إسلام ويب

يا سامعا لكل شكوى !للشيخ : إبراهيم الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذه الدنيا مصائب ورزايا، ومحن وبلايا .. آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع .. كم في الدنيا من عين باكية، وكم فيها من قلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعدومين .. قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل .. هذا يشكو علة وسقماً، وذاك حاجة وفقراً، وآخر هماً وقلقاً!! عزيز قد ذل، وغني افتقر، وصحيح مرض .. وكل له هموم وآلام، فإلى من يشكون؟ وأيديهم إلى من يمدون؟ إلى رب الأرض والسماوات، مجيب الدعوات، ومقيل العثرات، علام السر والنجوى، وسامع كل أنة وشكوى.

    1.   

    الافتقار إلى الله والاعتماد عليه

    الحمد لله الذي يُطْعِمُ ولا يُطْعَم، منَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا.

    الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصّر من العمى، وفضّل على كثير ممن خلق تفضيلا.

    الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

    أما بعد:

    فيا أيها الأحبة في الله!

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

    وللعام (1417هـ) وفي هذا الجامع المبارك جامع الملك فهد، في مدينة بريدة ، نلتقي بهذه الوجوه الطيبة المباركة، وفي مجلس من مجالس الذكر.

    يا سامعا لكل شكوى..

    يا خالق الأكوان! أنت المرتجى     وإليك وحدك ترتقي صلواتي

    يا خالقي! ماذا أقول وأنت تعـ     ـلمني وتعلم حاجتي وشكاتي

    يا خالقي! ماذا أقول وأنت مطـ     ـلع على شكواي والأناتِ

    اللهم يا موضع كل شكوى! ويا سامع كل نجوى! ويا شاهد كل بلوى! يا عالم كل خفية! ويا كاشف كل بلية! يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين! ندعوك دعاء من اشتدت فاقته، وضعفت قوته، وقلّت حيلته، دعاء الغرباء المضطرين، الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت، يا أرحم الراحمين! اكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.

    يا سامعاً لكل شكوى! أعن المساكين والمستضعفين، وارحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذا الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.

    معاشر الإخوة والأخوات! إن في تقلب الدهر عجائب، وفي تغير الأحوال مواعظ، توالت العقبات وتكاثرت النكبات، وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم، ووهنت صلتهم به، اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة، فسادت موجات القلق والاضطراب والضعف والهوان، وعمّ الهلع والخوف من المستقبل، بل وعلى المستقبل .

    تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

    جميع الخلق مفتقرون إلى الله في كل شئونهم وأحوالهم، وفي كل كبيرة وصغيرة، وفي هذا العصر تعلق الناس بالناس، وشكا الناس إلى الناس، ولا بأس أن يستعان بالناس فيما يقدرون عليه، لكن أن يكون المعتمد عليهم والسؤال إليهم والتعلق بهم فهذا هو الهلاك بعينه، فإن من تعلق بشيء وُكِل إليه.

    نعتمد على أنفسنا وذكائنا بكل غرور وعجب وصلف، أما أن نسأل الله العون والتوفيق، ونلح عليه بالدعاء، ونحرص على دوام الصلة بالله في كل الأشياء وفي الشدة والرخاء، فهذا آخر ما يفكر به بعض الناس.

    فقيرا جئت بابك يا إلهي     ولست إلى عبادك بالفقير

    غني عنهـم بيقين قلبي     وأطمع منك في الفضل الكبير

    إلهي ما سألت سواك عونا     فحسبي العون من رب قدير

    إلهي ما سألت سواك عفوا     فحسبي العفو من رب غفور

    إلهي ما سألت سواك هديا     فحسبي الهدي من رب بصير

    إذا لم أستعن بك يا إلهي     فمن عوني سواك ومن مجيري؟

    الفرار إلى الله

    أيها الأخ! إن الفرار إلى الله واللجوء إليه في كل حال، وفي كل كرب وهمّ، هو السبيل للتخلص من ضعفنا وفتورنا وذلّنا وهواننا.

    إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا.. آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع، كم في الدنيا من عين باكية، وكم فيها من قلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعدومين.. قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل.. هذا يشكو علة وسقماً، وذاك حاجة وفقراً، وآخر هماً وقلقاً!!

    عزيزُ قد ذلَّ، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مَرِض.. رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخر يشكو ويئن من ظلم سيده، وثالث كسدت وبارت تجارته.

    شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.. هذا مسحور وذاك مدين، وآخر ابتلي بالإدمان والتدخين، ورابع أصابه الخوف ووسوسة الشياطين.

    تلك هي الدنيا، تُضحِك وتُبكي، وتجمع وتشتت.. شدة ورخاء، وسراء وضراء، وصدق الله العظيم: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23].

    الشكوى والتضرع إلى الله وحده

    أيها الأخ! السؤال الذي يجب أن يكون: هؤلاء إلى من يشكون؟ وأيديهم إلى من يمدون؟

    يجيبك واقع الحال: على بشر مثلهم يترددون، وللعبيد يتملقون، يسألون ويلحون، وفي المديح والثناء يتقلبون، وربما على السحرة والكهنة يتهافتون.

    نعم والله! تؤلمنا شكاوي المستضعفين، وزفرات المساكين، وصرخات المنكوبين، وتدمع أعيننا -يعلم الله!- لآهات المتوجعين وأنات المظلومين، وانكسار الملذوعين.

    لكن أليس إلى الله وحده المشتكى؟ أين الإيمان بالله؟ أين التوكل على الله؟ أين الثقة واليقين بالله؟

    وإذا عرتك بلية فاصبر لها     صبر الكريم فإنه بك أرحم

    وإذا شكوت إلى ابن آدم إنمـا     تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

    ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع شسع نعلهم؟؟ نعم. حتى سير النعل كانوا يسألون الله، بل كانوا يسألون الله الملح.

    يا أصحاب الحاجات! أيها المرضى! أيها المدينون! أيها المكروب والمظلوم! أيها المعسر والمهموم! أيها الفقير والمحروم! يا من يبحث عن السعادة الزوجية! يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية! يا من يريد التوفيق في الدراسة والوظيفة! يا من يهتم لأمر المسلمين! يا كل محتاج! يا من ضاقت عليه الأرض بما رحبت! لماذا لا نشكو إلى الله أمرنا، وهو القائل: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]؟!

    لماذا لا نرفع أكف الضراعة إلى الله؛ وهو القائل: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186]؟!

    لماذا ضعف الصلة بالله وقلة الاعتماد على الله، وهو القائل: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77]؟!

    أيها المؤمنون! أيها المسلمون! يا أصحاب الحاجات! ألم نقرأ في القرآن قول الحق عز وجل: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [الأنعام:42] لماذا؟ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]؟!

