إسلام ويب

تفسير سورة الروم [1 - 3]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة الروم إحدى السور المكية التي تتميز بخصائص السور المكية، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن معجزات غيبية تحققت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد عهده، فهذا القرآن هو المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل الزيغ والضلال معرضون عن ذلك.

    1.   

    بين يدي سورة الروم

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الروم: بسم الله الرحمن الرحيم، الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [الروم:1-4].

    هذه السورة الثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الروم، وسميت بسورة الروم؛ لأنه بدأ بذكر الروم فيها، قال تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ ، ثم ذكر أنهم سيغلبون بعد بضع سنين.

    سورة الروم من السور المكية، وهي سورة عجيبة وفيها معجزة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، بل معجزات في هذه السورة العظيمة، وهي تحتوي على خصائص السور المكية من ذكر نبوءة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وذكر توحيد الله سبحانه، وذكر من عبدوا غير الله سبحانه وتعالى، وفيها ذكر نعم الله سبحانه وتعالى على العباد، وفيها مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى، وكيف أنه إذا أعطى العباد رحمة من عنده سبحانه إذا بالعباد يفرحون، وقد يصل بهم فرحهم إلى الفخر، وإلى الغرور والاستكبار، وإذا أذاقهم شيئاً من الضر إذا بهم يقنطون، فالإنسان عجيب في تقلبه بين حالة الفرح الشديد الذي يدعو إلى الزهو والخيلاء والاستكبار، فيبتعد عن عبادة الله سبحانه، وبين أن يقنط إذا جاءه شيء مما يسوءه.

    ويذكر الله عز وجل في هذه السورة رزق الله سبحانه، وأنه هو الذي بيده الرزق، وأنه يقبض ويبسط سبحانه وتعالى، وفيها الحث على إيتاء ذي القربى حقوقهم واليتامى والمساكين وغير ذلك.

    وفيها إشارة إلى تحريم الربا، فقال الله سبحانه تبارك وتعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39].

    كذلك فيها بيان ربوبية رب العالمين سبحانه، وأنه الرب الذي يخلق، والذي يرزق سبحانه تبارك وتعالى، والذي يحيي، والذي يميت، والذي يبعث عباده سبحانه، قال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الروم:40]، هل هناك شريك آخر يفعل مثل الذي يفعله الله سبحانه؟ حاشا لله سبحانه، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].

    كذلك يخبر سبحانه عن سبب استحقاق العباد لعقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى، أنهم إذا كسبوا بأيديهم المفاسد ظهر الفساد فعم الجميع، واستحقوا عقوبة الله، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الروم:41]، فإذا اكتسب الناس السيئات استحقوا أن يعمهم الفساد ويأتيهم من عند ربهم العذاب، وفيها أيضاً الأمر بالتوجه إلى عبادة رب العالمين سبحانه، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30]، وقال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ [الروم:43].

    وفيها الإشارة إلى اليوم الآخر، وأن الله سبحانه وتعالى يفصل بين العباد في هذا اليوم، قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [الروم:45].

    وفيها ذكر إرسال الرسل، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، ففيها الوعد من الله سبحانه للمؤمنين بأن الله ينصرهم سبحانه، وأنهم مهما كانوا ضعفاء فلا بد أن يأتي عليهم وقت ينصرهم الله سبحانه، كما أن الأرض تكون ميتة، فينزل الله عليها الغيث فيحييها بعد ما يئس أهلها من ذلك، ولذلك يقول الله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [الروم:48]، ثم قال: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:50]، فإذا أحيا الأرض بعدما كنتم تتوقعون أن لا حياة بها، وأنها لا تحيا، فكذلك قد يأتي على المسلمين زمن فيه شدة، وفيه تعذيب، وفيه ضيق، فإذا بالله ينزل رحمته، كما ينزل الغيث على الأرض فيحييكم، ويردكم قاهرين غالبين بعدما كنتم مهزومين مغلوبين.

    كذلك أشار الله عز وجل في هذه السورة إلى ضعف الإنسان ومراحل عمره، فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [الروم:54]، سبحانه وتعالىوَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].

