إسلام ويب

تفسير سورة السجدة [10 - 13]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان المشركون يستبعدون المعاد ويقولون: إذا تمزقت أجسادنا، وتفرقت في أجزاء الأرض، فكيف نعود بعد تلك الحال؟! وهو بعيد بالنسبة إلى قدرة الإنسان لا بالنسبة إلى قدرة الله الذي بدأهم وخلقهم من العدم، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، وهؤلاء المشركون يوم القيامة يكونون حقيرين ذليلين، ناكسي رءوسهم من الحياء والخجل والخزي والعار والندم على ما فرطوا في الدنيا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض ... )

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ [السجدة:10].

    في هذه الآية يخبرنا الله سبحانه وتعالى عمن أنكروا البعث من الكفار والمشركين، الذين قالوا: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] أي: لا نعيش إلا في هذه الحياة الدنيا، ولدنا هكذا ونموت هكذا، ولا بعث ولا نشور، ولا قيام من القبور، ولكن كما خلقنا نرجع إلى الأرض مرة ثانية، وينتهي الأمر على ذلك.

    لذلك اغتروا بهذا الذي يقولونه، فظلموا واستمرءوا الظلم، فإذا ببعضهم يظلم بعضاً، ويريد أن يحصل من الدنيا ما يستطيع تحصيله منها؛ لأنه لا يؤمن بالبعث يوم القيامة، ولا يؤمن بأن الله سيجازيه على ما فعله في هذه الدنيا.

    قال تعالى عنهم: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ [السجدة:10]، قوله: (ضللنا) بمعنى: غبنا، وضل الشيء بمعنى غاب، وبمعنى تاه وانمحى أثره، فلم يوجد ولم ير، كما نقول: ضل السمن في اللبن، أي: اختفى السمن بداخل اللبن، فصرت لا ترى هذا السمن الذي في اللبن؛ لأنه بداخله مختلط به، وهنا ضل الشيء في الشيء، بمعنى غاب فيه وتاه فيه فلم يوجد له أثر، فكأنهم يقولون: أئذا متنا وأهلكنا الله عز وجل وصرنا تراباً بداخل هذه الأرض، فهل سنرجع مرة ثانية؟!

    هم استبعدوا هذا الشيء، وكأنهم لم ينظروا إلى بدء خلقهم، وهم يرون في كل يوم أناساً يحييهم الله وأناساً يميتهم الله، ويرون النبات يحييه الله ويميته الله، ويرون الحيوان يحييه الله ويميته الله سبحانه وتعالى، وكأنهم لم يعقلوا ذلك، وقد قال الله في الآية التي قبلها مبيناً خلق الإنسان: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [السجدة:7-9]، هذه حواس الإنسان، فالله تعالى جعل للإنسان سمعاً وبصراً وفؤاداً، حتى يعي وحتى يفهم وحتى يعقل وحتى يستيقن من الأشياء التي حوله، قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة:9]، مع وجود أسماعهم يسمعون، ولكن سمع من لا يعقل، مع وجود أبصارهم يبصرون ولكن بصر من لا يهتدي، مع وجود قلوبهم فهم لا يعقلون ولا يفهمون، ولذلك قالوا هذا القول الذي قالوه واستبعدوا الرجوع مرة أخرى، ونسوا أن الله أوجدهم من عدم، وأنهم كانوا لا شيء، قال عز وجل: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1].

    إذاً: فقوله: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أي: غبنا في الأرض وتهنا في الأرض وصرنا تراباً وهلكنا فيها.

    قوله: أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: سنرجع مرة أخرى عظاماً ولحماً وآدميين حتى نجازى؟!

    قال سبحانه: بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ أي: هم مكذبون وجاحدون بالبعث يوم القيامة، ولذلك الإنسان عندما ينسى الحساب وينسى أن الله يبعثه يوم القيامة، أو يتناسى ذلك أو يتغافل عنه؛ يظلم، ويأكل مال غيره، ويغتصب حق غيره، ويفعل ما يحلو له وما يشاء، طالما أنه قادر على الناس.

