إسلام ويب

تفسير سورة التكوير والانفطارللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير الآيات من قوله: (وإذا الصحف نشرت... علمت نفس ما أحضرت)

    قال تعالى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:140-14]. (وإذا الصحف نشرت) أي: صحف أعمال العباد نشرت لهم، بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات. (وإذا السماء كشطت) أي: قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، كقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]. (وإذا الجحيم سعرت) أي: أوقد عليها فأحميت، قال قتادة : سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. (وإذا الجنة أزلفت) أي: قربت للمتقين. (علمت نفس ما أحضرت) أي: علمت كل نفس عند ذلك ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة، أو شر فتصير به إلى النار. أي: أن المراد من قوله: (علمت نفس ما أحضرت) أنه تبين لها عند ذلك ما كانت جاهلة به، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره. وقوله: (علمت) جواب لجميع ما سبق من الشروط، كل ما سبق من الشروط من قوله: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس)

    قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [التكوير:15-16]. (الخنس) هي الرواجع من النجوم، من خنس إذا رجع وتأخر. قال الزمخشري : الخنس الرواجع بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوله. والجوار جمع جارية من الجري. وأصلها (الجواري) بالياء. (الكنس) أي: تغيب وتدخل في بروجها التي تغيب فيها. مأخوذة من كنس الوحش إذا دخل في كناسه، وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر، فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه، ثم صارت الغلبة في استعماله على الحقيقة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس)

    قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:18]. (عسعس) أي: أدبر بظلامه ولم يبق منه إلا اليسير، وذلك وقت السحر آخر جزء من الليل. وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ، أي: أقبل وتبين. أو إذا هب نسيمه اللطيف. أو إن زالت عنه غمة الليل وكربته، فتقول: تنفست بعد هذه الكربة، وهذا تشبيه بمن نفست عنه كربة باعتبار أن الليل كربة، فزال عنه ذلك الظلام. إن لله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من خلقه، لكنه لا يقسم إلا بما فيه آيات ودلائل على قدرته وحكمته تبارك وتعالى، ومع ذلك أقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الأجرام السماوية، وفي أثناء القسم بها وصفها بما ينفي عنها صفة الألوهية؛ وذلك في قوله: (فلا أقسم بالخنس) وهي الرواجع من النجوم فهي تسترجع بعدما تغيب، فكذلك قوله: (والجوار الكنس) أي: التي تغيب وتدخل في بروجها، فذهابها وغيابها يدل على حدوثها وأنها مخلوقة لله سبحانه وتعالى. فالخنوس والكنوس هو الغياب، قال عز وجل: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76] فالإله الحق لا يأفل ولا يغيب عن خلقه، فهذا تقريع لمن خصها بالعبادة، واتخذها من دونه أرباباً. وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بامتداد الظلمة، بعدما استعادت أسباب نشاطها، وانتعشت من فتورها. وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات، والاستعداد لما هو آت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم)

    يقول تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير:19]. أي: أنه روح القدس الذي ينفث في روعه صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. هذا هو جواب القسم لما تقدم. المقصود بنسبة القول إلى جبريل عليه السلام: (إنه لقول رسول كريم) أنه يبلغ الوحي من الله سبحانه وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله تبارك وتعالى في سورة الحاقة: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:38-42] فالمقصود بالرسول هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه قال: (وما هو بقول شاعر)، (ولا بقول كاهن). فنسب القول مرة إلى الرسول الملكي، ومرة إلى الرسول البشري؛ باعتبارهما مبلغين عن الله، فالرسول الملكي واسطة بين الله سبحانه وتعالى وبين النبي عليه الصلاة والسلام؛ والنبي عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين خلقه في إبلاغهم ما أوحي إليه، لكن في الحقيقة هو كلام الله عز وجل، فالنسبة لمعنى التبليغ وحمل هذه الأمانة والرسالة. قوله: (إنه) هذه الهاء إما أنها للبعث والجزاء والنشور؛ لأن البعث والجزاء والنشور مأخوذ من قوله تبارك وتعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:14]؛ لأن النفس لا تعلم ما أحضرت إلا في يوم البعث والنشور. وإما أنها للقول المذكور، وهو القرآن الكريم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذي قوة ... وما صاحبكم بمجنون)

