إسلام ويب

إنهم فتية آمنوا بربهمللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر سبحانه وتعالى في سورة الكهف قصة الفتية الذين آمنوا بربهم، وفروا من قومهم بدينهم، وفي قصتهم عظة وعبرة، وبيان لأن طريق الدعوة محفوف بالمكاره والمخاوف، لذا كان على الدعاة إلى الله عز وجل أن يوطنوا أنفسهم على تحمل التبعات والمشاق، وأن يوقنوا بأن العاقبة لهم، وأن الله سيجعل لهم فرجاً ومخرجاً، فهو غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

    1.   

    بين يدي قصة الفتية أصحاب الكهف

    الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه: أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنّة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له بالفوز في الجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.

    وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، وسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.

    فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحّد الله عز وجل وعرّفنا به ودعا إليه وسلّم تسليماً.

    أما بعد عباد الله:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

    قوله عز وجل: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:9-13].

    أصحاب الكهف -عباد الله- هم فتية في ريعان الشباب وفي سن الشهوة والقوة والفتوة، اعترضوا على قومهم فقالوا: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:15-26].

    على طريقة القرآن على سرده للقصص، ذكر الله عز وجل القصة مختصرة أولاً من أجل التشويق إلى سماعها، فقال: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9] إلى آخر الآيات الثلاث، ثم سرد القصة بالتفصيل بعد ذلك، كما ذكر في قصة بقرة بني إسرائيل، ابتدأت القصة بقول الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، وليس هذا هو الترتيب الزمني للقصة، بل هو بعد ذلك: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72].

    فابتدأت القصة من أجل التشويق من طرف القصة أو من وسطها، يحكي الله عز وجل في سورة الكهف قصة هؤلاء الفتية، وهي قصة من قصص الإيمان، قيل: كانوا نصارى، ورجّح الشنقيطي بأنهم كانوا من اليهود؛ لأن اليهود كان عندهم خبر بذلك، فلما أرسل مشركو مكة إلى يهود المدينة يسألونهم عن أشياء يختبرون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لهم: سلوه عن الفتية الذين خرجوا في الزمان الغابر، وكان من شأنهم ما كان، وسلوه كذلك عن الرجل الذي ملك المشارق والمغارب -أي ذو القرنين - وسلوه عن الروح، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: سأخبركم، ونسي أن يستثني فعاتبه الله عز وجل بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23-24].

    في أي مكان كانوا؟ وما أسماء هؤلاء؟ وما وصف كلبهم؟ طريقة القرآن في القصص أن يسكت عن التفصيلات التي ليست فيها عبرة وعظة؛ لأن القصص القرآني لا يساق من أجل تضييع الأوقات، وأن يقضي الإنسان وقتاً مع القصص كما في قصص أصحاب الدنيا من تضييع للأوقات والساعات، ولكنه يرتقي بمستوى الأمة الإيماني، ويغرس المعاني الإيمانية الشريفة، ويسكت عن التفصيلات التي ليست فيها عبرة وعظة، يقول عز وجل: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف:9].

    قال الشنقيطي : (أم) بمعنى بل والهمزة: أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً، أو بمعنى: بل حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانون من آياتنا عجباً، أي: لا تحسب يا محمد أن المعجزات والكرامات التي حصلت مع أصحاب الكهف كانت من أعجب آياتنا، فهم أناس يخرجون ويفارقون قومهم؛ لأنهم يعبدون مع الله عز وجل غيره، ويُعلنون توحيدهم لله عز وجل، ويفارقون قومهم وهم في ريعان الشباب، وفعل الله عز وجل بهم هذه الأعاجيب هذا في مقاييس البشر، ولكنها بالنسبة إلى قدرة الله ليست من الأمور العجيبة، بل في الوجود ما هو أعجب منها، فخلق السماوات والأرض أعجب من ذلك بكثير، فهم أناس ضرب الله عز وجل على آذانهم فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، وألقى الله عز وجل عليهم المهابة، لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [الكهف:18] قيل: ناموا وأعينهم مفتوحة، حتى يظن من رآهم أنهم في يقظة، وهم نائمون وحجب الله عز وجل حسهم، وضرب الله عز وجل على آذانهم حتى يبلغ الكتاب أجله، وحتى يبقوا المدة التي قدّرها الله عز وجل، فهي وإن كانت عجيبة في مقاييس الناس، لكنها بالنسبة إلى قدرة الله عز وجل ليست من أعجب العجائب، أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [الكهف:9] قيل الرقيم: اسم كلبهم، وقيل الرقيم: اسم مدينتهم، وقيل الرقيم: اسم الكهف الذي كانوا فيه، ورجّح الشنقيطي أن الرقيم هو لوح كُتب عليه أسماؤهم وخطة خروجهم، وقيل: كُتب عليه شريعتهم.

