لله رب العالمين، اللهم إنا نسألك حسن الاعتقاد، ونور اليقين، وصلاح العمل، وحلاوة الإيمان، وبركة الدعوة، وإجابة الدعاء، وأنس الذكر.

    أيها الأحباب الكرام: إني أحبكم في الله، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياكم في ظل عرشه ومستقر رحمته.

    يتمايز الناس في الدنيا والآخرة بعقائدهم، والله سبحانه وتعالى جعل عقيدة المسلمين أكمل العقائد، وهي الأمة الوحيدة التي تعرف خالقها، وتعبد رباً معروفاً معلوماً لكل عابد فيها، فقد علمهم الله تسعة وتسعين اسماً من أسمائه الحسنى يوحدونه بها، ولا يوجد دين على وجه الأرض الآن العابدون فيه يعلمون عن معبودهم أسماءً حسنى كأسماء الله، حتى الديانات السماوية تحرفت فيها معاني أسماء الله وضل وانحرف أهلها.

    فاليهود -مثلاً- يعتقدون أن الله يعلم وأنه عليم، لكن مادام هناك غرفة فيها شخص فهو لا يرى ولا يعلم ما يجول في داخل الغرفة؛ لهذا هم في معظم مؤامراتهم يعقدونها ضد كل البشرية تحت سقف، ويضعون فيها كل الغش والكذب والخداع والنصب والاحتيال والتزوير وهم يقولون: نحن سالمون من النار؛ لأن بيننا وبين هذا الإله سقف؛ فهو لا يرى كل هذا التآمر؛ لهذا يقول الله تعالى في كتابه الكريم في سورة البقرة: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة:77] ولكن عقيدتهم في هذه الصفة لله وهذا الاسم منحرفة.

    فنحمد الله سبحانه وتعالى الذي ميزنا نحن بعقيدة أهل السنة والجماعة؛ هذه العقيدة الصافية السليمة النظيفة الكاملة، فأنت تعبد رباً معلوماً معروفاً، وإذا مر عليك في دنياك ما يمر على الناس من أمراض وحوائج وفقر وجوع وخوف... إلى آخره، تعرف كيف تدعوه فتقول: يا رزاق؛ لاستجلاب الرزق، يا غفور؛ في مغفرة الذنب، يا رحمن؛ لاستنزال رحماته، يا شافي؛ ترجو منه الشفاء، يا قوي يا متين؛ تستمد منه القوة.. وهكذا.

    لكن الذي يعبد البقرة ماذا يقول؟! وكيف يناديهم؟!

    أقصى ما يفعل عباد البقرة أن يأخذوا من روثها ويضعونه على جباههم، وانظر إلى أي مدى تبلغ العقيدة بصاحبها، وأقصى ما يسمونها بـ(الأم) فهي رمز الإله والأمومة بما أنها تدر الحليب، لهذا الثور عندهم مكروه وملعون ويذبح والبقرة مقدسة، وغاب عنهم أن البقرة من ثور، وهي فرع من أصل، والأصل يجب أن يكون أعظم وأكبر وأقدس من الفرع، لكن العقيدة المنحرفة هي التي جعلت البقرة إلهاً والثور مبغوضاً منبوذاً.

    وهذا الكتاب الذي بين أيدينا ألفه: عبد العزيز آل محمد السلمان ؛ المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض، وهو شيخ من مشايخ السعودية، ورجل خدم العلم والدين وألف كتباً كثيرة منتشرة في الأرض، أغلبها يهدى ولا يباع أو وقف لله تعالى، وقد سخر نفسه لطلب العلم ونشره فنسأل الله أن يبارك فيه وفي علمه ويكثر من أمثاله، وأن نحبه في الله.

