إسلام ويب

اختلاف الأماني بين الناسللشيخ : سعد البريك

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لو نظرنا في سيرة الرعيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم؛ لوجدنا فرقاً كبيراً، وبوناً شاسعاً بين همة السلف وهمة الخلف، فقد جاوزوا النجوم علواً في الهمة، وإننا إن لم نتبعهم فلن نكون معهم يوم القيامة، ولكي نكون على شاكلتهم فعلينا مراجعة ديننا والاستعانة بالنظر في سيرة السلف الصالحين وقد ذكر الشيخ صوراً مشرقة ومُثُلاً عالية رفيعة في علو الهمة ...

    1.   

    الصحابة وعلو همتهم ورفعة أمنياتهم

    الحمد لله وحده لا شريك له، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شيء قدير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

    عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    معاشر المؤمنين! لا شك أن لكل مخلوق في هذا الوجود أمنية يرجو نوالها، ويخطط لتحقيقها، ويعد ويرتب للحصول عليها، ومن المعلوم أن الآمال والأماني تختلف بين شخص وآخر، تختلف بين الناس بحسب علو هممهم، ورفعة مقاصدهم، فمن كانت همته عالية وجدت أمانيه غالية عزيزة رفيعة، ومن كانت همته هابطة وجدت أمانيه لا تبعد كثيراً عن هبوط همته، ورحم الله القائل:

    وإذا كانت النفوس كباراً     تعبت في مرادها الأجسام

    أيها الأحبة في الله! لو سألت كثيراً من الناس عامة، أو سألت بعض الشباب خاصة، عن همته وغايته في هذه الحياة، وما يؤمل فيها، لهالك الأمر مما ترى، من دنو الهمة، والقناعة بالنـزر اليسير، والقدر القليل من حظوظ الكرامة والفلاح في الدنيا والآخرة، فمن الناس من ترى همته انحصرت في أرض صغيرة، أو دويرة عامرة، أو زوجة حسناء، أو دريهمات في الحساب الجاري في البنك، أو سيارة فارهة، وليس طلب الإنسان أو سعيه لتحصيل شيء من هذه الأمور معيباً، ما لم يرتكب في سبيل ذلك إثماً أو حراما.

    لكنما المعيب والعجيب أن ترى الهمة والأمنية محصورة عند هذا الحد من حطام الدنيا وحظوظها الفانية، لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يمنحون الفرص الكثيرة، ليسأل أحدهم النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء، وإذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أجيبت دعوته، وإذا وعد النبي صلى الله عليه وسلم أحداً بموعد تحقق وعده، وحينئذ كان بوسع أحد الصحابة أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم آلاف الجمال والأباعر والنوق، أو قطعان الغنم، أو المال العظيم من الذهب والفضة، ومع هذا كله ما سأل أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحطام إلا عدد قليل من الأعراب، وما جعلوه فرصة للإثراء.

    إذاً حينما تتاح الفرصة للصحابة رضوان الله عليهم، ماذا كانوا يسألون؟ وماذا كانوا يتمنون؟ وماذا كانوا يطلبون؟ اسمعوا الجواب من خلال هذه القصة وغيرها.

    ربيعة بن كعب وسؤاله مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة

    عن ربيعة بن كعب الأسلمي ، قال: (كنت أبيت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) تفرد به مسلم.

    فانظروا إلى سؤال ربيعة ، وأمنيته وغايته، ما قال: أسألك نوقاً أو إبلاً أو جمالاً أو ذهباً أو فضة، وهي فرصة يجاب فيها أي سؤال، حينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: سل، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة.

    أعرابي يطلب راحلة وعجوز بني إسرائيل تطلب الجنة!!

    وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء، فأراد أن يفعله، قال: نعم، وإذا أراد ألا يفعله سكت، وكان لا يقول لشيء: لا، فأتاه أعرابي فسأله، فسكت، ثم سأله فسكت، ثم سأله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل -كهيئة المنتهر؟- سل ما شئت يا إعرابي -كأنه يريد منه أن يسأل شيئاً عظيم الهمة والغاية- فقال الصحابة رضوان الله عليهم: لقد غبطناه، وقلنا: الآن يسأل الأعرابي رسول الله الجنة، فقال: أسألك راحلة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك ذلك.

    ثم قال للأعرابي: سل، فقال الأعرابي: ورحلها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لك ذاك.

    ثم قال: سل، قال: أسألك زاداً؟ قال: وذاك لك، فعجبنا من ذلك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطوا الأعرابي ما سأل، قال: فأعطي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: كم بين مسألة الأعرابي وعجوز بني إسرائيل.).

    وملخص هذا، أن العجوز سألت موسى عليه السلام أن تكون معه في الدرجة التي يكون فيها في الجنة، فقال موسى: سلي الجنة، فقالت العجوز: لا أرضى إلا أن أكون معك في الدرجة التي تكون فيها في الجنة، فأوحى الله إلى موسى أن أعطها ذلك، فإنه لا ينقصك شيئا. رواه الترمذي في الأوسط عن علي.

    حارثة وأمنيته في الشهادة

    ومن الأماني الغالية والهمم العالية، ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، إذ استقبله شاب من الأنصار، واسمه حارثة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال: أصبحت مؤمناً، قال: انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة، قال حارثة : يا رسول الله! عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: أبصرت فالزم) -عبد نور الله الإيمان في قلبه- (فقال حارثة: يا رسول الله! ادع الله لي بالشهادة؟ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنودي يوماً في الخيل، فكان أول فارس ركب، وأول فارس استشهد، فبلغ ذلك أمه، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن يكن حارثة في الجنة لم أبك ولم أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أم حارثة ! إنها ليست بجنة، ولكنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى، فرجعت وهي تضحك وتقول: بخ بخ يا حارثة).

    خيثمة يسأل رسول الله بأن يدعو له بالشهادة

    فأين أمانينا في هذا الزمان من أماني أولئك الرعيل الأول والركب الأول والصحب الأجل، عليهم من الله كل رضوان ورحمة، قال خيثمة الصحابي رضي الله عنه، وكان ابنه قد استشهد وهو يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : (لقد أخطأتني وقعة بدر ، وكنت والله حريصاً عليها، حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، يقول: يا أبت! الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعد ربي حقا، وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقة ولدي في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقتل بـأحد شهيداً).

    عمرو بن الجموح يريد أن يطأ بعرجته الجنة

    وهذا عمرو بن الجموح الأنصاري كان أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا، فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إن بني هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيداً).

    فيا شباب الإسلام! ويا عباد الله! انظروا إلى الهمم العالية، والمطالب الغالية التي تمنوها فأدركوها، تمنوها خالصة لوجه الله جل وعلا، فاجعلوا همتكم رضا الله، واجعلوا سعيكم في مرضاة الله جل وعلا، عند ذلك يحقق الله لكم الدنيا والآخرة (من أصبح والدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه ضيعته، ووكله إلى نفسه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وهمه الآخرة، تكفل الله برزقه، وأتته الدنيا راغمة، وجمع الله له ضيعته).

    فارفعوا الهمم يا عباد الله! واصدقوا ربكم الوعد، وارفعوا الهمة والأمنية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].

    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    السلف وهمتهم العالية

    الحمد لله منشئ السحاب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، وخالق خلقه من تراب، لا إله إلا الله عليه توكلنا وإليه مآب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده.

    عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضو بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثة بدعة؛ وكل بدعة ضلالة؛ وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.

