إسلام ويب

سلسلة محاسن التأويل تفسير سورة الزخرف [3]للشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله تعالى في هذه الآيات الفرية التي افترتها قريش في زعمها أن الملائكة الكرام هم بنات الله تعالى، فتوعدهم الله تعالى بأن فريتهم هذه ستكتب وسيسألون عنها. ثم ذكر الله عنهم احتجاجهم بالقدر في عبادتهم للأصنام، وتلك الحجة داحضة عقلاً وشرعاً، فلا يصح مطلقاً الاحتجاج بالقدر في الذنوب والمعاصي. ثم ذكر الله عنهم أنهم تشبثوا بشبهة أخرى وهي اتباع الآباء والأجداد فيما كانوا عليه، فرد الله عليهم ذلك بأن ما جاءهم به الرسول هو أهدى مما كانوا عليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً...)

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فنستأنف في هذا اللقاء المبارك تفسير سورة الزخرف، وكنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، والآية التي بعدها شديدة الارتباط بها، قال الله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19].

    فكل من نازع الله فهو مغلوب، والله يظهر ضعف عدوه وتناقضه قولاً أو عملاً، وقد زعم القرشيون أمرين:

    الأمر الأول: زعموا أن الملائكة بنات لله.

    والأمر الثاني: ينجم عن هذا أنهم جعلوا الملائكة شركاء لله؛ لأن الابن جزء من والده، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها)، على هذا جمع هؤلاء القرشيون النقيضين، والنقيضان في قولهم أنهم رفعوا أولاً: الملائكة من مقام العبودية، ولهذا قال الله: الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ [الزخرف:19]، رفعوهم إلى مقام أنهم جعلوهم بنات لله، وجعلوهم شركاء مع الله، وهذا ارتفاع وارتقاء بمقام الملائكة، وفي نفس الوقت جعلوهم بنات! والذكر أفضل من الأنثى، فرفعوهم من وجه ووضعوهم من وجه آخر، وهذه قمة التناقض، قال الله جل وعلا: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف:19] الشهادة هنا بمعنى: الحضور، سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]، وهذا فيه تخويف للناس؛ لأن الله قد علم من غير تدوين شهادتهم أن مآلهم إلى النار، ومع ذلك حاكمهم الله على هذا الأمر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم...)

    إبطال الاحتجاج بالقدر عقلاً ونقلاً

    فالكفار جزماً حتى ولو لم يقولوا هذا القول فهم من أهل النار، ومع ذلك قال الله: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف:19-21].

    فاحتج القرشيون بالقدر، ومن احتج بالقدر يبطل احتجاجه عقلاً ونقلاً، فكل من احتج بدليل عقلي فإنه يلزمه البقاء عليه في كل أحواله، وقد تبين عقلاً أن أي أحد لا يستطيع أن يحتج بالقدر في كل أحواله، فهم يقولون: لو كان هذا الدين حقاً لما شاء الله أن نعبد غيره، قال الله جل وعلا عنهم: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20]، فاحتجوا بالقدر، فنقول لهم من الناحية العقلية: لو سلمنا لكم بصحة هذا الاحتجاج هل تقبلون به في كل أحوالكم؟ لا يقبلون.

    فلا يمكن أن تأتي أعراضهم فتنتهكها، أو أموالهم فتسرقها ويقبلون احتجاجك بأنك انتهكت أعراضهم وسرقت أموالهم بقدر الله، بل سيعاقبونك ويثأرون لأنفسهم، فهذا يبطل به الاحتجاج بالقدر عقلاً.

    وأما إبطاله نقلاً فهو في الآية التي بعدها قال الله جل وعلا: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف:21]، وقطعاً ليس لهم كتاب من قبله، قال الله جل وعلا: وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [سبأ:44]، فهذه الآية عظ عليها النواجذ، واعقد عليها خنصرك فسيأتي الحاجة إليها فيما بعد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية...)