    فأين نحن من الشكوى والتضرع إلى الله؟ أين نحن من الإلحاح على الله؟

    سبحان الله! ألسنا بحاجة إلى ربنا؟ أنعتمد على قوتنا وحولنا؟ والله ثم والله! لا حول لنا ولا قوة إلا بالله! والله لا شفاء إلا بيد الله، ولا كاشف للبلوى إلا الله، ولا توفيق ولا فلاح، ولا سعادة ولا نجاح إلا من الله.

    العجيب والغريب -أيها الأخ!- أن كل مسلم يعلم هذا، ويعترف بهذا، بل ويقسم على هذا، فلماذا إذاً تتعلق القلوب بالضعفاء والعاجزين؟ ولماذا نشكوا إلى الناس ونلجأ للمخلوقين؟

    سلَّ الله ربك ما عنده     ولا تسأل الناس ما عندهم

    ولا تبتغِ من سواه الغنى     وكنْ عبده لا تكنْ عبدهم

    فيا من إذا بُليت سلاك أحبابك، وهجرك أصحابك! يا من نزلت به نازلة، أو حلّت به كارثة! يا من بُليت بمصيبة أو بلاء! ارفع يديك إلى السماء، وأكثر الدمع والبكاء، وألح على الله بالدعاء، وقل: يا سامعاً لكل شكوى!

    إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله، وقل: يا سامعاً لكل شكوى!

    توكل على الله وحده، وأعلن بصدق أنك عبده، واسجد لله بخشوع، وردد بصوت مسموع: يا سامعا لكل شكوى!

    أنت الملاذ إذا ما أزمة شمـلت     وأنت ملجأ من ضاقت به الحيل

    أنت المنادى به في كل حـادثة     أنت الإله وأنت الذخر والأمل

    أنت الرجاء لمن سدت مذاهبه     أنت الدليل لمن ضّلَّتْ به السبل

    إنا قصدناك والآمال واقعة     عليك والكل ملهوف ومبتهل

    1.   

    الأنبياء والدعاء

    إن الأنبياء والرسل وهم خير الخلق وأحب الناس إلى الله، نزل بهم البلاء واشتد بهم الكرب، فماذا فعلوا؟! وإلى من لجأوا؟

    أخي الحبيب! أختصر لك الإجابة: إنه التضرع والدعاء، والافتقار إلى رب الأرض والسماء، إنها الشكاية إلى الله وحسن الصلة بالله.

    نماذج من الاستجابة لدعاء الأنبياء

    هذا نوح عليه السلام يشكو أمره إلى الله ويلجأ إلى مولاه، قال تعالى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات:75-76].

    كانت المناداة.. كانت المناجاة؛ فكانت الإجابة من الرحمن الرحيم.

    و قال: وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء:76] وقال عزّ من قائل: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر:10-11].

    هذا أيوب عليه السلام ابتلاه الله بالمرض ثمانية عشر عاماً، حتى إن الناس ملوا زيارته لطول المدة، فلم يبق معه إلا رجلان من إخوانه يزورانه، لكنه لم ييأس عليه السلام، بل صبر واحتسب، وأثنى الله عليه فقال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44].

    أواب، أي: رجاع منيب إلى ربه، ظل على صلته بربه، وثقته به ورضاه بما قسم له، توجه إلى ربه بالشكوى؛ ليرفع عنه الضر والبلوى.

    قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] فماذا كانت النتيجة؟

    قال الحق عز وجل العليم البصير بعباده، الرحمن الرحيم: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84].

    هذا يونس عليه السلام رفع الشكاية إلى الله فلم ينادِ ولم يناجِ إلا الله، قال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] فماذا كانت النتيجة؟

    فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88].

    و زكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89] الذين يشكون العقم وقلة الولد: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89] فماذا كانت النتيجة؟

    فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

    إذاً: لماذا استجاب الله دعاءهم؟ لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات.. كانوا لا يملون الدعاء، بل كان القلب متصلاً متعلقاً بالله؛ لذلك قال الله عنهم: وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] خاشعين متذللين معترفين بالتقصير، فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان.

    يعقوب عليه السلام قال: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] انظروا إلى اليقين، انظروا إلى المعرفة برب العالمين: وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] فاستجاب الله دعاءه وشكواه، ورد عليه يوسف وأخاه.

    و هذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء، فلجأ إلى الله وشكا إليه ودعاه، فقال: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:33-34].

    وأخبر الله عن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فقال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال:9] استغاثة.. لجاءة وشكوى إلى الله، صلة بالله سبحانه وتعالى، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].

    و هكذا أيها الحبيب! إننا حين نستعرض حياة الرسل جميعاً، كما قصها علينا القرآن الكريم، نرى أن الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها، وأن الصبر وحسن الصلة بالله ودوام الالتجاء وكثرة الدعاء وحلاوة الشكوى كان قوامها.

    و ما أشرنا إليه كان نماذج من الاستجابة للدعاء، ومن نظر في كتب السير والتفاسير، وقف على شدة البلاء الذي أصاب الأنبياء، وعلم أن الاستجابة جاءت بعد إلحاح ودعاء، واستغاثة ونداء.

    إنها آيات بينات، وبراهين واضحات، تقول بل وتعلن: أن من توكل واعتمد على الله وأحسن الصلة بمولاه، استجاب الله دعاه وحفظه ورعاه، فإن لم يكن ذلك في الدنيا، كان في الآخرة، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى [القصص:60].

    إنها صفحات من الابتلاء والصبر، معروضة للبشرية لتسجل: أن لا اعتماد إلا على الله، وأن لا فارج للهمِّ ولا كاشف للبلوى إلا الله.

    الدعاء طريق الاستعلاء

    هذا هو طريق الاستعلاء، أن ننظر إلى السماء وأن نلح بالدعاء؛ لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوة والسعادة، وأنك تأوي إلى ركن شديد، أما الشكوى إلى الناس والنظر إلى ما في أيدي الناس، فيشعرك بالضعف والذل والإهانة والتبعية.

    يا أهل التوحيد! أليس هذا أصلاً من أصول التوحيد؟ إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوب بخالقها في وقت الشدة والرخاء والخوف والأمن والمرض والصحة، بل وفي كل حال وزمان.

    وإن ما نراه اليوم من تعلق القلوب بالمخلوقين، وبالأسباب وحدها دون اللجأ إلى الله، لهو والله نذير خطر لتزعزع عقيدة التوحيد في النفوس.

    أيها الأخ! إن الشكوى إلى الله، والتضرع إلى الله، وإظهار الحاجة إليه، والاعتراف بالافتقار إليه، من أعظم عرى الإيمان وثوابت التوحيد، وبرهان ذلك الدعاء والإلحاح في السؤال، والثقة واليقين بالله في كل حال.

    1.   