    العقيدة التي يفسرها ويشرحها يشرحها بأسلوب جديد؛ وهو أسلوب الحوار: سؤال وجواب، بحيث إنه فصصها تفصيصاً وفصلها تفصيلاً، فكل جزئية من هذه العقيدة مطروح عليها سؤال، وتجد الجواب تحته مباشرة، وهذا لا شك أنه أسلوب مشوق في دراسة قضايا العقيدة لأنها قضايا معقدة، وكثير الناس لا يهضمها بسهولة إلا إذا بسطت ويسرت.

    1.   

    أمثلة لمشاهير انحرفت عقيدتهم

    ذكر المؤلف مصير من انحرفت عقيدته ولم ينفعه علمه مع فساد الاعتقاد مهما بلغ هذا العلم من الشأن العظيم، ونهاية وقصارى هؤلاء العلماء الذين ضلوا في عقيدتهم أن ماتوا وهم يتمنون لو ماتوا على عقيدة العجائز من جداتهم وأمهاتهم .. درسوا مئات المجلدات، وعلمنا بالنسبة لعلمهم كنقطة في محيط، ودرسوا علم الكلام وتتبعوا العلوم إلى منتهاها في ذلك الزمن، لكن لا عيب فيهم إلا فساد العقيدة، فانهار هذا كله في لحظة من لحظات حياتهم، ومن عبر عن هذا الانهيار؟

    هم أنفسهم بشعر كتبوه!

    الشهرستاني يصف أحوال المنحرفين في العقيدة

    أقرأ بعض أبيات الشعر للشهرستاني وهو عالم متصوف يقول:

    لعمري لقد طفت المعاهد كلها      وسيرت طرفي بين تلك العوالم

    فلم أر إلا واضعاً كف حائر     على ذقن أو قارعاً سن نادم

    هذا حال الذين درسوا الفلسفة، يقول: طفت في معاهدهم كلها وأخذت علومهم ودرستها، ولم أجد من بينهم إلا مضطرب النفس.. حائر الروح.. مرتبك الفكر، وهذا تصوير دقيق منه:

    فلم أر إلا واضعاً كف حائر     على ذقن أو قارعاً سن نادم

    تصوير لما هم فيه من ربكة واضطراب وخلل عقيدي يؤدي إلى الخلل الفكري؛ لأن العقيدة ينبني عليها عمل وعبادة وطاعة، فإذا اختلت اختل السلوك.

    القشيري يعود إلى عقيدة العجائز

    آخر اسمه القشيري ، وهو عالم من علماء الصوفية في عقيدته انحراف، يقول:

    تجاوزت حد الأكثرين إلى العلى     وسافرت واستبقتهم في المفاوز

    أي: سبقتهم في البر الشاسع الواسع.

    وخضت بحاراً ليس يدرك قعرها      وسيرت طرفي في قسيم المفاوز

    ولججت بالأفكار ثم تراجع      اختياري إلى استحسان دين العجائز

    لججت بالأفكار، وفي النهاية تراجع اختياره وترك كل هذه الكتب وتراجع إلى دين العجائز، ودين العجائز أنت تلمس قوته على قلة علمهم وقراءتهم لهذه القضايا، تستطيع أن تقول: إنه دين راسخ فطري، فإذا أتيت مثلاً إلى الجدة أو للوالدة وقلت: العلم الحديث اكتشف بعد إجراء مختبرات كثيرة: بأن الحبة السوداء فعلاً شفاء من كل داء، كما ذكر فضيلة الشيخ الزنداني في البحث العظيم الذي قدمه العلامة إبراهيم بأن أخذ الحبة السوداء هذه وطحنها، وأضاف إليها ملعقة عسل، ثم أعطاها جرعة في الصباح وفي المساء لمرضى أصيبوا بالسرطان وبعضهم أصيبوا بفقدان المناعة، فوجد أن نسبة المناعة ارتفعت عندهم من 75 إلى 80 % فأضاف قطعاً صغيرة من الثوم في الصباح والمساء تبلع مع قليل من اللبن فارتفعت المناعة إلى 300% مع الحبة السوداء والعسل..! فتبين أنها شفاء من كل داء إلا السام وهو الموت؛ لأن الذي يدفع كل داء هو جهاز المناعة في جسم الإنسان، فإذا دخل الفيروس أو الميكروب أو أي مرض فإنه يكافحه، وتقوية هذا الجهاز تكون بالحبة السوداء.