    كذلك أشار إلى ما يكون يوم القيامة من وقوف المجرمين بين يدي رب العالمين سبحانه، قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ [الروم:55]، ثم ذكر الله سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع الظالمين اعتذارهم ولا عتبهم.

    كذلك يخبر الله سبحانه أنه في هذا القرآن العظيم ضرب الأمثلة للناس لعلهم يتذكرون بهذه الأمثلة، ولكن من طبع الله على قلبه لا يفيق ولا يرجع ولا يتذكر.

    ثم أمر نبيه صلوات الله وسلامه عليه بالصبر على ما هو فيه هو والمؤمنين، قال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60].

    فهذه العبر الموجودة في هذه السورة تبين لنا أن هذه السورة فيها تصبير للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على ما هم فيه من أذى هؤلاء الكفار، والسورة ستون آية، والبعض يعدها تسعة وخمسين آية؛ والخلاف في العد كما ذكرنا قبل ذلك مبني على معرفة وقف النبي صلى الله عليه وسلم، وأين وقف صلى الله عليه وسلم؟ فبحسب قراءته صلى الله عليه وسلم ووقفه يعدون رأس الآية، فيقولون: هذه الآية الأولى، هذه الثانية، هذه الثالثة، ولذلك لا يوجد خلاف إلا في مواطن، فالبعض عدها آية، وجعل الوقف عليها رأس آية، والبعض لم يعدها، والخلاف في العد في خمس مواطن في هذه السورة.

    في الموطن الأول: الم [الروم:1]، هذه عدها البعض آية، والبعض عدها تابعة للآية التي تليها، فممن عدها آية: الكوفيون، فيقرءون: الم [الروم:1]، ويقفون، على أنها رأس آية، غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم:2]، وغيرهم يقرءون: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم:1-2]، على أن الآيتين آية واحدة، فهذا من الخلاف فيها.

    كذلك في قوله سبحانه: غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم:2]، البعض عد الوقف عندها آية، والبعض الآخر يعدها تابعة لما قبلها.

    كذلك في قوله: فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4]، عند المدني الآخر وكذلك عند الكوفيين أنها ليست آية، ولكنها وقف، وعند غيرهم أنها آية، فيقفون عليها: فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4].

    كذلك قوله سبحانه: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:3]، عدها الكوفيون آية، وغيرهم يعدونها أنها ليست آية وهي مما بعدها.

    كذلك قوله سبحانه: يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55]، البعض يعد هنا الوقف على أنها آية، والبعض لا يعدها آية، والغرض أن الوقف الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم في أماكن فبناء على سماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه البعض عد هذه آية، والبعض عدها أنها آية مع الذي يليها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الم . غلبت الروم...)

    السورة بدأها الله عز وجل بقوله: الم [الروم:1] أي: هذه الحروف من اللغة العربية التي تقرءونها، والتي تكتبونها، والتي تقولون بها خطبكم وشعركم ونثركم، فإن هذا القرآن من هذه الحروف، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، أي: هاتوا مثل هذا القرآن، فالقرآن لم نأت به بحروف أعجمية، بل هو من حروف تقرءونها وتكتبونها.

    قال تعالى: الم [الروم:1]، ففيها التحدي من الله عز وجل لعباده، هاتوا مثل هذا القرآن من مثل هذه الحروف.

    قال تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:2-4]، وقال تعالى في سورة يوسف: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، فالله يطمئن المؤمنين أن الظلم وإن استمر فترة فإنه ينتهي، ولابد أن يأتي نور الله سبحانه وتعالى وعدله وحكمه سبحانه وتعالى.

    وفي هذه الآية معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء سيكون، وقد كان عند الناس بالمعايير البشرية وبالمقاييس التي هم فيها مستحيل أن يحدث هذا الشيء، والله عز وجل يخبر في وقت ضيق المسلمين أن هذا سيحدث ولن يكون بعيداً، بل سيكون في بضع سنين!

