إسلام ويب

أسباب الاستقامة والانحرافللشيخ : عبد الله الجلالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن أعظم كرامة لزوم الاستقامة، وهناك أسباب للاستمرار في طريق الاستقامة، وهي تعتبر كالسياج للمحافظة على السير في هذا الطريق المستقيم، كما أن هناك أسباباً تدعو للانحراف والعدول عن هذا الطريق، والتخلف عن السير في هذا السبيل المبارك، فعلى المسلم لزوم أسباب النجاة، والحذر من أسباب الهلاك.

    1.   

    الاستقامة هي الأصل في الفطرة الإنسانية

    الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي يجمع القلوب على طاعته لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63].

    والصلاة والسلام على رسوله الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة.

    اللهم! صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض -اللهم- عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الاجتماع في بيوت الله على ذكر الله وطاعته يبث السرور في النفس والغبطة في القلب، وما ذلك بجديد على الحياة، فإن الله تعالى قد أخبرنا أنه سوف يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، ولكن الشيء الذي نستطيع أن نقول: إنه جديد هو أن الكثرة الساحقة والسواد الأعظم في مجالس الذكر هي من شباب المسلمين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق الصحوة الإسلامية المباركة، وأن لها جذوراً ضاربة في أعماق الأرض، وأن هذه هي الثمرة التي كنا ننتظرها منذ أمد بعيد، فأقرّ الله عيوننا بتلك الوجوه الطيبة.

    ألا فليطمئن الناس على دين الله، بل إن دين الله عز وجل ليس بحاجة إلى الناس، ولكن الناس بحاجة إلى دين الله، وإن ما يحدث في هذه الأرض من انحرافات وانجرافات وراء التيارات إنما هو خلاف الفطرة، أما الفطرة فقد أخبر الله عز وجل بأنها هي التي ولدت مع هذا الإنسان، ولا تغيير لها أبداً، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172].

    هكذا ولدت الفطرة مع الإنسان، والفطرة باقية ثابتة صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138].

    إذاً نحن متفائلون، والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وإذا رأينا الخير في الشباب فلنعلم يقيناً أن الصحوة متزنة من جميع نواحيها، ولذلك فليفرح اليوم المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء.

    ولا نريد أن نذهب بعيداً عن موضوعنا الذي حددناه، فهو عن أسباب الاستقامة وأسباب الانحراف، ولنأخذ ذلك كله من قول الله عز وجل: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، ثم نأخذ بعد ذلك جزاء هذه الاستقامة، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]، وفي الآخرة أيضاً يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].

    والاستقامة هي الالتزام، مِن (قام الشيء) بمعنى: اعتدل. والانحراف معناه الاعوجاج، وهذان دليلان على أن الأصل في الأشياء كلها الاستقامة، وأن الانحراف إنما هو حادث وطارئ، كما عرفنا من خلال الآية الأولى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172]، كما أن الله عز وجل أشار إلى أن الاستقامة هي الأصل في قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] أي: على ملة واحدة فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] أي: فانحرفوا فبعث الله مبشرين ومنذرين.

    إذاً الاستقامة هي الأصل، والانحراف هو الذي يتنافى مع الفطرة ومع الأصل، ولذلك فإننا نقول: إن الذين يأخذون بهذا الحق وبهذا الدين هم الذين يسيرون على الطريق المستقيمة، لا شك ولا ريب في ذلك، وإن الذين ينحرفون عن هذه الطريق المستقيمة هم الذين تذهب بهم شياطين الإنس والجن هنا وهناك إلى مذاهب شتى.

    ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه: (قرأ قول الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ثم خط خطاً طويلاً معتدلاً مستقيماً وقال: هذا صراط الله. ثم خط عن يمينه وعن شماله طرقاً متعددة وقال: هذه هي السبل، وعلى كل سبيل منها شيطان، وعليها سُتُر مرخاة، فإذا أوشك الإنسان أن يفتح واحداً من هذه السُتُر المرخاة ناداه مُنادٍ: ويحك -يا عبد الله- لا تفتحه؛ إنك إن تفتحه تَلِجْه، وإن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    أسباب الاستقامة

    نحن لا نستغرب وجود الاستقامة في الناس، ولكننا نستنكر بشدة الانحراف الذي يحدث في هذه الأرض؛ لأنه خلاف الفطرة، وعلى هذا فإن للاستقامة أسباباً وللانحراف أسباباً، ولعل دنيا الناس اليوم امتلأت بأسباب الاستقامة وأسباب الانحراف، وإن كان مما يخيف ضعاف الإيمان أن أسباب الانحراف أصبحت في واقع الناس وفي عالم الدنيا اليوم أكثر من أسباب الاستقامة، ولكننا مطمئنون لوعد الله عز وجل، فإنه هو الذي أخبرنا بأنه سيظهر هذا الدين على الدين كله، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وعلى هذا نقول: لا مانع من أن نطرق شيئاً مما نلمسه في واقع الناس اليوم من أسباب الاستقامة وأسباب الانحراف.

    التربية الصالحة

    أولاً: التربية الصالحة.

    والتربية الصالحة تبدأ من اختيار الزوجة الصالحة؛ لأن الزوجة الصالحة تعتبر تربة طيبة لبذور صالحة، فإذا وضعنا هذه البذور الصالحة في تربة صالحة نضمن بإذن الله عز وجل وجود أولاد صالحين، ولذلك لا نعجب من اهتمام الإسلام باختيار الزوجة، فقد قال تعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فاظفر بذات الدين) فيجب أن تكون التربة صالحة لتكون بيئة صالحة للذرية الصالحة.

    ثم بعد ذلك يأتي دور التربية ابتداءً من سن الطفولة التي يقول علماء النفس وعلماء الاجتماع عنها: إن السن السابعة هي السن المناسبة لتربية الأولاد في البيت وفي المسجد أيضاً. ويؤيدهم الحديث الصحيح: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع)، ثم لا يزال يلزم الرجل أن يتعاهد هذه الذرية تربية وإعداداً وتجهيزاً وإصلاحاً حتى يأتي سن العاشرة، فلا بد من أن يزيد في أمره لأولاده بالصلاة حتى يعيشوا مع الصالحين في المساجد، حتى إذا بلغ أحدهم الحلم فلا بد من أن يكون هناك المعيار الواضح بين الإيمان وبين الكفر.

    إذاً التربية الصالحة لا بد منها، وهذه التربية أول من يبدأ بها الأم، ثم الأب، ثم المدرسة، ثم الجهات الأخرى التي لها دور في إصلاح هذه الذرية، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال: (كل مولود يولد على الفطرة).

    إذاً أنت -أيها الأب- وأنتِ -أيتها الأم- لستما مسئولين عن أن توجدا الفطرة في قلب هذا الإنسان، ولكنكما مسئولان عن المحافظة على هذه الفطرة حتى لا تعتريها أشياء تخلّ بها، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أي: بسوء التربية.

    ثم إن هذه التربية أول من يستفيد منها ذلك الأب الذي ربى أولاده على طاعة الله، أو تلك الأم التي ربت أولادها على طاعة الله، وهذه الفائدة تكون في الدنيا بالبر والاستقامة والمحبة والتعاطف والتآلف، وفي حياة البرزخ يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له) وتكون أيضاً في الحياة الآخرة،كما قال الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد:23-24].

    بل إن الله عز وجل أخبرنا في آية أخرى أن الأب الصالح إذا خلف أولاداً صالحين صلاحهم لا يصل إلى درجة صلاح الآباء فإن الله بكرمه يرفع الأبناء درجة إلى درجة الآباء، ولا يخفض الآباء درجة إلى مستوى الأبناء، وذلك من أجل أن تقرّ العين، ولا يكون هناك ظلم ولا هضم، قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21] يعني: ما نقصنا الآباء عملهم فأنزلناهم إلى درجة الأبناء، ولكن حتى لا يتعلق الولد بأولاده ولا يتعلق الولد بآبائه يرفع الله تعالى الولد، ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21] حتى لا يقول أحد من الناس: إن أبي فلان الرجل الصالح، أو الرجل التقي، أو الرجل العالم. ولكن يجب أن يكون القائل هو الرجل الصالح، أو الرجل الورع، أو الرجل التقي.

    أيها الأخ الكريم! هذه هي نتيجة البر في الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك نقول: يجب أن تتضافر كل الجهود، فالمدرسة تقوم بشيء من هذا الدور، والمعلم أمين ومسئول بين يدي الله عز وجل عن هذه الأمانة التي يقوم بتربيتها وإعدادها، والوسائل التي أصبحت الآن لها دور في انحراف الشباب أو استقامة الشباب ستتولى هذه المهمة، وسيُسأل بين يدي الله عز وجل من يقوم عليها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون عن الدور الذي تقوم به في تربية هؤلاء الأولاد أو في انحرافهم.