    لو أنك فصلت هذا التفصيل لأمك وجدتك وقلت: الحبة السوداء هذه شفاء من كل داء، واكتشف العلم.. ستقول لك: يا بني! نحن مسلِّمين من زمان. ترد عليك بهذا الرد، أمي الله يرحمها تحكي أن جدتها لما ذهبت إلى المطوعة قالت لها: خذي الحبة السوداء هذه وكليها وستشفين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إن فيها شفاء. انظر كيف.. لم تحتج إلى هذه الحقائق العلمية حتى يرسخ فهمها واعتقادها بصدق النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، وتقول: نحن مسلِّمين من زمان.

    لو جئت تناقش هذه العجوز في دقائق العقيدة الإسلامية لا تجد عندها هذه الدقائق، اسألها مثلاً وقل لها: ما اسم الملك الموكل بالمطر؟ تقول: ما هذا؟! غيم تسوقه الملائكة ويأمرها الله سبحانه وتعالى ويأذن لها فينزل المطر. حسناً.. ما اسم الملك الذي يأمر الملائكة فتسوق الغيم؟ لا تعرف أن اسمه ميكائيل، ولو قلت لها قولي: ميكائيل تخطئ فيه، لكن عقيدتها قد تصل من القوة والصحة أن تقول: ما من نقطة ولا حبة ولا بردة تنزل على الأرض إلا بإذن الله.. مكتوبة في كتاب قبل خلق السماوات والأرض، وملك يسيرها بإذن الله رب العالمين، ولا تتزحزح عقيدتها في هذا.

    هذا إيمان العجائز الذي أثبته أهل علم الكلام والمتفلسفة ومن درسوا هذه الكتب لأنفسهم، وقالوا في النهاية:

    ولججت بالأفكار ثم تراجع     اختياري إلى استحسان دين العجائز

    الفخر الرازي يكشف عن حيرته

    ويقول الفخر الرازي -وهذا يدل على حيرته أيضاً-:

    نهاية إقدام العقول عقال      وأكثر سعي العالمين ضلال

    وأرواحنا في وحشة من جسومنا      وغاية دنيانا أذى ووبال

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا      سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

    انظر إلى الاضطراب النفسي الرهيب الذي يحياه من اهتزت عقيدته، اضطراب رهيب تصوره هذه الأبيات:

    وأرواحنا في وحشة: الروح فيها وحشة وظلمة وغربة وضنك، من جسومنا: فكأن الروح منفصلة عن الجسم.. سبحان الله!

    وغاية دنيانا: غاية ما نستلذ به في الدنيا، أذى ووبال.

    ضياع أهل القبور

    أنت لا تعرف هذه الحقيقة إلا إذا رأيت واحداً من هذا الصنف، خذ مثلاً عباد القبور أو الذين يسمونهم البريلويين، والذين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم يزورهم، وإذا جلسوا في مثل هذا الدرس الذي فيه جماعة في الديوانية فجأة يطفئون اللمبات ويهبون قائمين ويقولون: وعليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، تفضل، ويزحزحون له على الكرسي لكي يجلس بينهم.. انظر إلى هذه الخرافة العجيبة! ويعتقدون 100% أنه في هذه الليلة زارهم، ورتب ومقامات المشايخ عندهم على عدد الزيارات، هذا زاره ألف مرة، وهذا خمسين مرة، وهذا ستين مرة، وطبعاً هذا كله تلبيس من إبليس والشيطان، فحياتهم فيها اضطراب عجيب رهيب، ولو ذهبت مثلاً إلى بعض القبور والأضرحة لكي تكتشف أحوال السدنة الذين يعيشون عندها لوجدت حياتهم من أتعس ما يكون ويوصف.

