إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [21-34]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا الله ربكم ... )

    هنا التفات في أسلوب الخطاب حيث إن الله سبحانه وتعالى التفت مباشرة في خطابه إلى الناس أجمعين آمراً إياهم بأول صيغة أمر تأتي في القرآن، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]. قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ يعني: كل المكلفين سواء منهم المؤمنون أو الكافرون، فكلهم مخاطبون. قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أي: وحدوا ربكم، كقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] يعني: يعبدونني وحدي؛ فكذلك هنا: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يعني: اعبدوا ربكم وحده ولا تشركوا به شيئاً. قوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ يعني: أنشأكم ولم تكونوا شيئاً، والذي أنعم عليكم بنعمة الوجود بعد العدم. قوله: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني: وخلق الذين من قبلكم. قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعني: لعلكم تتقون بعبادته عقابه وعذابه، و(لعل) أصلها في اللغة للترجي، لكنها في كلام الله سبحانه وتعالى لتحقيق الوقوع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً ...)

    قال تبارك وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة:22]. قوله: جَعَلَ يعني: خلق. قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا يعني: بساطاً يفترش، لا هي غاية في الصلابة ولا هي في غاية الليونة، حتى لا تستطيعون أن تستقروا عليها، وإنما جعلت لكم فراشاً أي: بساطاً. قوله: وَالسَّمَاءَ بِنَاءً السماء هنا اسم جنس، أي: خلق السماوات سقفاً كالبناء يشد بعضه بعضاً، وهذه حقيقة ظهرت لمن يدرسون الفلك، فهم يعلمون هذا التناسق وهذا التماسك العجيب في تكوين هذه الأجرام السماوية، وثباتها ودورانها المحكم وغير ذلك مما يذهل العقول إذا تدبره الإنسان، فالسماوات بناء محكم يشد بعضه بعضاً، ودائماً يعبرون عن ذلك بالجاذبية، وإنما هي سنة الله سبحانه وتعالى وقوة الله وقدرة الله، وإلا فمن وراء كل هذه الخواص؟ إن المسبب الحقيقي لهذا التماسك والاتزان هو الله سبحانه وتعالى. قوله: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ أي: أخرج من أنواع الثمرات رزقاً تأكلونه وتعلفون به دوابكم. قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا يعني: شركاء في العبادة. قوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] يعني: تعلمون أن الله هو المنفرد بخلقكم ورزقكم، وتعلمون أن هذه الأنداد لا تملك لكم رزقاً ولا خلقاً ولا ضراً ولا نفعاً. فإذا كان هذا هو الحال، فإن الله سبحانه وتعالى لا يصلح أن يجعل له نداً واحداً فكيف بالأنداد الكثيرة؟! فإذا كان الأمر كذلك، وكان من يخلق ليس كمن لا يخلق، فلا يستقيم أن تجعل له شريكاً واحداً، فكيف بأنداد متعددة ومتكاثرة؟! فلا يكون إلهاً إلا من يخلق وهو الله سبحانه وتعالى. وهنا إشارة إلى حقيقة إيمانية مهمة جداً، واستدلال بثلاثة أدلة على قضية من قضايا الإيمان، وهي قضية البعث والنشور، وهذا هو الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد هان عليه وسهل عليه أن ينشئنا أول مرة فإن إعادتنا بالبعث والنشور يكون أسهل مرة ثانية. الدليل الثاني: الإشارة إلى عظيم خلق السماء والأرض: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22]، والله تبارك وتعالى يقول في شأن السماوات والأرض: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] يعني: هي أعظم آية لمن علم، فمن خلق هذا كله فهو بالأولى قادر على إعادته، وهو أهون عليه وأسهل عليه. الدليل الثالث على البعث والنشور: دليل حي وحسي نلمسه جميعاً وهو إحياء الأرض بعد موتها، فالذي يحيي الأرض بعد موتها -وهو سبحانه وتعالى- هو الذي يحيي الموتى، فهذا مظهر من مظاهر عموم قدرته على كل شيء سبحانه وتعالى؛ فلذلك يقول تبارك وتعالى هنا: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، فهذه إشارة إلى إحياء الأرض بعد موتها، فالذي يحيي الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ...)

