إسلام ويب

تفسير سورة النساء [24-30]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والمحصنات من النساء...)

    قال تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:24]. قال الله تبارك وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ .. [النساء:23] إلى آخر الآية، ثم أضاف تبارك وتعالى إلى هؤلاء اللائي حرمن ممن ذكر، قوله تعالى: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ)) يعني: وحرمت عليكم أيضاً المحصنات من النساء. والمحصنات تأتي بعدة معانٍ في القرآن الكريم، فتأتي بمعنى المتزوجات، كما في هذه الآية، وتأتي بمعنى العفائف، وتأتي بمعنى الحرائر. ومعلوم أن الأصل في الفروج هو التحريم، وليس الإباحة، ولذلك نعجب كثيراً حينما نلاحظ بعض الإخوة يتساءل مثلاً يقول: هل أخو الزوج يعتبر أجنبياً على زوجة أخيه؟ نعم، يعتبر أخو الزوج أجنبياً على زوجة أخيه. كذلك يحرم عليه أن يجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها. والعبرة في الحكم على امرأة بالمحرمية، هو أن تحرم عليه على التأبيد، أما التحريم المؤقت فكل النساء حرام على الرجل إلا زوجته وما ملكت يمينه، كما سيأتي. فالأصل في الفروج التحريم، فالمرأة التي تمشي في الشارع هذه محرمة، وزوجة الجار محرمة، وهكذا. يقول تعالى هنا: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: حرمت عليكم أيضاً المحصنات، وهي في غير هذا الموضع تقرأ: المحصِنات أو المحصَنات، أما في هذا الموضع فباتفاق القراء لا تقرأ إلا بالفتح، ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: ذوات الأزواج أو المزوجات، حرائر كن أو إماء، مسلمات أو غير مسلمات. الحكمة من هذا التحريم هو حفظ الأنساب، فإذا لم تراع هذه الحدود فإنه ستختلط الأنساب وتضيع. ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: ذوات الأزواج من النساء، وقد حرم عليكم أن تنكحوهن قبل مفارقة أزواجهن، يعني: ما دامت هي في عصمة رجل آخر، فكي لا يختلط النسب يحرم عليكم أن تتزوجوهن إلا بعد أن يتوفى زوجها أو بعد أن يفارقها بالطلاق.

    معنى قوله تعالى: (إلا ما ملكت أيمانكم)

    قوله: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، لابد أن نفهمها فهماً صحيحاً، ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، لابد أن نقول: إلا من النساء اللائي سبين في الحرب ولهن أزواج. فقوله: (إلا ما ملكت أيمانكم) ليست على إطلاقها، وليس المقصود هنا إلا من سبين ولهن أزواج، ولذلك قال السيوطي هنا: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، من الإماء بالسبي، يعني: ملكتموهن بالسبي، فلكم وطؤهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب، لكن بعد الاستبراء، يعني: بعد تبين براءة رحمها من الحمل وذلك بحيضة. والسبب في هذا التقدير الذي ذكرناه أن الآية تتكلم على المحصنات، وهن ذوات الأزواج، فذوات الأزواج كما ذكرنا مسلمات أو غير مسلمات، حرائر أو إماء لا يجوز نكاحهن، فالكلام هنا في ذوات الأزواج من النساء اللائي سبين في الحرب فصرن ملك يمين لكم، فهؤلاء يجوز لكم أن تتزوجوهن، حتى ولو كن ذوات أزواج في دار الحرب. لكن بشرط استبراء الرحم بأن تحيض حيضة فيستبين براءة رحمها من الحمل.

    معنى قوله: (كتاب الله عليكم)

    قوله: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24]، هنا نصب على المصدر، يعني: كتب الله ذلك عليكم كتاباً، فكتاب الله هو مصدر مؤكد. ( كتاب الله عليكم ) يعني: كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتاباً وفرضه فرضاً فالزموه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه. وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، وأحل لكم قراءتان: إما بالبناء للفاعل أو بالبناء للمفعول، يعني: (وأُحل لكم) والقراءة الأخرى: (وأَحَلَّ لكم ما رواء ذلكم) يعني: وأحل لكم الله سبحانه وتعالى ما وراء ذلكم سوى ما حرم عليكم من النساء المحرمات المعدودات في هذه الآية.

    معنى قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وما يستثنى من ذلك

    قوله: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، يعني: أحل لكم سوى من ذكرنا من النساء غير الأم والبنت والأخت وهكذا، إلى هذه الآية: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، ما سوى هؤلاء المذكورات في الآيتين فهن حلال لكم. ولا شك أن (ما) في هذه الآية تفيد العموم، لكن هذا العموم مخصوص بما استثناه الشرع، كالجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، كما صح ذلك في السنة. أما الجمع بين الأختين فقد ورد التحريم لذلك في القرآن كما في قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:23]، هذه في القرآن. إذاً: عموم قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)) مخصوص بمحرمات أُخر دلت عليها دلائل أخر، فمن ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وإن كان بعض المفسرين ذهب إلى أن العمة والخالة داخلة في قوله تبارك وتعالى: (( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ )). لكن على كل حال فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وبين عمتها، ولا بين المرأة وبين خالتها، وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن كافة أهل العلم، وقال: لا نعلم بينهم اختلافاً في ذلك. ومن هذا التخصيص لهذا العموم: نكاح المعتدة، هذه المرأة التي تكون في العدة يحرم نكاحها أثناء العدة. كذلك أيضاً: القادر على الحرة لا يجوز له أن يتزوج الأمة كما سيأتي إن شاء الله، فالقادر على التزوج من حرة لا يجوز له أن يتزوج أمة. من ذلك أيضاً: الرجل الذي عنده أربع زوجات لا يحل له الخامسة وذلك بالإجماع، فهذا أيضاً تخصيص لهذا العموم. من ذلك أيضاً: الملاعنة، ونوع تحريم الملاعنة مؤبد، يعني: الرجل إذا لاعن امرأته وحصلت الملاعنة من الطرفين كما في سورة النور، في هذه الحالة بمجرد وقوع الملاعنة تحرم عليه إلى الأبد. والدليل على ذلك هو من السنة، لكن هل هناك دليل من القرآن الكريم؟ نعم، بل جملة من الأدلة من القرآن الكريم التي تدل على حجية سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التشريع. هذا فيما يتعلق بالعموم في قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، يعني: من النساء المحرمات المعدودات، وهذا عموم خصصته السنة كما بيناه.

    معنى قوله: (أن تبتغوا بأموالكم)

    قوله تعالى: ((أَنْ تَبْتَغُوا))أي: أن تطلبوا النساء. ((بِأَمْوَالِكُمْ))، أي: بصداق أو ثمن، ((مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)). قوله تعالى: ((أَنْ تَبْتَغُوا))، (أن) بدل من (ما). وهذا قول من الأقوال الصحيحة. هناك قول آخر: أنه مفعول لأجله، (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا) يعني: أحل لكم إرادة أن تبتغوا، أي: تطلبوا النساء. قوله تعالى: (بِأَمْوَالِكُمْ) يعني: أن تطلبوا ما رواء هؤلاء المحرمات من النساء تزوجهن ببذل الأموال وبصرفها في مهورهن بالصداق.

    معنى الإحصان والمسافحة

    قوله: (مُحْصِنِينَ) يعني: متزوجين. إعراب (محصنين) حال من فاعل (تبتغوا) يعني: حال كونكم محصنين. والإحصان: هو العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم. قوله: ((غَيْرَ مُسَافِحِينَ))، المقصود: غير زانين. والسفاح: هو الزنا والفجور، وهو مشتق من السفح وهو الصب؛ لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة، وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة قال: أنكحيني، فإن أراد الزنا قال: سافحيني، والمسافحة: أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح.

