إسلام ويب

الكلام على معجزة القرآنللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القرآن الكريم هو المعجزة العظمى التي أعطيت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ضمنه الله عز وجل وجوهاً من الإعجاز، فهو المعجزة الخالدة، المعجز ببلاغته وفصاحته، والمعجز بحقائقه العلمية الدقيقة، والمعجز بإخباره عما سيقع من الأمور الغيبية المستقبلية، ولذلك تحدى الله الإنس والجن في أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لعبض ظهيراً.

    1.   

    ذكر أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده عموماً وعلى أمة محمد خصوصاً

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله سلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

    إن أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على العباد أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وقد تمنن الله عز وجل بهذه النعمة العظيمة في سورة النحل، وهي السورة التي تسمى بسورة النعم، كانت أول نعمة تمنن الله عز وجل بها على العباد أن أرسل الله إلى العباد الرسل، وأنزل عليهم الكتب، كما قال عز وجل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [النحل:1-2].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مهداة).

    وقال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

    فنعمة الله عز وجل على العباد بأن أنزل عليهم الكتب عموماً، وأرسل إليهم الرسل عموماً، وأنزل القرآن خصوصاً، وأرسل خاتم الأنبياء والمرسلين خصوصاً، فهذه أعظم نعمة تمنن الله عز وجل بها على العباد.

    كذلك تمنن الله عز وجل على المسلمين بنعمة إكمال التشريع على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] نزلت هذه الآية الكريمة على النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة يوم عرفة في العام العاشر من الهجرة، وبنزول هذه الآية الكريمة تم التشريع على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتمت نعمة الله عز وجل على العباد.

    فهذه أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على العباد، وكان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب)، يقول شيخ الإسلام : وإنما مقتهم الله عز وجل لخلوهم من آثار الرسل ومن هداية الرسل، إلا بعض المتحنثين وبعض المتحمسين الذين كانوا يتعبدون ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام، كـزيد بن عمرو بن نفيل .

    فمقت الله عز وجل الناس كلهم قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عربهم وعجمهم؛ لأنهم فقدوا هداية الرسل، والناس بدون هداية الرسل -عباد الله- أضل من الأنعام السائمة، وشر من كل الدواب التي تمشي على الأرض، لأن الله عز وجل جعل الشرع والدين هو الروح وهو النور، كما قال عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

    فكيف يكون حال الجسد إذا فقد الروح؟ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:21] قبور تتحرك على الأرض عباد الله:

    وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور

    وقال عز وجل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

    فالعبد إذا كان بعيداً عن شرع الله وبعيداً عن هداية الرسل فهو ميت يتحرك على الأرض.

    والناس بدون هداية الرسل أشر من كل الدواب التي تسير على الأرض: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:55].

    وكانت بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الأولين والآخرين نعمة على العباد، فهدى الله المؤمنين به عموماً، وأهل العلم به خصوصاً، هداهم هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، وأيد الله عز وجل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الكثيرة التي تدل على صدقه، وليست المعجزات هي كل الأدلة التي تدل على صدق الرسل، فلو أن أحداً من الناس ادعى علم الطب أو الهندسة لظهر عليه الجهل وظهر عليه الكذب في فترة يسيرة، والنبوة أحوال وأقوال فكيف يدعي أحد أنه رسول من عند الله وليس كذلك ولا يظهر عليه ذلك، بل كانت آثار النبوة بادية على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟

    فإذا كان الصادق يظهر من الكاذب فكيف بأصدق الصادقين صلى الله عليه وآله وسلم؟ وكيف بأصلح الصالحين صلى الله عليه وسلم؟

    لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر

    أي: لو لم يأت بالمعجزات لكان الناظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم الكريم يعتقد بأنه نبي صادق، فكانت كل الدلائل تشير إلى نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتشير إلى صدقه، ومع ذلك له من المعجزات ما فاق به جميع الأنبياء، وخصه الله عز وجل بالمعجزة العظمى وهي القرآن المبين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة) أي: أن الله عز وجل أيد جميع الأنبياء بالمعجزات.

    وقوله: (فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة) فرجاؤه مقبول صلى الله عليه وسلم، وأمته خير الأمم، وهو أكثرهم تبعاً يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة) والرجاء في كلام الله عز وجل أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم على القطع على عادة الملوك.