    قال تبارك وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]. قوله: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ أي: في شك، و(إن) كلمة تفيد الريب. قوله: مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا أي: عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ هذا تعجيز وتحدِّ. وقوله عز وجل: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] هذا التعبير للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم مع مكابرتهم وصدودهم هو الارتياب في شأنه؛ لكمال وضوحه وإعجازه كما قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2]، ولا شك أنه من عند الله، فهنا يقول: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة:23] وهذه إشارة إلى أنكم لا تجرءون على تكذيبه؛ ولكن أقصى ما تصلون إليه هو الشك فقط. قوله: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] هذا السياق إذا تأمله المؤمن يشعر أن القرآن له سلطة عليا وقاهرة هي التي تخاطب البشر، وتخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الروح التي تشعر بهذه القوى وبهذه العظمة مبثوثة في كل أجزاء القرآن، بحيث يستحيل أن يكون هذا الكلام هو كلام محمد عليه الصلاة والسلام، فتأمل نون العظمة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم: نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] .. وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47] فاستشعر بهذه القوى العظمى المسيطرة التي هي حاكمة حتى على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهيمنة على قلوب المخاطبين بهذا الكتاب المجيد، وكقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فتأملوا هذا وأنتم تقرءون القرآن، وستشعرون بأن هذه القوة هي كلام الله سبحانه وتعالى. قوله: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] يعني: محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذكره هنا فيه إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بعنوان العبودية التي هي أشرف المقامات؛ إيماء إلى أن شرفه إنما هو بتحقيقه العبودية لله تبارك وتعالى، ولهذا الأمر قرائن في القرآن في كون وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبودية لله هي أشرف المقامات، ومن الشواهد ما جاء في الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، وهذا في مقام الإسراء. وفي مقام الدعوة قوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] يعني: كاد الجن يزدحمون عليه طبقات فوق طبقات، وهذا في مقام الدعوة. وقوله تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10] في رحلة المعراج. وقوله تعالى: نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1] في مقام الوحي؛ لأن هذه الآية عن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59] هي في عيسى عليه الصلاة والسلام، فالأنبياء يوصفون بالعبودية لله تبارك وتعالى؛ لكننا هنا نذكر ما يخص النبي عليه الصلاة والسلام، فالوصف بالعبودية يدل على التشريف العظيم. قوله: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] أضافه الله سبحانه وتعالى إليه تفخيماً له وتشريفاً لمقامه صلى الله عليه وسلم، والمقصود بقوله: مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا أي: من القرآن. يعني: إن كنتم في ريب أن هذا القرآن الذي نزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند الله فأتوا بسورة من مثله، وهذا أسلوب تحدٍّ وتعجيز، مثل قوله تبارك وتعالى: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258]، ماذا يقول؟! وكيف يجيب؟! وكذلك هنا هو من نفس الباب: تعجيز وتحدٍّ. فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعني: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم -وهو رجل أميّ لا يقرأ ولا يكتب- أتى بهذا القرآن الكريم مع ما فيه من الإعجاز والفصاحة التي لم يسبق لها نظير على الإطلاق، وأنتم رءوس البلاغة ورءوس الفصاحة، والعرب مشهورون بذلك خليقة وطبيعة وفطرة؛ فنحن لا نكلفكم مع هذا بأن تأتوا بمثل القرآن كله، ولكن ائتوا بسورة من مثله، وهو رجل أمي أتى بأضعاف هذه السورة التي ستحاولون أن تفعلوها: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] أي: من مثل هذا القرآن المنزل (ومن) للبيان، يعني: ائتوا بسورة هي مثل القرآن في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب، فـ(من) هنا مثل قوله تبارك وتعالى حكاية عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29]، فهل مِنْهُمْ تبعيضية؟ لا، بل هي بيانية؛ وكذلك هنا: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ : للبيان، يعني: سورة تكون مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب. والسورة قطعة لها أول وآخر، وأقلها ثلاث آيات. وليس هذا فحسب؛ لكن: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، استحضروا واستدعوا من شئتم من الجن والإنس ورؤسائكم وأشرافكم وعلمائكم وبلغائكم، وادعوا حتى آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، لتعينكم إن كنتم صادقين في أن محمداً قاله من عند نفسه، فافعلوا ذلك؛ فإنكم عربٌ فصحاء مثله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ...)

    أكبر وأقوى وأعظم معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي التحدي بالقرآن، وألفت مئات الكتب في بيان إعجاز القرآن الكريم، وقد عجز المشركون عن أن يأتوا بسورة مثله، قال الله تبارك وتعالى لهم: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] وهذا تحدٍّ، وبالفعل لم يجرؤ أحد منهم أن يواجه هذا التحدي، وكل من حاول أن يحاكي بلاغة القرآن، أتى بأشياء يضحك عليه كل من سمعه من العقلاء، فهذا مسيلمة يقول: الفيل، وما أدراك ما الفيل؟ ذو خرطوم طويل، وذنب قصير! وغير ذلك من الكلام البارد الذي إذا سمعه إنسان استخف عقل قائله وسفهه. قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] يعني: إن لم تفعلوا ما ذكر من قبل بسبب عجزكم. قوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] يعني: ولن تفعلوا ذلك أبداً؛ لظهور إعجازه، وهذه الجملة وَلَنْ تَفْعَلُوا جملة اعتراضية. وقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا تعتبر أعظم دلالة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنهم لم يفعلوا كما أخبر الله تبارك وتعالى هذا أبداً، ولم يستطيعوا ولم يجرؤ واحد منهم مع أن التحدي قائم، وهم حريصون على الطعن في الدين بكل مستطاع؛ فلذلك لم يفعلوا، فهذا أقوى وأظهر وأوضح وأجلى دليل على صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24] يعني: بالإيمان بالله وبأن القرآن ليس من كلام البشر، اتقوا النار التي وقودها الناس، والمقصود بالناس هنا هم الكفار، والحجارة هي أصنامهم المصنوعة من الحجارة، يعني: أنها من شدة الحرارة توقد بما ذكر لا كنار الدنيا توقد بالحطب ونحوه، فالناس أنفسهم هم الذين يكونون وقوداً للنار والعياذ بالله، وكذلك الحجارة تكون وقودها. قوله: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] أي: هيِّئت للكافرين يعذبون بها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ...)

    بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى هذا الترهيب للكفر والكافرين ثنى بتبشير المؤمنين، والقرآن قد سُمي من هذه الحيثية مثاني؛ لأنه يثني دائماً الترغيب بالترهيب فقال سبحانه وتعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:25] يعني: أخبرهم الخبر السار الذي يسعد ويسر، والذين آمنوا هم الذين صدقوا بالله تبارك وتعالى. قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25] يعني: من الفروض والنوافل. قوله: أَنَّ لَهُمْ [البقرة:25] يعني: بشرهم بأن لهم. قوله: جَنَّاتٍ [البقرة:25] أي: حدائق ذات شجر ومساكن. قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أي: تجري من تحت الجنات أو من تحت الأشجار والقصور الأنهار، والذي يجري هو ماء الأنهار. قوله: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا [البقرة:25] أي: كلما أطعموا من تلك الجنات. قوله: مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ [البقرة:25] يعني: هذا مثل الذي رزقنا قبله في الجنة؛ لتشابه ثمارها، بقرينة قوله تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا . قوله: وَأُتُوا بِهِ [البقرة:25] أي: جيئوا بالرزق. قوله: مُتَشَابِهاً [البقرة:25] أي: يشبه بعضه بعضاً في اللون ويختلف في الطعم. قوله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ [البقرة:25] يعني: من الحور وغيرها، مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25] يعني: من الحيض ومن كل قذر، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25] أي: ماكثون أبداً لا يخرجون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة ...)

    لما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالذباب في قوله: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا [الحج:73]، وفي قوله: كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ [العنكبوت:41] فكأن اليهود استغربوا وقالوا: كيف تزعمون أن القرآن كلام ربكم وكلام إلهكم ثم يذكر هذه الأشياء الحقيرة، مثل: الذباب والعنكبوت؟! فأنزل الله سبحانه وتعالى رداً عليهم هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] و(مثلاً) المفعول الأول و(ما) المفعول الثاني؛ لأن (ما) هذه اسمية إبهامية، وإذا دخلت كلمة (ما) الاسمية الإبهامية على اسم نكرة أبهمته إبهاماً تاماً وزادته شيوعاً وعموماً، كقولك: أعطني كتاباً ما. أي: أعطني أي كتاب كان، فمعنى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [البقرة:26] يعني أن يجعل أي مثل كان، أو تكون (ما) زائدة لتأكيد حقارتها. قوله: بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا البعوض هو صغار البق قوله: فَمَا فَوْقَهَا يعني: ابتداء من البعوضة فما هو أكبر منها، أي: لا يترك الله سبحانه وتعالى بيانه لما في هذا المثل الذي يضربه الله من الحكم أو معنى: فَمَا فَوْقَهَا يعني: ما دونها، فيكون المقصود ما يكون أقل منها في الصغر، فهذا من الأضداد. إذاً: يريد الله سبحانه وتعالى أن يبين لهم أنه كما لا يستنكف الله عن خلقها كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها، وقد ضرب المثل في القرآن الكريم بالذباب فقال سبحانه: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، وضرب المثل بالعنكبوت فقال سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41] فالتمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى، بغض النظر عن الشيء الذي ضرب به المثل هل هو حقير أم عظيم، فالمقصود كشف هذه المعاني وتجليتها؛ فلذلك لا يستحيي الله أن يضرب مثلاً بهذه الأشياء. قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ [البقرة:26] الهاء تعود على المثل. قوله: فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي: المثل الثابت الواقع موقعه مِنْ رَبِّهِمْ . قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26] إعراب (مثلاً) هنا: تمييز، يعني: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ و(ما) اسم استفهام وإنكار، يعني: أي فائدة في هذا المثل؟ فرد الله سبحانه وتعالى عليهم استنكارهم بقوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26] يعني: هذا المثل يضل الله به كثيراً عن الحق؛ لكفرهم به، ويهدي به كثيراً من المؤمنين؛ لتصديقهم به. قوله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26] أي: الخارجين عن طاعته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ... )

    قال تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [البقرة:27] هذا وصف الفاسقين، والفسوق هو الخروج، تقول: فسقت الرطبة يعني: خرجت. يعني: ينقضون ما عهده إليهم في الكتب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. قوله: مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [البقرة:27]، يعني: من بعد توكيده عليهم. قوله: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27] يعني: من الإيمان بالأنبياء جميعاً دون تمييز ودون تفريق بينهم. ويوجد خلاف في معنى: (ما الله به أن يوصل) فقال بعض العلماء: أمروا أن يصلوا العلم بالعمل، وقال آخرون: أراد الله أن يوصل الرحم، أو أراد الله أن يوصل الإيمان بجميع الأنبياء، تؤمن بموسى فإذا بعث عيسى تؤمن بعيسى فإذا بعث محمد عليه الصلاة والسلام تؤمن بمحمد، ولا تفرق بين الأنبياء. إذاً: قوله: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27] من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلة الرحم وغير ذلك. قوله: وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [البقرة:27] بالمعاصي والتعويق عن الإيمان. قوله: أُوْلَئِكَ أي: الموصوفون بما ذكر هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:27] يعني: أن مصيرهم إلى النار المؤبدة إن لم يؤمنوا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً ... )