    لكن الله ساقها لبيان رد دليلهم نقلياً، وهم لا يملكون دليلاً نقلياً ولا دليلاً عقلياً لكن لديهم شبهة، والقرآن إذا حاكم فإنه يحاكم بالتفصيل، والشبهة هي قول الله جل وعلا كما حكاه الله عنهم: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]، فشبهتهم التي تمسكوا بها بعد أن أبطل الله احتجاجهم بالقدر هي أنهم وجدوا آباءهم على أمة، وقالوا -كما قال الله-: وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فقال الله: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:23]، إذاً فالاحتجاج بالقدر فيما يبدو خصيصة قرشية، وأما الاحتجاج بأنهم وجدوا آباءهم على أمة فليست خصيصة قرشية وإنما مضت في ملل وأمم وأقوام قبلهم، والدليل عليه أن الله لما حكى احتجاجهم بالقدر لم يقل سبحانه: إنه كان موجوداً في الأمم التي سلفت، ولما ذكر احتجاجهم بأنهم وجدوا آباءهم على أمة قال سبحانه وهو أصدق القائلين: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فقال كل رسول لأمته: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا [الزخرف:24] أي: كل أمة لرسولها، إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:24]، قال الله: فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف:25].

    النهي عن التبعية بغير علم

    والآن نعود للآية من أولها وننيخ المطايا فيما يجمل عنها من فوائد، وأعظم الفوائد فيها: أن الله نهى عن التبعية بغير علم؛ لأن الله قال: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [الزخرف:24]، وعلى هذا فباب الاجتهاد في الشرع مفتوح ولا يلزم، والناس عندما فتحوا لأنفسهم باب الاجتهاد ظنوا أن الطريقة المثلى إليه هي حفظ المتون، وهذا خط منهجي عظيم، فإن الحفظ وإن كان حسناً إلا أن الذي ينبغي في المجتهد أن يعرف مواضع الأحكام ويفهمها، وأما حفظها فليس له علاقة بالاجتهاد، فإذا كان يسهل عليه أن يعرف موطن الحكم ويفقهه ويفهمه وينزله التنزيل الصحيح فهذا مجتهد، وأما الحفظ فلا علاقة له؛ لأننا لو قلنا: إن الحفظ ركن من أركان الاجتهاد لوصل إلى تلك المنزلة أو إلى نصفها أو قارب منها مئات الحفاظ، وأنت كما ترى كثيراً منهم لا يملك الآلة العلمية، وحسبك مثلاً أن ابنك في المرحلة الدراسية قد يكون في الثانية عشرة من عمره، وحفظ القرآن أو حفظ الصحيحين، ولا يمكن أن يكون قد خطا خطوة واحدة في طريق الاجتهاد، قال الناظم:

    وموضع الأحكام دون شرط حفظ المتون عند أهل الضبطِ

    والمعنى: أن يعرف المجتهد موضع الأحكام دون أن يشترط حفظ المتون عند أهل الإتقان والصنعة.

    معاني كلمة (أمة) في القرآن

    فنجم عن هذا كله أن التقليد والاتباع من غير دليل أمر منبوذ شرعاً كما دل عليه قول الله جل وعلا، وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22]، الأمة هنا هي الطريقة والمسلك الذي يسيرون عليه، والهدي الذي كان عليه آباؤهم، وكلمة أمة جاءت في القرآن على معانٍ عدة، لكن عرفنا المراد هنا من السياق، قال الله جل وعلا: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [هود:8] أي: إلى أجل وزمن، وقال الله جل وعلا: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ [القصص:23] أي: جماعة، قال بعضهم: دون الرجال، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، أي: جماعة، فيدخل فيها الرجال والنساء، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120] أي: رجلاً جامعاً لصفات الخير.