    الأدعية النبوية عند المرض

    ولقد زخرت كتب السنة بأنواع من الدعاء تجعل المسلم على صلة بربه، وفي حرز من عدوه يقضى أمره ويكفى همه، في كل مناسبة دعاء.. في اليقظة والمنام، والحركة والسكون.. قياماً وقعودا وعلى الجنوب.. ابتهال وتضرع في كل ما أهمَّ العبد، وهل إلى غير الله مفر؟ أم هل إلى غيره ملاذ؟

    ففي المرض -مثلاً- الأدعية كثيرة والأحاديث مستفيضة، وإليك على سبيل المثال ما أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها).

    و أخرج البخاري ومسلم -أيضاً- من حديث عائشة أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما) أي: لا يترك سقما.

    وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: (أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم - انظروا إلى رسول الله.. إلى قدوتنا وحبيبنا يربي أصحابه على الاعتماد واللجاءة إلى الله-: ضع يدك على الذي تألم من جسدك) الإرشاد أولاً إلى الله، التعلق أولاً بالله، لم يرشده أولاً لطبيب حاذق ولا بأس بهذا، لكن التعلق بالله أولاً (... ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: باسم الله، باسم الله، باسم الله، ثم يقول سبعاً: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر).

    وفي رواية: (امسحه بيمينك سبع مرات) وفي رواية قال عثمان : [فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم].

    سبحان الله! اسمعوا لحسن الصلة بالله والتوكل على الله: [فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم].

    أيها المريض! اعلم أن من أعظم أسباب الشفاء، التداوي بالرقى الشرعية من القرآن والأدعية النبوية؛ ولها أثراً عجيباً في شفاء المريض وزوال علته، لكنها تريد قلباً صادقا وذلاً وخضوعاً لله.. رددها أنت بلسانك فرقيتك لنفسك أفضل وأنجع، فأنت المريض، وأنت صاحب الحاجة، وأنت المضطر، وليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة، وما حك جلدك مثل ظفرك.

    فتوكل على الله بصدق، وألح عليه بدون ملل، وأظهر ضعفك وعجزك وحالك وفقرك إليه، وستجد النتيجة العجيبة إن شاء الله، ثقةً بالله.

    فإلى كل مريض مهما كان مرضه أقول: أخي الحبيب شفاك الله وعافاك! اعلم أن الأمراض من جملة ما يبتلي الله به عباده، والله عز وجل لا يقضي شيئا إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وربما كان مرضك لحكمة خفيت عليك أو خفيت على عقلك البشري الضعيف: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216].

    1.   

    الفوائد والحكم من الأمراض والأسقام

    أيها المحب شفاك الله! هل علمت أن للأمراض والأسقام فوائد وحكماً؟ أشار ابن القيم إلى أنه أحصاها فزادت على مائة فائدة، وانظر كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، صفحة [525].

    تكفير السيئات

    أيها المسلم! أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ويعافيك، هل سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) والحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

    وهل سمعت أنه صلى الله عليه وسلم زار أم العلاء وهي مريضة، فقال لها: (أبشري يا أم العلاء! فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة) والحديث أخرجه أبو داود وحسنه المنذري وقال الألباني في الصحيحة : هذا سند جيد.

    وقال ابن عبد البر رحمه الله: الذنوب تكفرها المصائب والآلام والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه. انتهى كلامه رحمه الله.

    و الأحاديث والآثار في هذا مشهورة، وليس هذا مقام بسطها، لكن المراد هنا أننا نرى حال بعض الناس إذا مرض فهو يفعل كل الأسباب المادية من ذهاب للأطباء وأخذ للدواء وبذل للأموال وسفر للقريب والبعيد، ولا شك أن هذا مشروع محمود، ولكنّ الأمر الغريب أن يطرق كل الأبواب، وينسى باب مسبب الأسباب، بل ربما لجأ إلى السحرة والمشعوذين -نعوذ بالله من حال الشرك والمشركين- ألم يقرأ هذا وأمثاله في القرآن: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]؟

    أيها المريض! اعلم أن الشافي هو الله ولا شفاء إلا شفاؤه.

    أيها المريض! بل يا كل مصاب أيا كانت مصيبته! هل سألت نفسك: لماذا ابتلاك الله بهذا المرض أو بهذه المصيبة؟ ربما لخير كثير، أو لحكم لا تعلمها ولكنّ الله يعلمها.

    ألم يخطر ببالك أنه أصابك بهذا البلاء، ليسمع صوتك وأنت تدعوه، ويرى فقرك وأنت ترجوه.

    استخراج مكنون عبودية الدعاء

    فمن فوائد المصائب: استخراج مكنون عبودية الدعاء، قال أحدهم: سبحان من استخرج الدعاء بالبلاء، وفي الأثر أن الله ابتلى عبداً صالحاً من عباده، وقال لملائكته: (لأسمع صوته) يعني: بالدعاء والإلحاح .

    أيها المريض! المرض يريك فقرك وحاجتك إلى الله، وأنه لا غنى لك عنه طرفة عين، فيتعلق قلبك بالله وتقبل عليه بعد أن كنت غافلاً عنه، وصدق من قال: فربما صحت الأجسام بالعلل.

    فارفع يديك، وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بذُلِّك وضعفك.

    في رواية عن سعيد بن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به، إذ رجعت حصاة منها عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تؤلمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئاً يقرأ: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] فقال الرجل: يا رب! أنت المجيب وأنا المضطر، فاكشف عني ضر ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.

    لا تعجب! إن ربي لسميع الدعاء، إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون.

    أيها المريض! إياك وسوء الظن بالله إن طال بك المرض، فتعتقد أن الله أراد بك سوءاً، أو أنه لا يريد معافاتك، أو أنه ظالم لك، فإنك إن ظننت ذلك فإنك على خطر عظيم.

    أخرج الإمام أحمد بسند صحيح كما في الصحيحة من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله).

    يعني: ما كان في ظنه فإني فاعله به، فأحسن الظن بالله تجد خيراً إن شاء الله.

    لا تجزعنَّ إذا نالتك موجعةٌ     واضرع إلى الله يسرع نحوك الفرج

    ثم استعن بجميل الصبر محتسبـا     فصبح يسرك بعد العسر ينسلج

    فسوف يدلج عنك الهم مرتحلا     وإن أقام قليلاً سوف يدّلج

    هذا في المرض، وأطلت فيه لكثرة المرضى وحاجة الناس إلى مثل هذه التوجيهات، وهي تحتاج إلى رسالة خاصة، لكن حسبي ما ذكرته الآن؛ لأن الموضوع عام في المصائب والآلام.

    1.   

    الأدعية النبوية لقضاء الدين

    ومن المصائب والآلام التي يحتاج الناس فيها إلى الشكوى إلى الله: تراكم الديون وكثرة المعسرين.

    كم من مدين عجز عن الوفاء، وكم من معسر يعيش في شقاء، همٌ في الليل وذلٌ في النهار، أحزان وآلام، لا يغمض في منام، ولا يهنأ في طعام، طريد للغرماء أو مع السجناء، صبية صغار وبيت للإيجار، وزوجة مسكينة لا تدري أتطرق أبواب المحسنين، أو تسلك طريق الفاسقين.