    كذلك وسائل الإعلام، ووسائل النشر، والأندية الرياضية.. إلى غير ذلك من الوسائل التي أصبحت الآن تسيطر على عقول الناس أكثر مما يسيطر عليها الأب والأم، كلها ستتحمل بمقدار ما تقدمه من نفع أو ضر توجهه إلى هذا المجتمع، وما يكون لذلك من نتائج طيبة أو نتائج سيئة.

    فالكل مسئول، والدولة بمقدار ما تستطيع أن تقدمه للمجتمع من وسائل هي مسئولة بين يدي الله عز وجل عما يحدث تحت ظلها من استقامة أو انحراف، وحينما يكون هناك أشياء تؤثر في الفطرة، أو يكون هناك دعاة للضلال يريدون أن يحرفوا الشباب والنشء عن منهجهم فإنه بمقدار ما يُعطَى هؤلاء الناس من الحرية المنحرفة فإن الله عز وجل سوف يسألهم يوم القيامة عن هذه المسئولية الكبرى.

    إذاً حينما نقول: (التربية) فإننا نعني أكبر وسيلة من وسائل الاستقامة، ونقول: كل من استطاع أن يقدم جهداً في سبيل استقامة الناس فإنه يؤجر بمقدار ما يقدمه من هذا الجهد، وكل من أراد أن يقدم ضرراً وانحرافاً إلى الناس في المجتمع فإنه سيتحمل المسئولية بين يدي الله عز وجل.

    ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) وكلمة (كلّ) تعطينا أن كل واحد من الناس بمقدار مكانه وموضعه في هذا الوجود وفي هذه الدنيا سيتحمل من هذه المسئولية بمقدار ما مكّنه الله عز وجل، ولذلك فإن الله تعال مدح ولاة أمر المسلمين الذين يستقيمون على دين الله فقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].

    فهذا يعتبر هو العامل الأول من عوامل الاستقامة، وهو: التربية الصالحة.

    التفكر في ملكوت السماوات والأرض

    العامل الثاني: النظر في ملكوت السماوات والأرض.

    هذا النظر الذي ينشأ عنه إيمان كالجبل الأصم الثابت الذي لا يستطيع أحد أن يزحزحه عن مكانه، وهناك فرق بين الإيمان الوراثي -الذي سنتحدث عنه إن شاء الله مع السلبيات- والإيمان الذي نشأ عن تفكير ورويةّ، وحينما نقول: (تفكير وروية) لا نقصد التفكير في ذات الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى فوق ذلك كله، وإنما تفكير في قدرة الله عز وجل، وفي آثار صنعه الذي وضعه في هذا الوجود وفي هذا الكون حتى يكون ذلك سبيلاً للإيمان.

    هذا التفكير الذي يقول الله عز وجل عنه: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس:101]، أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، والله سبحانه وتعالى دائماً يخاطب العقول؛ لأن هذه العقول هي التي تنظر إلى هذه الأشياء نظرة تفكير، يقول الله تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:3-4].

    هذا النظر في ملكوت السماوات والأرض هو الذي يعطي هذا الإنسان أكبر دليل على وجود خالق متصرف قادر واحد ليس معه متصرف أبداً، وحينئذٍ يرجع بنتيجة واحدة، وهي أنّه ليس في هذا الكون متصرف إلا الله عز وجل.

    ونضرب مثالاً لذلك:

    إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان يشك في الله تعالى أبداً، حتى في أيام صبوته وأيام شبابه قبل أن يكون رسولاً، ولكنه ينظر إلى هذا الكون العظيم نظرة تفكير ليثبت لهؤلاء الناس أنّه ليس في هذا الوجود من يستحق أن يُعبد إلا الله سبحانه وتعالى، ثم يرجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنتيجة حتمية، وهي أنه في ذات الله عز وجل لما صَلُبَ إيمانه وقوي جانبه أصبح يتحدى أقرب الناس منه، وهو أبوه الذي يعتبر ألصق الناس به، ومن منا يستطيع أن يكافح أباه إلى ما يكون مخالفه في دينه، وهو يتحدى العاطفة ويتحدى كل الأشياء التي تفرض عليه أن يسالم المجتمع.

    إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذكر الله لنا قصته في سورة الأنعام، كما يقول الله عز وجل: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79] إلى أي شيء انتهى به الأمر؟ قال: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:79] وتحدى كل ما يحيط به، حتى ذوي القربى الذين ظلمهم أشد مضاضة، كما يقول الشاعر:

    وظُلْم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهندِ

    فأصبح يتحدى أباه ويقول: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:45].

    ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما أعطاه الله تعالى هذه الحجة على قومه أصبح إيمانه لا ينظر من خلاله إلى أي عذاب يحدث في هذا الوجود إلا كما ينظر الإنسان إلى وسيلة من وسائل المتعة.

    فلم يبال حتى أشعلت له نار، هذه النار -كما قال عنها المفسرون-: كانت ناراً عظيمة، سماها الله تعالى جحيماً، فكان الطير إذا مرّ من السماء فوق هذه النار يحترق وهو في السماء، وإبراهيم ينظر عليه الصلاة والسلام إلى هذه النار فيستهين بها؛ لأنها دون نار الحياة الآخرة، حتى إذا ألقي في النار أصبح ذلك الإيمان قد غير له نواميس الحياة وأنظمة الوجود، فأصبحت هذه النار بأمر الله عز وجل برداً وسلاماً على إبراهيم، وهكذا الإيمان يغير كل أنظمة هذه الحياة التي ربما تتعقد أمام عيني هذا الإنسان حينما ينظر إليها، ثم إذا بها تتحول إلى خلاف ما كان يتوقعه هذا الإنسان.

    فهذا مَثَل للنظر في ملكوت السماوات والأرض، ولذلك تجد فرقاً شاسعاً بين الإيمان الوراثي الذي يأخذه الإنسان عن أبيه وأمه وأسرته ومجتمعه وبيئته والإيمان الذي يكون وليد البحث والتفكير والقراءة والنظر في ملكوت السماوات والأرض، حينئذٍ يصبح هذا الإيمان كالجبل.

    فلا بد من هذا النوع من الإيمان، سيما في فترة الامتحان التي يعيشها العالم الإسلامي، أو الشبيبة الناشئة التي أصبحت الآن بين الجاهلية والإسلام، بين دواعي النفس والشهوات والمغريات العظيمة التي يسيل لها لعاب كثير من الناس وبين داعي الإيمان والجنة الذي ينادي هؤلاء الناس إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

    حرية الكلمة

    العامل الثالث من عوامل الاستقامة: حرية الكلمة.

    وماذا نقول عن حرية الكلمة؟ حرية الكلمة التي يجب أن يُفتح لها المجال، سيما في البلاد الإسلامية، ونحن لا نتخيل وجود حرية الكلمة كما كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يخطب فيتكلم في تحديد المهور، فتقوم امرأة وتقول: يا أمير المؤمنين! كيف تحدد المهور والله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا [النساء:20].

    قد يكون هذا من الصعب بمكان، ومثله ما كان من عمر رضي الله عنه حينما كان يخطب فقال للناس: (اتقوا الله) فقام رجل فقال له: يا أمير المؤمنين! عليك ثوبان ولنا من ثوبٍ واحد! ومثله كذلك حين قال عمر رضي الله عنه: (إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني) وكان هذا في أول خطبة خطبها، فيقوم رجل في المسجد يهز سيفه ويقول: يا أمير المؤمنين! والله! لو رأينا منك اعوجاجاً لعدلناه بسيوفنا هذه. فلم يقل رضي الله عنه: أين السلطات الأمنية؟! وإنما قال: (الحمد لله الذي جعل في هؤلاء الناس من يعدّل عمر بسيفه).

    إننا نعرف أن هذا شيء بعيد، وليس هو على الله عز وجل ببعيد، إلا أننا لا نريد أن يكون هناك فوضى، ولكن مقصودنا من حرية الكلمة أن ينطلق دعاة الإسلام بحرية؛ لأنهم أوثق من يؤتمن على دين الله عز وجل، ولأنهم أوثق من يؤتمن على الدولة المسلمة التي تطبق شرع الله عز وجل، ولأنهم يحافظون على العهد والميثاق وعلى صفقة اليد التي سلموها للسلطة الشرعية، ولذلك فإنهم لا يُتّهمون.

    نحن لا نريد حرية الكلمة لقوم يسبون الخالق سبحانه وتعالى أو يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يأتون برموز نحن لا نعرفها، فهذه تهدم الأخلاق وتهدم العقائد، كما أننا -أيضاً- لا نريد حرية الكلمة لقوم يصفون الحجاب بالتقوقع والتأخر والتخلف، ويقولون عن المجتمع المحافظ: إنه يتنفس برئة واحدة.