    قال الله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28] أي: كيف تكفرون -يا أهل مكة بالله- وقد كنتم نطفاً في الأصلاب فأحياكم في الأرحام وفي الدنيا بنفخ الروح فيكم؟! والاستفهام للتعجب من كفرهم مع قيام البرهان أو الاستفهام للتوبيخ. قوله: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [البقرة:28] أي: عند انتهاء آجالكم. قوله ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالبعث والنشور. قوله: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28] أي: تُردون بعد البعث، فيجازيكم بأعمالكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض ... )

    قال تبارك وتعالى تأكيداً على البعث الذي أنكروه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]. يعني: خلق الأرض وما فيها لتنتفعوا به وتعتبروا. قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ يعني: بعد خلق الأرض قصد إلى السماء. قوله: فَسَوَّاهُنَّ الضمير يرجع إلى السماء؛ لأنها في معنى الجمع الآيلة إليه. قوله: فَسَوَّاهُنَّ يعني: صيرها، وفي آية أخرى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [فصلت:12]. قوله: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] يعني: يعلم على سبيل الإجمال وعلى سبيل التفصيل كل دقائق الأمور، أفلا تعتبرون أن القادر على خلق ذلك ابتداء -وهو أعظم منكم- قادر على إعادتكم؟ فخلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس، فمن خلق ذلك أفلا يقوى على إعادتكم أنتم؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ...)

    قال عز وجل: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ [البقرة:30] يعني: واذكر يا محمد: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30] يعني: يخلفني في تنفيذ الأحكام فيها، وهو آدم عليه السلام. قوله: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة:30] يعني: بالمعاصي. قوله: وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] يعني: يريقها بالقتل. كما فعل بنو الجان حين كانوا فيها، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال. وبعض العلماء يقول: فهمت الملائكة من كلمة (خليفة) أن الخليفة سيحكم بين الناس في أقضياتهم ونزاعهم، وفهموا أنه سيحصل فساد من هؤلاء المخلوقين، يحتاج إلى وجود خليفة يحكم بينهم في الدماء والأموال وغير ذلك، فمن ثم قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]. قوله: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ يعني: نسبح متلبسين بحمدك؛ لأن التسبيح تنزيه لله عن النقائص التي لا تليق به، والتحميد إثبات الكمال له، فلذلك دائماً يقترن التسبيح بالتحميد، فنقول: سبحان الله وبحمده. قوله: وَنُقَدِّسُ لَكَ أي: ننزهك عما لا يليق بك، ومعنى ذلك: أننا نحن أحق بالاستخلاف. قوله: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] أي: يقول تعالى: أنا أعلم ما المصلحة في استخلاف آدم عليه السلام، وأن ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم، فقالت الملائكة: لن يخلق ربنا خلقاً أكرم عليه منا ولا أعلم منا لسبقنا له. يعني: لأننا سبقنا قبل هذا الخليفة في الخلق فنحن أفضل منه، ونحن نرى ما لم يره هذا الخليفة، فخلق الله آدم من أديم الأرض -أي: وجهها، بأن قبض منها قبضة من جميع ألوانها، وعجنت بالمياه المختلفة، وسواه ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ... )

    قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31] يعني: أسماء المسميات كلها، حتى القصعة والقصيعة، والفسوة والفسية، والمغرفة، وغير ذلك، بأن ألقى في قلبه علم هذه الأسماء. قوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ يعني: عرض المسميات، وفيه تغليب العقلاء وإن كانت المسميات تشمل العاقل وغير العاقل. قوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ [البقرة:31]، فقال لهم تبكيتاً، وإلزاماً بالحجة لإظهار مكانة آدم: أَنْبِئُونِي [البقرة:31] يعني: أخبروني: بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء [البقرة:31] يعني: المسميات. إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:31] في أني لا أخلق أعلم منكم، أو أنكم أحق بالخلافة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا... )

    قال تعالى: قَالُوا سُبْحَانَكَ [البقرة:32]، تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك. قوله: لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32] يعني: إياه. قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32] أي: الذي لا يخرج شيء عن علمه وحكمته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم...)

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم...)

    قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]. قوله: وَإِذْ يعني: واذكر إذ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ أي: سجود تحية بالانحناء. وقوله: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ وهو أبو الشياطين، وهو من الجن أو أبو الجن، لكنه كان يعبد الله سبحانه وتعالى مع الملائكة، فشمله الأمر الذي شمل جميع الملائكة؛ لأن هذا الأمر شمل جميع الملائكة، حتى جبريل وإسرافيل لقوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر:30] وهذا تأكيد للعموم، فدل على أن جميع الملائكة وجه إليهم هذا الأمر، وإبليس كان يعبد الله سبحانه وتعالى معهم فمن ثمّ شمله هذا التكليف. وقوله: (أَبَى) أي: امتنع من السجود (وَاسْتَكْبَرَ) أي: تكبر عنه، السين هنا للمبالغة، وتفسيرها: تكبر عن أن يسجد. وقوله: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) يعني: في علم الله تبارك وتعالى، أو صار من الكافرين، لكن الأشهر أن يقال: (وكان من الكافرين) يعني: في علم الله تبارك وتعالى. وقوله عز وجل هنا: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) هذا الأمر بالسجود كان قبل خلق آدم، بدليل قوله تعالى في سورة الحجر: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:28] يعني: في المستقبل؛ لأنه لم يكن قد خلق آدم عليه السلام، فالأمر بالسجود كان قبل خلقه، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:29]. وفي سورة (ص) قال سبحانه: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:71-72]. إذاً: كان أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل خلقه.

    الرد على قياس إبليس الفاسد

    قوله عز وجل: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) لم يبين الله تبارك وتعالى هنا موجب استكبار إبليس، فما هو الذي دفع إبليس إلى الاستكبار؟ بين الله تبارك وتعالى الأمر الذي جعل إبليس في نظره يستكبر عن السجود لآدم عليه السلام فيما حكاه عنه بقوله: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، وفي قوله: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء:62]، وفي قوله: قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:33]. فهذا القياس الإبليسي هو الذي حمله على الاستكبار؛ فإبليس قاس نفسه على عنصره وهو النار، وقاس آدم على عنصره وهو الطين، ثم استنتج من ذلك أنه خير من آدم؛ لأن إبليس خلق من نار، وآدم خلق من طين، وكان ينبغي ألا يمتنع عن السجود مع وجود النص الصريح الذي هو قوله تبارك وتعالى: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34]. وهذا القياس يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار. وينبغي أن يذكر هنا شيء مهم جداً وهو: أن وجود النص أدل دليل على فساد القياس. فقول تعالى: (اسجدوا) هذا نص، فهذا أول وجه ينبغي أن يقدم على غيره في إبطال هذا القياس الفاسد، ولذلك يقول الإمام أبو السعود المالكي في (مراقي السعود): والخلف للنص أو اجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعا والخلف للنص: يعني: أي نوع من القياس فيه مخالفة أو مساومة للنص من قرآن أو سنة أو إجماع فقد دعا: أي سماه ودعاه: فاسد الاعتبار كل من وعا، أي: يسميه (فاسد الاعتبار) كل من عقل ووعى وعلم. فكل من رد نصوص الوحي بالأقيسة فسلفه في ذلك إبليس، وقياس إبليس هذا باطل من وجوه: الأول: أنه فاسد الاعتبار لمخالفته النص الصريح كما بينا، فقد ورد الأمر من الله: (اسجدوا لآدم)، وواضح من سياق الآيات أن هذا الأمر شمل إبليس لعنه الله. الوجه الثاني: أنا لا نسلم أن النار خير من الطين؛ لأنه بنى هذا القياس على أساس أن النار خير من الطين، بل في الحقيقة أن الطين خير من النار؛ لأن طبيعة النار الخفة والطيش والإفساد والتفريق، أما الطين فطبيعته الرزانة والإصلاح، فالطين تودعه الحبة فيعطيكها سنبلة، وتعطيه النواة فيعطيكها نخلة مباركة، وإذا أردت أن تعرف قدر الطين فانظر إلى الرياض النظرة وما فيها من الثمار اللذيذة والأزهار الجميلة والروائح الطيبة وستعلم أن الطين خير من النار، وإذا أردت أن تعرف أضرار النار ومفاسدها فانظر إلى عنبر الحرائق في المستشفيات، أو انظر إلى صفحة الحوادث في الجرائد تعرف أثر النار وطيشها وفسادها وخفتها. ثالثاً: لو سلمنا تسليماً جدلياً أن النار خير من الطين كما زعم إبليس فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من آدم؛ لأن شرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع، بل قد يكون الأصل رفيعاً والفرع وضيعاً، كما قال الشاعر: إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا يخاطب الشاعر رجلاً ينتسب إلى أجداد وآباء شرفاء وهو بئس الرجل؛ لأنه رجل سيئ، فماذا ينفعه ذلك؟! فشرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع، وقال الآخر: وما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة وباهلة قبيلة كان عامة العرب ينشدون الأشعار في هجائها ووصفها بالدونية والاحتقار والصفات الدنيئة. فلا تنفع الإنسان أخلاقه التي تنتمي إلى باهلة وإن كان نسبه وسلالته تنتهي إلى هاشم ، فكل هذا يؤكد أن شرف الأصل لا يستلزم ولا يستوجب شرف الفرع.