    هذه رسالة مؤلمة من زوجة إلى زوجها في السجن بسبب الديون، تقول فيها الزوجة:

    ( لم أتمتع معك في حياتنا الزوجية إلا فترة من الزمن، حتى غيبوك في غياهب السجون، كم سنة غبت عني، لا أدري ما فعل الله بك، ولا أدري عنك، أحي فترجى أم ميت فتنعى، ليتك ترى حالي وحال أولادك، ليتك ترى حال صغارك، لست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك، وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة، وأنا في ذمتك وعهدك، أم أطلب الطلاق ويضيع أولادك... ) إلى آخر الرسالة التي ذكرها صاحب كتاب: نداء إلى الدائنين والمدينين .

    و أقول -أيها الحبيب!-: تصوّر حال هذا الزوج كيف يكون وهو يقرأ هذه الكلمات، ديون وسجون وهموم وأولاد، ذل وخضوع للناس.

    و اسمع إلى هذا الرجل وهو يشكو حاله فيقول: أنا رجل سجين بسبب مبلغ من المال، وقد صار لي في السجن أكثر من سنة ونصف، ولا يقبل خصمي كفيلا، وأنا معسر وصاحب عائلة، فهل يجوز سجني؟

    إلى هؤلاء وأمثالهم أقول: لماذا طرقتم الأبواب كلها ونسيتم باب: (من يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائبتين) كما في سنن أبي داود والترمذي وقال ابن حجر : سنده جيد .

    قال السري السقطي : كنْ مثل الصبي إذا اشتهى على أبويه شهوة، فلم يمكناه قعد يبكي عليهما، فكن أنت مثله، فإذا سألت ربك ولم يعطك فاقعد فابك عليه. كما في شعب الإيمان للبيهقي .

    ولرب نازلة يضيق بها الفتى     ذرعا وعند الله منها مخرج

    ضاقت فلما استحكمت حلقاتها     فرجت وكان يظنها لا تفرج

    و من الأدعية في قضاء الدين، ما أخرجه أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم، فرأى فيه رجلاً من الأنصار، يقال له أبو أمامة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أراك جالساً في المسجد في غير وقت صلاة، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم : أفلا أعلمك كلاماً -يعلق القلوب بالله صلوات الله وسلامه عليه- أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني).

    وروى البيهقي في فضائل الأعمال، عن حماد بن سلمة أن عاصم بن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة، -أي: حاجة وفاقة- فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري، فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الجبانة-أي: إلى الصحراء- فصليت ما شاء الله تعالى، ثم وضعت وجهي على الأرض، وقلت: يا مسبب الأسباب! يا مفتح الأبواب! ويا سامع الأصوات! يا مجيب الدعوات! يا قاضي الحاجات! اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك -يلح على الله بهذا الدعاء- قال: فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعة بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيساً أحمر، فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون ديناراً وجوهراً ملفوفاً في قطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم وأفضلت -أي: أبقيت- الدنانير فاشتريت منها عقاراً، وحمدت الله تعالى على ذلك.

    لا تعجب أيها الأخ! إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

    1.   

    الأدعية النبوية عند الهم والقلق

    ومن الأدعية عند الهمّ والقلق ما أخرجه أحمد في المسند من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب أحد قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجا) وفي رواية: (فرحا) قال: (فقيل: يا رسول الله! ألا نتعلمها؟! فقال: بلى. ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها) صححه ابن حبان وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية.

    أيها الأخ! إن الإنسان منا ضعيف، فكيف إذا اجتمعت عليه الهموم والأحزان، وشواغل الدنيا ومشاكلها فزادته ضعفا، وجعلته فريسة للهم والقلق والتمزق النفسي.

    انظر إلى العيادات النفسية وكثرة المراجعين لها، شباب وفتيات في أعمار الزهور، أين هؤلاء من الاعتصام بالله والاتصال والشكوى إلى الذي قدّر الهموم والغموم، وقضى بالمصائب والأحزان؟ يتصل به متذللا معترفاً بذنبه طارقاً بابه مستعيناً به، مستيقناً بأنه هو القادر على كشفها دون سواه، وما سواه إلا أسباب هو الذي يقدّرها ويهيئها للعبد.

    إن الله تعالى يقول: خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28] قال ابن القيم في طريق الهجرتين : فإنه -أي: الإنسان- ضعيف البنية.. ضعيف القوة.. ضعيف الإرادة.. ضعيف العلم.. ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في صيّب الحدور، فبالاضطرار لا بد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه... إلى آخر كلامه.

    إذاً: فلنتعلم هذا الحديث كما أوصى صلى الله عليه وسلم، فإن فيه خضوعاً وخشوعاً لله.. فيه اعتراف بالعبودية والذل لله.. فيه توسل واستغاثة بجميع أسماء الله ما يُعرف منها وما لا يُعرف، ما كتب وما أخفى.

    وأبشر أخي الحبيب! فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) كما في صحيح البخاري وصحيح مسلم.

    يا صاحب الهم! إن الهم منفرج     أبشر بخير فإن الفارج الله

    إذا بليت فثق بالله وارض بـه     إن الذي يكشف البلوى هو الله

    1.   

    الأدعية النبوية عند النوازل والفتن والخوف

    ومن الأدعية عند النوازل والفتن والخوف، ما أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: (اللهم إنّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم) وكان يقول صلى الله عليه وسلم عند لقاء العدو: (اللهم أنت عضدي وأنت ناصري، بك أصول وبك أجول، وبك أقاتل) كما عند أبي داود والترمذي وأحمد.

    و في صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: [حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم]

    فإذا كان المحيي والمميت والرزاق هو الله، فلماذا التعلق بغير الله؟ ولماذا الخوف من الناس؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك).

    أيها المسلم! لا يمكن للقلب أبداً أن يسكن أو يرتاح أو يطمئن لغير الله، فاحفظ الله يحفظك، وردد: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].

    رأى موسى البحر أمامه والعدو خلفه فقال: كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] إنها العناية الربانية، إذا ركن إليها العبد صادقاً مخلصاً.

    نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الغار، ويرى أقدام أعدائه على الباب -أي: باب الغار- ويلتفت إلى صاحبه ويقول: (لا تحزن إن الله معنا).

    والأعجب من ذلك وهو مطارد مشرد، يبشر سراقة بأنه سوف يلبس سواري كسرى، هكذا الإيمان والاعتصام بالله. (كان صلى الله عليه آله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) أي: إذا نزل به أمر أو أصابه غم فزع إلى الصلاة.. يلجأ إلى الله.. يشكو إلى الله، ويناجي مولاه، إنها الثقة بالله، الثقة بالله عند الشدائد، فهو يأوي إلى ركن شديد.

    فيا من وقعت في شدة! ارفع يديك إلى السماء، وألح على الله بالدعاء والله يعصمك من الناس.