    أذكر مرة في تركيا مررنا بمسجد لكي نصلي، وكان خارج المسجد قبر عليه قبة يزوره الناس يزعمون أن فيه ولي، ثم صلينا في المسجد، ولو كان القبر داخل المسجد ما صلينا فيه ولصلينا في الشارع تحت شجرة؛ لأنه لا تجوز الصلاة في مسجد فيه قبر، وكان معي أولادي الصغار فقالوا: تعال نذهب لنرى ماذا يفعل الناس عند هذا القبر؛ لأننا رأينا الأعاجيب! لا ينعقد عقد الزواج إلا عنده، وكل واحد منهم عنده عروسته وامرأته الحامل، أو ابنته التي يريد أن يزوجها، أو مطلقته، أو مسحورة.. وخلائق، فقلت للأولاد: قبل أن تذهبوا وتدخلوا تعاهدونني أنكم أمام الناس ترفعون أيديكم وتنكرون هذه البدعة بصوت مسموع، فقالوا: نعم.

    قلت: تصنعون ما صنعت، قالوا: نعم، فأول ما دخلنا وإذا عند الباب هذا السادن الذي يستقبل الناس، وإذا هو مصاب بجميع أنواع الأمراض، فعينه تهمل وفيها صديد، وأنفه لا يقف من سيلان المخاط -أعزكم الله- وأسنانه كلها ملوثة ومكسرة، ووجهه عليه ظلمات لا تعد ولا تحصى، وبيده مناديل مرة يمسح عينه ومرة أنفه ومرة يضع النخامة ومرة يسعل؛ لأنه عايش في جو شياطين وشرك وإثم وملوث لا يخرج إلى الخارج يومه كله عند القبر، وأنفاس الناس تزدحم عليه؛ فأصبح مجمع وباء.. والعياذ بالله، فخفت أنا من العدوى فوقفنا عند باب هذه القبة وقلت: قولوا ورائي: تف وسف، فقالوا الأولاد: تف وسف.. فهذا الرجل اهتز، قلت: هذا منكر وشرك وظلم وبدعة لا نرضاها، وإن هذا المقبور في أمس الحاجة إلى دعوة أو استغفار ممن يزوره، اللهم إنا نعوذ بك من الشرك فهذا شرك.

    لكن الناس يتقاتلون عليه ويتزاحمون عليه ولا يبالون، فحياة هؤلاء لا شك أنها تعيسة ومنكوسة، فكما يقول شاعرهم:

    وأرواحنا في وحشة من جسومنا      وغاية دنيانا أذى ووبال

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا      سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

    وقال:

    الاضطراب الداخلي لأهل المنطق والكلام

    لعمري وما أدري وقد أذن البلى

    أي: جاء الموت واقترب الأجل.

    لعمري وما أدري وقد أذن البلى      بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي؟!

    وأين محل الروح عند خروجها      من الهيكل المنحل والجسد البالي؟!

    تصور.. درس آلاف الكتب، ولا يدري ما هي نهايته؟ وأين تستقر روحه؟ وماذا يفعل في جسده؟!! والله سبحانه وتعالى فصل في القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم فصل في السنة ماذا يفعل في الجسد والروح؛ الجسد يوضع في القبر ويبلى فيه إلا أجساد الأنبياء لا تأكلهم الأرض، والروح إن كانت طيبة فهي في عليين ومستقرها عند الله، وأرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترتع من أشجار الجنة وثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في العرش، وأرواح الكفار في سجين، والحياة البرزخية حياة أخرى غير حياة الدنيا، فالقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.. كل هذه التفاصيل لا يعرفها، وهي تكاد تكون بديهية من البديهيات لو سألت عنها تلميذاً في الابتدائية لأجابك.