    أهمية الإيمان باليوم الآخر والغيب وثمراته

    الله سبحانه وتعالى يذكر الخلق بيوم القيامة وبيوم الحساب، وأنهم سيرجعون إلى الله ليجازيهم على أعمالهم، فالمؤمن يخاف من الله سبحانه، وإن وجد لقطة إذا به يأخذها حتى يعيدها إلى صاحبها؛ لأنه أمين مؤتمن على ذلك، وهو يخاف من الله ليس من الناس، وفي قلبه ما يدفعه إلى فعل الخير، وفي قلبه من الخوف ما يمنعه من فعل الشر.

    فالمؤمن يخاف من الله؛ لأن الخوف ثمرة من ثمرات الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالبعث، لذلك أصول الإيمان هي: إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهذا الإيمان له ثمرات في قلب المؤمن تظهر في أفعاله، فالمؤمن آمن بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعرف قدر الله سبحانه، وعرف أفعال الله العظيمة, وعرف ربه سبحانه، فإذا به يخاف من الله سبحانه، ويأخذ من الله عز وجل شريعته، ويمشي على منهاجه، فهذا يحبه الله سبحانه وتعالى.

    إذاً: ثمرة معرفة الله سبحانه تبارك وتعالى تكون في قلب الإنسان خوفاً من الله مع حب لله سبحانه، ولا يجتمعان لأحد سواه سبحانه وتعالى، كمال الخوف من الله مع كمال الحب لله سبحانه وتعالى، يخافه ويخشاه ويحبه ويرجوه، هذا من معرفة الله سبحانه واليقين به، وثمرة من ثمرات ذلك.

    كذلك يؤمن الإنسان باليوم الآخر، وأن هناك رجوعاً إلى الله سبحانه، فطالما هناك رجوع، وأن الله سيسأل: لماذا فعلت كذا؟ فلابد أن نعد لهذا السؤال جواباً من الآن فلا أخطئ، فلا أقع في الحرام، ولا آخذ حق غيري.

    والإنسان المؤمن يعلم أنه واقف يوماً من الأيام بين يدي الله عز وجل، وهذا اليوم يوم طويل، يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7] أي: كان شره عظيماً مستطيراً فظيعاً، ويوم القيامة قدره خمسون ألف سنة، لذلك المؤمن يتذكر الإيمان بالله سبحانه، والإيمان بملائكة الله، وكيف أن هذه الملائكة تحيط بالخلق يوم القيامة، ولا أحد يستطيع أن يهرب من الله عز وجل، أو أن يهرب من نار الله سبحانه، هناك ملائكة على نار جهنم يعذبون أهلها: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فيؤمن الإنسان بالملائكة ويخاف، وهذه الملائكة ستعذب الإنسان في نار جهنم، ولن يستطيع أن يدفع لها رشوة، أو أن يطلب منها شيئاً فتستجيب له؛ لأن الملائكة تفعل ما يأمرها الله سبحانه وتعالى.

    والمؤمن يؤمن بالغيب: يؤمن بالجنة وبالنار، ويعرف ما في النار من عذاب، ويعرف قدر نار جهنم: (ناركم التي في الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، انظر أشد نار في هذه الدنيا، لو أوقد الإنسان أشد ما يكون من النيران، فهذه النار لا تساوي إلا جزءاً من سبعين جزءاً من نار جهنم، والعياذ بالله.

    كيف تكون هذه النار في الآخرة التي وقودها الناس والحجارة؟! في الدنيا نطفئ النار بالحجارة، لكن إذا اشتعلت الحجارة فهي أشد ما يكون من النار، فتكون الحجارة وقوداً لنار جهنم وكذلك الناس.

    فإذاً: الإنسان يؤمن بالغيب: يؤمن بالجنة وبالنار، فيطلب الجنة ويهرب من النار.

    إن ثمرة الإيمان بالغيب: العمل الصالح في الدنيا والبعد من المعاصي، أما هؤلاء المشركون الذين ينكرون البعث فلا آمنوا ببعث ولا آمنوا بجنة ولا بنار، ولكن قالوا: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] أي: سنعيش ونموت وينتهي الأمر على ذلك، لذلك كانوا يفعلون ما يحلو لهم، فقال الله سبحانه: بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ أي: جاحدون بلقائه يوم القيامة، ومنكرون ومكذبون.

    فكفر هؤلاء المشركون المنكرون للبعث، وهم لم ينكروا قدرة الله سبحانه؛ لأنهم يعرفون قدرة الله؛ ولذلك شهد الله عليهم بقولهم، فقال سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، فهم معترفون أن الله قادر وأن الله يخلق.