    سهام الليل

    وإن كنت مظلوما فأبشر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ لما بعثه إلى اليمن : (واتق دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) كما في صحيح البخاري .

    وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه) أخرجه أحمد ، وحسنه الألباني كما في الصحيحة .

    ألا قولوا لشخص قد تقوى     على ضعفي ولم يخش رقيبه

    خبأت له سهاماً في الليالي     وأرجو أن تكون له مصيبه

    أيها الأخ! وأيتها الأخت! إن من أعظم البلايا وأشد الرزايا، ما يصيب المسلمين في كل مكان من غزو واجتياح، وتعديات ومظالم، وفقر وتجويع، حتى أصاب بعض النفوس الضعيفة، اليأس والقنوط، والإحباط وفقدان الثقة والأمل.

    لماذا أيها الأخ؟! أليس الأمر لله من قبل ومن بعد؟! أليس حسبنا الله وكفى بالله حسيبا؟! أليس الله بقادر؟! أليس هو الناصر وكفى بالله نصيرا؟!

    ألا يعلم الله مكرهم؟! ألم يقل: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]؟! أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36].. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].

    ألم يقل: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]؟! ألم يقل: فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137]؟!

    أيها الأخ الحبيب! اسمع وعِ وأعلِم وأعلِن: إن مصيبتنا ليست بقوة عدونا، إنما هي بضعف صلتنا بربنا، وضعف ثقتنا، وقلة اعتمادنا عليه، لنفتش في أنفسنا عند وقوعنا في الشدائد والمحن، أين الضراعة والشكوى إلى الله؟! أين اللجاءة والمناجاة لله؟!

    ليس أفضل عند الله من الدعاء؛ لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته وغناه.

    فن الدعاء والشكوى

    أيها المسلم! نريد أن نتعلم فنّ الدعاء، والتذلل والخضوع والبكاء، لنعترف بالفقر إليه ولنظهر العجز والضعف بين يديه، أليس لنا في رسول الله قدوة؟ أليس لنا فيه أسوة؟!

    أوذي أشد الأذى، وكُذِّب أشد التكذيب.. اتهم بعرضه، وخدشت كرامته، وطرد من بلده.. عاش يتيماً وافتقر، ومن شدة جوعه ربط على بطنه الحجر.. قيل عنه كذاب وساحر، ومجنون وشاعر.. توضع العراقيل في طريقه، وسلا الجزور على ظهره.. يشج رأسه، وتكسر ثنيته، يقتل عمه، جمّعوا عليه الأحزاب، وحاصره المشركون والمنافقون واليهود.

    يذهب إلى الطائف ؛ ليبلغ دعوته، فيقابل بالتكذيب والسب والشتم، ويطرد ويلاحق ويرمى بالحجارة، فماذا فعل بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه؟!

    أين ذهب؟ من يسأل؟ على من يشكو؟!

    إلى ذي الجبروت والملكوت، إلى القوي العزيز.

    فأعلن صلى الله عليه وآله وسلم الشكوى، ورفع يديه بالنجوى، دعا وألح وبكى، وتظلم وتألم وشكا، لكن اسمع إلى فنِّ الشكوى وإظهار الضعف والعجز والافتقار منه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني؟ أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطاً عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السماوات وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل عليَّ غضبك أو تنزل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).

    هكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم.. ضراعة ونجوى لربه.

    والحديث أخرجه الطبراني في الكبير وقال الهيثمي في المجمع : رواه الطبراني . وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة ورجاله ثقات .

    أيها الأخ! لماذا نشكوا إلى الناس، ونبث الضعف والهوان والهزيمة النفسية في مجالسنا، وننسى أو نتكاسل عن الشكوى إلى من بيده الأمر من قبل ومن بعد؟!

    قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ [الأنعام:63-64] .

    أليس فينا من بينه وبين الله أسرار؟! أليس فينا أشعث أغبر ذو طمرين لو أقسم على الله لأبره؟!

    أليس فينا من يرفع يديه إلى الله في ظلمة الليل، يسجد ويركع، ينتحب إلى الله، ويرفع الشكوى إلى الله؟!

    فلنشكُ إلى الله.. فلنقوِ الصلة بالله: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].

    1.   

    الأدعية النبوية في الكرب

    ومن الأدعية في المصيبة والكرب والشدة والضيق، ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم) وفي رواية: (كان إذا أحزبه أمرٌ قال ذلك).

    قال النووي في شرح مسلم : هو حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة .

    قال الطبري : كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب.

    وأخرج أبو داود وأحمد عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت) حسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية ، والألباني كما في صحيح الجامع .

    وأخرج الترمذي وأحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] فإنه لم يدع بها رجلٌ مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) حسنه ابن حجر في الفتوحات وصححه الألباني كما في صحيح الجامع .

    لما قالها يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت، قال الله عز وجل: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88].

    قال ابن كثير في تفسيره : وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88] أي: إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا، ولاسيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب في الدعاء بها عن سيد الأنبياء. انتهى كلامه.

    وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها، قالت: فلما مات أبو سلمة ، قلت: -أي: قالت في نفسها- أي المسلمين خيرٌ من أبي سلمة ؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    إذاً: فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب ومعناه باختصار:

    (إنا لله): توحيد وإقرار بالعبودية والملك.

    (وإنا إليه راجعون): إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا.

    إذاً: فالأمر كله لله، فلا ملجأ منه إلا إليه، والله عز وجل يقول: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].

    1.   

    صور ومواقف

    وإليك أيها الحبيب! أمثلة ومواقف للذين لجأوا إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء، وأدركوا أن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء، فهو السلاح الذي يستدفع به البلاء، ويرد به شر القضاء.

    فادع بهذا الدعاء

    عن أصبغ بن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثاً لم نطعم شيئا -أي: من الجوع- فخرجت إلي ابنتي الصغيرة وقالت: يا أبتِ! الجوع! -تشكو الجوع- قال: فأتيت الميضأة -انظروا إلى من اللجاءة ! انظروا إلى من يلجأون- فأتيت الميضأة، فتوضأت وصليت ركعتين، وأُلهمت دعاء دعوت به، في آخره: اللهم افتح عليّ منك رزقاً لا تجعل لأحد عليّ فيه منة، ولا لك عليّ في الآخرة فيه تبعة، برحمتك يا أرحم الراحمين! ثم انصرفت إلى البيت، فإذا بابنتي الكبيرة وقد قامت إليّ وقالت: يا أبه! جاء رجل يقول أنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق، وحمال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرئوا أخي السلام وقولوا له: إذا احتجت إلى شيء فادع بهذا الدعاء، تـأتك حاجتك، قال أصبغ بن زيد : والله ما كان لي أخ قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير.

    فقلت للفكر لما صار مضطربا     وخانني الصبر والتفريط والجلد

    دعهـا سماوية تجري على قدر     لا تعترضها بأمر منك تنفسد

    فحفني بخفي اللطف خـالقنا     نِعم الوكيل ونِعم العون والمدد

    أتدل العباد على الله ثم تنساه؟!

    وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعداً فقال لي أهلي: قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال: فتوضأت -نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضوان الله تعالى عليهم- فتوضأت وكان لي صديقٌ لا يزال يقسم علي بالله إن يكن بي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد، فذكرت ما روي عن أبي جعفر قال: من عرضتْ له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل، قال: فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد، أفرغ عليَّ النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق ! أتدل العباد على الله ثم تنساه؟! قال: فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني به ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله، وانصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن أقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم، إن ربي سميع الدعاء.

    فلا تعجب أيها الحبيب! وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] واسمع لدعاء ابن القيم بالفاتحة، يقول: ومكثت بـمكة مدة يعتريني أدواء لا أجد لها طبيباً ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، فكان كثيرٌ منهم يبرأ سريعا. ذكر ذلك في الجواب الكافي وذكره -أيضاً- في زاد المعاد.

    وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتفق عليه، لما قرأ على سيد الحي الفاتحة، قال: (فكأنما نشط من عقال) فهذا يشهد أيضاً بفضل الفاتحة.

    ما له؟! قطع الله صوته

    ومن المواقف الجميلة والطريفة في الدعاء، أنه كان لـسعيد بن جبير ديك، كان يقوم من الليل بصياحه، فلم يصح ليلة من الليالي، حتى أصبح، فلم يصلِّ سعيد تلك الليلة -أي: لم يصل قيام الليل- فشق عليه ذلك، فقال: [ما له قطع الله صوته؟ -يعني: الديك، وكان سعيد مجاب الدعوة- فما سُمِع لذلك الديك صوتٌ بعد ذلك الدعاء، فقالت أم سعيد : يا بني! لا تدع على شيء بعدها] ذكر ذلك الذهبي في السير .

    ساقها لي بدعائي

    وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله: أن رجلاً من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية، وكان عابداً قانتاً منيباً ذاكراً لله، قال: فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت ألتمس ماء لأهلي، فوجدت أن الغدير قد جفّ، فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة وأدركنا الظمأ، واحتاج أطفالي إلى الماء، فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب، فقمت فتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين، ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] قال: والله ما هو إلا أن قمت من مقامي وليس في السماء من سحاب ولا غيم، وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء، واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها، فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضأنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى، ثم ارتحلت قليلاً خلف هذا المكان، وإذا الجدب والقحط، فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي، فحمدت الله عز وجل.

    وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28].

    عليك بالثلث الأخير من الليل

    وذكر -أيضاً- أن رجلاً مسلماً ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها، وطلب بأن تمنحه الجنسية، فقال: فأغلقت في وجهه الأبواب وحاول هذا الرجل كل المحاولة واستفرغ جهده، وعرض الأمر على كل معارفه فبارت الحيل وسدت السبل، ثم لقي عالماً ورعاً فشكا إليه الحال، فقال له: عليك بالثلث الأخير من الليل، ادع مولاك فإنه الميسر سبحانه وتعالى. قال هذا الرجل: فوالله لقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات، وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم، وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه فما هو إلا بعد أيام، وتقدمت بمعروض عادي ولم أجعل بيني وبينهم واسطة، فذهب هذا الخطاب، وما هو إلا أيام وفوجئت في بيتي أني أُدعى وأُسلم الجنسية، وكانت في ظروف صعبة.

    إن الله سميع مجيب ولطيف قريب، لكن التقصير منا، فلا بد أن نلحّ على الله وندعوه وأبشروا: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39].

    الباب الذي لا يغلق

    وأذكر أن طالباً متميزاً في دراسته حصل له ظرف في ليلة امتحان إحدى المواد، ولم يستطع أن يذاكر جميع المنهج المقرر للمادة إلا بقدر الثلث، فاهتمّ واغتمّ وضاقت عليه نفسه، ولم يستطع الإفادة من باقي الوقت لاضطراب النفس وطول المنهج، فما كان منه إلا أن توضأ وصلى ركعتين، وألـحّ على الله بأسمائه وصفاته وباسمه الأعظم ، يقول الطالب: فدخلت قاعة الامتحان ووزعت أوراق الأسئلة وقبل أن أنظر فيها دعوت الله عز وجل ورددت بعض الأذكار، ثم قلبت الورقة فإذا الأسئلة أكثرها من ذلك الثلث الذي درسته، فبدأت بالإجابة، ففتح الله عليَّ فتحاً عجيباً لم أكن أتصوره ولكن ربي سميع مجيب.

    فإلى كل الطلاب والطالبات! أقول: لماذا غفلت عن الدعاء والشكوى إلى الله، وأنتم تشكون إلى بعضكم وتزفرون وتتوجعون؟!

    لماذا يعتمد الكثير منكم على نفسه وذكائه، بل ربما اعتمد البعض على الغش والاحتيال؟!

    إن النفس مهما بلغت من الكمال والذكاء، فإنها ضعيفة، وهي عرضة للغفلة والنسيان، نعم. لنفعل الأسباب ولنحفظ ولنذاكر ونجتهد، ولكنها كلها لا شيء إن لم يعنك الله ويفتح عليك، فلا حول ولا قوة إلا بالله في كل شيء، فهل طلبت العون من الله؟

    توكل على الله، وافعل الأسباب، وارفع يديك إلى السماء وقل:

    يا سامعاً لكل شكوى!

    وأظهر ضعفك وفقرك إلى الله، وسترى النتائج بإذن الله.

    وأنت أيها المدرس والمُدرسة! بل ويا كل داعية! لماذا نعتمد على أنفسنا الضعيفة في التوجيه والتعليم؟! هب أننا أعددنا الدرس جيداً، وفعلنا كل الأسباب، هل يكفي هذا؟! لعلك تسأل: ماذا بقي؟!

    أقول: هل سألت الله العون والتوفيق عند تحضير الدرس؟ هل سألت الله أن يفتح لك القلوب، وأن يبارك في كلماتك وأن ينفع بها؟ هل سألت الله العون والتوفيق وأنت تلقي الدرس؟! هل دعوت لطلابك أن يبارك الله لهم، وأن ينفع بهم، وأن يصلحهم وييسر عليهم؟

    هذه بعض الأمثلة والمواقف، وما يُعرف ويحكى أكثر وأكثر، ولكننا نريد العمل والتطبيق.

    دعاء المضطر

    وهنا تنبيه مهم: فكثير من الناس إذا وقع في شدة، عمد إلى الحرام، كمن يذهب إلى السحرة والكهان، أو يتعامل بالربا والحرام، فإذا نُصِح أو ذُكِّر قال: إنه مضطر، أو كما يقول البعض: ليس مَن رجلُه في النار كمن رجله في الماء!

    لعلّي أيها الحبيب! أذكّرك بآية، ربما أنك نسيتها في خضم المصيبة والشدة التي وقعت فيها، إن الله عز وجل يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] والمضطر: الذي أخرجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرع إلى الله، كما يقول الزمخشري .