    لأن هؤلاء لو أحضرناهم على مائدة المناقشة الصحيحة لما استطاعوا أن يثبتوا دليلاً واحداً على ما يقولون، ولكننا نحن نثبت بالأدلة الكثيرة أن الإسلام هو الذي رفع المرأة ورفع الرجل وأوجد من المجتمع الإسلامي مجتمعاً حقيقياً.

    إذاً لا بد من حرية الدعوة، وهذه الحرية يجب أن تمنح للدعاة حتى لا يتحرك دعاة الباطل؛ لأن سنة الله عز وجل في هذه الحياة أنه لا بد من أن تكون هناك حركة، وهذه الحركة إما أن تكون بيد الصالحين المصلحين فتستقيم الأمم من ورائهم، وإما أن تكون بيد الفسقة فيضل الناس الطريق على أيدي هؤلاء.

    وحينما لا تكون هناك حرية للكلمة الصالحة ولا حرية للدعوة الصحيحة، وحينما لا يتمكن الخطباء أن يقولوا للناس: اتقوا الله بملء أفواههم، وحينما يكون في أفواه الناس والخطباء ما لا يستطيعون أن يبوحوا به، أو إذا بدأ أحدهم يتحدث فإنه يتحدث وكأنه في مزالق، حينما يكون ذلك فإنها لا تقوم الدعوة إلى الله عز وجل.

    ولذلك فإننا ننصح لمن يملك أمر المسلمين في كل مكان من الأرض أن يعطي الدعوة الإسلامية حريتها الكاملة حتى يختفي دعاة الباطل؛ لأن دعاة الباطل كالفئران، فحينما تسكن الحركة يتحركون، وكالخفافيش حينما يذهب الضوء تخرج في الظلام، لكن حينما تكون هناك دعوة إسلامية صحيحة على منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تختفي تلك الفئران التي لا تخرج إلا حينما تهدأ الأوضاع، وتختفي تلك الخفافيش التي لا تخرج إلا في الظلام، وحينما يختفي النور فإن الظلام يخيّم على هذه الأرض، وحينئذ تكون الحركة للخفافيش وحدها في هذا الوجود، ويختفي دعاة الحق عن الساحة، وحينئذ تكون فتنة في الأرض وفساد عريض.

    وعلى هذا فإن حرية الكلمة يجب أن تكون للمسلمين، ويجب أن تكون للدعاة، لكن يجب أن تكون منضبطة بحيث لا تمس أحداً لا يقف في طريقها، أما من وقف في طريق هذه الدعوة فإنها دعوة الله تعالى سائرة في الأرض ولو أسكتت في الأرض كلها، فلا بد من أن تمضي هذه الدعوة؛ لأن هذه الدعوة لا تستغني عنها البشرية أبداً، ولو أن أمة من الأمم عطّلت دعوة الله عز وجل لأصبح دعاة الباطل يقومون على قدم وساق، وحينئذٍ تكون فتنة في الأرض وفساد عريض، وأخشى أن يكون أول من يقف في وجه هذه الدعوة هو أول من يتحمل مسئولية وثمن هذا الإسكات، بحيث يتحطم أمام هذه الدعوات الفاجرة؛ لأنها لا تريد الأخلاق ولا المبادئ ولا النظم ولا شرع الله عز وجل، ولا تؤمن بدولة تقوم على شرع الله عز وجل، فهي أكبر عدو لها، أما دعاة الحق فإنهم يحفظون هذا العهد الذي بينهم وبين الله عز وجل مع هؤلاء المسئولين.

    إذاً لا بد من أن يفسح المجال لدعوة الله عز وجل، وإذا فتح المجال لدعوة الله عز وجل فإن هذا العالم كله سوف ينضم إلى هذه الدعوة، وستتحطم تلك الأفكار وتلك المبادئ، وحينئذ يكون الدين كله لله عز وجل وحده.

    الجليس الصالح

    العامل الرابع من عوامل الاستقامة: الجليس الصالح.

    الجليس الصالح الذي شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كبائع المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما -على الأقل- أن تجد منه رائحة طيبة، هذا هو الجليس الذي أُمر كل واحد من المسلمين أن يحسن اختياره، وأخبر الله عز وجل بأن أي صديقين في الدنيا سيكونان عدوين يوم القيامة، إلا إذا كانت هذه الصداقة والصلة في الله عز وجل، كما قال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف:67].

    والرجل الصالح قد يغتر بصديقه الفاسق أو الملحد أو المجرم أو المنافق فيأخذ من سلوكه وأخلاقه وانحرافه فينحرف معه، ولَكَمْ نرى في دنيا الناس اليوم من الشباب الصالحين الذين أساءوا اختيار الأصدقاء والجلساء فكان ذلك سبباً في انحرافهم، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) ونهى الله عز وجل عن موالاة الكافرين؛ لأن موالاة الكافرين سوف تحدث ذلك الانحراف، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14] إلى غير ذلك من الآيات.

    فالجليس الصالح هو الذي يصلح به جليسه ويطمئن إليه ويثق باستقامته وبخلقه ودينه وإيمانه, وحينئذٍ يكتسب منه استقامة إذا كان أقل منه استقامة.

    العلم

    العامل الخامس: العلم.

    إنَّ لنا مأخذ على بعض أفراد هذه الصحوة الإسلامية المباركة، وهو أن طائفة منهم لم يتزودوا بشيء من العلوم التي تنفعهم، لاسيما وأن هذه الصحوة عمت أصحاب العلم الشرعي وأصحاب العلوم الأخرى العصرية، وهذا كله خير، لكن المجال واسع لمن أراد أن يتعلم، فهناك المكتبات، وهناك العلماء، وهناك كل وسائل التعليم والإصلاح، فعلينا أن نأخذ بها، وحينما نقول: (العلم) لا نحصر ذلك على العلم الشرعي فقط.

    والله تعالى قال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] والأصل أن أول من يدخل في ذلك هم علماء شرع الله عز وجل، لكن ذلك لا يمنع أن يدخل في هذا الأمر العلماء العصريون الذين علموا شيئاً من علم الفلك، أو غاصوا في أعماق الأرض فعلموا شيئاً من علومها، أو اطّلعوا على أي نوع من العلوم في الهندسة أو في الطب أو في الكيمياء أو في أي شيء، كل هؤلاء في الحقيقة يُعتبرون علماء، وفي كل علم من هذه العلوم كنوز توصل هذا الإنسان إلى ربه عز وجل، وتعرفه بالله عز وجل، فالذين طاروا في الفضاء لو حكّموا عقولهم ونظروا نظرة مفكر متجرد لعرفوا الله عز وجل من خلال هذا الفضاء، والذين غاصوا إلى أعماق الأرض فرأوا شيئاً من مخلوقات الله عز وجل في هذا الوجود لو فكروا لعرفوا الله عز وجل حق المعرفة، والطبيب الذي يشرح هذا الجسم وينظر إلى العروق وإلى تلك الأجزاء أن كل واحد منها يؤدي دوراً لا يستطيع أن يؤديه جزء آخر يعرف الله عز وجل من خلال هذا العلم، وهكذا كل أصحاب الفنون يعرفون الله عز وجل.

    ولذلك يقول الله عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ويقول عن العلوم العصرية: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، ويقول عز وجل: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:20-21].

    فهذه العلوم بجميع أنواعها تعتبر وسيلة من وسائل الإيمان بالله عز وجل، وطريقاً من أبرز طرق الإيمان ومعرفة الله سبحانه وتعالى، ولذلك نقول: إن العلم هو أكبر وسيلة للاستقامة، ونخصّ بصفة خاصة العلم الشرعي الذي يُعرفّ الإنسان بربه سبحانه وتعالى، فيعرف ربوبية الله عز وجل من خلال مخلوقاته وآياته الكونية، ويعرف وحدانية الله عز وجل من انتظام هذا الكون، قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، ويعرف الله عز وجل من خلال ما في نفسه من الآيات، وحينئذ يكون مؤمنا فّذاً يعرف الله عز وجل بآياته فيؤمن به حق الإيمان.

    نظافة البيئة

    من العوامل التي تسبب الاستقامة نظافة البيئة.

    والمراد بنظافة البيئة: أن لا تكون متلوثة بالمعاصي، ولربما يعيا علماء الاجتماع وعلماء التربية والمحبين للإصلاح والتوجيه والتربية بأن يقوموا بمهمتهم في بيئة متلوثة بالمعاصي والأقذار، ولذلك فإن المسلمين أُمروا بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر من أجل أن يكون ذلك طاعة لله سبحانه وتعالى من ناحية، ومن ناحية أخرى من أجل أن يكون تنظيفاً للبيئة التي يعيش عليها المؤمنون حتى لا يتلوث إيمانهم بشيء من هذه المغريات أو شيء من هذه المحرمات.