    إذاً: هذه الكتب العظيمة والكثيرة التي درسها كلها قيل وقال وجدل ومنطق وعلم كلام وفلسفة ما أنزل الله بها من سلطان، متاهات ما بعدها متاهات، في النهاية عبر عنها بقوله:

    لعمري وما أدري وقد أذن البلى      بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي؟

    أنا أعرف إلى أين ترحالك: إن ظللت على هذا الاعتقاد الفاسد والشرك وعبادة القبور فترحالك إلى النار وبئس القرار، وإن تبت وندمت وصححت عقيدتك وصارت عقيدتك عقيدة السلف الصالح رضوان الله عليهم فترحالك بإذن الله إلى نعيم مقيم في جنة عرضها السماوات والأرض .. مسلم يموت لا يدري أين ترحاله؟!

    إذاً: ما الفرق بينه وبين من يقول: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْر [الجاثية:24] ؟!

    الله سبحانه وتعالى فصل ذلك تفصيلاً كاملاً، ورسوله أيضاً فصل تفصيلاً كاملاً عن ترحالك من يوم أن تخرج من بطن أمك إلى أن تصل إلى الآخرة، وما يدور في الآخرة، وهو يقول: لا يدري أين ترحاله!

    وأين محل الروح عند خروجها      من الهيكل المنحل والجسد البالي؟

    وقال آخر: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمة فالويل لفلان، وهأنذا أموت على عقيدة أمي.

    ويقول آخر: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام.

    مقارنة بين ثبات الصحابة وتزعزع المنحرفين

    إن هؤلاء المتكلمين المخالفين للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة خبر، ولا وقفوا من ذلك على عين ولا أثر، يستحيل أن يكون أولئك الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى.

    وأطيب حياة هي حياة الصحابة رضي الله عنهم لما حباهم الله من علم نافع واسع، مع أن عامتهم أميين لا يقرءون ولا يكتبون، لكن ما ضرهم أنهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ما دام أن العقيدة سليمة ونظيفة، فعندما يقال: محو الأمية ومكافحة الأمية ففي الحقيقة أن أمية العقيدة أخطر من أمية القراءة والكتابة، فهؤلاء الذين درسوا في الجامعات الغربية وأجادوا الكتابة والقراءة وبحثوا وقدموا الماجستير والدكتوراه والأستاذية ولا يعرفون عن الله أي شيء كل هذا لا ينفعهم في الآخرة، بل حتى لا ينفعهم في الدنيا وإن جمعوا من الأموال والأفكار والمناصب ما جمعوا فحياتهم أتعس حياة.

    وأنا أيها الأحباب عندما أقول هذا أقوله من واقع التجربة، فكم وكم وكم جاءني من أمثال هؤلاء حتى أقرأ عليه، أو أرقيه، أو أقرأ له في ماء، أو أعلمه طريقة يتخلص بها من هذا الضنك العظيم الذي يحياه وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

    لا يكاد يمر عليَّ يوم إلا ويأتيني واحد من هذا الصنف الذي أخذ أعلى الشهادات ولم يسجد لله سجدة، بل لا يحفظ الفاتحة؛ لأنه لا يصلي والعياذ بالله، إذاً: ما قيمة هذا العلم وما قيمة هذه الشهادة؟ وهل هذا إلا أمي في دينه وعقيدته وفكره؟!

    بل الطفل الذي في الروضة عندما تقول له: ادع الله، ينظر إلى السماء ويرفع يديه.. أعقل منه وأفهم وهو على الفطرة، والذي إذا سمع الأذان التفت تجاه التلفزيون الذي يؤذن أو منارة المسجد التي تؤذن.. تستجيب فطرته، وهذا وأمثاله من الخريجين والدكاترة والفلاسفة والعباقرة -كما يزعمون- والمفكرين إذا سمع الأذان يقول: الله أكبر! وأخذ ينكت على الأذان، وينكت على الله أكبر، ويستهزئ بمحمد صلى الله عليه وسلم!!