    قال بعضهم: هو لوح من الذهب كُتب عليه أسماؤهم، أو لوح من الرخام أو من الحجارة كُتبت فيه قصتهم أو كُتبت فيه أسماؤهم.

    1.   

    فرار الفتية إلى الكهف بدينهم

    قال تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10] والرشد هو أن تعرف الحق وتتبعه، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] وهو بخلاف الغي، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [الكهف:10] (من لدنك) أي: من عندك رحمة عظيمة تشملنا بها، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:11-12] ففي القصة المختصرة لم يذكر عدد السنين التي مكثوا فيها في الكهف، وبيّن عز وجل أنه ضرب على آذانهم إشارة إلى حجب حسّهم؛ لأن النائم غالباً يستيقظ من حاسة السمع، وقوله: فَضَرَبْنَا [الكهف:11] أي: جعلنا على آذانهم حجاباً شديداً، كما قال عز وجل: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة:61] أي: كتب الله عز وجل عليهم الذلة.

    إذاً: حجب الله عز وجل عنهم حاسة السمع؛ حتى لا يستيقظوا، كما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً ينام إلى الصبح ولا يستيقظ لصلاة الفجر، فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه)؛ لأن العبد يستيقظ غالباً من حاسة السمع، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:11-12] فاختلفوا في الحزبين، فقيل: الذين قالوا من أهل الكهف: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19]، وهم الذين قالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19] وكأنهم أحسوا أنهم مكثوا مدة طويلة، ولكنهم لا يستطيعون حصرها، وقيل: أحد الحزبين أهل المدينة عندما اطلعوا على أمرهم، والحزب الثاني هم أصحاب الكهف، وقيل: الحزبان من أهل المدينة.

    وعلى كل حال فالراجح تفسير القرآن بالقرآن، فالراجح هما حزبان من أهل الكهف كما سيأتي في تفصيل القصة.

    1.   

    إيمان الفتية أصحاب الكهف ورعاية الله لهم وتثبيتهم

    قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13] أي: أن الله عز وجل عالم الغيب والشهادة، علم ما كان وما سيكون لو كان كيف يكون، فما يقصه الله عز وجل علينا هو الحق، وما في كتب أهل الكتاب منه الصحيح ومنه المحرف المبدّل.

    إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13] أي: أن الله عز وجل يكافئ على الهدى بالهدى، كما يكافئ الله عز وجل على الحسنة بالحسنة، وكما يعاقب على السيئة بالسيئة، وهذا دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في أن الإيمان يزيد وينقص، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13] أي: زاد الله عز وجل في إيمانهم، فمن قصد الخير -عباد الله- وعزم على الخير وعزم على الهدى تأتيه المنح الربانية من الله عز وجل، فمن هذه المنح: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31].

    وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76].

    إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].

    ثم المنحة الثانية: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14] كأنهم في حالهم وبحولهم وقوتهم وبإيمانهم وبالفتن الشديدة التي من حولهم؛ لأن قومهم كانوا في غاية الكفر والغباوة، بل كانوا يجبرون الناس على الشرك بالله عز وجل، كما قال عز وجل عنهم: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20] فهؤلاء زادهم الله عز وجل هدى حتى يقوموا هذا المقام الشريف، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14]، كما قال عز وجل: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]، وكما أخبر عز وجل عن أهل بدر فقال عز وجل: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11] فهذه منح ربانية لأهل الإيمان، ما عليك إلا العزيمة الصادقة وأن تقوم لله عز وجل ناوياً إعزاز دين الله عز وجل ورفع راية الله عز وجل، حينها تأتيك المنح الربانية والتثبيت الإلهي، فهذه امرأة فرعون وكل فرعون بتعذيبها رجالاً ربطوها في أربعة أوتاد وأخذوا يعذّبونها، فقالت عند ذلك: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11] فأراها الله عز وجل بيتها في الجنة، فآثرت ما عند الله عز وجل مما عند فرعون من ملك وقصور، وطلبت بيتاً في الجنة.

    كذلك قصة المرأة من أصحاب الأخدود لما همّت أن تتقاعس شفقة على وليدها وعلى رضيعها، أنطق الله الرضيع فقال: يا أمي اصبري فإنك على الحق، فالله عز وجل يثبت أهل الإيمان ويربط على قلوبهم؛ حتى يُعزوا دين الله وحتى يرفعوا راية الله عز وجل، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14].