    حكم تعجيل المهر وتأجيله والإسقاط منه قبل فرضه وبعده

    ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ))، يعني: فما تمتعتم به منهن ممن تزوجتم بالوطء. ((فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً))، يعني: مهورهن التي فرضتم لهن. ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ))، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم أنتم وهن به من بعد الفريضة، يعني: من الحط منه إذا حصل بعدما أثبتم المهر، حصل أن رجلاً أعسر أو المرأة أرادت أن تسامحه في المهر كله، برضا نفس لا بأس، أو بأن تحط عنه بعضه فلا بأس، أو بالزيادة عليه فلا بأس. لكن هل يجوز ابتداءً الاتفاق على إسقاط المهر؟ لا يجوز بحال أن يتم زواج بدون مهر، لكن يمكن بعدما يستقر المهر في ذمته أن تحط عنه كله أو بعضه برضاها. قد يحصل أن يتزوج بدون أن يحدد مهراً، وهو جائز، لكن يجب عليه المهر بعد العقد، لكن هناك فرق بين من يتزوج ولا يحدد المهر، وبين من يتزوج ويتفق على إسقاط المهر قبل الزواج، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال باتفاق العلماء، لكن يمكن أن يتزوج ويبقى المهر إما مؤجلاً، أو معجلاً بعضه ومؤجلاً بعضه إلى آخره، فإن فرضتم المهر ورضيت المرأة وطابت عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً كما جاء في الآيات الأخرى مثل قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]، كذلك هو مثل قوله تبارك وتعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237]. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:24]، ( عليماً ) أي: بخلقه، ( حكيماً ) أي: فيما دبره لهم. وقبل أن نتجاوز قوله تعالى: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، قلنا: إنها تقرأ أحياناً بالفتح، وأحياناً بالكسر، لكن هنا في هذه الآية بالذات لا تقرأ إلا بالفتح باتفاق القراء، فإذا قرئت بالفتح فتكون هذه مشتقة من أحصَن، ومحصن مشتقة من أحصن، يعني: من الفعل المبني للمعلوم يشتق اسم الفاعل، أحصَن فهو محصن يعني: أحصن نفسه، أو محصَن فهو أحصن، يعني: أحصنه غيره. أما القراءة بالكسر : (وَالْمُحْصْنَاتُ) فتكون مشتقة من أحصنَّ، يعني: أحصن فروجهن أو أحصن أزواجهن، واشتقاق الكلمة من الإحصان الذي هو المنع.

    حكم نكاح المتعة ووجه الاستدلال بالآية

    قبل أن أتجاوز هذه الآية فيها كلام مفصل وكلام كثير يتعلق بكلام بعض المفسرين حيث فسر قوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) بأنها نزلت في نكاح المتعة. فقوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) أي: من اللائي تزوجتموهن. ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) معنى ذلك: أن المهر يلزم الرجل ويتأكد في حقه بدخوله بالزوجة. فقوله: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) قالوا: إن هذه إشارة إلى نكاح المتعة. ((فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً))، يعني: الأجر الذي يبذله لها. ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ))، يعني: إن انتهى أجل هذا النكاح؛ لأن نكاح المتعة يكون مؤجلاً، فإذا انتهى ذلك الأجل فإنها في حل، وإذا مات هو لا ترثه، وإذا ماتت هي لا يرثها ... إلى آخره. ونكاح المتعة: هو الزواج إلى أجل معلوم بلفظ المتعة كمتعتك، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى نكاح المتعة، ثم نسخت هذه الآية بما روى ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني رضي الله تعالى عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بين الركن والباب وهو يقول: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع -يعني: في نكاح المتعة- ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها -أي: من كان عنده امرأة ممن نكحها نكاح المتعة فليخل سبيلها- ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً) . وأخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه خطب وقال: (ما بال رجال ينكحون هذه المتعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، لا أوتى بأحد نكحها إلا رجمته). وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأنسية -يعني: الحمير الأهلية-). اختلف العلماء في بيان متى تم تحريم نكاح المتعة على أقوال: فمن قائل: يوم خيبر، استدلالاً بهذه الرواية المتفق عليها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومنهم من قال: إنه تم تحريم المتعة في عام فتح مكة. ومنهم من قال: بل هو عام حنين، وهذا القول الثالث هو بنفسه الثاني؛ لأن معركة حنين وفتح مكة متصلتان. القول الرابع: أن نكاح المتعة حرم عام حجة الوادع، وهو وجه من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوادع، وسفر الوهم من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة كثيراً ما يعرض للحفاظ، يعني: هذه الحالة تعرف عند علماء الحديث بسفر الوهم، وهو أن الراوي يسافر بوهمه وبخياله من موقع إلى موقع، فيبدل الأسماء أو الأماكن أو الوقائع. والعلماء لهم طرائف في الترجيح عند هذه الحالات، ومنها: هذا الذي نحن بصدده، والصحيح أن المتعة حرمت عام فتح مكة كما في صحيح مسلم ، ولو كان التحريم زمن خيبر للزم النسخ مرتين، وهذا لا عهد لمثله في الشريعة ألبتة، ولا يقع مثله في هذه الشريعة. كما أن خيبر لم يكن فيها مسلمات، بل كان فيها يهوديات، ولم تكن قد نزلت آية المائدة التي فيها إباحة نكاح الكتابيات، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:5]، لأن آية المائدة نزلت في حجة الوداع يوم النحر، وهي في سياق قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فلو كان التحريم في خيبر فمعنى ذلك أن النسخ حصل مرتين، وهذا لا يقع في الشريعة. أما ما جاء في رواية علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية أو الأنسية) فهذا الحديث ثبت بلفظين: أحدهما: هذا اللفظ الذي الذي سبق. وهناك لفظ آخر: وهو الاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. يعني: اللفظ الآخر: (أنه نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية يوم خيبر). فإذاً يكون يوم خيبر فيه بيان تحريم أكل لحوم الحمر الأنسية، وليس فيه بيان تحريم نكاح المتعة. فإذاً هذا الجواب على من يستدل بأن تحريم المتعة حصل في خيبر. والصحيح أنه حصل في فتح مكة، وهذا الحديث كما ذكرنا ثبت في الصحيحين بهذا اللفظ، وثبت أيضاً في رواية أخرى بالاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فكلمة (يوم خيبر) ليست لبيان تحريم المتعة، وإنما لتحريم لحوم الحمر الأهلية، فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ربط بين تحريم الاثنين معاً. ليس هذا فحسب، بل بعض الرواة اقتصر على رواية الحديث: (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر)، فقصرها على هذه المرتبة الثانية من الخطأ الذي وقع ومن الغلط البين. فإن قيل: فما سر جمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذا الحديث بين الأمرين؟ يعني: علي جمع في الحديث بين النهي عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية. فنقول: سر ذلك أنه كان يناظر ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ لأن ابن عباس كان يبيحهما، فناظره في المسألتين، وروى له التحريمين، وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر وأطلق تحريم المتعة، وقال له: (إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر). إذاً: كلمة يوم خيبر جاء في تحريم لحوم الحمر الأهلية وليست في تحريم نكاح المتعة كما قاله سفيان بن عيينة وعليه أكثر الناس. فروى علي رضي الله عنه الأمرين محتجاً عليه بهما لا مقيداً لهما بيوم خيبر. لكن هل تحريم نكاح المتعة هو من باب تحريم الفواحش، أم أنه حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها للمضطر؟ هي حرمت كتحريم الفواحش تماماً، والفواحش لا تباح بحال. أما القول بأنه حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها فقط في حالة الاضطرار، فهذا القدر هو الذي نظر فيه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فـ ابن عباس لم يبحها بإطلاق كما يزعم الشيعة، والشيعة إلى الآن يتمادون في موضوع نكاح المتعة كما هو معلوم عنهم، وهو من خبائثهم. إذاً ابن عباس نظر إلى أنها لم تحرم تحريماً مطلقاً كتحريم الفواحش، والفواحش لا تباح بحال، وإنما ذهب إلى أنها تحرم عند الاستغناء عنها وتباح للمضطر، فهذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال: أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسع فيها من توسع ولم يقف عند الضرورة أمسك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الإفتاء بحلها ورجع عنه، وكان ابن مسعود يرى مثل قوله، أو قريباً منه. وقد روي أن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال لـابن عباس رضي عنهما: (أتدري ما صنعت بفتواك -فتواه التي هي إباحة نكاح المتعة-؟ فقد سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر، وكان من الشعر الذي قيل: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال ابن عباس : إنا لله وإنا إليه راجعون ما بهذا أفتيت، ولا أحللت إلا مثلما أحل الله الميتة والدم). إذاً معنى هذا الكلام: أن هذا هو القدر الذي اجتهد فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكما ذكرنا: فالإجماع منعقد على خلاف ذلك، يعني: الإجماع على تحريم نكاح المتعة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات...)