    1.   

    دلائل اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن

    المعجزة العظمى التي أعطى الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إنما هي القرآن المبين، وقيل: إنما خص بهذه المعجزة مع أن له من المعجزات ما فاق به جميع الأنبياء؛ لأن معجزة القرآن هي المناسبة لناس عصره ومعاصري دهره صلى الله عليه وآله وسلم.

    فلما كان زمن موسى عليه السلام زمن السحر أرسل الله عز وجل إليهم موسى ففلق بعصاه البحر، وألقى عصاه فإذا هي حية تسعى، وأتى بالمعجزات التي فاقت سحر كل ساحر وقهرت كل ساحر وأذلت كل كافر.

    ولما كان زمن عيسى عليه السلام زمن الطب أرسل الله عز وجل عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وجاء بما حير كل طبيب وأذهل كل لبيب.

    ولما كان زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم زمن الفصاحة وزمن البلاغة، أرسل الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن المبين، بما أذل به البلغاء وتحير فيه العلماء، ودهش فيه الشعراء، أرسله بالقرآن المبين يتحدى الناس بفصاحته وببلاغته، فألجم به كل الفصحاء، فكانت معجزة كل نبي تناسب ناس عصره ودهره؛ فلهذا كان القرآن هو المعجزة التي تخص نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم.

    مما يدل على ذلك كذلك: أن أصحاب موسى وأصحاب عيسى كان عندهم غباء وتبلد، لم يكن لهم من الفصاحة والبلاغة وحدة الأذهان ما كان عند العرب، ويدل على ذلك قولهم لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].

    ولما مر بهم موسى من البحر وفلق الله عز وجل له البحر ونجوا وأهلك الله عز وجل عدوهم، ومر على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] فهذا يدل على غباوتهم وبلادتهم.

    أما أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالله عز وجل جعل لهم القرآن الذي يجولون فيه بخواطرهم، والذي يتفكرون فيه بعقولهم، حتى أذعن الكفار بفصاحته وبلاغته.

    الأمر الثالث -عباد الله- مما يدل على أن القرآن هو المعجزة الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أن هذه المعجزة هي المعجزة الدائمة الباقية، فإن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم من حنين الجذع، ونبع الماء بين أصابعه، وانقياد الشجر له، وتسليم الحجر عليه، كل هذه المعجزات ذهبت كما ذهبت معجزات جميع الأنبياء السابقين، وإنما شاهدها من عاصر هؤلاء الأنبياء الكرام.

    وبقيت معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على مر الأعصار، بقيت هذه المعجزة يتحدى الله عز وجل بها الإنس والجن، يتحدى الله عز وجل بها الأولين والآخرين، فكانت هذه المعجزة هي المعجزة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي نوه بها عندما قال: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة).

    فمعجزة القرآن عباد الله هي أبلغ المعجزات، وهي أبقى المعجزات، وناسب ذلك أن تكون أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي الباقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فليس بعد نبينا نبي، فتبقى هذه المعجزة شامخة على مر الأيام؛ لأنه لا يأتي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسول ينسخ نبوته، وشريعة تنسخ شريعته، فناسب ذلك أن تكون معجزته باقية مع بقاء الأيام.

    1.   

    وجوه إعجاز القرآن الكريم

    جزالة ألفاظه وفصاحتها

    نتكلم عن إعجاز القرآن من أربعة وجوه:

    الوجه الأول: جزالته الفائقة وفصاحته الموفقة، فكل من يسمع آيات القرآن إذا كان عنده من الفهم بلغة العرب، فإنها تبهره هذه الآيات الكريمة، كما قال الله عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] لما سمع أبو جهل هذه الآية الكريمة -وكان أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم- قال: إن رب محمد لفصيح.

    فظهرت فصاحة القرآن وأذعن لها الكفار.

    وأعجب الأصمعي ببلاغة امرأة، حين قالت له المرأة: وأي بلاغة بعد قول الله عز وجل: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7] قالت: في هذه الآية الكريمة أمران ونهيان وخبران وبشارتان، في آية واحدة من كتاب الله عز وجل. فانظروا إلى إعجازه وإلى إيجازه، فكيف يستطيع أحد من البشر أن يأتي ولو بآية من آيات القرآن؟

    وقال عز وجل: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95] سمع أعرابي هذه الآية فسجد، فسئل عن سبب سجوده؟ قال: سجدت من فصاحتها.