    ولذلك فإن كثيراً من المربين في أيامنا لحاضرة يشكون من تلوث البيئة ومن الفساد المنتشر في المجتمعات البشرية، وهم يريدون أن يربوا هذا النشء تربية صالحة، ولربما يضطر بعضهم إلى أن ينفرد بمجموعة مدة من الزمن، ويعزلهم عن هذه البيئة الموبوءة، حتى يستطيع أن يربيهم وأن يعدهم إعداداً كاملاً.

    ولذلك لا بد من أن تكون هناك بيئة نظيفة لا تنتشر فيها الأغاني والمسرحيات والعشق والغرام والخيانات الزوجية، إلى غير ذلك من الأشياء التي انتشرت الآن من خلال هذه الأفلام المحرمة في حين غفلة من الرقابة، لا يجوز أن توجد هذه في بيئة يسعى من فيها من المصلحين إلى إصلاح هذا النشء وهذه الأمة، وحينما تنظف هذه البيئة وتصبح نقية طاهرة من هذه المعاصي حينئذٍ تكون جواً مناسباً لإصلاح هذا النشء وتربيته تربية صالحة.

    تلاوة القرآن الكريم

    ومن أسباب الاستقامة: تلاوة كتاب الله عز وجل بتدبر وتفهم.

    والقرآن هو الذي يقول الله عز وجل عنه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، ومعنى: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] أي: أصلح في الدنيا والآخرة. ولذلك فإن في تلاوة القرآن تعريفاً لهذا الإنسان بربه سبحانه وتعالى، وربطاً له بالحياة الآخرة، وتنظيماً له -أيضاً- في الحياة الدنيا، وفيه أيضاً تعريف بدين الله عز وجل تعريفاً حقاً حينما يتدبره هذا الإنسان تدبراً يتناسب مع عظمة هذا القرآن.

    ولذلك فإننا ندعو الشباب إلى حفظ القرآن ما داموا في أول الشباب، وحينما يعجزون عن هذا الأمر فإننا نطالبهم بأن يقرءوه قراءة صحيحة بتدبر وتفهم مع معرفة شيء من معاني هذا القرآن؛ لأن هذا القرآن هو الذي أنزله الله عز وجل ليكون شفاءً لما في الصدور وليكون وسيلة استقامة لهذه الأمة، وبمقدار إعراض الناس عن هذا القرآن تكون الشقاوة في الدنيا والآخرة، ولذلك يقول الله عز وجل عن هذا القرآن: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124].

    ولذلك فإننا نقول إن الفتن التي يعيشها الناس اليوم لا يخلصهم منها إلا الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأنه: (ستكون فتن. فقالوا: فما المخرج منها -وفي رواية: فما المخرج منها يا رسول الله-؟ فقال: كتاب الله وسنّتي) ويكفي أن الله تعالى يقول: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] أي: لا يضل في الدنيا عن الطريق المستقيمة، ولا يشقى في الآخرة بالنار والعذاب -والعياذ بالله-، وإنما يسير وفق خط مستقيم وطريق معتدل، لكنه حينما يعرض عن هذا القرآن فإن له معيشة ضنكاً في الدنيا، وهذه المعيشة ليست معيشة الفقراء وهم يعيشون في الأكواخ أو في البيوت المتهدمة، أو يعيشون في غياهب السجون وهم يشعرون مع ذلك بلذة الإيمان، ليست هذه هي المعيشة الضنك وإنما المعيشة الضنك: هي التي يعيشها الإنسان داخل قلبه وإن كان في قصر منيف؛ لأن المعيشة الضنك داخل القلب لا على الجسد.

    ولذلك فقد أخبرنا الله تعالى بأن لذة الإيمان تعطي المؤمنين أكبر وسيلة للسرور في هذه الحياة الدنيا، وأخبرنا الله عز وجل بأن هؤلاء الظلمة الفسقة العصاة وإن كانوا في أعلى مكان في هذه الأرض وفي أعظم متاع فإنهم يعيشون في ضنك، أما أولئك المؤمنون وإن كانوا في غياهب السجون وإن كانوا في أكواخ متهدمة فإنهم يعيشون في لذة الإيمان، يقول الله تعالى عن هذه اللذة: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] وهذه الحياة الطيبة قد لا نشاهدها في بيته أو في أثاثه أو طعامه أو شرابه، وإنما هو يدركها في قلبه وهو يشعر بلذة الإيمان، ويقول الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3].

    إن لذة الإيمان هي اللذة التي يقول عنها إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف.

    تذكر الحياة الآخرة

    من عوامل الاستقامة: تذكر الحياة الآخرة.

    وتذكر الحياة الآخرة ينغص على الطغاة عيشهم ولذتهم, وإن كان كثير منهم في غفلة لا يفكر ولا يتذكر الحياة الآخرة، وكثير منهم -أيضاً- لا يؤمن بالحياة الآخرة مطلقاً، لكن المؤمنون حينما يتذكرون الحياة الآخرة وما أعد الله عز وجل للمؤمنين من سعادة خالدة لا تنقضي أبداً: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [هود:108] يزيد ذلك في إيمانهم وفي إقبالهم على الله عز وجل وفي تمكنهم من دين الله سبحانه وتعالى وفي استقامتهم.

    ولذلك أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نكثر دائماً من ذكر هاذم اللذات، وهو الموت، والقرآن في كثير من آياته يحدثنا عن الموت وعن الحياة الآخرة، وعن البعث، والنشور، والميزان، والصراط، والجنة، والنار، وما أشبه ذلك من أمور الآخرة.

    ولذلك فإن المؤمن حينما تقع هذه الأشياء في سويداء قلبه ويؤمن بها إيماناً كاملاً وكأنه ماثل بين يدي الله عز وجل للحساب، أو كأنه على حافتي الصراط، أو كأنه بين كفتي الميزان، أو كأنه يأخذ صحيفته بيمينه، حينما يتذكر هذه المواقف تهون في طريقه هذه الحياة الدنيا، وحينئذ يكون ذلك سبباً من أسباب استقامته بإذن الله عز وجل.

    التعرض للبلاء والمصائب والفتنة في الدين

    ومن عوامل الاستقامة: الضغط على المؤمنين.

    والحقيقة أن هذا السبب يصلح أن يكون عاملاً من عوامل الاستقامة، كما أنه قد يكون في بعض الأحيان عاملاً من عوامل الانحراف، فالمؤمن الحق حينما يتعرض للأذى في دينه ويُفتن في دينه وتفتح له السجون ويوجه له اللوم والعتاب والسخرية: انظروا إلى لحيته! انظروا إلى ثوبه القصير! انظروا إلى كذا، انظر إلى كذا، فالمؤمن لا يزيده ذلك إلا إيماناً بالله عز وجل، ويعرف أنه لولا أنه على حق لما كان يوجه إليه مثل هذا العتاب وهذا النقد؛ لأن الله تعالى قد أخبرنا فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ [المطففين:29-33]، ثم تتغير المعايير في الآخرة: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:34-35]، والمسلم حينما يعيش حياة الضعط والإيذاء في دينه يعرف الله عز وجل حق المعرفة، ويعرف أنه ما أوذي في دينه إلا لأن هذا الدين فيه قوة وفيه صلابة، ولذلك يقول الشاعر:

    لولا اشتعال النار فيما جاورتْ ما كاد يُدرَى طيب عَرْفِ العودِ

    لو جئت بقطعة من العود الطيّب النفيس فشممته فإنك لن تشم له رائحة زكية طيبة حتى تشعل النار حوله وتضعه في هذه النار، فتخرج رائحة هذا العود أحسن ما كانت.

    ولذلك جعل الله تعالى هذه الفتن تمحيصاً للمؤمنين وتقوية لإيمانهم، فإن الإيمان يضعف، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا المبدأ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] تصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: متى نصر الله؟! والمؤمنون وهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم بأعينهم يقولون: متى نصر الله؟! هذه فتنة لم يحصل لها نظير أبداً في عالم الناس اليوم ولا ما قبل هذا اليوم، إلى درجة أن الرسل أنفسهم يستبطئون نصر الله عز وجل.

    ويقول سبحانه وتعالى في سورة العنكبوت: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2]، ثم يقسم الله جل جلاله فيقول: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3].