    معاشر المؤمنين! إن مما يكدر البال، ويسوء الخاطر، أن ترى فئاماً من شباب المسلمين قد دنت همتهم، وانحصرت مطالبهم في حظوظ قليلة، وأمتعة رخيصة زائلة، من حطام هذه الدنيا الفانية، بل وإن منهم من حصر همه في ذلك على سبيل محرمة، وجاوز بها كل سبيل مباح، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إن من الشباب من عرفناه، وقال بعظم لسانه: أتمنى أن أفتح محلاً للفيديو؛ لأبيع ألواناً وأشكالاً وأصنافاً من الأفلام، عجباً لهذه الأمنية، أمنية رخيصة، وهمة دنيئة، ومع ذلك أسلوبها وسبيلها حرام من كتاب الله وسنة نبيه، فيه أذى وإفساد.

    أحد السلف يتمنى أن يطيع الخلق ربهم ولو مُزِّقَ لحمه إرباً

    فيا عباد الله! تأملوا أحوالكم، وقلبوا أعمالكم، وانظروا هل هممكم عالية؟ وهل هي مرتبطة بالله؟ هل هي مرتبطة بالدعوة إلى الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    يقول أحد السلف : وددت أن الخلق هذا أطاع الله ولو مزق لحمي إرباً، انظروا إلى هذه الهمة العالية، التي بلغت حد أمنية أن يهدي الله العباد، حتى وإن كان تحقيق هذه الأمنية على سبيل بدنه وتمزيق جسمه، شهادة في سبيل الله جل وعلا.

    فارفعوا هممكم، وقلبوا أحوالكم، واجعلوا الهمة عند الله جل وعلا عالية، وإذا سألتم فاسألوا الله الذي بيده الخلائق، وبيده الأرزاق، فإن من الناس رغم دنو همته لا يجعل السبيل إليها إلا عن طريق البشر، فتراه ملحاً لحوحاً في سؤال عباد الله!، في سؤال الفقراء والضعفاء، وينسى أن يسأل ربه خالق الضعفاء والفقراء، ينسى أن يسأل ربه خالق الأغنياء والأثرياء.

    تابعي يرفض أن يطلب شيئاً من هشام بن عبد الملك

    فيا عجباً لنا يا عباد الله! كيف تنحصر الهمم في مطالب رخيصة، ومع ذلك نسألها أناساً لا يملكونها، دخل هشام بن عبد الملك الكعبة فوجد رجلاً من التابعين جالساً فيها، فقال: سلني حاجتك؟ فقال: أما إني أستحي أن أسأل غير الله وأنا في بيته، فلما خرج من الكعبة، قال: سلني حاجتك؟ قال: من الدنيا أم من الآخرة؟ قال: بل من الدنيا، فقال: إني ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها ممن لا يملكها!

    انظروا يا عباد الله! عظم هذه الهمة التي جاوزت سؤال هذا الحد، وانظروا يا عباد الله! كيف يرتبط السلف في سؤالهم ودعائهم بالله جل وعلا، إن من الناس من لو بلغت به جائحة أو مصيبة تلفت إلى الضعفاء والفقراء، وإلى المساكين الذين لا يدفعون ولا يملكون نفعاً ولا ضراً، يسألهم حاجته أو تفريج كربته، ولو قلت له: أسألك بالله، هل قمت ليلة في حالة نزول ربك جل وعلا في الثلث الأخير من الليل يوم ينزل الجبار جل وعلا يسأل العباد حاجاتهم، وهو أعلم بها منهم (هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه ؟) هل سألت ربك حاجتك؟ يقول: لا والله ما حصل، إنما ذهبت إلى فلان واسطة إلى فلان، وذهبت إلى فلان شفاعة لفلان، وذهبت إلى علان شفاعة عند المسئول أو الجهة أو المكانة الفلانية، وقد نسي المسكين أن يسأل ربه الذي بيده نواصي الخلق أجمعين.