    وقال عز وجل: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44] كم في هذه الآية الكريمة من الطباق ومن الجناس ومن البديع ومن حلاوة اللفظ عباد الله؟!

    وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ [هود:44] أي: نقص الماء.

    وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44] أي: رست سفينة نوح على جبل الجودي، وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44].

    كذلك قوله عز وجل: فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80] يفهم هذه الكلمات ويفهم هذا الإعجاز من كان عنده فهم في لغة العرب، وعنده علم بالمحسنات وبدائع الكلمات، فهذا أول إعجاز في القرآن حلاوة نظمه، فصاحته الموفقة وبلاغته الرائدة عباد الله!

    إخبار القرآن بأمور غيبية مستقبلية ووقوعها على نحو ما أخبر به

    الوجه الثاني من الإعجاز عباد الله: هو أن القرآن أخبر بأمور غيبية فوقعت كما أخبر القرآن سواء بسواء، قال عز وجل: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم:1-5].

    حدث في الفترة المكية في بداية البعثة أن الفرس انتصروا على الروم، والروم أهل كتاب والفرس يعبدون النار، فكان الروم هم أقرب إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن أهل الكتاب كفرهم أخف من كفر عابدي الصنم وعابدي النار، والمشركون أقرب إلى الفرس فحزن المسلمون لذلك، فبشرهم الله عز وجل بأن الروم سوف ينتصرون على الفرس في بضع سنين، والبضع في لغة العرب من ثلاثة إلى تسعة، وبعد سبع سنين من نزول هذه الآية الكريمة انتصرت الروم على الفرس كما أخبر القرآن سواء بسواء.

    ثم قال عز وجل: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4] أي: أن المسلمين سوف ينتصرون على الفرس والروم، وإذا ذهب كسرى فلا كسرى بعده، وإذا ذهب قيصر فلا قيصر بعده، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وتحقق هذا الوعد الصادق للمسلمين.

    وقال عز وجل والمسلمون يعذبون في ربوع مكة: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45] في سورة القمر وهي سورة مكية، وتحقق هذا الوعد الصادق في أول لقاء بين الكفر والإيمان، في يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، انتصر المسلمون على الكفار نصراً مؤزراً قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123].

    فهذا الإعجاز من إعجاز القرآن، وهو أنه أخبر بالمغيبات، ووقع الأمر كما أخبر القرآن سواء بسواء.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    التحدي من أن يأتوا بمثله أو بعضه

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    ذكرنا من أوجه إعجاز القرآن عباد الله: إعجاز القرآن برشاقة اللفظ وجزالة المعنى.

    والوجه الثاني: أن القرآن أخبر بالمغيبات، وحدث كما أخبر القرآن سواء بسواء.

    الوجه الثالث عباد الله: الإعجاز بالتحدي، فقد تحدى الله عز وجل الخلق على أن يأتوا بمثل القرآن، فعجزوا عن ذلك، فتحداهم الله عز وجل على أن يأتوا بعشر سور من سور القرآن، فعجزوا عن ذلك، فتحداهم الله عز وجل على أن يأتوا بسورة واحدة من سور القرآن، فعجزوا عن ذلك، وأخبر الله عز وجل عن عجزهم حيث قال عز وجل: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] أي: لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ومعيناً.

    فهذا تحد بالقرآن كله.

    وتحداهم الله عز وجل أن يأتوا بسورة واحدة، فقال: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:23-24].

    وقال في العشر السور: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [هود:13] فعجزوا عن القرآن كله، وعجزوا عن عشر سور، وعجزوا كذلك على أن يأتوا بسورة واحدة ولو كأقصر سورة في القرآن.

    وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] أي: لن تقدروا على ذلك.

    وحدث الأمر كما أخبر الله عز وجل، ما استطاع أحد أن يأتي بمثل سورة من القرآن.