    ثم يتوجه مرة أخرى إلى هؤلاء الذين يؤذون المؤمنين في دينهم، ولربما يصرفون طائفة من الناس عن دينهم بسبب هذه الفتن القاسية، وبسبب هذا الإيذاء العنيف الذي يوجهونه إلى المؤمنين، قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت:4]، ثم إن هذه السورة تختم بمثل ما بدئت به: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] وفي وسطها قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [العنكبوت:10] أي أن من الناس ضعاف الإيمان قوم لا يتحملون الفتن، فأحدهم يقول: أنا فررت من عذاب الآخرة إلى الجنة، وإذا كان في فراري هذا عذاب لي في الدنيا فأنا لا أتحمل -نعوذ بالله-، فأنا فررت من العذاب فكيف أوقع نفسي في عذاب الطغاة والمتجبرين! إذاً أتحمل عذاب الآخرة ولا أتحمل عذاب هؤلاء الطغاة؛ لأنه أمام عيني الآن.

    يقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ [العنكبوت:10] أي: إذا أوذي من أجل الله عز وجل جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ [العنكبوت:10] أي: في الدنيا وعذاب الناس كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] في الآخرة.

    إذاً طريق الجنة ليس مفروشاً بالورود والزهور والرياحين، طريق الجنة ليس معبداً وإن كان واضحاً، طريق الجنة فيه فتن، فما على هذا المسلم إلا أن يتحمل من أجل الله عز وجل وفي ذات الله، وحينئذٍ يستطيع أن يستحق الشهادة الكبرى من الله عز وجل بأنه من المجاهدين في الله عز وجل.

    فمن الأسباب هذه الفتن التي تعترض طريق بعض المؤمنين في سبيلهم وسيرهم إلى الله عز وجل، والمسلم يجتاز هذه المرحلة كما اجتازها أسلافه الأوائل رضي الله عنهم، الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أتوا ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع في حفرة ثم ينشر نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

    فالفتن يجب أن يتحملها المسلم إذا كانت في ذات الله عز وجل، وإن كثيراً من إخواننا في العالم الإسلامي يلاقون هذه الفتن، فمنهم من يصبر ويحتسب، ومنهم من يرجع من منتصف الطريق فيكون من الذين قال الله عز وجل عنهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11] أي: على طرف بين الإيمان والكفر فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].

    سؤال الله عز وجل الثبات

    كل ما ذكرنا كله يعتبر من أسباب الاستقامة، وآخر وأول سبب من أسباب الاستقامة هو سؤال الله عز وجل التثبيت.

    والتثبيت يكون بنصر دين الله عز وجل، فإن من نصر دين الله صادقاً ثبّت الله أقدامه عند الفتن والمحن، كما قال تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] والتثبيت هو الذي يجب على المسلم أن يسأله الله دائماً، فعلى المسلم أن يلح على الله بالدعاء أن يثبت قلبه على الإيمان حتى لا تضل به الأهواء، وحتى لا تنحرف به الفتن عن الطريق المستقيمة، والرسول صلى الله عليه وسلم خير البرية -وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي هدى الله البشرية على يديه- كان كثيراً ما يقول: (اللهم! يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على طاعتك)، وقال: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).

    إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله التثبيت فما على أي واحد منا إلا أن يسأل الله دائماً أن يثبته على هذا الدين وعلى هذا الإيمان حتى لا تضل به الأهواء، وحتى لا تؤثر فيه الفتن، وحتى لا يستطيع أحد أن يزيله من مكانه الذي ثبته الله تعالى عز وجل عليه، ولذلك يقول الله تعالى عن المؤمنين: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] وتثبيت الحياة الدنيا هو أن لا يتراجع عن طريقه الذي هداه الله عز وجل إليه.

    وتثبيت الآخرة هو عند الموت وفي القبر، فالإنسان إذا ثبته الله تعالى في الحياة الدنيا على المنهج السليم أيضاً يثبته الله تعالى على المنهج السليم وهو في قبره، حينما يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ما علمك؟ فالمؤمن يثبته الله تعالى ويقول: ربي الله، وديني الإسلام، وهذا الرجل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأت كتاب الله وآمنت به.

    وهناك طائفة من الناس لربما يغترون بمستوى الإيمان الذي وصلوا إليه، أو بمقدار العمل الذي هُدوا إليه، فيصابون بالغرور -نعوذ بالله من الغرور-، ثم إذا بهذا الغرور يفسد عليهم دينهم ودنياهم، فإذا بهم ينقلبون رأساً على عقب، لأنهم لا يسألون الله عز وجل أن يثبتهم على دين الإسلام، وأخشى أن يكثر هذا النوع المتقلب الذي نشاهده في بعض الأحيان، فلا نكاد نُسرّ باستقامة فلان من الناس إلا ونفاجأ بانحرافه.

    ولذلك علينا دائماً أن نسأل الله عز وجل أن يثبت أقدامنا، فإن الأمة الإسلامية تعيش فترة لم يكن لها نظير في تاريخ البشرية أبداً، فترة يتجه فيها الناس إلى ربهم عز وجل، ثم إذا بالطغاة في جُلّ العالم يتجهون إلى صد هؤلاء الشباب عن دينهم، وإذا بمطارق الكافرين توجه إلى المؤمنين، وكل وسائل الدمار توجه إلى هؤلاء المؤمنين إلا ما شاء الله عز وجل، ولذلك نقول: نسأل الله تعالى أن يثبتنا وأن يثبت المسلمين على هذا الطريق المستقيم.

    1.   

    أسباب الانحراف

    الجليس السيء

    كما أن للاستقامة أسباباً فإن للانحراف أسباباً أيضاً.

    فأهم أسباب الانحراف هو الجليس الفاسق أو الكافر، وكما عرفنا في أسباب الاستقامة الجليس الصالح بأنه مثل حامل المسك فإن الجليس الفاسق هو الذي شبهه الرسول صلى الله عليه وسلم بنافخ الكير، ونافخ الكير لابد من أن ينالك منه أذى لو جلست عنده، (فإما أن يحرق ثيابك) بما يقدم لك من المعاصي، (وإما أن تجد منه رائحة خبيثة)، إذا لم يصل إلى درجة إحراق ثيابك.

    ولذلك نقول: إن هؤلاء الذين ضلوا الطريق على أيدي هؤلاء الفسقة حينما أساءوا اختيار الجلساء هؤلاء لا يلومون إلا أنفسهم، كما أننا نوجه كلمة إلى هؤلاء الآباء الذين استرعاهم الله عز وجل على هذه الذرية التي ربما أن كثيراً منها لم يُميز بعد بين الحق والباطل، نلوم هؤلاء الآباء حينما لا ينظرون فيمن يجالس أبناءهم، وحينما لا يعرفون من يخالط هؤلاء الأبناء.

    فاحذر -أيها المسلم- من جلساء السوء، فإنهم ينتشرون في بلاد المسلمين كما يجري الشيطان من بني آدم مجرى الدم، بل إنهم هم شياطين الإنس الذين يقول الله عز وجل عنهم: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، ولعل أكبر سبب من أسباب مقارنة هذا الشيطان الفاسق لهذا الرجل الصالح ليحرفه عن الطريق هو أن ذلك الصالح عشا عن ذكر الرحمن، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:36-38].

    ولذلك ابتلي كثير ممن تولى أمر المسلمين بجلساء سوء وببطانة سوء بسبب إعراض أولئك عن دين الله عز وجل، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا [الزخرف:36] فهذا الشيطان لا يفارقه حتى يدخله النار، ثم إذا أدخله النار بدأ ذلك المقارن يتمنى أن لو لم يغتر بهذا الجليس الفاسق.

    الاكتفاء بالتدين الوراثي

    ومن أسباب هذا الانحراف الاقتصار على التدين الوراثي.

    ومعنى التدين الوراثي أن يولد إنسان في بيئة متدينة، ولكن هذا الإنسان لم يفكر بعد في أصل دينه أو أوامر الله عز وجل وفي هذا الكون الفسيح الذي خلقه الله عز وجل، لكنه وجد أباه يصلي فصار يصلي كما يصلي أبوه، ووجد أمه تصوم فهو يصوم كما تصوم أمه، وأهله يذكرون الله فهو يذكر الله مثلهم.

    تجد هذا النوع من الإيمان -الذي لم يتعمق في القلب ولم يصل إلى سويداء القلب- سريع التأثر وسريع الانحراف، ولذلك فإن كثيراً ممن عرفوا الله عز وجل من هذا الجانب، أو ممن تدينوا من هذه الناحية تجد أحدهم كثيراً ما يتغير ويتقلب، وإن لم يتغير أو يتقلب فإنه يصاب على أيدي هؤلاء المخربين الذين يفتنون الناس عند دينهم بكثير من الشكوك والفتن، ولربما ينتهي به المطاف -نسأل الله العافية- إلى أخطر انحراف، ولذلك فإن على هذا النوع من الشباب أن يعرف الله عز وجل من خلال آياته الكونية والتدبر في آيات القرآن الكريم.

    الازدواجية في حياة الناس

    ومن الأسباب الخطيرة الازدواجية في حياة الناس.

