إسلام ويب

تفسير سورة الروم [30 - 34]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التوحيد هو الذي من أجله بعث الله الأنبياء والرسل، وأنزل الكتب، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وهو الدين القيم الذي لا اعوجاج فيه، فعلى كل مسلم أن يستقيم على هذا الدين، ولا يتبع سبيل المشركين، ويلزم جماعة المسلمين، ويلجأ إلى الله في كل وقت وحين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً...)

    الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الروم: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الروم:30-34].

    يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنين بإقامة الوجوه لهذا الدين الحنيف، الدين القيم دين الإسلام، وهذه فطرة الله التي فطر الناس عليها سبحانه.

    فهم مولودون على ذلك، فقد جعل الله عز وجل في قلوبهم هذه الفطرة والاستقامة على دين الله سبحانه، فالقلوب مهيأة لقبول هذا الدين، والخلق مفطورون على ذلك، (ولكن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    قال: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] أي: خلقهم على ذلك، فقلوبهم سليمة تقبل التوحيد ودين الإسلام، وتقبل ما يأتيها من شرع رب العالمين سبحانه وتعالى، فهم مفطورون منشئون مخلوقون على ذلك، قال سبحانه: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30].

    ثم قال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30] أي: استقم على هذا الدين، ووجه وجهك إليه وإلى شرع الله سبحانه مطيعاً منفذاً أوامر الله سبحانه، مبتعداً كل البعد عن الباطل، وعن الشرك بالله سبحانه، وعن الأديان الباطلة ومعصية الله سبحانه، حنيفاً مستقيماً على شرع الله سبحانه، وهو كما قال تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (... لا تبديل لخلق الله...)

    ثم قال: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] أي أن: (كل مولود يولد على الفطرة)، فلا أحد يقدر على تغيير خلق الله سبحانه وتعالى، ولن يلعب الإنسان بهذه الفطرة فيغيرها، هذا يولد على الإسلام وذاك يولد على النصرانية، مع أن كل مولود مفطور على ذلك، وقد ابتدأه الله سبحانه وأنشأه على قلب مستقيم، وهذا مثلما تولد البهيمة فيراها الإنسان سليمة، ثم بعد ذلك يقطع أذنها وأنفها ويدها أو رجلها، فهو في الحقيقة من يبدل ويغير فيها، وكذلك المولود ولله المثل الأعلى.

    أما دين الله سبحانه فلن يقدر أحد أن يغيره من قلب المولود الذي يولد إلا أن يكبر هذا المولود، ثم بعد ذلك يهوده أبواه أو ينصرانه أو يمجسانه، أما أنه يولد على غير هذه الملة وهذا الدين فلا، وهذه فطرة الله ولا تبديل لخلق الله.

    وقد قيل في قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] يعني: لقضاء الله وقدره، وهذا صحيح أيضاً، وإن كان المعنى الأول أقرب، فإذا قدر الله شيئاً فلن يقدر أحد أن يغير قدر الله سبحانه، فقد خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها؛ لأن الله أعلم بما كانوا عاملين، فهؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، وحين يولد يكون الإنسان في بطن أمه، ويبعث الله عز وجل الملك ليكتب عمره وعمله وأجله وشقاوته وسعادته ورزقه؛ فإن هذه الأشياء تحدث قبل أن يعمل الإنسان أي عمل بعد، ولكن الله -بعلمه المحيط سبحانه- علم أن هذا سيعمل بالشر فيكون من أهل الشر والشقاوة في الآخرة، ولم يطلع الله سبحانه وتعالى العبد على ما هو عامله؛ ولذلك فليس للعبد أن يحتج على الله سبحانه وتعالى، فإذا احتج وقال: يا رب كتبت علي ذلك! فإنه يقال له: ومن أعلمك أن الله كتب عليك ذلك؟ (إن العبد يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ويعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: فأمر القضاء والقدر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وقد يرى الإنسان وهو في غاية الشقاوة، ثم إذا بالله سبحانه وتعالى يقلب حاله في آخر عمره فيصير من أهل السعادة مطيعاً لله ويموت على ذلك، والعكس كذلك.