    حكم السجود لغير الله

    أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام كرامة عظيمة من الله تبارك وتعالى لآدم عليه السلام، وهذا السجود اختلف المفسرون فيه، فبعضهم قال: إنه سجود تكريم لآدم، وقيل: السجود كان لله، وآدم قبلة، وقيل: إن السجود لآدم كان تحية، وقيل: كان السجود لآدم عبادة بأمر الله، وهو سبحانه الذي فرضه عليهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قال أهل العلم: السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه، وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله. أي: أن السجود كان لآدم بأمر وإيجاب الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله تعالى قال: (اسجدوا لآدم) ولم يقل: اسجدوا إلى آدم، وهذا يبطل قول من قال: إن آدم كان قبلة وإن السجود كان لله؛ لأنه لم يقل: اسجدوا إلى آدم أو إلى جهة آدم، لكن قال: (اسجدوا لآدم). يقول شيخ الإسلام : فإن الله تعالى قال: (اسجدوا لآدم) ولم يقل: إلى آدم. وكل حرف له معنىً، وفرق بين قولك سجد له وبين سجد إليه، قال تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ [فصلت:37]، وقال تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الرعد:15] قال: وأجمع المسلمون على أن السجود للأحجار والأشجار والدواب محرم، وأما الكعبة فيقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، ولا يقال: صلى لبيت المقدس ولا صلى للكعبة؛ لأننا لا نعبد الكعبة، وإنما الكعبة قبلة للعبادة فقط. فلذلك نقول: صليت إلى القبلة أو إلى الكعبة، ولا نقول: صليت للكعبة. قال: والصواب أن صاحب الخضوع بالقلب والاعتراف بالعبودية لا يصلي على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى، وأما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر. يعني: أن خضوع القلب والتعبد لا يكون إلا لله، وأما السجود في حد ذاته فشريعة من الشرائع يتبع الأمر، فلو أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسجد لأحد من خلقه لسجدنا طاعة واتباعاً لأمره، ولو أمرنا الله أن نسجد لأحد من خلقه لأطعنا؛ لأنه أمر صادر من الله عز وجل. فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم، وكذلك سجود أخوة يوسف له كان تحية وسلاماً، ولم يأتِ أن آدم سجد للملائكة، بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العالمين، وبالجملة أهل السنة قالوا: إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية لآدم عليه السلام. وقالت المعتزلة: كان آدم بالقبلة يُسجد إليه، ولم يسجدوا له، قالوا ذلك هرباً من أن تكون الآيات الكريمة حجة عليهم؛ فإن أهل السنة قالوا: وصالح البشر أفضل من الملائكة، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم، وخالفت المعتزلة في ذلك وقالت: الملائكة أفضل من البشر، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة. ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس بقوله: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:62] فكان هذا السجود فعلاً تكريماً لآدم، والدليل هنا في قوله: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء:62].

    نوعية الملائكة الذين سجدوا لآدم عليه السلام

    واختلف العلماء في الملائكة الذين أمروا بالسجود: فقيل: هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى، وقيل: هم جميع الملائكة حتى جبريل وميكائيل، وهذا قول عامة أهل العلم بالكتاب والسنة، أي: أن الأمر كان موجهاً إلى جميع الملائكة، والدليل قوله تبارك وتعالى في هذه الآية ونحوها، يقول ابن تيمية : ومن قال خلافه فقد رد القرآن بالكذب والبهتان؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) فانظر إلى التوكيد؛ فإنه تأكيد للعموم.

    جنس إبليس

    اختلف العلماء في إبليس: هل كان من الملائكة أم لا؟ وفي المسألة قولان: أحدهما: أنه كان من الملائكة، وهذا قول أكثر المفسرين؛ لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم، فلولا أنه من الملائكة لما توجه الأمر إليه بالسجود، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصياً، ولما استحق الخزي واللعن. القول الثاني: أنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة؛ لقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس؛ ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، كما قال تعالى حاكياً عنه: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، فهذا يدل على أنه لم يخلق مما خلقت منه الملائكة الذين خلقوا من نور، ولأن إبليس له ذرية، والملائكة لا ذرية لهم. قال في الكشاف: إنما تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؛ لأن إبليس كان في صحبتهم، وكان يعبد الله عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له كان الجني الذي معهم أجدر بأن يتواضع. والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء، وممن صححه البغوي ، وأجابوا عن قوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) أي: من الملائكة الذين هم خزنة الجنة. وعلى أي الأحوال الخلاف في هذا الأمر موجود بين العلماء، والإمام ابن القيم رحمه الله تعالى لما حكى هذا الخلاف رجح ما يراه راجحاً كعادته في التحقيق، وهذا حري به، كما يعبر العلماء دائماً عنه فيقولون: قال الإمام المحقق ابن القيم الجوزية ؛ لأن ابن القيم يتميز بتحقيق المسائل وتمحيصها من الناحية العلمية، ويذكر التفصيل في المسألة. فبعض العلماء يقولون: إن الصحيح: أنه كان من الملائكة، وهذا نوع من الملائكة اسمهم الجن؛ لأنهم يخفون ولا يظهرون، والبعض قال: كان هو أبو الجن أو أصل الجن، لكن كان يعبد الله مع الملائكة، وإن لم يكن من جنسهم، فلذلك شمله الأمر معهم، حتى قال بعضهم: إنه كان منافقاً يظهر موافقة الملائكة في العبادة فقط. يقول ابن القيم : الصواب التفصيل في المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول واحد، فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته يعبد الله معهم، وليس منهم بمادته وأصله، فأصله من نار وأصل الملائكة من نور، فالنافي كونه من الملائكة والمثبت لم يتواردا على محل واحد، فمن يقول: هو من الملائكة يشير إلى صورته أنه كان مع الملائكة في عبادة الله، والذي يقول: ليس من الملائكة يتحدث عن أن أصله من نار، وليس كالملائكة الذين أصلهم من نور. وقيل: إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار، وإنما سموا جناً لاستتارهم عن الأعين، فإبليس كان منهم، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [الصافات:158] أي: وبين الجن؛ لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، والعياذ بالله! قيل: ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية، وقد سئل الشعبي : هل لإبليس زوجة؟ فقال: ذلك عرس لم أشهده! أي: حفل زواج ما كنت حاضراً فيه، قال الشعبي : ثم قرأت هذه الآية فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة. وقال قوم: ليس له ذرية ولا أولاد، وذريته هم: أعوانه من الشياطين.