    لقد شرع الله بعد ذلك في بيان نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة، يعني: على قول ابن عباس أو على قول من يرى أنه في حالة الاضطرار يباح للمسلم المتعة، فكأن الله سبحانه وتعالى هنا يبين لنا ما يستباح للضرورة، لكن الفرق بين هذه الضرورة وما يأتي الآن هو أن الضرورة التي أبيح لأجلها نكاح المتعة كانت ضرورة مؤقتة انقطعت إلى يوم القيامة، بحيث عاد حراماً تحريماً شاملاً كاملاً أبدياً. فيشرع عز وجل هنا في بيان نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة، لكنها ضرورة مستمرة لا تنقطع بكثرة الإسلام، أما الضرورة التي أبيح لأجلها نكاح المتعة فهي ضرورة مؤقتة انقطعت في ذلك الوقت وانتهت. أما الضرورة التي ستأتي فهذه مستمرة كما في قوله تبارك وتعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ [النساء:25]. ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا))، ( طولاً ) يعني: غنىً. ((أَنْ يَنكِحَ))، يعني: غنىً لأن ينكح. ( من لم يستطع منكم ) من لم يقدر، ( منكم ). (ومن لم يستطع منكم) الخطاب هنا للأحرار، أي: ومن لم يستطع منكم أيها الأحرار طولاً، يعني: لم يقدر أن يحصل غنىً يمكنه أن ينكح المحصنات المؤمنات.

    معنى المحصنات في قوله: (طولاً أن ينكح المحصنات)

    المحصنات هنا بمعنى: الحرائر، لماذا قلنا: المحصنات هنا بالذات بمعنى: الحرائر؟ لأن الآية تبين أن من عجز عن نكاح الحرائر يجوز له نكاح الإماء، أي: لابد أن نفسر المحصنات بعكس الإماء، وهن الحرائر. يقول عز وجل: ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ))، أي: لم يستطع منكم غنىً أن يتزوج الحرائر. إذاً المحصنات هنا: الحرائر، والحرائر معروفات بالعفة، فالمحصنات المتعففات بخلاف الزواني، فإنه لا عبرة بهن، ويكن أيضاً مؤمنات؛ لأن الكوافر أيضاً لا عبرة بهن؛ لأن العفة عنوان الحرية، ولذلك لما بايعت هند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعها على الصيغة المعروفة: (ولا يزنين) لما سمعت هذا الكلام اضطربت وقالت: (أوتزني الحرة؟) واستحيت من ذلك، فمعروف أن الحرة عفيفة.

    معنى الإدناء من الجلابيب والحكمة منه

    كما تعلمون في سبب نزول قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، هل المقصود أن يعرفن بأن فلانة زينب أو فلانة عائشة أو فلانة كذا، أم أن المقصود أن يعرفن بالصفة؟ المقصود: أن يعرفن بالصفة؛ لأن هناك قرينة في الآية واضحة جداً، وهي أن الخطاب هنا موجه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ))، هل أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام كن يكشفن وجوههن؟ لا، بل معروف بالإجماع أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن محجبات حجاباً كاملاً يغطي جميع البدن بما في ذلك الوجه والكفين. ((قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ))، الإدناء شيء زائد على لبس الجلباب، يقال: أدن الثوب من وجهك، يعني: غطه به. هذا كلام العلماء في غير زمان الغربة الذي نحن فيه الآن، حيث صار كل من هب ودب يتطاول على الدين، ويسترسل مع الموجة الشيطانية -التي نحن فيها- حيث صرنا نسمع نوعاً من الافتراء على الله وعلى كتاب الله تبارك وتعالى في تفسيره، فهذه الآية باتفاق المفسرين في هذا المعنى. قوله تعالى: ((يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ))، يعني: هن في الأصل لابسات الجلباب، لكن أمرن بشيء زائد على الجلباب ألا وهو الإدناء بتغطية الوجه. ((ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ))، ذلك أدنى أن يعرفن بأنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون بالأذية، ولذلك (كان عمر رضي الله تعالى عنه إذا رأى أمة متقنعة أو مغطية وجهها كان يعلوها ضرباً بالدرة ويقول: تتشبهين بالحرة يا لكع) يضربها كي لا تشابه الحرائر في لبسهن وهيئتهن.

    المرأة بين منافقي الأمس ومنافقي اليوم

    ونحن في الحقيقة نعجب من هذا الزمان الذي نحن فيه! كانت علامة الحرية فيما مضى هي العفة والحشمة والتستر، أما الآن فصارت علامة الحرية أن المرأة تتعرى وتتكشف وتتبرج!! هل هذه حرة؟! فيقولون: تحرير المرأة .. حرية المرأة، فالحرية أصبحت علامة على التهتك والتبرج والسفور. في المقاييس الأولى كانت علامة الحرية أن المرأة تتعفف وتتصون؛ لأن التي تبالغ في ستر بدنها إلى هذا الحد لا يمكن أن يطلب منها الفاحشة أو يطمع فيها، فإنا لله من هذا الزمن العجيب الذي نعيشه الآن!! والمنافقون في ذلك الزمان كانوا أحسن وأفضل من المنافقين في أيامنا هذه، لماذا؟ لأن المنافقين فيما مضى إذا علموا أن المرأة حرة ووجدوها محجبة ففي هذه الحالة يكفون عنها، أما الآن فيسلطون سهامهم على المرأة الحرة المتعففة باسم الحرية، والحقيقة ليست حرية بل شيطانية. يقول تبارك وتعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ ، يعني: الحرائر، والحرائر يستلزم كونهن عفيفات. الْمُؤْمِنَاتِ ، هذا القيد جرى على الغالب فلا مفهوم له، بتعبير آخر هو ليس قيداً في الحقيقة وإنما هو تعبير غالبي، أن أغلب المحصنات الحرائر اللاتي يتزوجهن المسلمون يكن مؤمنات، فيجوز نكاح المحصنات من أهل الكتاب أيضاً جمعاً بين ذلك وبين آية المائدة.

    وجه تقييد نكاح الإماء بالإيمان

    قوله: ((فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، يعني: الذي يعجز عن نكاح الحرائر من المؤمنات فيجوز له أن ينكح مما يملكه أيمان إخوانكم، ( فمن ما ملكت أيمانكم ) يعني: من عجز ولم يجد غنىً كي يتزوج الحرائر المؤمنات فله أن ينكح بعض ما يملكه أيمان إخوانه المسلمين. مِنْ فَتَيَاتِكُمُ ، يعني: الإماء حال الرق، ليس حال الحرية أو العتق. الْمُؤْمِنَاتِ ، يعني: لا يجوز نكاح الإماء الكتابيات، لماذا؟ حتى لا يجتمع عار الرق إلى عار الكفر كما سنبين إن شاء الله. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ، يعني: فاكتفوا بظاهره وكلوا السرائر إليه، فإنه العالم بتفصيلها، ورب أمة يكون عندها من قوة الإيمان ما يجعلها أفضل من الحرة عند الله تبارك وتعالى الذي هو أعلم بالإيمان. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ، يعني: أنتم وهؤلاء الإماء أو الفتيات المؤمنات بينكم نوع من المناسبة، وهي أنكم تنتمون إلى أبيكم آدم عليه السلام، وكما أن دينكم هو دين الإسلام فبعضكم من بعض في الانتساب لآدم وفي ملة الإسلام، فلا تستنكفوا من نكاحهن، فهذا نوع من التسلية والتعزية لمن عجز على نكاح الحرة، واضطر إلى نكاح الأمة.