    فليس للإنسان أن يحتج في حال معصيته ويقول: إن الله قدر علي ذلك وجعلني على هذه الحالة، فنقول له: غير أنت من نفسك، وانظر هل سيثبتك الله على هذا الباطل أم لا؟ فأنت ترى نفسك مختاراً وأنت تعمل، وتشعر بأنك مختار، وتؤمن أن الله هو الذي أعانك على رفع هذه اليد، ولكنك تعرف في نفسك أنك أنت الذي تمد اليد وتقبضها، فالله عز وجل قدر أن تمدها وأن تقبضها، وأعطاك في نفسك اختياراً، فاخترت لنفسك المد واخترت القبض، فاخترت أن تسلك طريق السعادة، واخترت أن تسلك طريق الشقاوة، ولا يوجد أحد يعمل المعصية وهو يشعر في نفسه أنه مدفوع ومكره عليها، فعند اختيار العبد يكون تكليفه وجزاؤه وحسابه عند الله سبحانه وتعالى، مع الإيمان بأن كل شيء تحت تقدير الله عز وجل، وقد كتب عنده سبحانه مصير هذا العبد وإلى أي باب يكون، هل إلى باب الجنة أم إلى باب النار؟

    فلذلك قال الله سبحانه وتعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] يعني: لقضاء الله وقدره، فلا أحد يقدر أن يتدخل في ذلك فيغير ما كتب عند الله في اللوح المحفوظ سبحانه وتعالى، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30].

    وقد يكون المعنى كذلك أنه من أوامر الله سبحانه ونواهيه، فنقول: إياك أن تبدل في خلق الله! أي: إياك أن تغير أو تتلاعب في الفطر التي فطر الله عز وجل العباد عليها، كأن يقوم الإنسان إلى البهيمة يشق أذنها، والله عز وجل حرم عليه أن يصنع ذلك.

    والحق أن الإنسان هو من يغير في خلق الله سبحانه وتعالى، فتجد الرجل يتخنث ويتأنث، وتجد المرأة تترجل وتريد أن تكون كالذكور، (وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال).

    قال: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] فإياكم أن تتدخلوا في خلق الله، وأن تغيروا شيئاً مما خلق الله عز وجل العباد عليه! فيكون على هذا المعنى الثالث نهياً من الله سبحانه وتعالى للعباد عن أن يتدخلوا في الخلق بتغيير أو تحريف لما فطر الله عز وجل عليه الإنسان.

    معنى قوله تعالى: (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

    قال: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30] أي: أن هذه الأوامر والنواهي، وهذه المعتقدات التي يذكرها الله عز وجل إنما هي ذكر لكم في دينكم، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30] أي: المليئ بالقيم، فكله عظمة من عند رب العالمين سبحانه، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30] يعني: المستقيم الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج.

    قال: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30] قالوا: الدين بمعنى: الشريعة، وقالوا أيضاً الدين بمعنى: الجزاء، ومنه قول الله عز وجل: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، ولذلك فإن الدين القيم هنا بمعنى: الشريعة المستقيمة، وقد يكون أيضاً بمعنى: هذا الجزاء من الله عز وجل الذي يجازي به خلقه يوم القيامة، فهو الجزاء العادل من الله سبحانه وتعالى، أو هو ذلك الحساب البين من الله سبحانه.

    قال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، وإن علموا فعلمهم بلا عمل، فتجد الإنسان يعلم بالجنة ويعلم بالنار ثم لا يعمل من أجل الجنة ولا يخاف من النار، فهذا هو العلم غير النافع، وهو كالإنسان الذي تعلم أشياء في الدراسة ودخل الامتحان ولم يكتب شيئاً، فإنه لا ينفعه هذا العلم أبداً.