    قال تعالى:ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:19-22]. ذِي قُوَّةٍ أي: قوة على تحمل أعباء الرسالة، وعلى كل ما يؤمر به، كما تقدم في قوله تبارك وتعالى: شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5] وهو جبريل عليه السلام. قوله: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي: صاحب مكانة وشرف ومنزلة لديه تبارك وتعالى. قوله تعالى: مُطَاعٍ ثَمَّ أي: في الملأ الأعلى. (أمين) على وحيه ورسالته. قوله تعالى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ أي: ليس محمد صلى الله عليه وسلم ممن يتكلم عن ذلة ويهذي هذيان المجانين، كما قال تعالى: بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:37] وهذا نفي لما كان يبهته به أعداؤه صلى الله عليه وسلم حسداً وجرماً. وفي قوله: (صاحبكم) تكذيب لهم بألطف وجه، إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم، وأنتم تعرفونه جيداً بأنه أتم الخلق عقلاً، وأرجحهم قولاً، وأكملهم خلقاً، وأتقاهم لله، فلا يسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون، فالله در البحتري إذ يقول في القصيدة التي مطلعها: في الشيب زجر له لو كان ينزجر وبالغ منه لـولا أنه حجـر إلى أن قال: إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر يعني: إذا الخصم رأى المحاسن التي أدل بها وأفخر بها ذنوباً وتقصيراً فكيف أعتذر؟! فكذلك هنا قوله تبارك وتعالى: (وما صاحبكم بمجنون) فهو صاحبكم وأنتم تعرفون أنه منزه عن الكذب، وتقرون بأنكم ما جربتم عليه كذباً قط، حتى كانوا يلقبونه بالصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد رآه بالأفق المبين)

    قال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23]. أي: ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بالأفق الأعلى على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح. قال ابن كثير : والظاهر والله تعالى أعلم أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية فهي المذكورة في قوله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15] فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء. والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليه السلام أن أمره مبني على مشاهدة وعيان لا على ظن وحسبان، فما سبيله كذلك فلا مدخل للريب والتكذيب فيه. فالله سبحانه وتعالى هنا ينزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن كل هذه الأشياء المسماة بالخيالات والعوارض، فهو صلى الله عليه وسلم حينما رأى الملك رآه حقيقة، وليس كما يتخيل المجنون أنه يرى أشياء لا حقيقة لها، بل هي رؤية حسية بعينه، وليست خيالاً. (ولقد رآه) حقيقة، وحسب المكان قال: (بالأفق) أي: في الأفق المرتفع الظاهر. (المبين) أي: الواضح الذي لا شك فيه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما هو على الغيب بضنين)

    قال تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24]. (وما هو على الغيب بضنين) أي: ببخيل، قال مجاهد : ما يضن عليكم بما يعلم من الوحي بالتعليم والتبليغ. وقال الفراء : يأتيه غيب السماء وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم. وقال أبو علي الفارسي : المعنى: أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك، ويمتنع من إعلانه حتى يأخذ عليه حلواناً. وقرئ: (وما هو على الغيب بظنين) بالظاء أي: وما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب. قال القاشاني : لامتناع استيلاء شيطان الوهم من التخييل عليه فيخلف كلامه أو يمزج المعنى القدسي بالوهمي والخيالي. كما قال هرقل لـأبي سفيان : (وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الرب سبحانه وتعالى). فيما يتعلق بقراءة: (وما هو على الغيب بظنين) يقول الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وأولى القراءتين في ذلك عندي هي ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به وذلك بالضاد؛ لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. ثم يقول: فأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول: وما محمد على ما علمه الله من وحيه وتنزيله ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه. واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين: أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل. ثانيهما: أن الضاد والظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة قراءة إحداهما على الأخرى زيادة يسيرة. أقول: وهو كما قال، ويعرفه من قرأ الخط المسند، وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما يتوهم؛ لأن ما نقلوه موافق للقراءة المتواترة، ولابد مما ذكره أبو عبيدة بأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثماني، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له. انتهى. وقال ابن كثير : وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون)

    قال تعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير:25-26]. أي: ما هو من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام، كما في قوله تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء:210-212] فهذا أيضاً نفي لقولهم: إنه كهانة، فرد الله هذا بقوله: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ . فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي: أي مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة، لا جرم أنكم بعد هذه المزاعم في الوحي قد بعدتم عن الصواب. قال الزمخشري قوله تعالى: (فأين تذهبون) استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق: أين تذهب؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين ... رب العالمين)

    قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:27-29]. ( إن هو ) أي: القرآن المتلو عليكم. (إلا ذكر للعالمين) أي: تذكرة وعظة للعالمين، يتذكرون بها ما غرز الله في طباعهم من الميل إلى الخير بمقتضى الفطرة، وما طرأ على طباعهم من ملكات السوء التي تحدثها أضرار الاستماع. قوله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بدل من العالمين، أي أنه ذكرى لمن أراد الاستقامة على طريق الحق، لصرف إرادته وميله إليه والثبات عليه؛ لأن من أعرض ونأى فمن أين تنفعه الذكرى وقد زاده الران عمى؟! قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أي: وما تشاءون شيئاً من فعالكم إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم، والتخلية بينكم وبينها. وفائدة هذا الإخبار هو الإعلام بالافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدره الله عز وجل عليه، فهو خاضع لسلطان مشيئته مقهور تحت سبيله وإرادته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت.. وإذا الكواكب...)