    ومعنى الازدواجية: أن يكون في عالم الناس خير وشر اختلط أحدهما بالآخر، ولم يتميز الخير عن الشر، ولم يتميز الشر عن الخير، فيصبح الطفل الذي ولد في عصر الازدواجية -كعصرنا الذي نعيشه اليوم- إن لم تتداركه عناية الله عز وجل ولم تسعفه قدرة الله عز وجل، وإن لم يوجه توجيهاً صحيحاً فإنه حينما يكبر وينمو ويترعرع وقد ولدت في عقله وفي مخيلته أمور لا يميز فيها الخير من الشر، فيكون هذا النوع غالباً ممن أصيب بهذه الازدواجية.

    والحقيقة أن عصرنا الذي نعيشه اليوم فيه هذه الازدواجية، كما نرى أن فلاناً من الدعاة أو العلماء له ولد فاسق أو منحرف، والله أعلم بما يعمله، وفلان الذي هو من أصول عريقة طيبة أصبح يخالف هذه الأصول، وهكذا.

    حتى في البرامج التي يشاهدها الناس أصبح يختلط فيها الخير والشر، فهذه أغنية وذاك حديث، وهذه آيات قرآنية وتلك مسرحية، والنشء لا يعرف الخير من الشر، ولربما يقع في ذهنه أن كل ما يشاهده شر، فيخرج مجرماً يكره هذا الدين، أو ربما يبقى هذا كله خيراً في ذهنه وفي عقله، وحينئذ يصبح لا يميز بين الخير وبين الشر.

    ولذلك فإن هذه الازدواجية يجب أن يكون بجوارها رجال عقلاء يميزون لأطفالهم ولأبناء المسلمين الخير من الشر، حتى لا يختلط الخير بالشر؛ لأننا نرى في أيامنا الحاضرة اختلاطاً بين الخير والشر، فأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يميز بين هذا وذاك، ولهذا فإن الازدواجية تُكَوِّنُ شخصيتين متعارضتين في عقلية هذا الطفل، ثم ينشأ هذا الطفل وهو لا يميز بينهما، أو كلتاهما يعتبرهما فسقاً، أو كلتاهما يعتبرهما طاعة، ولربما يخرج وهو يظن أن الفسق طاعة أو أن الطاعة فسق، وحينئذ يصبح هذا الأمر خطيراً، فعلينا أن نحيط أبناءنا وشبابنا بحواجز منيعة عن هذه الازدواجية حتى لا تفسد عليهم دينهم وأخلاقهم.

    سوء التربية

    ومن أسباب الانحراف سوء التربية.

    فلَكَم رأينا في عالمنا اليوم من أبناء أهملهم الآباء وانشغلوا عنهم بحطام الحياة الدنيا وجمع هذه الغنائم التي أصبحت محط الأنظار، وغفلوا -أو تغافلوا- عن أغلى شيء في هذا الوجود، وهو هذه الذرية، فأصبح الأطفال يتولاهم مُربّ أو مربية، ولربما يذهب بهم بدل المدارس الإسلامية إلى مدارس يرعاها الفسقة أو الكفرة، فتنشأ الناشئة على الشر، والولي الذي يتحمل مسئوليتها بين يدي الله عز وجل يوم القيامة.

    ولقد أمر الله عز وجل هذا الإنسان أن يربي ذريته وفق منهج صحيح حتى يجني ثمارهم في الدنيا وفي الآخرة، وكثيرٌ من الناس قد غفل عن أغلى شيء في هذا الوجود وهو الذرّية، فنشأت ذرية منفصلة حتى عن العواطف البشرية، بل عن العواطف التي أعطاها الله عز وجل للحيوان، فإن كثيراً من الآباء لا يرى ولده إلا نادراً، يربى في المحاضن، أو في رياض الأطفال، أو في غير ذلك، ثم إذا بهذا الطفل يخرج وهو لا يشعر بالعاطفة التي أعطاها الله عز وجل الحيوان.

    فأهم شيء في هذا الوجود هو هذه الذرية؛ فإن رسالة الإسلام التي حملها الله تعالى هذه الأمة التي هي أفضل أمة وخير أمة أخرجت للناس ورسالتها آخر الرسالات وكتابها آخر كتاب لابد من أن تكون فيها تربية طيبة لهؤلاء الأطفال حتى يتحملوا هذه المسئولية فينقلوها من جيل إلى جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    نشاط دعاة الباطل

    ومن أسباب الانحراف نشاط دعاة الباطل.

    والله المستعان على ذلك، فدعاة الباطل ينشطون في أيامنا الحاضرة، ونشاطهم يتكثف بمقدار بما يضعف المسلمون عن الدعوة إلى الله عز وجل كما قلنا سابقاً، وهؤلاء الدعاة نستطيع أن نقسمهم إلى قسمين:

    القسم الأول: دعاة من الخارج يكرهون هذا الإسلام ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وكانوا يعملون ضد هذا الدين منذ أمد بعيد، ومنذ أن قامت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، ولكنهم خسئوا في طريقتهم حينما لجئوا إلى السلاح وحينما أرادوا أن يحاربوا الأمة الإسلامية بالقوة، وحينئذ عجزوا فقالوا: عليكم بالحرب الباردة -ويقصدون بهذه الحرب الباردة حرب الأفكار- ووجهوا كل الطاقات من أجل أن ينحرف أبناء المسلمين. ولكنهم خسئوا -أيضاً- ونحمد الله عز وجل على ذلك، وإن كانوا قد نجحوا في بعض المجالات فربوا على أعينهم شباباً من أبناء المسلمين، وقال قائلهم بلفظته الصريحة: إنكم لا تستطيعون أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا بغصن من أغصانها. ويقصدون بذلك أن يربوا من أبناء الإسلام من يحارب الإسلام نفسه، ومن هنا قامت قائمة شنيعة فظيعة خبيثة ممقوتة، حيث أصبح الإسلام يحارب ببعض أبنائه، ولو كان الإسلام يحارب بـأبي لهب وأبي جهل لكان الأمر أهون، لكن الإسلام في أيامنا الحاضرة أصبح يحارب بسعد وسعيد ومحمد وعبد الله وعبد الرحمن وأحمد، فأصبحت المصيبة أكبر.

    لقد حققوا آمالهم في بعض هذا الأمر، ولكننا واثقون بإذن الله عز وجل أن الله تعالى سوف يتم نوره وسوف يظهر هذا الحق، وأن الله تعالى قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، ولذلك فإننا على ثقة تامة بأنهم لن يستطيعوا أن يحاربوا الإسلام أبداً، وإن بذلوا الجهود المضنية فإنهم لا يستطيعون ذلك، ولقد رأيت بعينيّ شباباً من أبناء أفريقيا رُبّوا في بلاد الغرب، وصاروا قسساً فأصبحوا يُنصّرون أبناء المسلمين، ولكنهم لم يكسبوا في مدة طويلة مع إنفاق أموال باهظة صرفت في هذا السبيل إلا النزر القليل، مثلاً: يأخذون طفلاً يربونه من أيام طفولته على النصرانية، ولقد رأيت بعينيّ تسعة من أبناء أريتريا ربوا في إيطاليا، فرجعوا قسساً فنصّروا -كما يقولون-: ثلاثة عشر ألفاً، ثم هداهم الله للفطرة، فردّوا إلى الإسلام أضعاف من نصّروهم، رأيتهم بعيني وهم الآن يعيشون في بلاد السودان.

    إذاً نحن مطمئنون، ولكننا نطالب الأمة الإسلامية بأن تكافح دعاة الباطل حتى لا تقوم لهم قائمة، وأن تبدأ بعبد الله وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأحمد قبل أن تبدأ بالبعيد؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123].

    وبعد ذلك نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بمعجزته، وإن هذه المعجزة التي تتحقق اليوم في عالمنا وفي واقعنا قد حدثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، فقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر ثم جاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت: وما دخنه يا رسول الله! قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت: يا رسول الله! وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قال حذيفة فقلت: يا رسول الله! صِفْهم لنا؟ قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).

    فهم من جلدتنا لم يأتوا من أوربا ولا من أمريكا، ولكنهم من أبناء المسلمين ولدوا على الفطرة وفي بيوت الفطرة وفي بلاد الفطرة، ولربما يكون منهم من ولد في البلاد المقدسة، ولربما يكون ممن ولد حول الكعبة المشرفة، أو حول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين.

    إذاً هذه المعجزة تعطينا علماً حتى لا نفاجأ حينما نعلم بأن فلاناً وفلاناً من الناس يسعون لهدم الإسلام بأيديهم وأيدي الكافرين، إما من خلال الصحف، أو من خلال المجلات، أو من خلال الكتب، أو من خلال جلسات سرية أو علنية.