    فلذلك يقول: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، وقال لنا في أول السورة: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7] إذاً: فعلم الإنسان عن الآخرة مجرد سماع، أما اليقين الذي يدفعه إلى العمل ويمنعه من الزلل فليس بموجود حتى في قلوب أكثر الناس، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

    فالعلوم التي يتعلمونها هي علوم الحياة الدنيا، فيعرفون كيفية الزراعة والحصاد، ومتى تكون مواسم الزراعة، ومواسم كذا، ومواسم كذا، فهم يعرفون ويتعلمون أمور الدنيا، فتجدهم يتخصصون أدق التخصصات، لكنهم إذا جاءوا إلى العقيدة وإلى رب العالمين سبحانه إذا بهم يلعبون، ولا يعرفون شيئاً، فلا ينفعهم علمهم هذا بشيء في الآخرة، قال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوه...)

    قال الله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم:31]، وهذا بعد أن قال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ [الروم:30]، فكأنه أمر له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالتبع، ولذلك جمع بعد ذلك وقال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم:31]، إذاً: فأقم وجهك أنت والمؤمنين في حال كونكم منيبين إلى الله، راجعين إليه، تائبين إلى الله سبحانه.

    فقوله: ( مُنِيبِينَ ) الإنابة: هي الرجوع بالتوبة وبالإخلاص لرب العالمين سبحانه، والإقبال على الله بطاعته، أي: راجعين، خاضعين، خاشعين له سبحانه وتعالى.

    ومن معاني الإنابة أيضاً: التوبة من الذنوب، يقال: أناب إلى الله أي: رجع إلى الله، ومن معاني الإنابة: الانقطاع عن المعصية، ومنه سمي ناب الإنسان ناباً؛ لأنه يقطع به، فكأن الإنابة مأخوذة من ذلك، فالإنابة بمعنى: الانقطاع عن المعصية، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.

    قال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ [الروم:31] أي: واتقوا غضب الله سبحانه وتعالى، واتقوا نار الله، وافعلوا الطاعات التي تقيكم من عذاب رب العالمين سبحانه.

    قال: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم:31] (فاتقوه): عموم، أي: اتقوا الله في كل شيء، ومن تقوى الله سبحانه ما خصه هنا بإقام الصلاة، وبالنهي عن الشرك بالله سبحانه.

    قال: وَاتَّقُوهُ [الروم:31] أي: خافوه وامتثلوا ما أمركم به، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم:31]، ونلاحظ أنه كلما جاء في القرآن الأمر بالصلاة قال لك: (أقيموا الصلاة)، (أقم الصلاة)، وليس مجرد الأمر بالصلاة فقط، فيكون أي إنسان صلى أي صلاة وانتهى فقد صلى! بل عندما يقول: (أقيموا الصلاة)، (أقم الصلاة)، فيكون أصلها هنا من الاستقامة والاعتدال، والاطمئنان في الصلاة، فتصلي صلاة مودع، وكأنها آخر صلاة تصليها، فإذا صليت صلاة فأحسن هذه الصلاة واعتدل فيها، وهو كقولهم: خذ العود وقومه حتى ينفع ويكون رمحاً قوياً، فتأخذ العود وتعدله على النار شيئاً فشيئاً إلى أن يصير مستقياً، فعندما ترميه لا يحيد عن هدفه ولا يعوج.

    وكذلك يجب عليك أن تقوم الصلاة لتصعد إلى السماء ولا ترد عليك، وكم من إنسان يصلي صلاة فلا تقبل منه، وقد تقبل منه بعض الصلاة دون بعضها؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (فيخرج أحدكم من صلاته ليس له إلا عشرها)، وأين ذهبت الأعشار الباقية؟! فقد ضيعها في السهو واللهو والتفكير والبيع والشراء والسوق إلى آخره، وإذا بالشيطان يختلس منه الصلاة شيئاً فشيئاً إلى أن يضيع على الإنسان صلاته، فيخرج أحدكم من صلاته ليس له منها إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها، إلا سبعها، إلا ثلثها، إلا خمسها، إلا ربعها، إلا نصفها، والغالب من الناس يخرج وليس له إلا نصفها، والقلة من الناس من يخرجون ولهم صلاة كاملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث الذي في سنن أبي داود بدأ من العشر ووصل إلى النصف ولم يزد على ذلك، وكأن ذلك هو الأغلب من أحوال الناس، فلذلك ينبغي على المسلم أن يحسن صلاته قدر المستطاع، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها، بالإضافة إلى أنه يكثر من النوافل؛ لكي يجبر النقص الحاصل في الفرائض فإن ذلك ينفعه يوم القيامة.

    قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم:31] يعني: استقيموا في صلاتكم، وصلوا لله عز وجل صلاة تكونون فيها خاشعين لله سبحانه، مستحضرين فيها قلوبكم وعقولكم وبصائركم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (... ولا تكونوا من المشركين ...)

    احذروا من الشرك بالله كما قال: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31] أي: لا توجهوا العمل لغير الله رياءً أو سمعةً، أو عبادة أنداد مع لله سبحانه وتعالى، فلا يكون هناك شرك أكبر أو أصغر أو خفي، ولكن توجهوا لله سبحانه وتعالى ولا تشركوا به شيئاً، قال: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [الروم:31-32] أي: لا تكونوا من المشركين الموصوفين بهذه الصفة، فكأن من المسلمين من يقلدون المشركين في ذلك، فالله سبحانه وتعالى يحذرنا من أن نكون كالمشركين في شركهم، وكذلك من أن نكون مثلهم في بدعهم وفي تفرقهم شيعاً.

    وفيها قراءتان:

    مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي : من الذين فارقوا دينهم ، وهذا كاليهود والنصارى، فإن الدين جاءهم من عند رب العالمين، فعرفوه ثم بدلوه وحرفوه، ففارقوا بذلك دين رب العالمين سبحانه، فاحذروا أن تبدلوا وأن تحرفوا دينكم فتكونوا كهؤلاء المشركين.

    أما الصورة الأخرى: فهي أنهم انقسموا وافترقوا في دينهم على ملل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي).

    إذاً: فقد افترقت اليهود والنصارى، وافترق المسلمون كذلك إلى فرق أكثر من اليهود والنصارى إلى ثلاث وسبعين فرقة، والفرقة الوحيدة الناجية: هي التي تتمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا تفرق دينها.

    والفرقة الناجية هم: أهل السنة والجماعة، الذين اعتصموا بحبل الله سبحانه، واقتدوا برسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فلا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم، فابتدعوا فيه، وجعلوا هؤلاء فرقة، وهؤلاء فرقة، وهؤلاء فرقة، فحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وأخبرنا أنه كائن وسيكون ذلك، كما قال الله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [الروم:32] أي: فرقاً.

    قال: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32]، والمصيبة أن الإنسان إذا بعد عن دين الله سبحانه فعصى الله سبحانه وهو يعرف أنه عصى، فلعله يتوب يوماً من الأيام؛ لأنه يعرف أنه في معصية، لكن المبتدع يظن أنه على خير وطاعة، ويظن أنه أتى بما لم يأت به أحد قبله، فيكون سعيداً فرحاً بما هو عليه، فمن البعد بمكان أن يرجع أو يتوب إلى الله، وكيف يتوب وهو يظن أنه متقرب إلى الله عز وجل بذلك؟!

    قال: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32]، فيأخذون بما عندهم، ولا شأن لهم بالذي عندك ولو كان حقاً.

    وكم من أهل البدع على ذلك، فإذا قلت لإنسان من أهل البدع: تعال لنتناقش معك في الكتاب والسنة، قال لك: وأي سنة هذه التي ترجع فيها لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأنتم مخترعون لهذه الأحاديث، حتى إن بعض هؤلاء الحمقى والمغفلين عندما تقول له: هذا الحديث في صحيح البخاري ، يقول: أنتم الذين ألفتم البخاري! هذا من جهله وحماقته، فلم يطلع هو على البخاري ولا على غيره، ولكنه سعيد بما هو عليه من الباطل والبعد عن دين الله تعالى، فإذا قلت له بالحجة رفضها، ورفض الرجوع إلى كتاب الله، قال الله عز وجل: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32]، فإذا فرح الإنسان بما عليه من البدع صار من البعيد جداً أن يراجع نفسه، أو أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، إلا من رحم الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه...)