    فإن قال قائل: لعله قد عورض ولم ينقل إلينا؟

    فالجواب: بل عورض فعلاً ونقل إلينا، فظهرت ركاكة لفظه، وسماجة نظمه، وسخافة معناه، أي: أن الذين حاولوا أن يعارضوا القرآن أتوا بالألفاظ الركيكة، والمعاني السخيفة، فلم يستطع أحد أن يأتي بمثل القرآن أو بمثل عشر سور، أو بمثل سورة واحدة من القرآن، وأعداء الإسلام يكيدون للإسلام ليل نهار، وما استطاع أحد أن يأتي بسورة من مثل القرآن، فهذا يدل على أنه كلام الملك المنان عز وجل، وأنه كلام خالق البشر وليس ككلام البشر، فهذا الوجه الثالث عباد الله! من الإعجاز وهو الإعجاز بالتحدي.

    فإن قال قائل: لعل الله عز وجل يصرف همم الناس على أن يأتوا بمثل القرآن؟

    فالجواب: أن هذا أيضاً من الإعجاز، وهذا يدل على قدرة الله عز وجل، أنه يصرف همم الناس وعقول الناس على أن يأتوا بمثل القرآن.

    إخباره عن حقائق علمية عرفت بعد نزوله بمئات السنين

    الوجه الرابع عباد الله: أن القرآن أخبر بأشياء قد ثبتت الحقائق العلمية أنها كذلك، قال عز وجل: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11].

    أجمع علماء الفلك: أن المجرة التي فيها المجموعة الشمسية تشتمل على بلايين من النجوم والكواكب والأجرام السماوية، وأن بينها كمية عظيمة من الدخان والغبار، وأن الدخان والغبار هو المادة الأولية لهذه الكواكب والنجوم، فكيف عرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؟

    ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11].

    ومن ذلك: قوله عز وجل: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، من أين عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يصعد في السماء يختنق لقلة ضغط الهواء في طبقات الجو العليا، ولقلة نسبة الأوكسجين، حتى إن رواد الفضاء لا بد أن يحملوا على ظهورهم أنبوبة أوكسجين؟!

    فهذا يدل على أن القرآن كلام الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علماً.

    ومن ذلك: قوله عز وجل: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]؛ فإن الناظر إلى الجبل الذي بجواره لا يعتقد إلا أنه ساكن، فهو ساكن أمام نظره ولكن الذي ينظر إلى الكرة الأرضية من علٍ، من الفضاء الخارجي يرى الكرة الأرضية وهي تدور.

    فمن الحقائق التي قد ثبتت عند علماء الفلك: أن الكرة الأرضية تدور حول نفسها كل أربعة وعشرين ساعة، وتدور كذلك حول الشمس، فدورانها حول نفسها تجعل الذي ينظر إليها من الفضاء الخارجي يرى هذه الجبال وهي تمر مر السحاب، فكيف عرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؟

    فهذا يدل على أن القرآن كلام الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علماً، إيجازه وإعجازه، وبلاغته الرائقة، وجزالته الموفقة.

    كذلك: ما في القرآن من إخبار بالمغيبات، وما تحدى الله عز وجل به الخلق جميعاً الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله.

    كذلك إخبار القرآن بأشياء من الحقائق العلمية التي ثبتت بعد ذلك، ولم تكن معروفة في العهد الأول، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يأخذ شيئاً من أهل الكتاب، وإنما علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى، أي: أخذ علمه من عند الله عز وجل، لم يتتلمذ على أحد من أهل الكتاب، ولم يتتلمذ على أحد من البشر، بل أدبه الله عز وجل وعلمه، فكانت معجزة القرآن هي المعجزة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليس معنى ذلك: أنه ليست له معجزات حسية، ولكنه بالإضافة إلى هذه المعجزة العظمى له من المعجزات الحسية الكثيرة التي فاق بها جميع الأنبياء.

    وقد أشرنا إلى ذلك إجمالاً في خطب سابقة، ولكننا سوف نشير إلى ذلك بمزيد من التفصيل، وكيف أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء من الغيب في حياته وحدثت كما أخبر بعد أن لحق بالرفيق الأعلى.

    وهذا الموضوع من الأهمية بمكان، لأنه كلما ازداد علمنا بعلامات النبوة ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم نزداد إيماناً به، ونزداد حباً له، ونزداد نصراً لشريعته، وتمسكاً بسنته.

    اللهم ثبتنا على الإسلام قائمين، وثبتنا على الإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

    اللهم اهدنا واهد بنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756174371