    والشطط: هو القول البعيد عن الصواب، كما قالوا: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ [ص:22] (ولا تشطط) أي: لا تبعد عن الحق، فالشطط هو القول البعيد عن الصواب، وأن يعبد العبد مع الله عز وجل غيره، فهذا قول شطط وهذا فعل شطط بعيد عن الصواب؛ لأن الله عز وجل وحده هو الخالق وهو الرزاق وهو المحيي وهو المميت.

    ثم قال تعالى: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15] أي: بحجة واضحة على أنهم يستحقون العبادة مع الله عز وجل، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16] كيف يكون في الكهف الرحمة وهو فجوة في الجبل؟ كيف ينتظرون المخرج من داخل الكهف؟ وكم يبقون في الكهف ثم يعودون إلى قومهم؟ إنهم لا يعرفون بلداً إسلامياً على وجه الأرض يذهبون إليه، ولكنهم فعلوا ما في مقدورهم وكانت ثقتهم بالله عز وجل قوية، وهكذا المؤمن يتقي الله عز وجل وينتظر المخرج من الله عز وجل، قد لا يرى المخرج بعينيه، ولا يستطيع أن يقول: المخرج كذا بالأسباب الأرضية، كما كان موسى وهارون ومن معهما من المؤمنين حين خرجوا وخرج خلفهم فرعون وجنوده، وصار البحر من أمامهم وفرعون وجنوده من خلفهم، وقد وعد الله عز وجل موسى وهارون بأن يجعل لهما سلطاناً فلا يصلون إليهما، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] ولكن موسى كان يثق بوعد الله، فهو أكثرهم ثقة بوعد الله عز وجل ونصر الله، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] بالأسباب الأرضية لا يرى كيف المخرج، ما كان يظن أن الله عز وجل سيأمره أن يضرب بهذه العصا البحر الخضم، فيصير في البحر طريقاً يابساً يمر منه موسى ومن معه، ثم إذا أراد فرعون أن يلحقهم في نفس الطريق تكون نهاية فرعون، فيكون في ذلك النجاة لموسى ومن معه، والهلاك لفرعون ومن معه، فهؤلاء الفتية قالوا: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16]، والكهف: هو فجوة في الجبل واسعة الفوهة، بخلاف الغار فإنه فجوة في الجبل ضيقة الفوهة، قالوا: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [الكهف:16-17] أي: هذه كرامة من الكرامات، وخارقة من الخوارق أن فوهة الكهف كانت واسعة، وهم كانوا في داخل الكهف، ومع ذلك الشمس كانت لا تصيبهم في الشروق ولا في الغروب، ومن كان على حالهم لا بد أن تصيبهم الشمس، فيقول عز وجل: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ [الكهف:17] أي: تميل عن كهفهم ولا تصيبهم بحرارتها؛ لئلا تتعفن جثثهم، ومن أجل أن يبقوا في النسيم الطيب والهواء الطيب وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ [الكهف:17]، وقوله: (تقرضهم) أي: لا تصيبهم أيضاً بأشعتها وبحرارتها؛ ولذلك قال: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [الكهف:17] أي: هذه معجزات من معجزات الله عز وجل، وهي على خلاف عادات الدنيا، فإن الشمس تصيب من كانوا على هيئتهم، تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ [الكهف:17] أي: مع أنهم في مكان متجه تصيبه الشمس إما في الشروق وإما في الغروب، ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17] ينبغي على العبد أن يسلم لله عز وجل، فالله عز وجل يهدي ويعصم ويعافي من يشاء فضلاً، ويضل ويخذل ويبتلي من يشاء عدلاً وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، فنسأل الله تعالى أن يحملنا على فضله، وألا يحملنا على عدله.

    ثم قال عز وجل: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [الكهف:18].