    وأنت أيها الأخ! أو أيتها الأخت! تذكر أنك مضطر، والمضطر وعده الله بالإجابة، حتى وإن كان فاسقاً، فإذا كان الله أجاب دعوة المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمسلمين مع تقصيرهم من باب أولى.

    جاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر، فقال له: فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.

    إن الله عز وجل قد ذمّ من لا يستكين له ولا يتضرع إليه عند الشدائد، وانتبه أيها الحبيب! لابد من الضراعة والاستكانة لله عند الشدة، كما أخبر الله، فقال عز من قائل: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76] أي: لو استكانوا لربهم وتضرعوا لكان أمرا آخر، فكيف بحال من يقع في الشرك والحرام عند البلاء والشدة فيزيد الطين بلة؟!

    كيف يريد الشفاء، أو انكشاف البلاء، وهو يطلبه من مخلوقين مثله ضعفاء؟!

    قال بعض السلف : قرأت في بعض الكتب المنزلة يقول الله عز وجل: (يؤمل غيري للشدائد، والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجى غيري، ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملّني لنائبة فقطعت به؟ أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه؟ ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له؟! أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني؟! أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟! أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟! فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟! ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع وبلّغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه؟! فيا بؤساً للقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني ووثب على محارمي).

    ذكر ذلك ابن رجب في نور الاقتباس ، والإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليها كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

    1.   

    عبودية الدعاء

    إن الله يحب أن يسأل ويغضب على من لا يسأله، فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحب الملحين في الدعاء، بل وينادي في كل ليلة: (هل من سائل فأعطيه؟ وهل من داع فأستجيب له؟) فأين المضطرون؟ أين أصحاب الحاجات؟! أين من وقع في الشدائد والكربات؟!

    أيها الأخ الحبيب اقرأ وانظر في حادثة الإفك، وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار، وحديث المقترض الذي وضع المال في الخشبة وألقاها في البحر، وحديث الثلاثة الذي خلفوا، وغيرها من القصص النبوي في الصحاح والسنن .

    فُرِج عنهم بسؤالهم الله، وإلحاحهم بالدعاء، رفعوا أيديهم إلى الله وأعلنوا الذل والخضوع لله، وهذا الذل لا يصلح إلا لله، لحبيبه ومولاه.

    ذُل الفتى في الحب مكرمة     وخضوعه لحبيبه شرف

    فالعبودية لله عزٌ ورفعة، ولغيره ذل ومهانة.

    وفي سؤال الله عبودية عظيمة؛ لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج.

    فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا     فابذله للمتكرم المفضال

    كان يحيى بن معاذ يقول: يا من يغضب على من لا يسأله! لا تمنع من قد سألك.

    وكان بكر المزني يقول: من مثلك يا ابن آدم؟! متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك، ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان.

    وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إلى بعض المخلوقين، فقال له: أنا لا أترك باباً مفتوحاً وأذهب إلى باب مغلق.

    هكذا فلتكن الثقة بالله والتوكل على الله.

    1.   

    توجيهات قبل الختام

    وقبل الختام وحتى نصل إلى ما نريد، من فن الشكوى وحسن النجوى، تنبه لهذه التوجيهات:

    تعلّم آداب وشروط الدعاء

    الدعاء له آداب وشروط، لابد من تعلمها والحرص عليها، واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس لـابن القيم رحمه الله حيث قال: وإذا جمع العبد مع الدعاء حضور القلب، وصادف وقتاً من أوقات الإجابة، وخشوعاً في القلب، وانكساراً بين يدي الرب، وذلاً له، وتضرعاً ورقة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على رسول الله، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله، وألح عليه في المسألة، وتملقه ودعاه، رغبة ورهبة، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدّم بين يدي دعائه صدقة، فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبداً، ولاسيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، وأنها متضمنة للاسم الأعظم. انتهى بتصرف من الجواب الكافي لـابن القيم صفحة (19).

    الصدقة

    وقد أكّد عليها ابن القيم في كلامه السابق، ولها أثرٌ عجيبٌ في قبول الدعاء، وبل وفعل المعروف أياً كان: [فصنائع المعروف تقي مصارع السوء]. كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    والله عز وجل يقول عن يونس عليه السلام: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].

    عليك بالصبر، وإياك واليأس والقنوط

    وفي هذا توجيهات:

    أولاً: اعلم أن الدعاء عبادة، ولو لم يحصل لك من دعائك إلا الأجر على هذا الدعاء بعد إخلاصك لله عز وجل فيه لكفى.

    ثانياً: أن تعلم أن الله أعلم بمصلحتك منك، فيعلم سبحانه أن مصلحتك بتأجيل الإجابة أو عدمها.

    ثالثاً: لا تجزع من عدم الإجابة، فربما دُفِع عنك بهذا الدعاء شراً كان سينزل بك، فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: الله أكثر) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد وزاد فيه: (أو يدّخر له من الأجر مثلها).

    رابعاً: امتحان الصبر والتحمل:

    ربما كان عدم الإجابة أو تأخيرها امتحان لصبرك وتحملك وجلدك: هل تستمر في الدعاء وفي هذه العبادة أم تستحسر وتملّ وتترك الدعاء؟!

    ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي) متفق عليه .

    وفي جزء من رواية لـمسلم : (قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَعُ الدعاء).

    خامساً: أن تلقي باللوم على نفسك:

    وهي من أهمها، أنت تلقي باللوم على نفسك؛ فقد يكون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي، أو التقصير أو إخلالك بالدعاء أو تعديك فيه، فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك وتنسب التقصير وعدم الإجابة إلى نفسك، فهذا من أعظم الذل والافتقار إلى الله.

    واسمع -أيضاً- لهذا الكلام الجميل النفيس، لـابن رجب رحمه الله في نور الاقتباس يقول: إن المؤمن إذا استبطأ الفرج، ويئس منه، ولاسيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه، ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة، يقول لها: إنما أُتيت من قبلك، ولو كان فيك خيراً لأجبت. وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه، فلذلك يسرع إليه حينئذٍ إجابة الدعاء، وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر. انتهى كلامه رحمه الله.

    تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة

    قال سلمان الفارسي : [إذا كان الرجل دعاءً في السراء، فنزلت به ضراء، فدعا الله عز وجل قالت الملائكة: صوت معروف، فشفعوا له. وإذا كان ليس بدعاء في السراء، فنزلت به ضراء فدعا الله، قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف فلا يشفعون له] ذكر ذلك ابن رجب.

    أيها الأخ! وأنا أتأمل في حديث الثلاثة أصحاب الغار، وهم يدعون ويتوسلون إلى الله بصالح أعمالهم وأخلصها لله، أقول في نفسي وأفتش فيها: أين ذلك العمل الصالح الخالص لله.. الخالي من حظوظ النفس.. الذي سألجأ إلى الله فيه عند الشدة؟!