    شروط نكاح الإماء

    قوله: ((فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ))، المقصود هنا: بإذن مواليهن لا استقلالاً. ((وَآتُوهُنَّ))، أي: أعطوهن. ((أُجُورَهُنَّ))، أي: مهورهن. ((بِالْمَعْرُوفِ))، يعني: من غير مطل ونقص، ومن غير ضرار. يقول تبارك وتعالى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ ، إعراب ( محصنات ) هنا: حال، يعني: حال كونهن عفائف من الزنا أو عن الزنا. ((غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ))، هذه حال مؤكدة لصفة الإحصان. ((مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ))، أي: غير زانيات جهراً. ((وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ))، الأخدان هم الأخلاء الذين يزنون بهن سراً، والأخدان هم الذين يجمعهم الفحش والفجور، يعني: واحدها خدن أو خدين ((وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)). إذاً: هذه الآية الكريمة تبين شروط نكاح الإماء، ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ))، فكلمة المؤمنات قلنا: إن المقصود بها: الإماء المؤمنات لا الكتابيات، أي: لا يجوز لكم أن تنكحوا الأمة الكتابية، لكن الأمة التي تكون مسلمة؛ لأنه لا يحتمل مع عار الرق عار الكفر، ولأن عار الكفر بلا شك أشد من عار الرق. قوله تبارك وتعالى: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ))، ( ذلك ) يعني: هذه الإباحة، ( لمن خشي العنت منكم ) العنت هو خوف الوقوع في الزنا والفاحشة. ((وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ))، وأن تصبروا عن نكاح الإماء حتى تحصلوا على المهر الذي به تستطيعون نكاح الحرة فهو خير لكم، وسنذكر إن شاء الله وجوه هذه الخيرية أو الأفضلية. إذاً هذه الآية نستطيع أن نستنبط منها ثلاثة شروط لجواز نكاح الإماء، اثنان منها في الشخص الناكح وواحدة في المنكوحة، أما الشرطان اللذان يشترطان في الناكح المتزوج فهما: الشرط الأول: أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق، وهو معنى قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا))، أي: لم يجد غنىً، ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ))؛ لأن العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة أسيادهن ومواليهن. الشرط الثاني: أن يخشى الوقوع في الزنا، والدليل قوله: ( ذلك ) يعني: هذه الإباحة ( لمن خشي العنت منكم ) أما من لم يخش الوقوع في الزنا فلا يحل له نكاح الأمة. ومعنى: ( خشي العنت منكم ) يعني: بلغ الشدة في العزوبة. الشرط الثالث هو شرط في المنكوحة من الإماء: أن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة، يعني: حتى لو كانت أمة كتابية فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية، لماذا؟ لأن الأمة الكافرة ناقصة من وجهين: ناقصة من جهة الرق. وناقصة من جهة الكفر. والولد تابع للأم في الحرية والرق، إذا نكح الرجل أمة فالأولاد الذين تلدهم يكونون تبعاً لها، فإن كانت حرة فسيكونون أحراراً، وإن كانت أمة فالأولاد سيكونون أيضاً أرقاء لسيد أمهم. لو تزوج المسلم بأمة يهودي أو نصراني فالأولاد سيكونون تابعين لأمهم، وخاضعين لسيدهم النصراني أو اليهودي. فالأمة الكافرة ناقصة من وجهين: الرق، والكفر. والولد تابع للأم في الحرية والرق، وحينئذٍ لو كانت الأمة كتابية وهي ملك للكافر فالولد سيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكاً للكافر، فهذا فيه هذان العيبان.

    حد الأمة بعد إحصانها وتزوجها

    قال تعالى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ ، ( فإذا أحصن ) يعني: إذا زوجن، هنا انتقال لحكم آخر يتعلق بالإماء وهو: أن الأمة إذا تزوجت وبعد الزواج أتت بفاحشة مبينة فما حدها؟ هذا هو السؤال الذي تجيب عليه هذه الآية، يقول تعالى: (( فَإِذَا أُحْصِنَّ ))، يعني: إذا أحصن هؤلاء الإماء بالزواج، وفي قراءة أخرى بالبناء للفعل، (فإذا أحصن) يعني: تزوجن. (( فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ))، أي: بزنا. (( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ))، قوله تعالى: (( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ))، ( المحصنات ) المقصود بهن هنا: الحرائر الأبكار إذا زنين. (( مِنَ الْعَذَابِ ))، يعني: من الحد، إذا كانت الأمة متزوجة فإنها لا تستوي مع الحرة في كونها ترجم؛ لأنهن من أهل المهانة. وإن كان كلام السيوطي : (فعليهن نصف ما على المحصنات) يعني: حدهن مثل نصف حد الحرائر الأبكار. هذا الوجه الذي ينبغي أن يفهم عليه كلام السيوطي . إذا زنت الحرة البكر يكون حدها مائة جلدة، فهذا لبيان الحد فقط. يعني: بما أن حد الحرة البكر مائة جلدة، فإن الأمة إذا كانت متزوجة فحدها نصف هذا الحد الذي هو خمسون جلدة، هذا لبيان النسبة فقط، والمقصود: أنه ليس هناك رجم على الأمة المتزوجة، وليس حدها مثل نصف حد الحرة المحصنة؛ لأن الحرة المحصنة حدها الرجم. الخلاصة: أن عليهن نصف ما على المحصنات الحرائر الأبكار إذا زنين، ويكون حدهن خمسين جلدة.

    الحكمة من عدم رجم الأمة المحصنة

    لماذا لا ترجم الإماء؟ قال بعض المفسرين: لأن الإماء من أهل المهانة، فلا يفيد فيهن المبالغة في الزجر، والحكمة من الرجم هو المبالغة في زجر الناس عن الفاحشة، قال عز وجل: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، لزجر قوة هذا الدافع في الناس. وأيضاً فإنها إذا قتلت فسيعود ذلك بالضرر على سيدها الذي يملكها. (( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ))، أي: الحرائر الأبكار إذا زنين.

    الحكمة من التغريب للزاني البكر

    قوله: (( مِنَ الْعَذَابِ ))، أي: الحد، فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة، هذا على مذهب من يقول بالجمع بين الجلد والتغريب، كي يجمع بين عقوبة البدن وعقوبة القلب؛ لأن الغربة عذاب على القلب، ولذلك لما قالوا لبعض العلماء: لماذا كان السفر قطعة من العذاب؟ قال: لأن فيه فراق الأحباب، فهذا عذاب للقلب. كذلك أيضاً هناك حكمة أخرى من تشريع التغريب، وهي تغيير البيئة التي تذكر العاصي بأصحابه الذين يؤزونه أزاً، وذكريات الفساد أو المعاصي التي كان يرتكبها، فإذا غيرت البيئة كان ذلك أعون له على فتح صفحة جديدة من حياته، وهذا الأسلوب تلجأ إليه بعض الجماعات -مثل جماعة التبليغ- في تربية أفرادها، فتراهم يعزلون الشخص عن بيئته حتى إنه مهما كان فاسداً في بيئته فهم يجعلونه يعيش معهم في حالة تعبد وذكر وغير ذلك فترة معينة، بحيث تتغير بالفعل صفاته وأخلاقه.

    الاعتداد بمفهوم الشرط وعدمه وما يترتب عليه

    قوله: ((فَإِذَا أُحْصِنَّ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ))، هنا مسألة تتعلق بهذا القيد وهو: (فَإِذَا أُحْصِنَّ): وهو مفهوم الشرط. معنى ذلك: أن الأمة إذا ارتكبت الفاحشة قبل الزواج هل عليها حد أم ليس عليها حد؟ هذا هو الخلاف الذي ترتب على مدى الاعتداد بمفهوم الشرط، هل مفهوم الشرط هنا يعتد به؟ بمعنى: إذا أحصن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، لكن إذا لم تحصن الأمة وأتت بالفاحشة هل عليها حد أم لا؟ يؤخذ من ظاهر الآية أن الأمة بعد التزويج حدها نصف حد الحرة البكر من الجلد، أما قبل التزويج فقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجلدها، لكن بلا شك مهما كان خلاف العلماء في هذه الآية أو في هذا الشرط فإنه طبقاً لهذه الآية لابد أن يخالف حالها بعد الإحصان حالها قبله، وإلا لم يكن للتقييد بالإحصان فائدة، (فإذا أحصن) لاشك أن هذه الكلمة لها مفهوم مهم جداً، وحكم شرعي ينبني عليها، وإلا لو كان الأمر يستوي قبل الإحصان مع ما بعد الإحصان لما كان في التقييد بهذا الشرط فائدة.