    بعض الألفاظ المتفقة خطاً والمختلفة معنىً في القرآن

    إذاً: فيا من تفسر القرآن ثمة ألفاظ تتفق في أحرفها وتختلف في معناها، وإن كان الجرم الأول لمعناها هنا لكن تأتي لها دلالات، فمثلاً قال الله جل وعلا: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ [المائدة:30]، وهو أخوه لأبيه وأمه؛ لأن الحديث عن قابيل ، وهابيل ، وقال الله في هود: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [هود:50] وليس أخاهم لأمهم وأبيهم، لكنه أخوهم في القبيلة، وقال الله تبارك وتعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38] أي: شبيهتها ومثيلتها في الجرم، وقال الله جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، أي: إخوة الدين، وقال الله تبارك وتعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص:23] أي: شريكي وصاحبي، وقال الله جل وعلا: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202] أي: أولياؤهم، فاللفظ واحد والمعاني مختلفة.

    ومثال أخر كلمة آية، قال الله جل وعلا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ [هود:103] أي: عضة وعبرة، وقال الله جل وعلا: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الروم:20] هنا آية بمعنى برهان ودليل، وقال الله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشعراء:128] أي: البناء الرفيع.

    وتأتي آية بمعناها في المصحف، قال الله: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ [النحل:101].

    معنى (آية) اصطلاحاً

    ونعرج الآن هنا في علم التفسير على معنى آية في الاصطلاح الشرعي، فقد أخذنا نماذج على آية في المعنى اللغوي فقلنا: تأتي بمعنى عظة، وتأتي بمعنى برهان، وتأتي بمعنى: البناء الرفيع، وتطلق في المصطلح الشرعي على جملة من الكلام ذات مبدأ ولها مطلع ومقطع، مختومة بفاصلة، وموجودة في سورة.

    والفاصلة: هي جملة من الكلام تختم به الآية، وهي قرينة القافية في الشعر، واللازمة في السجع، إلا أن الفارق الأعظم أن الفاصلة في القرآن يؤتى بها لمعنىً.

    وقد قال أهل صناعة التفسير الذين لديهم حظ في البلاغة: إن الفاصلة سر من أسرار القرآن.

    أقسام الفاصلة في القرآن

    ويمكن تقسيم الفاصلة إلى أربعة أقسام:

    الأول: التمكين، ويقصد به: تلك الفاصلة التي يكون ما قبلها ممهداً لها، مثل قوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب:25]، فأنت تكتب صدر الآية والفاصل: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25]، والفاصلة هي قوله: وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25]، وما قبلها كان ممهداً لها.

    فحتى لا يفهم أن رد الذين كفروا كان قدراً واتفاقاً جاءت الفاصلة لتبين التمكين، فظهر من لفظها قدرة الله جل وعلا؛ ليطمئن المؤمن ويغاظ الكافر هذا أول أقسام مدلولات الفاصلة وهو التمكين.

    الثاني: التصدير، وهو أن يكون صدر الآية دالاً على آخرها، فتصبح هذه الفاصلة مأخوذة لفظاً من صدر الآية، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ [نوح:10]، فهذه الآية فاصلتها: إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10].

    الثالث: التوشيح، وهو نظير التصدير، لكن التصدير مأخوذ لفظاً، وأما التوشيح فمأخوذ معنىً، قال الله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الملك:13]، فختمت بقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك:13].

    الرابع: الإيغال، من أوغل فلان في الأمر، أي: زاد فيه ودخل وتعمق، فكل هذه المعاني تدور في فلك الزيادة.

    والإيغال في الفاصلة: أن تتضمن الفاصلة معنىً زائداً على صدر الآية، قال ربنا مثلاً وهو أصدق القائلين: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88]، فقد انتهت الآية من حيث المعنى وتم معنى الآية، ثم قال الله بعدها في فاصلة ختمت بها هذه الآية: وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].

    فهذه الفاصلة زادت معنىً وهو أنهم لا يأتون بمثله مجتمعين، أي: حتى ولو اجتمعوا فلا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فهذه الفاصلة زادت معنىً زائداً عن صدر الآية، فيسمى هذا النوع إيغالاً.