    فلنرجع لأنفسنا ولنسألها مثل هذا السؤال.. لنبحث في أعمالنا، وعن الإخلاص لله فيها، ولنكن على صلة بالله في الرخاء، وصدق من قال:

    إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد     ذخراً يكون كصالح الأعمال

    الإيمان بالقضاء والقدر

    إن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان بالله تعالى، وفيه اطمئنان للنفس وراحة للقلب، فاعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وتذكر دائما أن كل شيء بقضاء وقدر، وأنه من عند الله.

    الحرص على أكل الحلال

    احرص على أكل الحلال، فهو شرط من شروط إجابة الدعاء وفي الحديث: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يده إلى السماء.. يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة .

    فالله الله بالحلال، فإن له أثراً عجيباً في إجابة الدعاء، ربما قصرنا في وظائفنا، أي نوع من التقصير وكان ذلك التقصير سبباً في رد الدعاء وعدم إجابته، فلننتبه!

    الإكثار من الاستغفار

    وأخيراً من التوجيهات حتى تكون مجاب الدعوة إن شاء الله:

    أكثر من الاستغفار في الليل والنهار، فلو لم يكن فيه إلا قول الحق عز وجل: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12].

    فأين من يشكو الفقر والعقم والقحط عن هذه الآية؟!

    هذه توجيهات انتبه لها قبل أن ترفع يديك إلى السماء، لتكن إن شاء الله مجاب الدعوة.

    1.   

    ولك في المصابين أسوة

    إلى كل مصاب ومنكوب، وإلى كل من وقع في شدة وضيق، أقول:

    اطمئنوا فقد سبقكم أناس في هذا الطريق، وما هي إلا أيام سرعان ما تنقضي وفي الكتب المصنفة، في الفرج بعد الشدة، للتنوخي ولـابن أبي الدنيا والسيوطي وغيرهم، مئات القصص ممن مرضوا، أو افتقروا، أو عذبوا، أو شردوا، أو حبسوا، أو عزلوا، فجاءهم الفرج، وساقه لهم السميع المجيب.

    فلك في المصابين أسوة، قال ابن القيم في زاد المعاد كلاماً جميلاً -أيضاً- فاسمعه: ومن علاجه -أي: علاج المصيبة- أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة، وأنه لو فتش العالم لن يرى فيهم إلا مبتلى، إما بفوت محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً ساءت دهراً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً، وما ملأت داراً حبرة -أي: سعادة- إلا ملأتها عبرة، ولا سرّته بيوم سرور، إلا خبأت له يوم شرور. انتهى كلامه رحمه الله.

    فيا أيها الأخ ويا أيتها الأخت! قصص القرآن والأحاديث في كتب السنة، والقصص والمواقف في كتب الفرج بعد الشدة، والأحداث والعبر في واقعنا المعاصر جميعها تخبرنا أن الشدائد مهما طالت لا تدوم على أصحابها:

    إذا اشتملت على اليأس القلوب     وضاقت لما به الصدر الرحيب

    وأوطنت المكاره واطمأنت     وأرست في أماكنها الخطوب

    ولم تر لانكشاف الضر وجها     ولا أغني بحيلته الأريب

    أتاك على قنوط منك غوث     يجيء به القريب المستجيب

    وكل الحادثات إذا تناهت     فموصول بها الفرج القريب

    ولو لم يكن في المصائب والبلايا إلا أنها سبب لتكفير الذنوب، وكسر لجماح النفس وغرورها، ونيل للثواب بالصبر عليها، وتذكير بالنعمة التي غفل عن شكرها.

    وهي تذكر العبد بذنوبه، فربما تاب وأقلع عنها، وهي تجلب عطف الناس ووقوفهم مع المصاب.

    بل من أعظم ثمار المصيبة أن يتوجه العبد بقلبه إلى الله ويقف ببابه ويتضرع إليه، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء! فالبلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين، ويوجب له الإقبال على الخالق وحده، وهذا هو الإخلاص.. هذا هو الإخلاص والتوحيد.

    فإذا علم العبد أن هذه من ثمار المصيبة أنس بها وارتاح، ولم ينزعج ولم يقنط.

    فإلى ذوي المصائب والحاجات، والشدائد والكربات، إن منهج القرآن يقول: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة:216].

    بل اسمعوا لهذه الآية العجيبة، ففيها عزاء وتطمين لكل المسلمين، قال تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19] فلماذا التسخط والجزع، والشكوى والأنين؟ فلعل فيما حصل خيراً لك، فتفاءل وأبشر، واعتمد على الله، وارفع يديك إلى السماء وقل:

    يا سامعا لكل شكوى!

    وأحسن الظن بالله وقل:

    صبراً جميلاً ما أسرع الفرجـا     من صَدَقَ الله في الأمور نجا

    من خشي الله لم ينله أذى     ومن رجا الله كان حيث رجا

    هذه كلمات؛ لتسلية المحزونين، وتفريج كرب الملذوعين، وهي عزاء للمصابين، وتطييب للمنكسرين، أسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يغفر لي ولكم أجمعين.

    فيا سامعا لكل شكوى! ويا عالماً بكل نجوى! يا سابغ النعم! ويا دافع النقم! ويا فارج الغمم! ويا كاشف الظلم! ويا أعدل من حكم! ويا حسيب من ظَلَم! ويا ولي من ظُلِم!

    يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه ليل ويشرق عليه نهار!

    كم من نعمة أنعمت بها علينا قلّ لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قلّ عندها صبرنا، فيا من قلّ عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا! ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا!

    اقذف في قلوبنا رجاءك.

    اللهم! اقذف في قلوبنا رجاءك، واقطع رجاءنا عمن سواك، حتى لا نرجوا أحداً غيرك.

    اللهم! إنا نسألك إيماناً ثابتاً، ويقيناً صادقاً، حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا، اللهم لا نهلك وأنت رجاؤنا.

    احرسنا بعينك التي لا تنام، وبركنك الذي لا يرام.

    يا سامعاً لكل شكوى! ويا عالماً بكل نجوى!

    يا كاشف كربتنا! ويا مستمع دعوتنا! ويا راحم عبرتنا! ويا مقيل عثرتنا!

    يا رب البيت العتيق! اكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق، واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق.

    اللهم! فرج عنا والمسلمين كل همِّ وغمِّ، وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب.

    يا فارج الهم! يا كاشف الغم! يا منزل القطر! يا مجيب دعوة المضطر!

    يا سامعاً لكل شكوى! احفظ إيمان وأمن هذه البلاد، ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد.

    يا كاشف كل ضر وبلية! ويا عالم كل سر وخفية! نسألك فرجاً قريباً للمسلمين، وصبراً جميلاً للمستضعفين.

    يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبداً! ويا ذا النعم التي لا تحصى عدداً! أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد أبداً، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756196469