    حد الأمة قبل الإحصان

    هنا احتمالات ذكرها العلماء: الكلام هنا الآن في الأمة إذا ارتكبت الفاحشة قبل أن تحصن وتتزوج فهل عليها حد أم لا؟ بعض العلماء قالوا: لا حد عليها، ويجاب عن ذلك بأن السنة الصحيحة تبطل ذلك، بل ثبت في السنة أن الأمة التي لم تتزوج وزنت أنها تجلد، لكن يأتي سؤال بعد هذا هل هو حد أم تعزير؟ فلذلك لن نقول: حدت لكن نقول: جلدت. الاحتمال الثاني: أن يقال: حدها قبل الإحصان حد الحرة وبعد الإحصان نصف حد الحرة، وهذا باطل قطعاً؛ لأنه مخالف لقواعد الشرع وأصوله، ولأن المحصن الذي أعفه الله بالزواج ومع ذلك يرتكب الفاحشة فهذا يستحق عذاباً أشد من عذاب العزب، ولذلك شرع في حق المحصن الرجم وفي حق غير المحصن الجلد فقط؛ لأنهما لا يستويان في قوة الدافع إلى هذا الفعل، فكيف هنا تأتي في الأمة فتقول: إن حدها قبل الإحصان مائة جلدة فإذا أحصنت وزنت يكون حدها خمسين؟! هذا يتعارض مع قواعد الشرع في تغليظ العقوبة طبقاً لقوة الدافع. الاحتمال الثالث: أنه يعتبر قبل الإحصان تعزيراً وبعد الإحصان يعتبر حداً شرعياً، وهذا القول أقوى من سابقيه.

    من يقيم الحد على الأمة

    الافتراق في الحالين قبل الإحصان وبعده في إقامة الحد لا في قدره، ( فإذا أحصن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ). فالكلام هنا متعلق بإقامة الحد وليس بقدر إقامة الحد، يعني: أنه في حالة الثيب الذي يتولى إقامة الحد هو الإمام، وهذا أقرب الأقوال التي تقال في هذه الآية. ( فإذا أحصن ) سر هذا القيد الشرطي هو ليس في مقدار الجلد، لأنه في الحالتين القدر واحد، لكن الذي يتولى إقامة الحد قبل الإحصان هو سيدها، والذي يتولى إقامة الحد عليها بعد الإحصان هو الإمام، وهذا أقرب ما يقال كما حققه بعض العلماء. ((فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ))، أي: زنا، (( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ))، أي: الحرائر الأبكار إذا زنين، (( مِنَ الْعَذَابِ ))، أي: الحد، فيجلدن خمسين، ويغربن نصف سنة، ويقاس عليهن العبيد، ولم يجعل الإحصان شرطاً لوجوب الحد، بل لإفادة أنه لا رجم عليهن أصلاً. (( ذَلِكَ ))، يعني: إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند عدم الطول، أي: الغنى والقدرة على نكاح الحرائر. (( ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ))، ( خشي ) أي: خاف، ( العنت ) أي: الزنا، ويفسر بالمشقة في التحفظ من الزنا؛ لأن أصل كلمة (العنت) هي المشقة، وهي تطلق على الزنا نفسه؛ لأن الفاحشة سبب لهذه المشقة؛ لماذا؟ لأنه إذا وقع فيه فإنه يترتب عليه الحد في الدنيا أو العقوبة في الآخرة. ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) يعني: هذه الإباحة لمن خشي العنت منكم أيها الأحرار، بخلاف من لا يخافه من الأحرار، فلا يحل له نكاح الأمة إذا لم تتوافر هذه الشروط. وكذلك من استطاع طول حرة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة وهو قول الشافعي . وخرج بقوله: (( مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ))، الإماء الكافرات فلا يحل له نكاح الأمة الكافرة ولو عدم القدرة وخاف العنت، يعني: لابد من اجتماع الشروط الثلاثة، فلو أن رجلاً كان غير قادر على نكاح الحرائر، ويخشى العنت، لكن الأمة التي تزوجها كافرة فهل يجوز له ذلك؟ لا، لابد من اجتماع ثلاثة شروط لا يتم الجواز إلا بجميعها.

    كراهة التزوج بالإماء مع توافر شروط الجواز

    قوله: (( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ))، في الآية كراهة نكاح الأمة عند اجتماع الشروط، يعني: هذا الجزء من الآية يدل على أنه مع إباحة نكاح الإماء وكونها مشروطة بهذه الشروط الثلاثة، مع ذلك أن تصبروا يكون أفضل لكم حتى لو كان مباحاً، فهذا يفهم منه كراهة نكاح الإماء حتى مع اجتماع الشروط، وإن سبقت الرخصة بذلك، فخيرية الصبر عن نكاح الإماء تكون من وجوه: الوجه الأول: لما فيه من تعريض الولد للرق، ولذلك لما تكلمنا في موضوع العزل، ذكرنا أن أحد الأسباب التي رخص فيها العزل هو أنه إذا كان متزوجاً أمة وأتت بأولاد فإنهم سيكونون أرقاء فأبيح العزل لهذا السبب. وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: (أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه) يقصد ولده. الوجه الثاني: أن حق المولى في الأمة أقوى من حق الزوج، فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر. والواحد عند سرد هذه المقارنات التي ذكرها العلماء يتصور أحوال النساء الهاربات من وظيفتهن التي هي: تربية الأولاد، ورعاية الزوج، وأداء حقه، فنلاحظ الآن أن هناك نوعاً من الاسترقاق الجديد، يعني: عندما تكون المرأة متزوجة وهي موظفة وقوانين العمل وسلطة المدير تتحكم فيها، مثلاً: بعض النساء في التمريض أو بعض المهن المعينة، فإنها قد تكلف بأي عمل، وتحتاج أن تنتقل من مكان إلى مكان أو من بلد إلى بلد وغير ذلك، فهنا تكون هناك سلطة غير سلطة الزوج على المرأة، حتى لو أن الزوج صرخ واستغاث ما يسمع له. فهذه الأمة حق المولى فيها أقوى من حق الزوج، فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر؛ ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر، وعلى بيعها للحاضر والبادي، وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا نزيد عليه؛ ولأن الأمة ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله ذل ومهانة، والعزة هي اللائقة بالمؤمنين، كما أن مهر الأمة لمولاها، فلا تقدر الأمة على التمتع به، ولا على هبته للزوج. فخلاصة الكلام: أنه بنكاح الأمة لا ينتظم أمر المنزل، كما يقول الشاعر: إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره.

    وظيفة المرأة الحقيقية

    يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) فحدد دائرة عملها، وأن وظيفتها في بيت زوجها، فمن الخداع والكذب والتزوير والتضليل أن تسمى المرأة التي تنقطع لأداء وظيفتها المقدسة: امرأة عاطلة، والثانية يسمونها: امرأة عاملة، هي ليست عاملة بل هي هاربة من وظيفتها. انظر الموظف الذي يهرب من العمل كيف يعامل، وكيف يعاقب، وكيف ينظر إليه؟! فهذه المرأة في الحقيقة هي ليست عاطلة وليست خالية، بل عندها أهم وأخطر وظيفة، قارن بين وظيفة المرأة في البيت في رعاية الزوج والأولاد، وبين وظيفتها في الأعمال الخارجية، يعني: هل هناك أم في العالم تسمعون أنها أخذت إجازة سنوية قدرها شهر أو كذا أو كذا حتى تنقطع من خدمة الأولاد وخدمة الزوج؟! أي واحد يعمل عملاً خارجياً فإنه يعمل عدة ساعات، لكن الأم ليس لها وقت محدد من الساعة للعمل، هل سمعتم أماً تقول: أنا دوامي انتهى؟! هل هذا يحصل؟! فهذا عمل أم ليس بعمل؟ هذا عمل دائم في الليل والنهار، ولذلك الإنسان يلاحظ أن بعض الأمهات عندما تنجب ولداً أو اثنين فإن حياتها كلها تتلخبط، ولا تستطيع أن تقوم على خدمة الزوج والأولاد رغم وجود الأجهزة الحديثة التي تساعدها. وغالب النساء المتزوجات عندهن أولاد أكثر من ذلك ومع ذلك تريد أن تخرج للعمل فأكيد أنها ستضيع أولادها، وتتركهم للخدم أو لمدارس الإيواء، ويسمونها: مدارس إيواء، وهي لمن هم دون سن الحضانة، يقول الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في الحياة ذليلا إن اليتيم من تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا فهذا هو اليتيم الذي حرم من الأبوة أو الأمومة. على أي حال الذي قادنا إلى الاستطراء في هذا الكلام المقارنة بين الحرائر فيما مضى وحرائر زماننا، فالمرأة الحرة الآن عكس ما كان من قبل، من قبل الحرة العفيفة المحصنة -حتى إلى عهد قريب- كانت المرأة التي هي من العائلات العريقة، لابد أن تستتر، حتى كان الملوك عندهم ما يسمى (بالسرملك) (والحرملك) وهو مكان مستقل توضع فيه النساء حتى لا يختلطن بالضيوف ولا يراهن أحد، ويأتيهن البائعون والتجار في داخل (الحرملك) وهو الذي بيسمونه: منزل الحريم، يعني: المبنى الذي يستقل بالنساء حتى لا يختلطن بالرجال. وهذا كان إلى عهد قريب، أما الآن فالمرأة الحرة تتبرج وتتكشف مع أن هذا نوع من الاسترقاق، (فالمرأة راعية في بيت زوجها) ولذلك نجد المرأة تتعب نفسها حتى تعد الدكتوراه وتنفق شبابها وتتأخر في الزواج، أو تصير عانساً، وفي الأخير تكون غايتها في الحياة أن تتزوج، وتتمنى أن يكون لها أولاد وبيت، وتحرم من هذه النعمة، ويكون قد فاتها القطار، هذه حقيقة نحن نلمسها وليس مجرد كلام، لكن هي العجلة تدور بالمجتمع وتدور بالناس، ونحن نتعرض لجرعات كبيرة من السموم الفكرية التي قل من يسلم منها في هذا الزمان، لكن العجلة تدور ونحن ندور معها كتلك الدابة التي تربط في الساقية دون أن ينتبه الإنسان للحقيقة. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218] يعني: بالتوسعة في ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم...)