    قال تعالى: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [الروم:4] أي: يفرح المؤمنون بنصر الله، فالمؤمنون كانوا مضطهدين من قبل أهل الشرك، فأهل مكة كانوا مشركين، وكانوا يضطهدون المسلمين، ويؤذونهم ويعذبونهم، فكان المسلمون ينتظرون فرج الله سبحانه وتعالى ونصره، وقد أراهم الله عز وجل واقعةً بين الدولتين العظميين اللتين كانتا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، دولة الفرس ودولة الروم، فقد جارت دولة الفرس على دولة الروم فإذا بهم يغلبونهم ويهزمونهم هزيمة منكرة، وكانت هزيمة فظيعة للروم، وكان الروم أهل كتاب نصارى، أما الفرس فقد كانوا عباد النيران؛ لذلك كان ميل المشركين من قريش إلى الفرس؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام والفرس يعبدون النيران، فالأمر قريب من بعضه، فكلهم يعبدون غير الله، فلذلك فرح المشركون بانتصار الفرس؛ لأنهم مثلهم لا كتاب عندهم من رب العالمين، ففرحوا وأغاظوا المسلمين، وأخبروا المسلمين أنهم وثنيون، وسينتصرون عليهم وإن كانوا هم أهل كتاب، كما انتصر الفرس وهم وثنيون على الروم وهم أهل كتاب، فأنزل الله آيات يطمئن فيها المؤمنين أن ذلك لن يدوم، إنما هي سنون قليلة، وتنتصر الروم على الفرس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ونزل القرآن بهذا المعنى بقوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:2-4]، أي: في بضع سنين وسينتصر الروم مرة ثانية.

    فإذا بالمشركين يستهزئون بذلك، كيف ينتصر الروم وقد هزموا؟ وكانت المعايير الموجودة والمقاييس البشرية أن هذا مستحيل أن يحدث، كان هذا الكلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الزمن المكي سنة ستمائة وعشرين ميلادية، ففيها هزمت الروم على أيدي الوثنيين أهل الفرس عباد النيران، وكانت الخسائر جسيمة جداً على الروم جراء هذه الهزيمة، حتى قالوا: لن تقوم لدولة الروم قائمة بعد ذلك، فإن الفرس أخذوا أطرافاً من بلاد الروم، وقد أغار على الروم أناس من الشمال أيضاً يقال لهم: الآفار والسلاف واللمبارديون وغيرهم، وكأن الدنيا كلها تكالبت على الروم، فلذلك قالوا: لن تقوم للروم قائمة بعد ذلك.

    فجمع الروم الأموال للدفاع عن أنفسهم فقط وليس للغزو، فقد جمعوا كل الأموال الموجودة في مملكة الروم للدفاع عن أنفسهم، فوصل الأمر بهم إلى أخذ كل الأموال التي مع الناس، ومع ذلك لم تكف هذه الأموال للدفاع ولشراء العدد، فجمعوا الذهب والحلي والبرنز ليصيغوه أموالاً ينتفع بها الجيش للدفاع عن أنفسهم، حتى لا تضيع دولة الروم، وفي هذا الوقت الذي استشعر فيه الروم أنهم ضائعون وأن البلاد ضائعة يخبر الله المؤمنين أن دولة الروم لن تضيع، بل سيغلبون في يوم من الأيام، فانتظر المؤمنون ذلك؛ لأن الروم أقرب إليهم من هؤلاء المشركين، فبذلك قال الله عز وجل للمؤمنين أنه: مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [الروم:3-4].

    ثم بعد ذلك سيفرح المؤمنون بنصر الله سبحانه وتعالى، فأنجز الله عز وجل وعده يوم بدر بنصر المسلمين، وانتصر الروم في هذا اليوم على الفرس نصراً عجيباً جداً، فالله سبحانه إذا أراد شيئاً لا أحد يستطيع رده ومستحيل أن أحداً من الخلق يمنع ما يريده الله سبحانه وتعالى.