    ويأتي الإيغال وله جرم آخر وموضع آخر عند البيانين وأهل البديع ضمن الإيجاز والإيغال وأمور أخر غير علاقته بالفاصلة؛ يأتي في الآية.

    إذاً فالإيغال يأتي على ضربين: يأتي جزءاً من أقسام الفواصل، ويأتي محسناً بديعياً في الآية نفسها، فكيف يأتي محسناً بديعياً في الآية نفسها؟ إن الآية تقطع على من يسمعها الزيادة، فبعض الشعراء وهذا يظهر عند ابن المعتز كثيراً: يأتي بأبيات تتضمن معان تلزمك ألا تسأل، فكل ما خطر ببالك سؤال ألجمك الكلام الذي تسمعه، مثاله: يقول الله جل وعلا: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة:266]، ومعلوم أن الجنة لا بد أن يكون فيها نخيل وأعناب، فهذه من نخيل وأعناب زيادة على أنها جنة، قال الله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البقرة:266]، والأنهار أصلاً من لوازم كلمة جنة، لكن هذا إيغال، وزاد إيغالاً آخر فقال: لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [البقرة:266]، فهذا إيغال آخر تكفي عنه كلمة جنة.

    لكن المقصود -والمقصود غير الوصف- منه هنا إظهار شدة التأسف والتحسر على جنة بهذا الوصف، قال الله تعالى: لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ [البقرة:266]، لما قال: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ [البقرة:266] يأتي السؤال: أهم شيء ترك ذرية وإلا ما ترك ذرية؟ قال الله: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ [البقرة:266]، فيأتي السؤال: أضعفاء هم أم أقوياء؟ فيأتي الإيغال: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ [البقرة:266]، قال الله: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ [البقرة:266]، ولم يكتف: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ [البقرة:266]، وكلمة (فيه نار) من لوازمها الاحتراق، لكن قد يقول قائل: ربما لا تحترق، فيأتي السؤال: هل احترقت؟ قال الله: فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266].

    فهذا الإطناب الذي يجيب عن كل سؤال ربما يخطر على البال يسمى في الصناعة الشعرية: إيغالاً، والقرآن قرآن عربي، فما يقال من أساليب العرب في كلام أهل الشعر ينزل على أساليب القرآن، لكن لا يقال للقرآن شعراً، وقد قلت مراراً: إن طه حسين الأديب المعروف على ما فيه وليس هذا مقام القضاء بين عباد الله المقام استفادة من الكلام والمقام اشتشهاد، طه حسين عرف الشعر والنثر، فقيل له: والقرآن شعر أو نثر؟ فأجاب بكلمة بليغة فقال: القرآن قرآن ليس له اسم إلا قرآن، فلا يسمى شعراً ولا يسمى نثراً، لكنك إذا كنت قوياً في معرفة أساليب العرب في كلامها أعطيك مفاتح من مفاتيح عدة لتدبر كلام الله جل وعلا، وأن تكون فارساً مقدماً فيه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه...)

    بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف:22-29].

    الاختلاف في اسم أبي إبراهيم

    إبراهيم هو خليل الله المعروف، والمعنى: واذكر وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ [الزخرف:26] قيل: اسمه: تارخ أو تارح بالحاء، وهذا قول أهل التاريخ، وذكر الله في القرآن: أنه آزر ، واضبط الأقوال عندي أن يقال: إن اسمه تارخ ، ويعرف بـآزر ؛ خروجاً من الإشكال، فجمهرة المؤرخين اتفقوا على أنه تارخ ، وهو قول ابن عباس ، والقرآن يقول: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74]، ويمكن الجمع بأن اسمه: تارخ ويعرف بـآزر .

    وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:26-27] وهذا استثناء منقطع بمعنى: لكن الذي فطرني أتولاه، فكما أتبرأ مما تعبدون فإني أتولى من فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:27].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه...)

    وَجَعَلَهَا [الزخرف:28] الفاعل عند جمهور أهل العلم هو إبراهيم، وبعض العلماء على أن الضمير يعود على لفظ الجلالة، ومن قال: إنه يعود على لفظ الجلالة يغلب بأنه جاء في آخر الآية: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ [الزخرف:28]، وكلمة (لعل) هنا لا تناسب أن تسند إلى رب العزة، فنرجح أن فاعلها عائد على إبراهيم، ولها مفعولان الهاء في (جعل)، و(كلمة) مفعول ثاني، وأما (باقية) فهي صفة، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28]، والعقب في اللغة هو مؤخر الرجل، وفي الاصطلاح: كل قوم ليس بينهم وبين أبيهم أنثى.

    وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28] الكلمة: هي كلمة التوحيد والبراءة مما يعبد من دون الله، وأنا الآن أفصل حرفياً وسأجمع شتات هذا كله؛ لأن هذه الآية يهمنا جداً فهمها.

    سنقول ما قال المفسرون ثم نقول رأينا، فأهل التفسير يقولون: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تبرأ من أهل الأوثان، وهذا حق، وتولى ربه، وهذا حق وظاهر، وجعل هذه الكلمة في عقبه باقية يرجعون إليها إذا حادوا جعلها علامة وإشعاراً لهم، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28]، وقالوا من الدلائل: أن الله قال: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ [البقرة:132].

    معنى الكلام عندهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قالوا: إن هذا الأمر الذي رجاه إبراهيم لم يتحقق كله، فآمن بعض ذريته ولم يؤمن بعضهم، قال الله جل وعلا: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] في خطابه لإبراهيم، ثم قال الله: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف:29] أي: أن هؤلاء الآباء الذين هم آباء قريش لم ينتفعوا بكلمة من إبراهيم باعتبار أن إبراهيم أن لإسماعيل، وإسماعيل أب لـعدنان ، وهؤلاء عرب عدنانيون؛ لأن نسب النبي ينتهي إلى معد بن عدنان .

    وعلى هذا نجم أنهم فهموا أن ثمة شيئاً من الدين كانت قريش مطالبة به حتى توسعوا، فقال الطاهر بن عاشور غفر الله له ورحمه: ومما يستروح من الآيات من قول الله: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28] إلى قوله: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ [الزخرف:29] أنه لم يكن هناك مشرك في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أجداده كانوا يضمرون الإيمان ويخفونه ولم يصرحوا به؛ مخافة الفتنة من قومهم.

    وهذا أمر عندي في غاية الغرابة والبعد، وقد قلت في درس خلا تنبه لقول الله: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف:21]، وقلنا: إن هذا استفهام إنكاري أنه لم يأتهم كتاب، ولئن كان الأمر ينطبق عليهم كما قال الطاهر بن عاشور أو غيره فإنهم يكونون مطالبين بالصحف التي أنزلت على إبراهيم، والله قد نفاها عنهم وبين أنهم لا يملكون دليلاً نقلياً.

    والعلماء يربطون ما بين قول الله جل وعلا: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28]، وبين قوله: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ [الزخرف:29]، والذي أراه والعلم عند الله: أن قول الله جل وعلا: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28] لا علاقة لها بقول الله: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ [الزخرف:29]، فهناك انفكاك تام، والمعنى: أن إبراهيم جعل هذه الكلمة في ذريته التي كانت على مقربة ممن كفر به؛ لعلها إذا شاعت في ذريته يرجع من لم يؤمن به عن الكفر، ومن أعظم القرائن على ذلك: أن قوم إبراهيم لم يهلكوا، وبقيت الأمور معلقة في أذهانكم لكن الوقت انتهى، وسأبينها تفصيلاً في أول اللقاء القادم، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصل الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755968441