    قال تعالى:يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26]. قال تبارك وتعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء:26]، يعني: يريد الله في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم أن يبين لكم شرائع دينكم ومصالح أمركم. ((وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: يهديكم طرائق الذين من قبلكم من الأنبياء في التحليل والتحريم فتتبعوهم. هذه الآية فيها دليل على أن كل ما بين الله عز وجل تحريمه لنا من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك في الملل السابقة، فمعنى ذلك: أننا مستوون مع من سبقونا من الأنبياء في تحريم الأمهات والبنات والأخوات إلى آخره. قوله: ((وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) وهذا مثل قوله تعالى بعدما ذكر بعض المعاني: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18-19]، فقد نتوافق معهم في بعض الأحكام، وهنا بين أننا متوافقون ومتماثلون معهم في هؤلاء المحرمات من النساء. ((وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ))، يعني: يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته. ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ))، أي: بكم. ((حَكِيمٌ))، أي: فيما دبره لكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم...)

    ثم قال تبارك وتعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27]. ( والله يريد أن يتوب عليكم ) تكرار للإرادة، لكن هنا لماذا كررها؟ كررها حتى يبني عليها، (( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ ))، يعني: في مقابلة ذلك، (( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ))، الله سبحانه وتعالى رحيم بنا، وكل شرائعه رحمة بنا وخير لنا في الدنيا والآخرة، فهذا هو ما يريده الله سبحانه وتعالى بنا من وراء هذه التشريعات. (( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ ))، سواءً كانوا اليهود أو النصارى أو المجوس أو الفساق الزناة، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:15-16]، كذلك قال تبارك وتعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]. فإذاً هذا تحرير من الاتباع أو من الاستجابة لأصحاب الشهوات. ( ويريد الذين يتبعون الشهوات ) هؤلاء كالبهائم التي تكون تابعة وليست متبوعة، فهم أسرى للشهوات، يتبعون الشهوات حيثما قادتهم ويمشون وراءها. (( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ))، يعني: هم يريدون أن تنحرفوا عن هذا الحق، وأن تميلوا عنه ليس ميلاً هيناً ولكن ميلاً عظيماً، وبلا شك فإن في مقدمة الذين يتبعون الشهوات في هذا الزمان من يسمون بالفنانين، والفسقة الذين يصدون الناس عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ويشغلونهم عن ذكر الله، ويزينون لهم الفواحش والشهوات، لاشك أنهم داخلون في هذه الآية (( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ ))، انظر موسماً مباركاً كهذا الموسم الذي نحن إن شاء الله مقدمون عليه وهو موسم رمضان، يعني: أعتقد أننا لو سألنا سؤالاً: من منكم يخطط أو بدأ يخطط من الآن لرمضان؟ قد يكون هناك بعض الإخوة بدءوا يخططون لرمضان من الآن، كيف يفرغ نفسه للعبادة ولا يضيع هذه الفرصة؟! وكيف يأخذ إجازة من العمل حتى يعتكف أو غير ذلك؟! هل منا من استعد لرمضان من بعد رمضان الماضي مباشرة؟! لكن أهل الفن يستعدون لرمضان ليس من هذا الشهر ولا من الذي قبله، بل من بعد رمضان تجدهم يقعدون ويتكلمون عن إقامة المسلسلات والفوازير، وكيف سيكون الاستمتاع برمضان القادم؛ لتحويله إلى شهر للشهوات، فهؤلاء هم بغاة الشر الذين يقال لهم: (يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير أقبل). فالشاهد أن أولى الناس بهذا الوصف هم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. (( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ))، يعني: أن تعدلوا عن الحق بارتكاب ما حرم الله عليكم فتكونوا مثلهم؛ لأن الضائع يحب من الناس جميعاً أن يكونوا ضائعين مثله؛ لأنه إذا وجد مستقيمين فإنه يشعر بالوحشة فيريد أن كل الناس تضيع مثله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم)

    قال عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، يعني: يسهل عليكم أحكام الشرع ولهذا أباح عز وجل نكاح الإماء؛ تخفيفاً عن الأمة بشروطه، وكما قال تبارك وتعالى أيضاً: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ولذلك هذه من أهم ومن أخص خصائص هذه الحنيفية السمحاء التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد وضع الله عز وجل عنا الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا. جاءت الشريعة للتخفيف والتسهيل والتيسير، وهذا الموضوع يطول الكلام فيه ولا يتسع له الآن. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، أي: لا يصبر عن النساء والشهوات، فناسبه هذا التخفيف فدل على أنه لا سبيل إلى قضاء الوطر في هذا الباب إلا بنكاح الحرائر أو نكاح الإماء بشروطه، ولا يوجد طريق غير ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم... وكان ذلك على الله يسيراً)

    قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29-30] ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم ) المقصود: لا يأكل بعضكم أموال بعض. ( بينكم بالباطل ) أي: بالحرام شرعاً، كالربا والغصب والقمار والرشوة والسرقة والخيانة وسائر الحيل، وما أكثر هذه الحيل الآن التي تؤكل فيها الأموال بالباطل، كل المكاسب المحرمة التي تأتي عن طريق الحرام، أو تأتي بأكل أموال الناس بالباطل فهذا كله داخل في هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ )). الربا من أكل أموال الناس بالباطل، الغصب، السرقة، القمار، الرشوة، وما أدراك ما الرشوة، والخيانة وأجر المغني والمطرب وحلوان الكهان وثمن البغي من المحرمات، كل هذه الأشياء تدخل في أكل الأموال بالباطل. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً ، (تجارةٌ) أو (تجارةً) يمكن أن تقرأ بالوجهين: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)) أو (إلا أن تكون تجارةٌ عن تراض منكم)، إذا قلنا: (إلا أن تكون تجارةٌ) فإعراب التجارة هنا نائب فاعل، وإذا قلنا: (إلا أن تكون تجارةً) فتجارة خبر تكون. التجارة المقصود بها هنا: معاوضة مع بعض كالبيع، أو تكون الأموال أموال تجارة. (عن تراض) يعني: هذه الأموال صادرة عن تراض منكم، فلكم في هذه الحالة أن تأكلوها. (عن تراض منكم) يعني: هنا البيان بأن شرط الربح في التجارة التراضي، والتراضي إما أن يكون بعبارة صريحة، وإما بإشارة مفهومة، فالعبارة الصريحة هي الإيجاب، مثل قولك: بعتك كذا وكذا بسعر كذا، هذا هو الذي يشترط فيه الإيجاب والقبول، أو يكون لفظ من الإنسان أو شيء غير اللفظ يدل على التراضي، كالتعاطي. من هذه الآية: (( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ))، أخذ الشافعي اعتبار الإيجاب والقبول لفظاً، يعني: الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، اعتماداً على هذه الآية ذهب إلى عدم جواز بيع المعاطاة، وبيع المعاطاة هو الذي يتم بدون التلفظ بعبارة الإيجاب والقبول، كما يحصل مع أي واحد -مثلاً- يبيع سلعة ويعلق سعرها بجانبها، فتقول له: هات اثنين كيلو فيقوم بوزنها، ثم تعطيه الفلوس دون أن تقول له: بع لي، ودون أن يقول هو: قبلت. إلى آخر هذه العبارات. فما حجة الإمام الشافعي فيما ذهب إليه؟ قال: قوله تعالى: (( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ))، يعني: إلا أن تكون الأموال تجارة صادرة عن تراض منكم. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: التراضي أمر قلبي، فلا بد من الدليل عليه، أي: لا بد من إقامة الدليل الظاهرة على ما في القلب؛ لأنك لا تستطيع النظر في قلب البائع أو المشتري، لذلك فلا بد من الدليل عليه، فجعل الشرع صيغة الإيجاب والقبول أمارة ودليلاً على وجود التراضي؛ لأن الناس يعجزون عن أن يطلع بعضهم على قلوب بعض ليطمئنوا إلى أنه قد حصل التراضي، فأقيمت عبارة الإيجاب والقبول مقام التراضي الذي محله القلب؛ لكن استدل من يبيح بيع المعاطاة بنفس الآية، قالوا: الآية تدل على جواز بيع المعاطاة؛ لأنها تقول: "عن تراض منكم" وكما أن الأقوال تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً على التراضي، فصح بيع المعاطاة مطلقاً، فيكون من الأيسر على الناس أن ما تعارفوا على أنه يعبر عن التراضي يصح به البيع؛ مثل قول بعضهم: توكل على الله، أو بعتك أو أدخل يده في جيبه وأخرج النقود، فهذا كله بدل على التراضي. وقولهم إنه ورد في بعض النصوص كلمة بعت منك وبعتك، فنحن نقول: لا نختلف على أن البيع يصح بمثل عبارة: بعتك أو بعت منك، كما في هذه الروايات التي يحتج بها من اشترط الإيجاب والقبول؛ لكن النزاع في دعوى أن البيع لا يصح إلا بالإيجاب والقبول، ولم يرد في اشتراط ذلك شيء صريح؛ لأن الله تعالى قال: (( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ))، فدل ذلك على أن التراضي هو المناط، ولابد من الدلالة عليه إما بنص أو بإشارة أو بكتابة، أو يقول له: توكل على الله، أو أي عبارة يفهم منها الرضا، ففي هذه الحالة يقع البيع، بأي لفظ وقع وعلى أي صيغة كان، وبأي إشارة مفيدة، يعني: لا يشترط اللفظ، بل يقبل ما يقوم مقام اللفظ الصريح ما دام يدل على التراضي.

    معنى قوله: (ولا تقتلوا أنفسكم ...)

    قوله:(ولا تقتلوا أنفسكم) أي: بارتكاب الذي يؤدي إلى هلاكها سواء كان في الدنيا أو الآخرة. (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ))، يعني: في منعه لكم من أن تهلكوا أنفسكم. ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)) يعني: ما نهي عنه. ((عُدْوَانًا)) كأن ينتحر، ومعنى: (عدواناً) تجاوزاً للحلال، وهي حال من فاعل (يفعل) أي: يفعل ذلك متعدياً فيه، ظالماً في تعاطيه، عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:30] سوف ندخله ناراً هائلة شديدة الحرارة يحترق فيها. وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:30]، يعني: كان إصلاؤه النار على الله يسيراً، وهيناً لا عسر فيه، ولا صارف عنه؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يعجزه شيء. قوله تبارك وتعالى: (( وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ))، فيه وجهان للتفسير: الوجه الأول: (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين، فإن المؤمنين كلهم كنفس واحدة. والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم، وذلك بتصوير القتل بصورة لا يكاد يفعلها عاقل، وقد ذكرنا أمثلة مشابهة لهذا مما جاء في القرآن كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، (ولا تلمزوا أنفسكم) أي: ولا تلمزوا إخوانكم. وقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12] المقصود هنا: بإخوانهم خيراً، قال تعالى: ((ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا ))أي: بإخوانهم. فقوله تعالى: (( وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ )) يعني: لا يقتل المسلم أخاه المسلم.

    حكم من يستحل قتل النفس

    الوجه الثانية: (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: لا يقتل الإنسان نفسه عمداً بالانتحار. وأما الذي يستحل قتل نفسه وقد حرمه الله تبارك وتعالى فهو بهذا الاستحلال يكفر، ويكون الحكم عليه بالخلود في النار على ظاهره. أما إن كان غير مستحل فحاله كحال سواه من أهل الكبائر يكون تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، يقول الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، وكما أنه لا يقتل الآخرين، كذلك لا يقتل نفسه.

    الأحاديث المحذرة من قتل النفس

    وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان ممن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده -أي: قطع الشرايين حتى سال الدم بسرعة- فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة)، والعياذ بالله، وهذا الحديث متفق عليه. قوله: (بادرني عبدي بنفسه)يعني: هو الذي تعجل الموت قبل أن أقبض أنا روحه، وقوله: (حرمت عليه الجنة)، فعقوبة المنتحر -والعياذ بالله- هي أن يحرم الله عز وجل عليه الجنة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جنهم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً)، وهذا متفق عليه. إذاً: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، أي قاعدة: الجزاء من جنس العمل. وفي الصحيح حديث ذلك الرجل الذي أثقلته الجراح، فاستعجل الموت، فقتل نفسه بذبابة سيفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو من أهل النار)، وهذا متفق عليه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن المؤمن كقتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله، ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله به يوم القيامة). وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: ( أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه )، والمشاقص هي: سهام عريضة، وواحدها: مشقص فلما أتي به النبي صلى الله عليه وسلم على حاله تلك امتنع من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. إذاً: في هذه الأحاديث أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الاسم، يعني: لا بد أن نعرف هذه النعمة التي نحن نتمتع بها، هذا البدن، وهذه الحواس التي أعطانا الله عز وجل وهذه الروح، ليست ملكاً لنا، يعني: أنت لا تملك نفسك، وليس من حقك أن تقتل نفسك في أي وقت وتعطل هذه الحياة أو تكفر بنعمة الحياة، الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق ابن آدم: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]، فتعجل إنهاء الأجل بالانتحار هذا من العدوان على حرمات الله تبارك وتعالى. عندما كنا نتكلم على موضوع التبرع بالأعضاء، وذكرنا كلام العلماء الذين منعوا ذلك وقلنا: إنهم بنو المنع على أنك لا تملك هذه الأعضاء، بل هي وديعة الله سبحانه وتعالى عندك، فأنت لا تملكها كقطع غيار السيارات والآلات وغير ذلك. فيؤخذ من هذه الأحاديث أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره، فهل بعد ذلك لا نستطيع أن نفهم قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ))؟