    قال تعالى:إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:1-5]. نشرع بإذن الله في تفسير سورة الانفطار وهي السورة الثانية والثمانون حسب ترتيب المصحف الشريف، وهي مكية، وآيها تسع عشرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ أي: انشقت كما في قوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ . وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ أي: تساقطت، والانتثار يراد به إنزال الكواكب، حيث شبهت بجواهر قطع سلكها فتناثرت وتساقطت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت)

    وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ أي: فتح بعضها إلى بعض؛ لزلزلة الأرض وارتجاجها. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي: قلب ترابها وأخرج موتاها، وأصل البعثرة من بعثر التراب أي: بدله، وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته؛ لأن الإنسان إنما يحفر في الأرض من أجل أن يبحث على حاجة تحت التراب. وقد يراد به البعث والإخراج يوم القيامة من القبور التي دفنوا فيها أحياء. قال بعض أئمة اللغة كـالزمخشري وغيره: إن كلمة بعثر مركبة من كلمتين: البعث، والبحث، لكن دمجت الكلمتان اختصاراً، ومثله كثير في لغة العرب، وهذا يسمى بالنحت، مثلما تقول: بسمل، أي: قل: بسم الرحمن الرحيم، وكذلك تقول: حوقل، أي: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله. فعلى هذا يكون معنى (بعثرت) النبش والإخراج معاً. (علمت نفس ما قدمت) أي: لذلك اليوم من عمل صالح أو سيء. (وأخرت) أي: تركت من خير أو شر. أو: علمت نفس ما قدمت من عمل خير لم تقصر فيه. (وما أخرت) أي: ما قصرت فيه. فالمراد بالعلم بالتقديم والتأخير وجدان الجزاء عليهما؛ لأن (علمت نفس) يعني: وجدت الجزاء عليهما، وتحقق مصداق الوعد عليهما.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ... ما شاء ركبك)

    قال تعالى:يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]. قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي: أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه والانحراف عن فطرته. وذكر الكريم للمبالغة في المنع عن الاغترار؛ لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته، ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه، لاسيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة، ما يزيد في الرهبة كما قال: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ أي: جعلك سوياً متكامل الأعضاء والقوى. وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء، فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها لإعطائها ما تتم به. (فعدلك) أي: جعلك معتدلاً، متناسب الخلقة، معتدل القامة، وليس كالبهائم التي تمشي على الأربع. وقرئ بالتخفيف: (فعدَلَك) أي: صرفك عن خلقة قبيحة إلى خلقة حسنة تميزت بها على سائر الحيوان. قوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ أي: في أي صورة شاءها ركبك عليها، فقد ركبك في صورة هي أبدع الصور وأعدلها. فأي استفهامية، والقصد أن من خلق هذا الخلق البديع وسواه وعدله بقدرته وتقديره، حتى أحكم صورته في ذلك التصوير، لجدير بأن يتقى بأسه ويحذر بطشه ويرهب أشد الترهيب.