    تحديد وقت كفر إبليس

    قوله تبارك وتعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] فيها قولان: أحدهما: أنه وقت العبادة كان منافقاً من الكافرين، يعني: كان يعبد الله مع الملائكة، لكن كان منافقاً كذاباً في هذه العبادة. القول الثاني: أنه كان مؤمناً ثم كفر، يعني: أنه كان من الكافرين في سابق علم الله، أو صار من الكافرين، وهذا قول الأكثرين، أي: أنه كان مؤمناً ثم كفر. والذي عليه الأكثرون أن إبليس هو أول كافر بالله. واختلف الناس بأي سبب كفر إبليس لعنه الله: فقالت الخوارج: إنما كفر بمعصية الله، وكل معصية كفر، وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، إذ ليس كل معصية كفراً. وقال آخرون: كفر بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله. وقال آخرون: كفر لأنه خالف الأمر الشفهي من الله، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود، ومخالفة الأمر الشفهي أشد قبحاً. وقال جمهور الناس: كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن واعتقد أنه محق في تمرده؛ لأن إبليس طعن في حكمة الله وأمره، وهذا كفر لا شك، بخلاف المعصية الظاهرة، واستدل أيضاً إبليس بقوله: أنا خير منه، فكأنه ترك السجود لآدم تسفيهاً لأمر الله وحكمته، وهذا الكبر عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).

    الرد على من قال: إن الشجرة التي نهي آدم عنها هي شجرة العلم والمعرفة

    العلماء يقولون: إن السجود كان بعد خلق آدم، بعد أن أظهر الله شرف آدم عليهم بالعلم؛ وذلك بعد أن علم آدم الأسماء كلها، ثم عرضها على الملائكة، فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:31]، ثم قال: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم...) إلى آخر الآيات، والشاهد من ذلك: أن الله شرف آدم على الملائكة بالعلم، وبعدما شرفه بالعلم أمرهم بالسجود له. وفي هذا التفسير رد على ما يدعيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فإن أصل انحرافهم في العقيدة في هذا الباب هو ابتداءً من قصة آدم عليه السلام؛ فهم اقتبسوا هذا القصة من الهنادكة والبوذيين والبراهمة وقدماء المصريين. وهم يزعمون أن الله سبحانه وتعالى أباح لآدم وحواء أن يأكلا من أي شجرة من شجر الجنة ما عدا شجرة معينة، ويزعمون أنها شجرة العلم والبصيرة والمعرفة! ويزعم هؤلاء الكفار بأن الله سبحانه وتعالى كان يخشى من آدم؛ لأن آدم لو أكل من هذه الشجرة فسيصير عنده علم ومعرفة وبصيرة، فلذلك نهاه حتى يبقى بلا معرفة وبصيرة! قالوا: ولما خالف آدم الأمر، وأكل من شجرة المعرفة والبصيرة صار عنده علم ومعرفة وبصيرة، فلذلك -والعياذ بالله- غضب الله عليه، وطرده من الجنة من أجل ذلك!