    ذكر ما جاء من قصة اختلاف كسرى مع قادته وأسباب هزيمته

    أرسل ملك الفرس إلى بلاد الروم أخوين من القادة العظام الذين عنده لقتال الروم، ولما وصلوا إلى بلاد الروم وفعلوا بهم ما فعلوا إذا بأحدهما يرى في المنام أنه جالس على سرير كسرى، فشاعت الرؤيا بين الناس، حتى وصلت إلى الملك، فأراد كسرى قتل هذا القائد الذي رأى هذه الرؤيا خوفاً على ملكه، فأرسل إلى أخيه قائد الجيش أن يقتل أخاه، فرفض ذلك، فبعث له رسالة ثانية: اقتل أخاك! فرفض، وبعث له رسالة ثالثة فإذا به لا يفعل ذلك، فعزله الملك، وولى مكانه أخاه الآخر الذي كان قد أمر بقتله قبل ذلك، وأرسل إليه الملك رسالة أن اقتل أخاك، وكاد يفعل ذلك، لولا أن أخاه أراه الرسائل الثلاث وقال: يرسل إليك الملك بقتلي وأنا أخوك، وتريد أن تنفذه، وقد أرسل إلي من قبل بثلاث رسالات يأمرني فيها بقتلك، فلم أفعل، فلما نظر في الأمر وجد أن ذلك صحيح، وعرف أن الملك يريد الوقيعة بينه وبين أخيه، وأنه يريد بهما شراً، فلم يفعل وعصى الملك وأخذ يتفاوض معه، ولحقت الهزيمة بالفرس، ولا يتوقع الإنسان مثل ذلك، فإن ذلك شيء عجيب جداً!

    فإذا بالروم يجتمعون لقتال كسرى، وهزموه ومن معه، وهذا تدبير رب العالمين سبحانه، إذ انهزموا كما أخبر الله سبحانه وتعالى في فترة يسيرة، قال تعالى: فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4]، ولم يجعل الله الأمر مفتوحاً، بل قال لهم: فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4]، والعرب عندهم (بضع) ما بين الثلاث إلى التسع، فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4].

    مراهنة الصديق المشركين على انتصار الروم قبل تحريم الرهان

    لما سمع المشركون قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:2-3]، استهزءوا بذلك، وذهبوا إلى أبي بكر الصديق يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: صاحبك يقول: إن الروم ستغلب، فإذا بـأبي بكر يبادر بالتصديق رضي الله عنه، وقال: أراهن أنه سيحدث ما قال الله سبحانه، في وقت لم يكن الرهان محرماً، فـأبو بكر الصديق حسب أنهم سيغلبون في بضع سنين كما قال الله سبحانه، فاتفقا على ذلك، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن البضع ما بين الثلاث والتسع، وأمره أن يزيد في المدة ويزيد في الرهان، وفعلاً ذهب وزاد في المدة، ووقع ما قاله الله سبحانه وتعالى، وانتصر الروم على الفرس في الوقت الذي انتصر فيه المسلمون في يوم بدر على المشركين!

    وكان نزول هذه الآيات في مكة قبل هجرة المسلمين ثم هاجر المسلمون، والذي راهن أبا بكر هو أبي بن خلف قال أبي بن خلف: إن غلبت الروم الفرس فأنا أدفع لك كذا، فكان الاتفاق على خمس من البعير أو نحو ذلك، ولما أراد أبو بكر الصديق أن يتوجه مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جعل الرهان مع أحد أبنائه، وحدث بعد ذلك أن غلبت الروم الفرس فإذا بـأبي بكر يكسب هذا المال الذي راهن به ويتصدق بهذا المال، ويحرم الله عز وجل المراهنة بعد ذلك.

    ففي هذه الآية معجزة من المعجزات وهو الإخبار بالغيب ثم وقوعه كما قال الله سبحانه وتعالى، فلم يكن في حساب الناس أن الروم ستقوم دولتها مرة أخرى إلا بعد مائة سنة، ولكن الله سبحانه وتعالى حقق هذا الشيء المستحيل عند البشر فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4]، فكان ذلك بعد سبع سنوات مما ذكره الله عز وجل، بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمن معجزات القرآن الإخبار بالغيب، إذ تحقق على النحو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى.