    قال سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، فهم يعرفون أن الله عزيز غالب عليم سبحانه، ويعرفون أنه قادر؛ لكنهم بلقاء ربهم كافرون، ويقولون: لا يوجد بعث، ويقولون: نعلم أن الله خلقنا لكن لن يحيينا مرة أخرى، فيكذبون بالبعث يوم القيامة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ...)

    قال الله تعالى: قل يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة:11] هو ملك من ملائكة الله سبحانه وتعالى، جعل الله له قوة وقدرة عظيمة، يقدر على أن يأخذ أرواح البشر ويتوفاهم، والتوفي هو القبض، تقول: استوفيت حقي من فلان، أي: قبضته وأخذته وافياً، والله سبحانه يتوفى وملك الموت يتوفى، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، فالله يتوفى وملك الموت يتوفى، لكن هناك فرق بين أن يتوفى الله سبحانه وتعالى وبين أن يتوفى ملك الموت، والله يخلق ويحيي سبحانه، وهو الله عز وجل يتوفى الأنفس حين موتها، والله سبحانه هو الذي خلق الموت والحياة، وهو الذي يحيي ويميت.

    وملك الموت يتوفى الأنفس ولا يفعل إلا ما يقدره الله سبحانه وتعالى عليهم، فإذا خلق الله عز وجل الخلق، بأن أوجد الجنين في بطن أمه، وصار بأطوار: طور النطفة والعلقة والمضغة، فالله عز وجل يأمر فيكون عظاماً، ثم يأمر فتكسى هذه العظام لحماً، بعد ذلك ينشئ الله نشأة أخرى، فيبعث الملك ويأمره بنفخ الروح، والروح خلقها الله سبحانه وتعالى، والملك سينفخ هذه الروح فقط، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ [الإنسان:30] أي: لا يقدر الملك على شيء إلا أن يقدره الله سبحانه وتعالى عليه.

    فإذاً: الله أعطى هذا الملك القدرة، والله خلق الروح، والله جعل هذه النفس قابلة لهذه الروح وهو المدبر سبحانه وتعالى.

    وهو جعل السبب والوسيلة الملك، فهو ينفذ أمر الله سبحانه وتعالى، والله الفاعل حقيقة سبحانه وتعالى، فهذا الجسد أحياه سبحانه، وأوجده، فإذا جاءت الوفاة أرسل ملك الموت وله قدرة عظيمة، يقدره الله على ما يشاء سبحانه، هذا مخلوق من مخلوقات الله سبحانه، قدره أن يقبض نفوس أناس في هذا المكان، وفي مكان آخر، وفي أقصى الدنيا وفي أدنى الدنيا، في وقت واحد يقبض الجميع، كيف يتواجد هنا وهنا وهنا؟ نحن لا نقيس الملك علينا نحن؛ لأن الله عز وجل جعل للإنسان قدرة معينة يتصرف فيها، وعقولنا لا تستوعب أن تفكر فيما هو أعلى مما خلقت له هذه العقول، فلذلك الإنسان لا يستطيع أنه يستوعب كيف يتحرك ملك الموت هنا وهنا وهنا، ويقبض هذا ويقبض هذا ويقبض هذا في وقت واحد، هذا أمر الله سبحانه، فما عليك إلا أن تثق في الله عز وجل وتستيقن من قدرة الله وأن الله على كل شيء قدير. فالملك يقبض الأرواح، لكن الذي يزهق هذه الروح هو الله سبحانه وتعالى، كما أدخلها فهو الذي يخرجها، وملك الموت ما عليه إلا أن يأخذ هذه الروح وينتزعها، فمن الذي أعطاه القدرة على النزع؟ إنه الله سبحانه الذي دبر له ما يصنعه.