    من يسأل الناس يحرموه     وسائل الله لا يخيب

    وإذا بليت ببذل وجهك سائلاً     فابذله للمتفرد المفضال

    لا تسألن بني آدم حاجة     وسل الذي أبوابه لا تحجب

    الله يغضب إن تركت سـؤاله     وبني آدم حين يسأل يغضب

    عباد الله: اسألوا الله الجنة، اسألوا الله الفردوس، اسألوا الله الشهادة في سبيله، اسألوا الله أن يفرج عن المكروبين، اسألوا الله واجعلوا من هممكم أن يخرج السجناء تائبين من سجونهم، اسألوا الله أن يهدي شباب المسلمين، اجعلوا هممكم عامة وعالية، انظروا إلى الكون بآفاقه الشاسعة، ولا تنظروا نظرة الأنانية أو نظرة الذاتية والفردية، تلك النظرة التي لا يجاوز فيها صاحبها حد نفسه ومصالحه القاصرة.

    ويا للأسف! ما أكثر الذين لا ينظرون إلا إلى أنفسهم، وإلى أرصدتهم، وحظوظهم ونصيبهم فقط، وقد يرى الناس من حوله يجوعون أو يتضورون ويتضوغون جوعاً، ومع ذلك لا يفرج كربة وهو قادر عليها، من كرب العباد التي يستطيع العباد تفريجها، لا يشفع بوجه وهو قادر على الشفاعة، لا يبذل جاهاً وهو قادر على بذله، لا يقدم معروفاً وهو قادر على تقديمه.

    أحسن إذا كان إمكان ومقدرة     فلا يدوم على الإحسان إمكان

    مادام الإنسان قادراً ومستطيعاً، ومادام الإنسان مطيقاً، فليبادر وليقدم وليجعل الهمة عالية، وليرفع نفسه بهمة تنفعه عند الله، وتنفع الخلائق أجمعين، إن الخلق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله.

    فانفعوا عباد الله! واجعلوا همتكم لهم جميعاً، لا تجعلوا همتكم فردية لا تجعلوها أنانية، ولا تجعلوها ذاتية.

    أسأل الله جل وعلا أن يهدي شباب المسلمين، وأن يفرج كربات المكروبين، وأن يمن على المذنبين بالتوبة.

    يا شباب الإسلام! إن من أهم الأمور التي تستطيعونها، وتقدرون عليها، هي أمر الدعوة إلى الله جل وعلا، ومن كانت أمنيته أن يكون داعيةً إلى الله فليبذل أسباب وسائلها بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يهتدي الخلق على يديه، فيقفون يوم القيامة يشهدون ويشفعون له، وتوضع مثل أعمالهم في موازين أعماله، تلكم هي الهمم العالية.

    اجعلوا همتكم تربية الأبناء وتربية الأجيال، ونفع المسلمين، اجعلوا همتكم حفظ الأمن والأمة والمجتمع والبلاد، اجعلوا همتكم كل خير شمل وعم أبناءكم وإخوانكم وعامة المسلمين، واسألوا الله جل وعلا، واجعلوا ذلك فوق الهمم جميعاً، أن يختم الله لكم بالشهادة والسعادة، وأن يثبتكم الله على دينه، وأن يأخذ بنواصيكم إلى مرضاته، وأن يحيل بينكم وبين أسباب سخطه، هذه هي الهمم.

    عروة بن الزبير وهمته في سؤال الله وطلبه

    إن كثيراً من الناس يدخل المسجد، ثم يخرج منه ما سأل ربه همة عالية، يركع ويسجد ويكرر كلمات بعضهم لا يتأمل معناها، فقد ذكر أن رجلاً صلى وراءه عروة بن الزبير ، فقال له: [يا ابن أخي! أما لك حاجة عند ربك؟ فالتفت ذلك الرجل إلى عروة، فقال: أما لك حاجة عند ربك؟ إني أسأل ربي كل شيء، حتى الملح لطعامي] فاسألوا الله الدقيق والجليل، واجعلوا الهمة العالية، والدعاء والحظ الأوفر والنصيب، والقدح المعلى من الدعاء، اجعلوه لسؤال الله الجنة، اسألوا الله جل وعلا النجاة من عذاب النار، والنجاة من فتان القبر، اسألوا الله الأمان يوم فزع الخلائق، اسألوا الله الطمأنينة يوم هول المحشر، اسألوا الله العبور على الصراط.