    فهذه أيضاً من آيات الله عز وجل، أنهم كانوا يُقلّبون من جنب إلى جنب، ومن مكان إلى مكان؛ لئلا تأكل الأرض أجسادهم؛ لأن العبد إذا بقي على ناحية واحدة على الأرض فإن الأرض تأكل من جسده، فمن يستقر شهوراً كثيرة على الفراش بسبب المرض فإنه يُصاب في بدنه من آثار هذا الجلوس، فالله عز وجل يُقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، أي: على الجنب الأيمن مرة وعلى الأيسر مرة، وألقى الله عز وجل عليهم من الرعب بحيث لو أن أحداً اطّلع عليهم لولى منهم فراراً، وما ظن أن هؤلاء نائمون، ألقى الله عز وجل عليهم من الرعب وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف:18] ذكر الله عز وجل الكلب في كتابه، وهذا من بركة صحبة الصالحين، فهو لما تبع أصحاب الكهف نال من بركتهم، وذكره الله عز وجل في كتابه، ولكن هذا -عباد الله- لا يدلنا على جواز اتخاذ الكلاب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من اتخذ كلباً إلا كلب صيد أو ماشية نقص من ثوابه كل يوم قيراطان)، وفي حديث آخر: (قيراط) أي: من الأجر، فالذي يجوز أن يتخذه العبد كلب الصيد، أو كلب الماشية، أي: لحراسة الماشية، وهذا لا يكون في البيوت ولا يكون معه في السيارة، بل يكون في خارج البيت، وهكذا الكلب كان على الباب لم يكن بداخل الكهف معهم؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:18-19] أي: كما فعلنا بهم هذه الأعاجيب السابقة، وكما جعل الشمس لا تصيبهم، وكما قلّبهم على الجنب الأيمن والأيسر، وألقى الله عز وجل عليهم من المهابة يقول: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] فإن هذا هو النوم المعتاد في الدنيا يوماً أو بعض يوم، وكأن الفريق الآخر فهم أنهم ناموا مدة طويلة نقلهم الله عز وجل فيها من زمان إلى زمان، كيف يفعل الله عز وجل بأهل الإيمان؟ ما كانوا يتصورون أن الله عز وجل ينجيهم من قومهم بأن ينقلهم من زمان إلى زمان، وبأن يناموا في مكان آمن يُلقى عليهم الرعب، فمن رآهم فر منهم، وبأن يمكثوا في هذا المكان ثلاثمائة سنين ويزدادوا تسعاً، حتى ذهب الملك الكافر وذهب بعده ملوك، حتى أتت دولة هي أقرب إلى الإيمان، وهذا يظهر من قولهم: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] فهذا يدل على أنهم قالوا قصة من قصص الإيمان، فجعل الله عز وجل لهم مخرجاً لم يحتسبوه ولم ينتظروه، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19] فأهل الإيمان يحرصون على الأكل الطيب.

    عباد الله هؤلاء ناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ولما استيقظوا كانوا حريصين على الأكل الحلال الطيب والطعام الطيب، إما أن يراد به الجيد الشهي، وإما أن يُراد به الحلال واللائق بوصفهم، أي: أنهم أرادوا بذلك الحلال البعيد عن الحرام.

    وقوله: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [الكهف:19] والورق هي الفضة، ضربت دراهم أو لم تُضرب، فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا [الكهف:19] أي: انظروا إلى أيهم أكثر حلاً لذبيحتهم، فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19] لأنهم يظنون أن الناس ما يزالون في الزمن الذي خرجوا فيه، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20]، وهذا يدل على أن الكفر بالإكراه لم يكن في الأمم السابقة؛ لقولهم: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20] مع أنهم يكونون مكرهين على الكفر، ولكن هذه الأمة المرحومة ببركة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) أي: أن العبد إذا أُكره على الكلام بالكفر أو على السجود لغير الله، فإنه إذا فعل ذلك لا يكون خارجاً من ملة الإسلام، كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].

    إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20] أي: يقتلوكم رجماً بالحجارة، وهذه أشنع القتلات في الدنيا أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20].

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    سبب إطلاع الله عز وجل على أصحاب الكهف وخبرهم

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    أما بعد.

    فيقول عز وجل: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ [الكهف:21]، فكان في قدر الله عز وجل أن أطلع أهل البلاد عليهم.

    وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ [الكهف:21]، أي: وقفوا عليهم.

    لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الكهف:21] أي: وعده لأهل الإيمان ونجاته لهم، وكيف يفعل الله عز وجل بهم الأعاجيب؟!

    لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا [الكهف:21]، ويبدو كما قال بعض المفسّرين: إن هؤلاء الفتية كانوا أمراء أو كانوا أثرياء، ولذلك حفظ الناس أنهم خرجوا في زمان غابر، وأتت اليهود ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خبرهم، فكان لأمرهم شأن، وكأن هؤلاء كانوا يحفظون أن فتية خرجوا منذ أزمنة متطاولة، ولم يدروا كيف فعل الله عز وجل بهم: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا [الكهف:21]؛ فالله عز وجل أنامهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ثم بعثهم، فهذا من أدلة البعث عباد الله؛ لأن النوم نوع من الموت، كما قال عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، فالله عز وجل يقبض الأرواح عند الموت وكذلك عند النوم، فمن شاء الله عز وجل له أن يعيش يوماً جديداً يرد الله عز وجل إليه روحه؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام وضع كفه الأيمن تحت خده الأيمن، وقال: (باسمك اللهم ربي وضعت جنبي وبك أرفعه؛ فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، وكان يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).