    إذاً: محو أمية العقيدة أولى من محو أمية الكتابة.

    ربعي بن عامر لا يعرف القراءة ولا الكتابة علَّم عباقرة القراءة والكتابة.. علم .. يزدجرد ملك الفرس ورستم أكبر قائد عسكري في ذلك الزمان، قال: [ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام].

    أحضر لي أكبر بروفيسور الآن يستطيع أن يأتي بمثل هذا المنطق العميق والفهم الدقيق إن لم يكن قد درس الموازين الإسلامية الشرعية، وإلا فنحن نتابع تصريحاتهم مع الأسف الشديد في الصحف والمجلات التي تنم عن تفاهة أفكارهم، وضحالة علمهم، بل يقحمون أنفسهم في مجال الدين والشرع وهم أجهل الناس في مجال الدين والشريعة.

    1.   

    حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

    أنتقل بكم أيها الأحباب الكرام إلى فقرة أخرى، فإن هذا كتاب واسع عظيم.

    سؤال يطرح: ما حق الله، وما حق الرسول، وما الحق المشترك الذي لله ولرسوله؟ هذا سؤال من ضمن الأسئلة.

    حق الله عز وجل على خلقه

    الإجابة: أما حق الله فهو: عبادته وحده لا شريك له، فأنواع العبادة التي أمر الله بها كلها له وحده كالصلاة والحج والذبح.

    وانتبه عندما أقول: والذبح! فكم يسقط من المسلمين في هذه الحفرة. لأتفه الأمور .. عندما يصاب بسعال أو بصداع أو بهم أو يسمع حسس في البيت أو البنت التي كانت تأتي الأولى بدأت تأتي الرابعة أو العاشرة، أو أن المرأة أسقطت مرة أو مرتين ولم تنجح في الحمل، هذه أمور تحدث حتى للبهائم في الغابات، قدر كوني ينزل على الإنسان وهو غير مدفوع، وما عليه إلا أن يصبر ويحتسب ويعود إلى القرآن والسنة .. ولكنه يذهب يبحث عن ساحر أو مشعوذ أو عراف أو دجال ويكون أصدق عنده من كتاب الله وسنة رسوله، ذهبت لفلان أو لفلانة فقالوا: لا علاج لك إلا بذبح كبش أسود ليس فيه ولا شعرة بيضاء..!

    وانظر إلى التعب الذي يصيب هذا الإنسان .. يبحث كبقرة بني إسرائيل، وحتى أصبح الممثلون ينكتون على هؤلاء في تمثيلياتهم ومسرحياتهم، ولا ننسى ما فعله أحد الممثلين في مثل هذا المشهد عندما قال: أحضر لي شعرة من إبط فيل، وبيضة من زرزور أعور، ونملة يتيمة..! من باب المسخرة والسخرية فيمن فقد عقله ودينه عندما ذهب إلى هؤلاء المشعوذين والدجالين، والأصل الذبح لله سبحانه وتعالى.

    وما أن يقول المشعوذ له أو لها: اذبحوا ديكاً أسود أو خروفاً أسود إلا ويذهب ويبادر ويذبح ولا يدري أن الذبح للجن شرك بالله رب العالمين.

    وأجهل من هؤلاء الذين يعتقدون بضاربة الفأل، وهذا بلاء عم وطم، والآن هذه سوقها رائج تحمل الصرة وتدور، هذا يقوي البصر، أو الظهر، أو الركب، أو الأظافر، أو الأسنان، وهذا يرد الشباب، أو يسود الشعر، أو يبيض الوجه، وهذا يجعل زوجها يحبها.. إلخ، ثم تضرب الفأل، جمعت لها محار من البحر وكسر من البلور والزجاج المكسور، وخواتم صدئة، وفصوص متهرئة، وتخلطها في طعام ونواة وقحوف وقشور، وكلها تجمعها مرة واحدة وتنثر، وعند هذه النثرة تصبح هي العالمة بأمور الدنيا والدين، تعقد حواجبها، وتجحظ عيونها، وتأتي بألفاظ حفظتها، ثم تبدأ البشائر: أنتِ سيقبل عليك خيراً.

