إسلام ويب

تفسير سورة مريم [59-60]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله تعالى في هذه الآيات أنه يخلف الصالحين خلْف يتركون الصلاة، ويتبعون الشهوات، فمصيرهم جهنم وبئس المهاد، ثم استثنى الله تعالى من تاب من ذلك وآمن وعمل الصالحات فأولئك يتوب الله عليهم، ويدخلهم الجنات، ولا يظلمهم شيئاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف...)

    قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:59-60].

    بعد أن ذكر الله حزب الصالحين من الأنبياء والرسل وورثتهم، عقب ذلك بذكر حزب الشياطين الذين بدلوا وغيروا وخرجوا عن أمر الأنبياء وطاعتهم ورسالاتهم، فقال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم:59] أي: خلف من بعد هؤلاء الأنبياء: زكريا ويحيى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل، خلف أضاعوا الصلاة، يقال لغةً: خَلْف وخَلَف، فَخلَف يقال للذرية الصالحة، وخَلْف يقال للذرية الطالحة، فيقال: فلان كان خير خلَف لخير سلف، ويقال: فلان كان شر خلْف لخير سلف.

    والله أخبر أنه قد جاء من بعد هؤلاء أقوام خلفوهم وكانوا على غير هديهم وطريقتهم، فبعد أن انتهوا ومضوا وهلكوا جاءت قرون تخلفها قرون وأجيال تخلفها أجيال، فهؤلاء خَلَف من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.

    قال ابن عباس وجمهور من السلف الصالح: كان إضاعتهم للصلاة تركها، فهؤلاء تركوا الصلاة وكفروا وأشركوا، وخرجوا عن سبل الإسلام وعن هدي الأنبياء، وقيل: أضاعوا أوقاتها فذلك ضياعها، فمن أسباب الهلاك تضييع أوقاتها سهواً أو إغفالاً أو عدم اهتمام أو بعداً عن أمر الله وطاعته.

    وكون تارك الصلاة كافراً هو ما عليه الجمهور من السلف الصالح، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الفرق بين المؤمن والكافر ترك الصلاة)، وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وذلك مذهب أحمد بن حنبل وقول للإمام الشافعي .

    وسواء فسرنا بضياعها تركها أو بالسهو عن أوقاتها وإغفالها، فبسبب ذلك حشرهم الله مع الذرية الضائعة الطالحة التي خلفت الأنبياء والرسل على غير ما يجب أن يخلفوا به من الطاعة لله والطاعة لرسله، والقيام بالعبادة كما أمر الله ورسله.

    فمن صلى الصلاة في غير أوقاتها فقد أهمل وسها وتهاون وتلاعب، وأما من تركها البتة فقد كفر، ويكون بذلك خَلْفَ سوء لسلف صالح من الأنبياء والمرسلين وورثتهم من العلماء الصالحين.

    ومن خصائص الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهؤلاء لم يبق عندهم ما يحصنهم ويردعهم ويبعدهم عن السوء والفحشاء.

    فعندما يتهاونون بالصلاة تركاً لها أو تركاً لأوقاتها فإنهم يتبعون الشهوات والمعاصي وشرب الخمور وأكل الربا وأكل السحت وظلم الناس والاعتداء على أعراضهم ظلماً وعدواناً وعلواً في الأرض وفساداً، فما كان تحصيناً وما كان سياجاً وحفاظاً على حياتهم الإسلامية وأعمالهم الدينية زالت عنهم بتركهم الصلاة، ولم يبق لهم ما يحصنهم ولا ما يحفظهم، فبسبب تركهم الصلاة وعدم القيام بها في أوقاتها اتبعوا الشهوات من فسق ودعارة وأكل للحرام وارتكاب للسوء بكل أنواعه.

    وقال عبد الله بن مسعود : هؤلاء فئة لم تأت بعد، يتركون الصلاة فينزو بعضهم على بعض في الشوارع والأزقة والطرقات نزو الكلاب والخنازير والدواب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) .

    وهؤلاء قد ابتدأ عصرهم وآن أوانهم، فهم يرون في الكثير من ديار الإسلام، أما ديار الكفر فمن جاء على أصله فلا سؤال عليه، ولكن العجيب أن يكون ذلك في ديار الإسلام وأرض المسلمين، وهم لا يحللون حلالاً ولا يحرمون حراماً.

    قال تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59] السين للتسويف القريب، وسوف للتسويف البعيد، فهؤلاء الذين يضيعون الصلاة ويأتون الشهوات بأنواعها والموبقات بأشكالها، سيلاقون في مستقبل أيامهم عند هلاكهم غياً، والغي: الفساد والهلاك والتدمير والذل والهوان.

    فهؤلاء الذين أتوا الفواحش سيكون جزاؤهم الخزي من الله والخراب والدمار والفساد، فتفسد عليهم دنياهم وآخرتهم.

    وقال الجمع الغفير من المفسرين: إن الغي: واد في جهنم تسيل فيه دماء وقيح الكافرين من أهل النار، وهو في قعر جهنم، وكلما حاولت جهنم أن تنطفئ إذا بهذا الوادي يسعرها ويزيدها لهيباً واشتعالاً، وهي غذاء وشراب هؤلاء المفسدين التاركين للصلاة، والذين ارتكبوا الشهوات.

    وتارك الصلاة ليس بكافر على قول، ولكنه مع ذلك يعتبر وباءً يجب أن يزال من الأرض.

    فقال المالكية: يجب زوال تارك الصلاة من الأرض حتى لا يعدي غيره قريباً أو بعيداً من أسرته أو من طلابه أو من عموم الناس، فيجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال بمثل ذلك الشافعية.