    وفي هذه القصة يقول عز وجل: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:19]؛ لأن هذا النوم يشبه الموت، والبعث بعد الموت، لعل الناس يعتبرون بذلك ويتذكرون الموت كل يوم.

    1.   

    الرد على من استدل بقصة البناء على الفتية بجواز بناء المساجد على القبور

    قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا [الكهف:21]، قال بعضهم: اجعلوا بنياناً على هذا المكان، كأن هذا المكان سيكون من الآثار أو من الأشياء التي تُحترم وتزار.

    وقال بعضهم: ابنوا عليهم مسجداً، قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21].

    واستدل بعض من ليس عنده حظ من العلم والهدى بهذه الآية على جواز إقامة المساجد على القبور، ورد ذلك العلامة الألباني بثلاثة أدلة:

    الأول: أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا على الراجح، فهذا إن جاز في شرعهم فلا يجوز في شرعنا، إن جاز في شرعهم أن يبنوا عليهم مسجداً، وأن يتخذوا على قبور الصالحين مسجداً، فهذا لا يجوز في شرعنا؛ لأن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا.

    الثاني: لو فرضنا على قول من يقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا، فاشترطوا ألا يأتي في شرعنا ما يخالفه، وقد أتى في شرعنا ما يخالفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وكان هذا من آخر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، في مرض موته: (كان يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم بها كشفها، وقال وهو كذلك: لعن الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، تقول السيدة عائشة : يحذّر ما صنعوا.

    فإن قال قائل: هذا خاص باليهود والنصارى، نقول: لماذا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن؟ من أجل ألا يتشبه المسلمون بهم، ومن أجل ألا يتعرضوا للعنة بما لُعن به اليهود والنصارى، فأتى في شرعنا ما يخالفه، فإن كان هذا شرع من قبلنا ففي شرعنا ما يخالفه.

    الثالث: أن هذا لم يكن شريعة عندهم؛ لأن الله عز وجل ما قال هذا في شريعتهم، بل قال: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21]، وهؤلاء الغالب عليهم الجهل، أهل الجاه وأهل السلطان وأهل الأموال قالوا: لنتخذن عليهم مسجداً، على عادة الناس إذا أرادوا أن يكرموا أحداً يقولون: نتخذ عليهم مسجداً، مع أن هذا مخالف لشرعنا، ولما ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبشة فيها من التصاوير، قال: (أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، واتخذوا فيه تلك التصاوير، أولئك هم شرار الخلق عند الله)؛ أي: من أجل الأمرين: الأمر الأول: اتخاذ التصاوير، والأمر الثاني: أنهم يتخذون على قبره مسجداً.

    1.   

    الأقوال في عدد أصحاب أهل الكهف

    قال تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22].

    قال ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن: أنا من هذا القليل، هم سبعة وثامنهم كلبهم.

    وعلل ذلك بأن الله عز وجل ذكر ثلاثة أقوال، فهذا يدل على أن الأقوال ثلاثة وليس هناك قول رابع، ثم أشار إلى بطلان القولين الأولين فقال: رَجْمًا بِالْغَيْبِ [الكهف:22] فالذي يقذف شيئاً في مكان لا يعرفه فغالباً لا يصيب الهدف.

    ثم قال: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]ولم يكذّب هذا القول، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [الكهف:22]إشارة إلى أن العبرة حاصلة سواء كانوا ثلاثة ورابعهم كلبهم، أو خمسة وسادسهم كلبهم، أو سبعة وثامنهم كلبهم، فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:22-25].

    فكانت هذه قصة هؤلاء الفتية وكيف فعل الله عز وجل بهم، وكيف نجاهم الله عز وجل من المكر الكافر، وكيف نجاهم من الشرك، فهم قصدوا الإيمان، واعتزلوا قومهم للكفر وللشرك، إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14] وقالوا: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16]فهم أخذوا بالأسباب واعتزلوا قومهم، فعند ذلك جعل الله عز وجل لهم الفرج والمخرج كما قال إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:48-49] فإذا اعتزل العبد أهل المعاصي وأهل الشرك فإن الله عز وجل يؤنس وحشته ويجعل لهم فرجاً ومخرجاً.

    اللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه.

    اللهم انصرنا بالإسلام قائمين، وانصرنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين.

    اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم رد بأسهم عن إخواننا في فلسطين، وأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً.

    اللهم عليك بالأمريكان الحاقدين، ورد بأسهم عن إخواننا في العراق وفي أفغانستان، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لسائر خلقك عبرة وآية.

    اللهم اهدنا واهد بنا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغى علينا.

    اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.

    اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755831465