    وأنت هناك من يكرهكِ.. هل يوجد إنسان موجود في الأرض الآن لا يوجد أحد يحبه وواحد يكرهه، لكن الذي لا عقل له ينبهر لهذا العلم وهذا الاكتشاف أن هناك من يحبه وآخر يكرهه.

    إذاً: العبادة والذبح والسجود لله والتوكل على الله والرغبة والرهبة والاستعانة والاستغاثة والاستعاذة والنذر كلها لله، الناس الآن ينذرون للأضرحة وللقبور، وبسرعة تسمع خبر: فلانة ذهبت إلى العراق، حتى أيام الحرب تذهب إلى العراق، عندها استعداد أن تخوض تحت قصف الصواريخ والقنابل من أجل أن توفي بنذرها، وبعدما توفي بنذرها تبحث عن نذرها أين هو؟

    للقبر، وللضريح، وللمشهد، وللمكان الفلاني، تذهب مؤمنة وتعود كافرة مشركة!

    ولا تستبعد أنها تذهب وتتصل بالأوقاف تستفتي تقول: أنا نذرت لقبر السيد الفلاني عجلاً، والعجل غالي هل يصلح أن أشتري جاموسة من البصرة فالجاموسة أرخص؟!!

    النذر والخوف والرجاء والدعاء والتسبيح والدعاء والتهليل والتكبير والإنابة والتقى هذا كله حق لله رب العالمين لا شريك له في هذه المقامات القلبية والعبادات، ويجب أن تجرد كلها لله رب العالمين.

    أما حق الرسول صلى الله عليه وسلم فتوقيره وتعزيره أي: نصرته، وتبجيله أي: احترامه، قال تعالى: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9] وأن يتبع في هديه وفي سنته، ويتجنب الابتداع فيها.

    الحق المشترك بين الله ورسوله

    والحق المشترك بين الله ورسوله في قلوب الناس: هو التصديق والحب، نصدق الله ورسوله، ونحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويؤسفني أن هذه القضية الآن تكاد تبهت في قلوب بعض الناس، أي: أحب الممثلين والممثلات والمغنيين والمغنيات الأحياء منهم والأموات أصبح أكثر من حب محمد صلى الله عليه وسلم، وتكذب التي تقول: أنا أحب محمداً، وهي لم تلبس الحجاب الذي أمر به محمد صلى الله عليه وسلم نساءه وبناته: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] ثم لا تطيع في هذا وتقول: أنا لست مقتنعة بالحجاب.

    إذاً: أنت لا تحبي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من صفة المحب أنه مطيع لمن يحب، اقرئي الشعر والأدب العربي كله تجدين هذا المعنى يتكرر، حتى يصبح المحب لحبيبه -من شدة الطاعة له- تصل إلى مرتبة العبودية له، فهذا يقول ابن زيدون لمحبوبته ولادة :

    يا ليت شعري وعندي      في الحب ما ليس عندك

    هل طال ليلك بعدي      كطول ليلي بعدك

    سليني حياتي أهبها      فلست أملك ردك

    الدهر عبدي لما      أصبحت في الحب عبدك

    فهل هناك طاعة أكثر من هذه الطاعة؟!

    فإذاً: إذا كنت تحب هذا النبي صلى الله عليه وسلم وتحبينه فالطاعة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [آل عمران:31].

    والإمام ابن القيم صاغ هذا المعنى في النونية المشهورة له، قال:

    الرب ربي والرسول فعبده      حق وليس لنا إله ثاني

    فلذاك لم نعبده مثل عبادة الـ     رحمن فعل المشرك النصراني

    أي: لم نعبد محمد كما عبد النصارى المسيح.

    كلا ولا نغلو الغلو كما نهى     عنه الرسول مخافة الكفران

    حديث ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم).

    لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] أمر قرآني، ومن الغلو: أنه إذا مات الصالح فيهم صوروا له التصاوير، ومثلوا له التماثيل، وجعلوا قبره مسجداً، وعقدوا عليه السرج وعبدوه من دون الله أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

    لا يكاد الآن بلد عربي يخلو من هذا إلا من رحم الله، يمكن السعودية والكويت وبعض المناطق التي هي قريبة من الدعوة الوهابية المباركة دعوة التوحيد، أما باقي الدول فلا يوجد حي ولا منطقة إلا وفيها مسجد داخله قبر عليه سرج يستغاث ويستعاذ ويسأل ويتوسل إليه وهو مقبور.

    لله حق لا يكون لغيره     ولعبده حق هما حقان

    لا تجعلوا الحقين حقاً واحداً     من غير تمييز ولا فرقان

    فالحج للرحمن دون رسوله     وكذا الصلاة وذبح ذي القربان

    وكذا السجود ونذرنا ويميننا     وكذا متاب العبد من عصيان

    وكذا التوكل والإنابة والتقى     وكذا الرجاء وخشية الرحمن

    وكذا العبادة واستعاذتنا به     إياك نعبد ذان توحيدان

    وعليهما قام الوجود بأسره     دنيا وأخرى حبذا الركنان

    وكذلك التسبيح والتكبير     والتهليل حق إلهنا الديان

    لكنما التعزير والتوقير حق     للرسول بمقتضى القرآن

    والحب والإيمان والتصديق لا     يختص بل حقان مشتركان

    هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة     لا تجهلوها يا أولي العرفان

    أحبتي في الله: هذا أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة ، كم الحديث فيه سهل، وكم استقبال هذا الفكر على من شرح الله صدره ميسر، ولكن انظر من حرمه الله هذا العلم النافع والعمل الصالح، كيف يعاني ويقاسي في استقبال هذه المعلومات؟ وكيف يضطرب ويهتز لو قلت له هذا الكلام؟ لكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

    فنحمد الله سبحانه وتعالى أن هدانا على عقيدة أهل السنة والجماعة وخلص توحيدنا، وعلمنا وفهمنا وربانا، ونقلنا من طاعة إلى طاعة، ومن توحيد إلى توحيد، نحمده على ذلك فضلاً منه وبراً، لا حرصاً من الوالدين ولا من المدرسين والمدارس ولا من أحد، فقد نشأنا في مدارس لا تعطينا هذا ولا تعرفه إلا من رحم الله من المدرسين المؤمنين بدافع ذاتي إيماني، وأما المناهج فقد خلت تماماً أيام دراستنا من هذه القضايا، وأما الوالدان فهما يبحثان عن الرزق ومشاغل الحياة وكسب الطعام والشراب والكساء في زمان كانت الحياة فيها صعوبة، ولكن الله يهدي من يشاء، فوفقنا سبحانه وعلمنا وأدبنا، وكم من الشبهات صالت وجالت فدفعها الله سبحانه وتعالى، لهذا نتذكر قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21].

    وإذا أردت أن تعرف هذه الحقيقة تذكر زملاء لك في الدراسة أو العمل كيف صاروا شيوعيين أو علمانيين أو إباحيين فسقة، أو أهل خمور ومخدرات، أو أهل شبهات وظلمات؟! أنت بشر وهم بشر، لكن الله ثبتك وأعانك ووفقك، فاحمد الله على هذا حمداً عظيماً، واسأل الله المزيد، وتواضع ولا تظهر من حولك وقوتك شيئاً، وقل: اللهم لو كانت لي مثل حسنات عبادك ما دخلت جنتك إلا بفضلك ورحمتك، ولو كانت عليَّ مثل ذنوبهم إلا الشرك ما يئست من مغفرتك وعفوك، فاغفر وارحم وأنت خير الراحمين!

    أحبتي في الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756283513