    وقال أبو حنيفة : لا يقتل، ولكن يسجن سجناً أبدياً، بحيث إذا خرج وقت الصلاة ولم يصل يدعى للصلاة فإن صلى فذاك وإلا بقي في السجن، وهكذا إلى أن يموت في السجن.

    وقال الظاهرية: لا يسجن ولا يقتل ولكن يجلد عشر ضربات، إلا أنه إذا جلد العشر فلم يصل تعاد عليه، فإن صلى فذاك وإلا سيعاد عليه الضرب عشراً فعشراً إلى أن يموت أو يصلي.

    إذاً: فكلهم اعتبروه شخصاً موبوءاً يجب أن يبعد عن الناس؛ لكي لا يعديهم بقلة دينه، وباستهتاره بطاعة ربه؛ ولكي لا ينشر بينهم ترك عبادة ربه وترك السجود له والصلاة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً ...)

    قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:60].

    ربنا جل جلاله من رحمته بخلقه وعباده حتى بالعصاة المذنبين يقرر العذاب ونوعه وينذر ويتوعد، ثم يدعو خلقه وعبيده إليه: إن أنتم تبتم وتراجعتم فالله يتوب على من تاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ، وقال أيضاً: (الإسلام يجب ما قبله) أي: يقطع ما سبق من الذنوب والآثام كما قال سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيستثني الله من هؤلاء التاركين للصلاة: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم:60]، وشروط التوبة ثلاثة: ألا يعود للذنب الذي ارتكبه، وأن يندم على ما صدر منه، وأن يعطي عهداً بينه وبين نفسه لربه ألا يعود لذلك الذنب الذي تاب منه.

    فإن كان الذنب مع ربه فإنه يشترط في التوبة هذه الثلاثة الشروط، فإن خلا من التوبة شرط من هذه الشروط لم تقبل توبته، فتارك الصلاة إذا قال: تبت، فمن تمام التوبة أن يعود للصلاة، ويعوض ما فاته، ويندم على ما فات من الذنب، فيجد ألماً وحسرة ويتعهد ألا يعود لذلك، فإن غلبه الشيطان أو رفاق السوء فليجدد التوبة مرة أخرى.

    وأما إذا كان الحق للإنسان فيشترط هذه الشروط ويزاد رابعاً وهو: إن كان مالاً قد أخذه فيجب أن يعيده له، وإن كان حداً قد ارتكبه في حقه فيجب عليه أن يسلم نفسه لقيام الحد إلا أن يعفو صاحب الحد، وإن كان شتيمة أو سوءاً أو كان شيئاً دون ذلك فليذهب إلى من أساء إليه وليتحلل منه، وبعد ذلك يغفر الله ويتوب، وكما قال الشاعر:

    كن كيف شئت فإن الله ذو كرم وانسَ الهموم فما في الأمر من باسِ

    سوى اثنتين فلا تقربهمــا أبداً الشـــرك بالله والإضرار بالناس

    إذ الشرك لا مغفرة له، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وحقوق الناس لا تغفر إلا إذا غفرها أصحابها وتنازلوا عنها، وإلا فسيدانون عليها، ويؤدونها بالوافر يوم القيامة، فإن لم يوجد عند أحدهم ما يؤديه فإنه يؤخذ من حسناته وتضاف إلى ميزان من ظلمه.

    إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ [مريم:60] أي: آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، قوله: وَعَمِلَ صَالِحًا [مريم:60] أي: لا بد مع الإيمان والتوبة أن يعمل الصالحات، والصالحات تجمعها الأركان الخمسة: الشهادتان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، فمن قام بما عليه من أركان فقد أفلح، إلا المال فإن وجد مالاً زكى وإلا فلا زكاة عليه، وكذلك الحج إن وجد زاداً وراحلة فليحج.

    قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:60]، فالتائبون من الذنوب كمن لا ذنوب لهم، فهم القائمون بالصلوات في أوقاتها، والصائمون شهر رمضان بما أمر الله به من واجبات وسنن ومستحبات وترك للمكروهات، والقائمون بما عليهم من حج بيت الله الحرام، والإتيان بكل حسنة وبكل شعيرة من الشعائر الطيبة، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

    وضابط ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، فإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر فليأت المأمور بما استطاع، فأمرنا بالصلاة قياماً فمن عجز لمرض فليصل جالساً، وأمرنا بالوضوء للصلاة فمن عجز فليتيمم، وأمرنا بالحج فمن عجز فلا حج عليه، (فأتوا منه استطعتم).

    وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] أي: فلا تفعل لزوماً، فلا زنا ولا سرقة ولا ربا ولا ظلم ولا شرك ولا كفر، إلى آخر ما هناك من المنهيات، فعلى المؤمن الحق أن يفعل من الخير ما استطاع ووجد إليه سبيلاً، وأن يترك جميع ما أمر بتركه.

    قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [مريم:60] أولئك يكونون مع المؤمنين الصادقين في الجنان، وهي درجات ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، فأعلاها الفردوس، وهي مساكن الأنبياء والمرسلين.

    قال تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:60] أي: لا يظلمون في كل ما قدموه من طاعة وفعل خير، حتى ما سبق أن فعلوه قبل المعصية وقبل الذنب فإنه يعود لهم ويجازون عليه ولا يظلمون منه شيئاً، وما تابوا منه تاب الله عليهم، والإسلام يجب ما قبله، ومن تاب تاب الله عليه، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756251244