    الرد عل من يزعم أن آدم وحواء ورثا البشرية الخطيئة

    ليس عند أهل الكتاب أن الله سبحانه وتعالى تاب على آدم وحواء ، بل تلوثا بالخطيئة، وليس هذا فحسب، بل ورثا البشرية هذه الخطيئة، وهو ما يسمونه بسر عظيم جداً من أسرار الكنيسة، وهو الخطيئة الأصلية، يعني: أن الإنسان يولد ملوثاً بالخطيئة! مع أن كل مولود يولد نقياً طاهراً كما يبين لنا النبي عليه الصلاة والسلام ذلك بقوله: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمته) فضرب المثل في النقاء والطهارة والصفاء والبراءة بالإنسان كما ولدته أمه بلا خطيئة. وأما عند هؤلاء فأسوأ يوم وأسود يوم على الإنسان هو يوم تلده أمه؛ لأنه يولد بلا ذنب وبلا جريمة ومع ذلك يكون ملوثاً بخطيئة آدم، ولا يتطهر من هذه الخطيئة حتى الأنبياء!! وفي زعم النصارى أن الأنبياء الذين ماتوا قبل المسيح عليه السلام سوف يدخلون سجن جهنم بعد موتهم! حتى نوح وهود وكل الأنبياء؛ لأنهم يتحملون وزر وخطيئة آدم! وعليه بنوا هذه النظرية الغسانية المشركة التي اقتبسوها من قدماء المصريين، وهذا ثابت بالأدلة التاريخية، والهنود وأهل الوثنية اقتبسوا منهم نظرية أن الخطيئة لابد منها والعياذ بالله! وأن ربنا ينزل ويجسد ويذبح حتى يمحوا عن البشرية هذه الخطيئة، وهم مع ذلك يتناقضون، فإذا كان المسيح تحمل خطايا البشر فلماذا يشترطون التعميد؟! والتعميد عندهم هو: أن الطفل الذي لا يغطس في الماء الذي يسمونه مقدساً -والله أعلم هو منجس أم مقدس- يبقى حاملاً هذه الخطيئة! فمعنى ذلك: أنه رغم ما يزعمون من نزول المسيح وصلبه والعياذ بالله! فما زالت البشرية ملوثة في اعتقادهم، حتى إنهم في بعض الأراضي الموقوفة للكنيسة في بعض البلاد يمنعون دفن أي مولود أو أي إنسان إذا لم يكن قد عمد؛ لأنهم لا يعتبرونه قد دخل في النصرانية؛ لأن هذه عندهم صبغة مهمة جداً، ولابد أن يعمد بهذا الماء الذي يصفونه بأنه مقدس! وليس الآن أوان التفصيل في موضوع التعميد، لكن الشاهد أن هذه نقطة مهمة جداً في العقيدة بيننا وبين أهل الكتاب، وهذا بسبب تحريفهم كلام الله عز وجل، ولذلك انعكست هذه القضية في موقف الحضارة الغربية المعاصرة في العلاقة بين العلم والدين، فهم لهم انطباع أن هناك عداوة بين العلم وبين الدين مبنية ومأخوذة من هذا التصور الموجود في التوراة، وهو أن هذه الشجرة كانت شجرة المعرفة، فالدين هو دين الله، والعلم هو شجرة المعرفة، فالدين يكره العلم ويخاف منه، وبينهما عداوة، ولذلك الله سبحانه وتعالى حذر آدم أن يأكل من هذه الشجرة لأنه كان يخاف أن يصير لآدم بصيرة وعلم! -تعالى الله وحاشاه-. فهذا الانطباع هو السبب في العداء بينهم وبين الدين والعلم دائماً، ويعتقدون أن الدين عدو للعلم، وأنهما متناقضان، ولا يمكن أن يلتقيا. ثم جاءت التجربة الواقعية فأكدت هذا الأمر حينما حصل الصراع بين الكنيسة وبين الاكتشافات الحديثة، فكلما كان يكتشف علماؤهم نظرية أو حقيقة علمية كان القساوسة وعلماء الطبيعة والفيزياء -إن جاز هذا التعبير- يتصادمون، فلما حصل هذا الصدام حصل التمرد والكفر بالكنيسة وظهور دين العلمانية الجديد! فهم لما فقدوا الثقة في النصرانية لم يبحثوا عن الدين الحق، لكن هجروا الحق وذلك الدين المحرف معاً. فقصة آدم عليه السلام لها تأثير خطير في التصور النصراني، وهي قضية أصلية جداً في العقيدة عندهم، وأن آدم وحواء لم يتب الله عليهما، وإنما نزلا ملوثين بالخطيئة، بل ورثا الخطيئة كل البشرية من بعدهم! هذا مظهر من مظاهر الانحراف عند أهل الكتاب، وهناك انحراف آخر عند الذين يتبنون نظرية دارون أو ما يسمى بنظرية التطور أيضاً؛ فهم ينكرون هذه الحقيقة التي يصدع بها القرآن، وينكرون أن أصل البشرية شيء اسمه آدم وحواء؛ لأن العملية عندهم موضوع خلية تركبت ونمت وحصل تطور عبر آلاف سحيقة من القرون، ثم كان منها الإنسان ..إلى آخر هذا الكلام! وليس الأوان أوان مناقشة هذا بالتفصيل، لكن هذه إشارة واضحة إلى فساد هذه العقيدة، وكما هو معلوم فقد بين القرآن أن بداية البشرية كانت خلقاً مباشراً من الله سبحانه وتعالى لآدم، ثم بعد ذلك لـحواء، وليس كما يزعم أصحاب نظرية التطور، وقد هزمت الآن، وليس فقط بالأدلة الدينية حتى بالأدلة العلمية وأدلة علم الجينات أو الوراثة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756009540