    ينبغي أن يتذكر الإنسان هذه الأحوال، وأن يسألها ربه، وأن يجعلها من أعلى هممه، لا أن يجعل همته محل بيع أغاني، أو محل بيع أشرطة فيديو، أو سيارة من بلد كذا، أو فلة على شارعين، أو رصيداً قدره كذا وكذا، لا بأس لو سأل ربه مباحاً من المباحات، لكن ليست هذه هي الأمنية، وليست هذه هي الغاية، ولا تقف همة مسلم عند هذا الحد.

    1.   

    الرسول صلى الله عليه وسلم وهمته في نشر دين الله

    إن أمة ذللت الأكاسرة، وكسرت القياصرة، ما كانت همتها عند الدنيا، إن نبينا صلى الله عليه وسلم لما جاءه أبو طالب، فقال: يا ابن أخي! إن القوم قد أشغلهم أمرك، فإن كنت تريد جاهاً سودوك، وإن كنت تريد مالاً أعطوك، وإن كنت تريد جمالاً زوجوك أحسن نسائهم، وإن كان الذي بك رئي من الجن عالجوك، فلما انتهى، قال: (انتهيت يا عم؟! قال: نعم، فقال: أما والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، والله ما تركت هذا الأمر حتى أهلك دونه، وتندق هذه السالفة).

    تلكم هي الهمة العالية، أن ينشر دين الله، وأن يبلغ أمر الله وكلام الله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، فبلغوا دعوة الله يا شباب الإسلام! والله يعصمكم ويحفظكم: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38] ولا تهابوا قليلاً ولا كثيراً، ولا تخافوا صغيراً ولا كبيراً، إن الله جل وعلا يحفظ عباده المتقين.

    اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا على حوض نبينا واردين، ولكأسه من الشاربين، وعلى الصراط من العابرين، وآتنا صحفنا باليمين، وبيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفرة والمجرمين.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، وافسح اللهم له في قبره مد بصره، ونور عليه ظلمة لحده، وافتح له اللهم باباً إلى الجنان يا رب العالمين!

    اللهم اهد شبابنا، وارفع هممهم إلى ما يرضيك يا رب العالمين!

    اللهم جنبهم الفساد، اللهم جنبهم الزيغ والعناد، اللهم افتح على البصيرة قلوبهم، اللهم اجعل نفعهم وحظهم لأمتهم، ولا تجعل فعلهم وجهدهم للشيطان وللأعداء، يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين!

    اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح مضغة قلبه، اللهم قرب له بطانة الخير، وجنبه بطانة الشر يا رب العالمين! اللهم اجعل جليسه من خافك وأرضاك واتبع رضاك يا رب العالمين!

    اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على كتابك وسنة نبيك، وسخر اللهم لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، ربنا لا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، ولا تفرح علينا ولا عليهم عدواً، وخذ بنواصينا أجمعين إلى ما يرضيك يا رب العالمين!

    إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين!

    اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً، سحاً نافعاً طبقاً مجلياً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم اسقنا ولا تجعلنا من القانطين، ربنا اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل رحمة من رحماتك، وبركة من بركاتك، ترحم اللهم بها العباد، وتنفع بها البهائم والبلاد بمنك يا أرحم الراحمين، اللهم اسق المسبحات الركع، والبهائم الرتع، والأطفال الرضع، والشيوخ الركع، برحمتك يا أرحم الراحمين!

    اللهم إن عظمت ذنوبنا، فإن عفوك أعظم، وإن كبرت معاصينا، فإن فضلك أكبر، وإن تعددت ذنوبنا، فإن فضلك أعظم يا رب العالمين! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

    إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756327498