    أقوال العلماء في الفرق بين الرجاء وحسن الظن وبين الغرور

    يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي: فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب، وهذا من أهم الأمور؛ فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وأخراه ولابد، ولكن تغالطه نفسه. ثم يقول: ومنهم من يغتر بفهم فاسد فهمه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسنة فاتكلوا عليه. ثم قال: وكاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ فيقول: كرمه، وقد يقول بعضهم: إنه لقن المغتر حجته. وللأسف أن هذا مذكور في بعض كتب التفاسير. قال: كأنه إذا قيل لك: ما غرك بربك الكريم فقل له: كرمك أو لأنك كريم، وهذا جهل قبيح وإنما غره بربه الغرور: وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ وهو الشيطان، ونفسه الأمارة بالسوء، وجهله وهواه، وأتى سبحانه بلفظ (الكريم) وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به، ولا إهمال حقه، فوضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به. يقول الغزالي رحمه الله تعالى: وفي مثل هذا الغرور يجب على العبد أن يستعمل الخوف، فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه. ويقول: مع أنه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3] ومع أنه كريم فقد خلد الكفار في النار أبد الآباد، مع أنه لم يضره كفرهم، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا، وهو قادر على إزالتها. وهو سبحانه قد خوفك عقابه فكيف لا تخافه؟! وكيف تغتر به؟! فالتعلق بكرم الله عز وجل بهذا المعنى ليس في الحقيقة رجاء، وإنما هو اغترار وحمق، فالخوف والرجاء يبعثان الناس على العمل، فما لا يبعث على العمل تزيين وغرور. ورجاء كافة الخلق هو بسبب قصورهم وبسبب إقبالهم على الدنيا، وبسبب إعراضهم عن الله تعالى، وإهمالهم السعي للآخرة فذلك غرور. وقد روي: أن الغرور يغلب على قلوب آخر هذه الأمة. وقد كان ذلك، فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يخافون على أنفسهم، ويقضون الليل والنهار في طاعة الله، يداومون على التقوى والحذر من الشبهات والشهوات، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين، مع إكبابهم على المعاصي وانغماسهم في الدنيا، وإعراضهم عن الله تعالى، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته، كأنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون. فالأنبياء والصالحون يعرفون أن الله كريم ولم يفعلوا ما تفعلون، فإذا كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينى، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم. قال الغزالي: والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمناً بما فيه، وترى الناس يهذونه هذاً -يعني: يقرءونه قراءة سريعة لا تدبر فيها- يخرجون الحروف من مخارجها، ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها وكأنهم يقرءون شعراً من أشعار العرب، لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل بما فيه، وهل هناك غرور أكثر من هذا؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين ... يعلمون ما تفعلون)

    قال تعالى:كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:9-12]. كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي: لا شيء يغرك ويخدعك بربك الكريم، بل سعة عطاء ربك وحكمته في كرمه تدلك وتوحي إلى نفسك أنك مبعوث في يوم آت، فيه ثواب أو عقاب، وإنما الذي يقع منك أيها الإنسان هو العناد والتكذيب بيوم الدين يوم الجزاء، مع أن الله تعالى لم يترك عملاً من أعمالك إلا حفظه وأبقاه عليك حتى يوفيك جزاءه، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ أي: رقباء يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم. كِرَامًا كَاتِبِينَ أي: يكتبون ما تقولون. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ أي: من خير أو شر، أي: يحكونه عليكم فلا يغفلون ولا ينسون. قال الرازي : إن الله تعالى أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى بينهم، ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج الكتاب بالشهود عند المحاسبة، فخوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة: فتُخْرج لهم كتب منشورة ويُحْضر بذلك ملائكة يشهدون عليهم، كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره، فيقولون له: أعطاك الملك كذا وكذا وفعل بك كذا وكذا، ثم قد خالفته وفعلت كذا وكذا، فكذا هاهنا والله أعلم. يكفي أن نوجز بأن الملائكة الكرام الكاتبين هم حفظة يحفظون أعمال العباد ويدونونها، عن اليمين وعن الشمال قعيد، أما كيف يكتبون فهذا غيب لا ينبغي إدراكه ولا علم حقيقته، بل يجب أن نكل علمه إلى الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم ... وما هم بغائبين)

    قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار:13-16]. إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ أي: إن الذين بروا بأداء فرائض الله واجتناب معاصيه في الجنة ينعمون فيها، والأبرار جمع بر، وهو المتصرف بالبر أي الطاعة. قال الأصفهاني : وقد اشتمل على البر قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ أي: الذين انحرفوا عن أمر الله وخالفوه. قوله: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ أي: يوم يدان العباد بالأعمال فيجازون بها. قوله: وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ أي: بخارجين؛ لأنهم مخلدون في النار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين) إلى آخر السورة

    قال تعالى:وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:17-19]. وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ هذا تفخيم لأمر ذلك اليوم وتعظيم لشأنه، أي: أي شيء أعلمك به؟ فأنت لا تدريه مع أنه من أوجب ما تهمك درايته والبحث عنه، والخطاب للإنسان المتقدم أول السورة: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] فهنا يخاطبه الله بقوله: (وما أدراك) أي: يا أيها الإنسان (ما يوم الدين) (ثم ما أدراك ما يوم الدين). ثم فسر تعالى بعض شأنه ذلك اليوم فقال: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أي: لا يقدر أحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى. وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي: أمر الملك الظاهر ونفوذ القضاء القاهر يومئذ لله وحده. وهذا وعيد عظيم من حيث إنه عرفه بأنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء. والله أعلم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755914955