    الحكمة من تحريم قتل النفس

    من رحمة الله بنا أنه حرم علينا أيضاً أن نقتل أنفسنا، ليس فقط أن نقتل غيرنا، لكن أن نقتل أنفسنا، هذه من رحمة الله عز وجل؛ لأن نفسك ليست ملكاً لك مطلقاً، بل هي لله تعالى، فلا تتصرف فيها إلا بما أذن لك فيه. والله حرم علينا الانتحار، والإنسان قد نهي عن تمني الموت كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، حتى إنه ذكر من أشراط الساعة : (أن يمر الرجل على قبر الرجل يتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني مكانه، ما به الدين إلا البلاء)، يعني: يكثر عليه البلاء والفتن ويتمنى الموت، ليس من باب أنه يخاف على دينه من الفتن، لكن ليس بقادر على أن يصبر على البلاء، وهذه من أشراط الساعة إلا أنها سيقت في سياق الذم، فهذا ذم لمجرد أنه يتمرغ على القبر ويتمنى الموت، فكيف بمن يقتل نفسه بالفعل؟! لا شك أنه يكون أشد، فهذا الإنسان الذي يقدم على الانتحار والعياذ بالله هو يريد التخلص من ألم سببه بلاء وقع عليه في الغالب، ولا شك أن هذا الإنسان لو كان عنده يقين وإيمان لا يمكن أبداً أن يقدم على هذا الفعل الشنيع؛ لأنه يتصور أنه نتيجة البلاء الذي وقع فيه يريد أن يستريح من البلاء فيقتل نفسه، لو أن عنده إيماناً بالغيب ويعرف هذه الأحاديث وهذه النصوص لأدرك أنه ينتقل من بلاء إلى بلاء أشد منه أضعافاً مضاعفة. كل بلاء في الدنيا يعوضه الله، إذا كان فقد ولداً أو عزيزاً عليه، فيمكن أن يخلف الله سبحانه وتعالى غيره من الأولاد، وإذا كان عليه دين -وكثير من الناس ينتحرون بسبب الدين- وليس عنده من الأموال ما يفي بهذا الدين، والمال غاد ورائح، والله سبحانه وتعالى أوجد مخارج كثيرة، منها: أنه حض صاحب المال بقوله: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، يؤجله إلى ميسرة، ويجتهد هو في السعي والكسب، ولو بدأ من الصفر حتى يرزقه الله سبحانه وتعالى ويؤدي عنه دينه، حتى لو مات مديوناً فهو أخف من أن يموت قاتلاً لنفسه، ونحن هنا لا نتكلم في الذي يموت لأن مطربه المحبوب مات، أو لأن فريقه خسر فهؤلاء السفهاء ما لنا بهم شأن، يعني: هؤلاء لا يدرجون في العقلاء، لأنهم لا عقول لهم. ومن المعلوم أنه إلى عهد قريب ما كانت تعرف مشكلة الانتحار إلا القليل النادر، يعني: لم تكن تلفت النظر، وما زالت -ولله الحمد- البلاد الإسلامية عموماً سليمة من هذه المشكلة، وذلك حينما يطالع الإنسان بعض البحوث الطبية في بعض المراجع التي كتبها الكفار، وجهات رسمية معتمدة سواء منظمة الصحة العالمية وغيرها، حين يطالعها يشعر أنهم يحسدوننا على ما آتانا الله من فضله، ويحسدوننا على نعمة الإسلام، قرأت إحصائيتين عن انتشار مرض الإيدز في أوروبا، ووحدت فيها أن المعدلات في الإصابات تصل إلى حوالي عشرة ملايين والعياذ بالله، بينما تكاد تجد البلاد الإسلامية خالية من هذا المرض، حتى إن منظمة الصحة العالمية في تقريرها تطالب للحد من مرض الإيدز بتدعيم التوجيه الديني الإسلامي؛ لأنه من أعظم طرق الوقاية والحماية من هذا المرض الخطير، ولأن القيم الإسلامية هي التي عصمت منطقة الشرق الأوسط كلها من هذا الشر، ومنطقة الشرق الأوسط المقصود بها البلاد الإسلامية، فقد أثبتت الإحصائيات أن عدد الحالات في شمال أفريقيا مائة ألف حالة، وهذا العدد يعتبر قليلاً جداً، وقالوا: إن جميع هذه الحالات إنما كانت بسبب نقل الدم، وبسبب الوافدين الذين يأتون من بلاد الغرب وينشرون هذا المرض الخبيث، ولكن هذا بلا شك إنما يعزى لفضل الله سبحانه وتعالى علينا والتقيد بالإسلام ، مع أننا غير ملتزمين بالإسلام كما يرضي الله، ومع ذلك فقد حفظنا الإسلام وعصمنا من هذه الشرور، وانظر إلى كلامهم أيضاً عن البلاد الإسلامية فيما يتعلق بالكحولات، فهم قد أعيتهم الحيلة ولم يجدوا أي طريقة لزجر الناس عن الكحول وبيان أخطارها، بينما في البلاد الإسلامية بفضل الله مهما وجد المنحرفون والفاسدون بيننا، لكن الغالب الأعم أننا في عافية من بلاء الخمر والكحول، أما في الغرب حتى الأطفال ينتحرون. فهم في أمور كثيرة جداً في الحقيقة ينظرون إلينا بنوع من الحسد، ومع ذلك فهم يكرهون على الاعتراف بفضل الإسلام في حماية المسلمين من هذه الشرور. بالنسبة للانتحار فإنك تجد أنه كلما ارتقت المجتمعات بمستوى الرخاء المادي والعلمي كلما ازدادت نسب الانتحار، فتجد أن أعلى بلاد العالم في الدخل التي هي السويد، معدل الانتحار فيها معدل كبير جداً، أما في بلاد المسلمين فهو شيء نادر بالنسبة لغير البلاد الإسلامية، وهذه من نعمة الله ومن فضائل الإسلام، وفضائل وبركات هذه الملة الحنيفية. وما وجد هذا الداء إلا بعد أن تسربت المفاهيم الغربية في المجتمعات الإسلامية، وبدأ يظهر ضعف الإيمان، وضعف اليقين في الناس، وبالتالي بدأنا نسمع عن هذه الحالات، فهؤلاء يكفرون بنعمة الحياة، ومهما تعلل المنتحر بالأعذار فهو لا يعذر في قتل نفسه، ولن تشفع له، ولن تدفع عنه نقمة الله، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى. لو أن شخصاً رسب في الامتحان، فإعادته للسنة أهون من أن يقتل نفسه فيصير إلى عذاب دائم، يعني: بهذه الصورة إن هو قتل نفسه فهذا ما عنده يقين، هل هذا عنده إيمان أو يقين؟! هو ما نظر للمصيبة التي تعود عليه في دينه بأن يعذب في قبره ويعذب بالنار يوم القيامة، وأن ما خسره في الدنيا فإنه يمكن تعويضه والتراجع عنه. ويعلم أن هذا البلاء لا يدفع إلا بمشيئة الله، واحد يغلب في مباراة أو في سباق أو واحد كما ذكرنا مات عزيز عليه أو أثقلته الديون، فضلاً عمن ذكرنا ممن يقتل نفسه؛ لأن الزعيم صاحبه مات، أو الذي يحبه أو المطرب أو المغنية أو غير ذلك من هذه الأشياء، أو قد لا يجد ما يقتات به فينتحر، فالإيمان هو الذي يحجز المؤمنين عن مثل هذه الأفعال الشنيعة؛ لأن المؤمن يصبر على قضاء الله عز وجل وقدره، يقول عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره له كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن!). نجد أيضاً الأمراض النفسية الفضيعة، معدلها في بلاد المسلمين قليل جداً بالنسبة لما هي عليه في بلاد الكفار، فهذا لا شك مما يجعلنا نتمسك بما تبقى لدينا من الإسلام وبحبل الله، مع أننا لسنا على الطريقة المرجوة. يقول الشافعي رحمه الله تعالى: فلا حزن يدوم ولا سرور ولا بأس عليك ولا رخاء فلا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء ويقول آخر: طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فالدنيا دار ابتلاء، لابد من الصبر فيها مهما تنوع البلاء، المهم أن لا يكون البلاء في الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا)، إذا كانت المصيبة في غير الدين فلا تجزع؛ لأن الدنيا تعوض. من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوض سئل شيخ الإسلام عن رجل له مملوك هرب ثم رجع، فلما رجع أخذ سكينه وقتل نفسه، فهل يأثم سيده؟ يأثم على قتل نفسه فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الحمد لله، لم يكن له أن يقتل نفسه، وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى عليه، بل كان عليه إذا لم يمكنه رفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرج الله، فإن كان سيده ظلمه حتى فعل ذلك، مثل أن يقتر عليه في النفقة، أو يعتدي عليه في الاستعمال، أو يضر به، أو يضره بغير حق، أو يريد به فاحشة ونحو ذلك فإن على سيده من الوزر بقدر ما نسب إليه من المعصية، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم على من قتل نفسه، فقال لأصحابه: (صلوا عليه)، فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه، وأما أئمة الدين الذين يقتدى بهم، فإذا تركوا الصلاة عليه زجراً لغيره اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا حق، والله تعالى أعلم. إذاً المنتحر لا يصلي عليه من يقتدى به من العلماء وغير ذلك، لا يصلى عليه حتى ينزجر أمثاله من الناس وحتى يعرفوا أن هذه عقوبة من يفعل ذلك، لكن يترك عموم الناس يصلون عليه لبقائه في دائرة الإسلام حتى لو أتى بهذه الكبيرة، وهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا ما تيسر في تفسير قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29-30].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756617148