    ونحن نطالب المسئولين بأن يوجهوا كل العيون وكل الرقابة إلى هؤلاء، أما هؤلاء المؤمنون الذين يصعدون على المنابر ويقولون للناس: اتقوا الله فهؤلاء لا يحتاجون إلى مراقبة، والله الذي لا إله غيره إنهم مخلصون للدولة ما دامت تقيم شرع الله عز وجل، والله الذي لا إله هو إنهم يعتبرون في قلوبهم عقداً بينهم وبين الله عز وجل في الولاء للدولة التي تحكّم شرع الله عز وجل.

    إذاً يجب أن يعرف المسئولون كيف يكافحون الشر والفساد، ولا يجوز أن توجه الرقابة إلى المساجد؛ فإن المساجد لا ينشأ منها إلا الخير والإيمان؛ لأن الله عز وجل يقول عن هذه المساجد: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] حينما ذكر الإيمان الذي هو: كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النور:35]هذا هو الإيمان، لا يكون إلا في المساجد، فالمساجد لا تعطي الدنيا إلا الإيمان، ولا تعطي الحكومة إلا الولاء، ولا تعطي المسئولين إلا الطاعة حينما يستقيمون على دين الله عز وجل.

    أما أولئك الذين يستغلون وسائل الإعلام، والذين يطعنون في دين الله عز وجل وفي الله عز وجل، ويطعنون في محمد الهاشمي صلى الله عليه وسلم كما سمعنا شيئاً من أخبارهم، ويمدحون أم جميل أروى بنت حرب زوجة أبي لهب فهم الذين يجب أن توجه إليهم الرقابة، نقول هذا الكلام، ونتحمل مسئوليته، ونسأل الله أن يعيننا على ذلك.

    أسأل الله تعالى أن يثبت أقدامنا على الإيمان حتى نلقى الله عز وجل لم ننقض العهد الذي بيننا وبينه غير مغيرين ولا مبدلين.

    كما نتوجه إلى الله عز وجل بأن يحفظ على الأمة الإسلامية دينها وأخلاقها، وأن يثبت أقدامها.

    كما نسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل أمرنا وأمر المسلمين كافة فيمن خافه واتقاه ونفذ أحكامه وأقام كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يوفق حكومتنا ببطانة صالحة تدلها على الخير وتحذرها عن الشر.

    كما نسأله سبحانه وتعالى أن يوفق الأمة الإسلامية وقادتها إلى ما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    1.   

    الأسئلة

    خطر الازدواجية بين الخير والشر

    السؤال: نرجو توضيح دور الآباء أو ما يمكن أن يفعله الآباء في سبيل تجنيب أبنائهم الازدواجية الخطيرة بين الخير والشر وعدم التفريق بينهما والأخذ بأيديهم إلى بر الأمان؟

    الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم.

    هذه الازدواجية خطيرة جداً؛ لأن الشر والخير دائماً في هذه الحياة يتصارعان، وهذه سنة الله في هذه الحياة، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ [هود:116]، وهذا دليل على أن الخير موجود والشر موجود في الأرض، لكن المعروف أن الفساد منعزل عن الخير والخير منعزل عن الشر، أما أن تكون ازدواجية بهذا الشكل فنفاجأ بإنسان نجده يمتاز بتدين وله أخلاق وله فضائل ثم نجده من جانب آخر له سيئات كبيرة فهذا نوع من الازدواجية، أو أشياء تصل إلى بيوت الناس من هذه الأفلام المحرمة فتقرن بين الخير والشر، ويختلط فيها الخير بالشر، فهذه أشياء يجب أن يميز كل واحد منها عن الآخر، وأنا ضد الذين يدعون إلى مزاحمة الشر بالخير، فأرى أن ينعزل الخير عن الشر، لكن حينما يكون ذلك فأنا أدعو الذين لهم سلطة أن يميزوا أحدهما عن الآخر، وإذا لم يكن ذلك فندعوا كل صاحب بيت إلى أن يميز أحدهما عن الآخر إن استطاع، وإن لم يستطع فإن عليه أن يجنب هذا البيت كل هذه الأشياء، وأن يقف سداً منيعاً على باب داره حتى لا تتسرب إليه هذه الأشياء فتوجد في نفوس أبنائه وذريته ونشئه هذا الخطر الشديد الذي أخشى منه أن يأتي يوم على هؤلاء الأطفال -حينما يختلط ذلك بعقولهم ودمائهم ولحمهم وعظامهم- لا يميزون فيه بين الخير والشر.

    خطر الفساد في وسائل الإعلام

    السؤال: أكثر ما تحصل الازدواجية ويختلط الخير بالشر في وسائل الإعلام، سواء أكانت مقروءة أم مسموعة أم مرئية، فنريد توضيحاً أكبر لأولياء الأمور وما يقع عليهم من مسئولية تجاه هذه الوسائل، خاصة أنّا قد سمعنا كثيراً من علمائنا الذين نثق بعلمهم ودينهم أنهم يحرمون هذه الوسائل أشد التحريم لما فيها من الفساد؟

    الجواب: حينما نتحدث عن الازدواجية فهي ليست خاصة بالوسائل المرئية، بل هي موجودة في المرئية وفي المسموعة وفي المقروءة وما أشبه ذلك، ولذلك أقول: إنك -يا أخي- حينما تشتري صحيفة أو مجلة تحتوي على هذا النوع فإنك حينما تضعها في بيتك ستوجد الفتنة بين أولادك، وحينما تأتي بوسائل تنشر لك هذه الأشياء فتخلط لك الخير بالشر وهي مرئية فإنها ستسبب لك هذا الخطر، وحينما تريد أن تقتني كتاباً في مكتبتك فعليك أن تحسن اختيار هذا الكتاب حتى لا يكون -أيضاً- من هذا النوع الذي نحذر منه.

    نصر الله قريب

    السؤال: من أسباب الاستقامة نصر الله، فأرجو أن توضح لنا كيف ينصر الله عز وجل؟

    الجواب: ليس من الأسباب نصر الله، ولكني أقول: إن نصر الله عز وجل هو الذي ننتظره، وهو الذي يخلص المسلمين من الفتن التي يعيشونها، والمراد بنصر الله سبحانه وتعالى ما يؤيد الله به أولياءه، سواءٌ أكان في المعركة مع العدو الكافر، أو مع العدو الحاقد الذي يلبس ثياب المسلمين ويحمل في جيبه الهوية الإسلامية، إن هذا هو النصر الذي ننتظره من الله سبحانه وتعالى.

    ضرورة الأخذ بوسائل الثبات ودعوة المنتكسين

    السؤال: كان هناك شاب متدين، ثم ما لبث أن انتكس وكسب كثيراً من المعاصي، فنريد توجيهاً للشباب في هذا الأمر؟

    الجواب: في الحديث (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقبلها كيف يشاء) ولذلك نحن إذا رأينا إنساناً منحرفاً فلن نيأس منه، كما أننا إذا رأينا إنساناً مستقيماً فلن نشهد له بالجنة حتى يموت على ملة الإسلام، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: ( من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك).

    ولذلك فإن علينا أن نقوم بعمل جاد لإرجاع مثل هذا الشاب إلى الحق، لاسيما أنه شاب رأى الحق بعينيه، وعاش معه فترة من الزمن وألفه، ولربما يكون تراجعه أيسر من كسب إنسان آخر جديد للاستقامة.

    ومن خلال ذلك -أيضاً- أقول: يجب أن يجدّ الدعاة في كسب هؤلاء الشباب الذين لم يوفقوا بعد إلى هذه الصحوة المباركة التي منّ الله بها على كثير من شباب المسلمين، فلا بد من النشاط في الدعوة، والحمد لله فإن الوسائل ميسرة الآن، والدعوة إلى الله عز وجل هي أفضل السبل وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت:33].

    وأقول أيضاً للإخوة: احذروا أن يكون مصير أحد منا كمصير ذلك الشاب، ولربما يكون هذا الشاب مرت به ظروف قاسية، أو أنه أصابه شيء، فعلينا أن ندرس نفسية مثل هذا الشاب ومن على شاكلته، حتى ذلك السبب الذي كان سبباً لانحرافه، فنرده من حيث خرج، ثم -أيضاً- نستفيد من خلال هذا الأمر بحيث نستطيع أن نحصن -بإذن الله عز وجل- مجموعة أخرى من الشباب من الخطر في عصر الفتن.