    قال الله سبحانه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [الروم:33] المس: أقل من اللمس، أما الإذاقة فمأخوذة من التذوق الذي يكون باللسان، فكأن التعبير بالمس والذوق يدل على الشيء القليل؛ لأن الدنيا بمصائبها مهما زادت فلن تساوي بجوار عذاب رب العالمين في النار شيئاً، وإنما هي كالمس وكالإذاقة في يسره وقلته.

    ولك أن تقارن بين الذوق وبين بلع الطعام، فالذوق بالنسبة للصائم لا يفطر بعكس الأكل الذي يفطره، وهنا يقول: ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ [الروم:33]، فإذا ابتلي الإنسان بشيء يسير من عذاب رب العالمين تاب ورجع إلى ربه وأعطى بذلك العهود والمواثيق كما قال سبحانه: وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم:33] يعني: وحدوا الله سبحانه وتعالى وأنابوا ورجعوا إليه.

    قال: ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً [الروم:33]، وقد عبر بالذوق هنا كأن الرحمة التي في الدنيا لا تساوي شيئاً بجوار رحمة رب العالمين يوم القيامة، فقد خلق الله الرحمة وقسمها إلى مائة جزء، فجعل في الدنيا رحمة واحدة، وجعل الباقي ليوم القيامة، فرحمة الله عظيمة واسعة سبحانه وتعالى.

    ثم إذا أذاق الإنسان منه رحمة، بأن أعطاه قليلاً من المال أو الغنى بطر به وأشرك وكفر، فلا يكون لأمثال هذا قيمة يوم القيامة، ولك أن تنظر إلى آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وخروجاً من النار، وهذا الرجل من عصاة الموحدين، الذين ماتوا على لا إله إلا الله، واستحق بسبب كثرة ذنوبه أن يدخل النار، ثم في النهاية يقول الله عز وجل له: تمن، فيتمنى، ثم يذكره الله عز وجل، فيتمنى ثم يذكره الله إلى أن يعجز عن التمني، فإذا بالله سبحانه وتعالى يقول: أما ترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيفرح العبد بذلك، فيقول الله عز وجل: لك مثله ومثله ومثله، وعشرة أمثاله، فيكون أقل أهل الجنة نصيباً، فلا تساوي الدنيا بأسرها أقل نصيب لأقل إنسان في الجنة! وقد جاء في الحديث أن هذا الإنسان يقول عندما يتجاوز الصراط (لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين).

    إذاً: فمهما كان نعيم أهل الدنيا واسعاً فإنه لا يقارن بنعيم أهل الجنة عند رب العالمين سبحانه.

    قال: ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً [الروم:33] أي: شيئاً من رحمة رب العالمين، إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [الروم:33] أي: يرجعون للكفر مرة أخرى، وهو كفر النعمة والجحود، فالإنسان بطبعه يطغى إذا جاءه المال، فينسى ربه سبحانه وتعالى،ويعترض عليه سبحانه ثم يستكبر على الخلق؛ لأن الله أعطاه قليلاً من المال فظن أن لا أحد فوقه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم...)

    قال الله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الروم:34] أي: فسوف ترون العذاب يوم القيامة؛ لأنكم كفرتم بما أعطاكم الله من المال والغنى، واللام هنا: إما لام الأمر فيكون معناه: التهديد والوعيد من الله سبحانه وتعالى، وإما أن تكون لام العاقبة أو الكيد فيكون معناه: إن الله إذا أنعم عليهم كان عاقبة ذلك منهم إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ[الروم:33]؛ لتكون العاقبة أنهم في النار والعياذ بالله، لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ[الروم:34]، فالكفر بما آتاهم الله سبحانه هو العاقبة لهم.

    فَتَمَتَّعُوا[الروم:34] أي: في الدنيا، فمهما تمتعتم بها وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا[النساء:77]، قال: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ[الروم:34].

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755972119