    وملك الموت معه أعوان لا يدعونها في يده طرفة عين، فإذا كانت نفساً مؤمنة تقية إذا بهؤلاء ينزلون بأكفان معهم من الجنة وحنوط من الجنة، فلا يدعونها في يده طرفة عين، بل يأخذونها مباشرة ويصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون على ملأ فيما بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ يقولون: فلان بن فلان بأطيب أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، فإذا كانت النفس خبيثة، يخرجها ملك الموت وينزل الله عز وجل ملائكة من النار ومعهم أكفان من النار، ومسوح من النار والعياذ بالله، انظر الفرق بين الاثنين! فحين يقبض الملك الروح يقول: اخرجي أيتها الروح الخبيثة، فتخرج الروح ولا تقدر على التمنع، وإن كانت تتشعب في الجسد وتتفرق في الجسد من شدة الرعب والخوف، فإذا به ينتزعها كما ينتزع السفود -أي: السيخ- من الصوف يستخرجها وقد تقطع منه العروق والعصب، فتأتي ملائكة من النار ولا يدعونها في يده طرفة عين، فيأخذونها ويصعدون بها، فلا تمر على أحد فيما بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح المنتنة الخبيثة؟ فيقال: فلان بن فلان، بأخبث أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا.

    إذاً: ملك الموت يتوفاكم ويقبض النفوس وافية، لا يترك منها شيئاً، فيخرج بهذه الروح إما إلى مستقرها في أعلى عليين أو في أسفل سافلين، والكل عند الله سبحانه وتعالى موقوف، حتى يأتي يوم الحساب ليحاسبه الله سبحانه ويجازيه على أعماله.

    وقوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي: هو وكيل في ذلك، وكله الله سبحانه على كل إنسان فلن يتركه حتى يأخذ روحه.

    ىجاء في بعض الآثار أن اسم ملك الموت عزرائيل أي: عبد الله، ولم يصح في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسمية، لكن جاءت بعض الآثار في هذا المعنى.

    قوله: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11] أي: المرجع إلى الله سبحانه وتعالى، ترجعون إليه للجزاء وللحساب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم ...)

    قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]

    يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: إعجب لما تراه من أمر هؤلاء، لو أنك ترى كيف يكون موقفهم عند الله عز وجل وكيف يصنعون وكيف يصنع بهم لرأيت العجب العجاب!!

    قوله: إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ المجرمون جمع مجرم، والمجرم هو الإنسان المخطئ الآثم صاحب الخطيئة، الذي كفر بالله عز وجل والذي أشرك بالله والذي أتى الكبائر من الذنوب، يعني: أجرم في حق الخلق وفي حق الخالق سبحانه وتعالى، ولو ترى هؤلاء المجرمين إذ هم يوم القيامة قد نكسوا رءوسهم من الذل والغم والحزن والحياء من الله عز وجل، قد طأطئوا رءوسهم في ذل يوم القيامة بين يدي الله عز وجل قائلين: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] أي: رأينا النار والعذاب والموقف، وأيقنا من هذا الشيء، وسمعنا الوعيد وسمعنا التهديد وسمعنا التوبيخ، وعرفنا الحق الآن، فارجعنا إلى الدنيا، وقد قضى الله سبحانه أن الإنسان يعيش في الدنيا مرة واحدة، ولا يرجع إليها أبداً، فهؤلاء يطلبون المستحيل، فقالوا: فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ يعني: إذا أرجعتنا إلى الدنيا سنعمل العمل الصالح ونحن على يقين أن هذا وعد حق، ونحن لن نكذب، ولن نخلف، والله يعلم أنهم كذابون، ولذلك قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، يعلم أنهم كذابون، وأنهم إذا رجعوا للدنيا مرة ثانية لرجعوا إلى التكذيب.

    إذاً: الله سبحانه أراد أن يكون هناك جنة ونار، وأراد أن يكون للجنة أهل وللنار أهل، فخاطب هؤلاء وقال: أنتم رجوعكم للدنيا لن يفيدنا شيئاً، لا إيمانكم يفيدنا ولا كفركم يضرنا، ولكن أريناكم قدرتنا على أن نثيب المطيع ونعذب العاصي.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ...)

    قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13] أي: لو شئنا لأعطينا كل نفس هداها، ولأوجدنا في القلوب الإيمان والهدى، ولأوجدنا في العقول التفكير والتبصر والنظر في آيات الله سبحانه، لو شئنا لفعلنا ذلك، ولكن مشيئة الله سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ[التغابن:2]، هذا تقديره سبحانه وتعالى، فهو سبحانه خلقكم وأعطاكم العقول، وأنزل عليكم الكتب، وأرسل إليكم الرسل، وأقام عليكم الحجة، والآن الجزاء يكون يوم القيامة: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ[السجدة:13]، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[الكهف:49]، فقد بين للناس، وقد أعذر من أنذر، وما قصر من بصر.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756001039