    جواز إعطاء المكافآت لمن يحفظون القرآن

    السؤال: رجل عوّد أولاده على منح الجوائز لهم عند قيامهم بحفظ كتاب الله، ويريد أن يربطهم بالجزاء من الله لكي يكون عملهم خالصاً لوجه الله وليس لأجل المكافأة، فكيف يصنع؟

    الجواب: الحقيقة أن هذه المكافأة والإغراءات طيبة جداً، وهذا من الجعل الذي جاء به الإسلام، ولذلك نرجو من الآباء أن يشجعوا الأبناء، ولو أدى ذلك إلى تمييز بعض الأبناء عن بعض في سبيل الاستقامة، دون أن يكون هناك شطط في الهبة؛ لأن الله تعالى حرم ذلك.

    وعلى هذا نقول: إذا عودت أبناءك على أن تشجعهم على الاستقامة بشيء من هذا المال أو بشيء من المتاع فلا مانع من أن تسير في هذا الطريق، ولا يمنع ذلك أن تفضل أحداً منهم على أحد -دون إفراط- في سبيل دعوتهم إلى الاستقامة، ولو أردت أن تنتقل من هذا الطريق إلى طريق أخرى بحيث تردهم إلى الحق دون أن تكون هناك إغراءات أو مكافآت فأيضاً هذا أمر سهل؛ لأنك حينما ترغبهم بهذا الدين وتبين لهم أن الجزاء من عند الله عز وجل أفضل بكثير من هذه الإغراءات المادية التي تقدمها لهم فإنهم في مثل هذه الحالة يقتنعون بإذن الله تعالى.

    ضرورة اختيار الزوج الصالح

    السؤال: رجل كانت له بنت صالحة، فزوجها رجلاً يشرب الخمر ويتهاون بالصلاة، فكيف تستطيع هذه المرأة أن تحسن تربية أبنائها؟

    الجواب: الحقيقة أن هذه مشكلة يخطئ فيها كثير من الآباء، ولذلك أقول: من المؤسف أن طائفة من الآباء حينما يخطب منهم خاطب لا ينظر بعضهم إلا إلى جانب آخر، وهو إما المركز، وإما المال، وإما الشرف والنسب أو ما أشبه ذلك، وهذه بلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن نختار الزوج الصالح، فقال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).

    وهذه الفتنة وهذا الفساد العريض هو الذي يسأل عنه مثل هذا الأخ، ونحن كثيراً ما نفاجأ من خلال الاستفتاءات بالتلفون بما هو من هذا، مثل بنت زوجها أبوها رجلاً يشرب الخمر، وأخرى زوجها أبوها رجلاً لا يصلي، وهكذا.

    والحقيقة أن مثل هذا السؤال لا يجوز أن يكون في مثل هذا الوقت، وإنما يجب أن يكون في وقت الخطبة، فالله عز وجل جعلها أمانة في عنق هذا الأب لا يجوز أن يسلمها إلا لمن يستحق هذه الأمانة.

    ولذلك نقول: إذا كانت تعيش مع رجل لا يصلي فإن الحياة محرمة في مثل هذه الحال، ويجب عليها فوراً أن تطلب الفراق، بل يجب على الأب قبل ذلك أن يطلب الفراق، والمحكمة إذا بلغها مثل هذا الخبر لا بد من أن تطلّق إذا لم يطلّق ذلك الإنسان؛ لأن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تبقى في عصمة رجل كافر؛ لأن الله تعالى نهى عن الاستدامة فكيف الابتداء، فقال: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10] وجمهور علماء المسلمين يقولون: إن ترك الصلاة كفر وردّة عن الإسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الصلاة: (فمن تركها فقد كفر).

    ولذلك أقول: إذا زوجت ابنتك -يا أخي- برجل يشرب الخمر أو لا يصلي فعليك أن تبادر بحل عقدة النكاح قبل أن يكون هناك ولد، لكننا نطالبك قبل ذلك أن تبحث عن هذا الرجل الخاطب قبل أن تزوجه ابنتك، وقبل أن تسلم له فلذة كبدك، وحينئذٍ سينجب لها أولاداً فَسَقة؛ لأن الفسق قد ينتقل مع هذه النطفة، خصوصاً بالنسبة لمدمن الخمر، نسأل الله العافية والسلامة.

    حكم استخدام وسائل الترفيه للدعوة إلى الله

    السؤال: يستخدم بعض الدعاة طرقاً خاطئة للدعوة إلى الله، ومن ذلك ما يدعو إليه بعض الدعاة من استخدام ما يسمى بالأناشيد الإسلامية، أو اللعب بالكرة، أو المسرح، ويزعمون أن ذلك من وسائل الدعوة إلى الله، مع أنها في الواقع قد جرت كثيراً من الشباب إلى نوع انحراف وفساد وترك للقرآن وتفضيل لهذه الأمور على حفظ القرآن، بل على الصلاة، فما رأيكم؟

    الجواب: أنا أخالف هذا الرأي، وأقول: هذه وسائل وليست غايات، فإن هذه الأناشيد الإسلامية التي امتلأت بها المكتبات الصوتية -والحمد لله- أغنت كثيراً من الناس عن الأغاني، مع أنها تحمل معاني فاضلة، وتثير حماس المؤمنين لدينهم.

    وكذلك ما أشار إليه الأخ السائل من الكرة، فنحن نقول: الكرة ليست لذاتها وإنما لغيرها؛ لأن كثيراً من الشباب أُشرب بحب الكرة وشيء من الترفيه واللعب، وما دامت تجذب لنا عدداً من هؤلاء الشباب فإننا نقول: إنها وسيلة طيبة لا مانع من أن يستخدمها الدعاة من أجل أن يجلبوا هؤلاء الشباب من مواقع معينة يقومون فيها بممارسة هذه الألعاب إلى مواقع أخرى نضمن فيها صلاح هؤلاء الشباب.

    فنقول: هذه وسائل وطرق طيبة ما دامت وسائل وليست غايات، وهذه المسرحيات التي أشار إليها السائل التي يعملها هؤلاء الشباب ويقدمونها لبعضهم من أجل أن يثبتوا فكرة معينة في أذهان هؤلاء الشباب، أو من أجل أن يشغلوهم عن مسرحيات أخرى فيها ضرر كبير، أو من أجل يأخذوا هذا الشاب ويجذبونه من حيث يرغب، هذه كلها وسائل طيبة ما دام الهدف من ورائها طيباً، والله أعلم.

    تبرج النساء من أشد الفتن خطراً على المجتمع

    السؤال: أحياناً يمر ببعض الشباب غفلة من كثرة تبرج النساء وعدم الاهتمام من الآباء بذلك، فيزداد الفساد، وتزداد الأمور شراً، فما قولكم؟

    الجواب: الحقيقة أنني أعتبر التبرج من أخطر الأمراض التي تلوث البيئة، فمن أسباب الانحراف (تلويث البيئة)، ذلك أن الشهوة الجنسية البشرية التي ركبها الله في هذا الإنسان لها طاقة شديدة قد يندفع معها الإنسان ويتجرد من عقله وينطلق بعاطفته.

    ولذلك أقول إن التبرج من أخطر الأمور التي توجد الفاحشة في المجتمع، ومن أكبر الأمور التي تصرف طائفة من الشباب عن دينهم ومبدئهم، فهي من أعظم المغريات.

    والتبرج جعله الله تعالى سبباً من أسباب الزنا، ولذلك إذا قرأت سورة النور في نصفها الأول -حينما تكلم الله تعالى عن الزنا- ذكر من أسبابه (التبرج) فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30-31].

    وقوله تعالى: يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31] يدل على أن هناك صلة وثيقة بين النظر وبين الفعل، وعلى هذا فإن التبرج من أخطر الأمور، وهو اليوم يبرز، ولعل بروزه مرتبط بهذه الصحوة الإسلامية، ذلك أن أعداء الإسلام الذين يكرهون الإسلام ويكرهون التوجّه إلى الله عز وجل، ويجدون أن هذه الصحوة الإسلامية عبئاً ثقيلاً عليهم أرادوا أن يبثوا هذا الفساد في هذا المجتمع، فيشجعون المرأة على التبرج.

    ولذلك لا نفاجأ عندما نرى كثيراً من صحف المسلمين تتكلم عن حقوق المرأة وحرية المرأة، وأن المجتمع نصفه معطل، أو لا يتنفس إلا برئة واحدة.

    إن الهدف من وراء ذلك هو كما قال الله تعالى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27]، فهم لا يطالبون بحقوق المرأة حقاً، ولا يريدون حرية المرأة، بل هم أكبر عدو للمرأة، لكنهم يريدون أن تتبرج المرأة ليصطادوها في الماء العكر من جانب، ومن الجانب الآخر يفسدون هؤلاء الشباب الذين اتجهوا إلى الله عز وجل حينما تكون المرأة متبرجة.

    والله تعالى هو المستعان عليهم.

    ونقول للمرأة المسلمة: احذري أن تغتري بهذه الدعوة المضللة، فإن الله تعالى هو الذي أثبت حقوقك وحريتك، وكل شيء لك في كتاب أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755955839