    المعجزة المستنبطة من قوله تعالى: (في أدنى الأرض)

    قال عز وجل: فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:3]، قالوا: هذه أيضاً معجزة أخرى من معجزات القرآن العجيبة، فالأولى معجزة إخبار بغيب، والقرآن معجزة رب العالمين، في صياغته وإتقانه؛ لذلك الكفار لم يقدروا أن يأتوا بمثله، وتشريع القرآن معجز، ولا يقدر أحد أبداً أن يأتي بتشريع مثل تشريع رب العالمين سبحانه وتعالى أو يدانيه، كذلك في القرآن وجوه إعجازية، وإخبار بمغيبات، لم يطلع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقرأ كتب أهل الكتاب، وهو الأمي صلى الله عليه وسلم، فكان يخبر بأشياء لا يعرفها أهل الكتاب، ويعجزهم بذلك.

    ومن إعجازه أيضاً: ما ذكره علماء الأرض والجيولوجيا، قالوا: فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم:3]، لها معنيان: معنى الدنو أي: القرب، فالمعركة التي وقعت بين الروم والفرس كانت في فلسطين عند البحر الميت، وفي نفس المكان انتصر الروم على الفرس بعد ذلك.

    فمفهوم قوله تعالى: فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم:3] أي: في أقرب الأرض إلينا، فبلاد الفرس شاسعة في الشمال، وبلاد الروم شاسعة في الشمال وفي الغرب، فأدنى الأرض إلينا فلسطين، فكانوا يفهمون المعنى على ذلك، وهو معنى صحيح، ولكن الآية أشارت إلى شيء آخر، وهو أن الدنو يأتي بمعنى: الشيء الأسفل، فقوله تعالى: فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم:3] أي: في أسفل الأرض، وأخفض منطقة من الأرض، فلما بحث علماء الأرض هل المكان الذي حدثت فيه هذه الحرب كانت فعلاً أخفض الأرض كما ذكر الله سبحانه؟

    قال الشيخ الزنداني: التقيت مع أحد من أساتذة علوم الجيولوجيا في أمريكا اسمه: البروفسور ظلمة وهو من كبار علماء الجيولوجيا في أمريكا، جاء زيارة ومعه نموذج للكرة الأرضية بها تفاصيل لارتفاعات ولانخفاضات وأعماق البحار، كله مبين بالتضاريس، ومحسوب بالمتر.

    فسأله الشيخ عبد المجيد الزنداني : ما هي أخفض مناطق الأرض؟ إن الله سبحانه وتعالى يقول: فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم:3]، وهي المنطقة التي حصلت فيها الحرب بين الروم وبين الفرس، فهي أخفض منطقة على الأرض، فإذا بالرجل يعاند؛ لأنه لم يسمع القرآن من قبل وقال: المناطق المنخفضة في الأرض كثيرة، فهناك منخفضات موجودة في هولندا، ومنخفضات موجودة في أمريكا، ومنخفضات موجودة في كذا، وحاول أن يفهمه أن هذا المكان ليس أخفض مناطق الأرض.

    قال الشيخ عبد المجيد : واستغرب الرجل حين قلت مرة أخرى: أنا متأكد مما أقول، إن هذه أخفض منطقة في الأرض، فإذا بالرجل يخرج نموذج الكرة الأرضية التي معه، وأخذ يتتبع ما فيها من تضاريس، فوجد سهماً موجوداً على فلسطين، على مكان البحر الميت فقال: إنها فعلاً أخفض منطقة على سطح الكرة الأرضية، قال الشيخ عبد المجيد : أدار هذه الكرة الأرضية التي فيها الارتفاعات والانخفاضات بسرعة، فلما أدراها على منطقة بيت المقدس وعلى المنطقة التي حولها وجد سهماً طويلاً خارجاً من المنطقة، ومكتوب بخط واضح أخفض منطقة في العالم! فقال الرجل: صحيح، الأمر كما قلت: إنها أخفض منطقة في الأرض!

    هذه المنطقة موجودة تحت سطح البحر بحوالي ثلاثمائة وخمسة وتسعين متراً تحت سطح البحر، وهي المنطقة الوحيدة في العالم الذي تصل لهذا الدنو، ولهذا السهل من سطح البحر! وهذه معجزة أخرى في كتاب رب العالمين سبحانه.

    والمعجزة الأولى قوله تعالى: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:3]، فأشار إلى أنهم سيغلبون بعد ذلك فكان الأمر على ما ذكر سبحانه وتعالى.

    نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ديننا وأن يفقهنا فيه.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756182339