أما بعد: ها نحن مع هذه الآيات المباركة, والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [نوح:5-20].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا [نوح:5]، وهذا هو نوح الرسول عليه السلام، وقد لبث في قومه يدعوهم إلى الله, ولأن يعبدوا الله وحده, ولا يشركوا به سواه، وقد مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً. وسبحان الله! فلولا كتاب الله الذي أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لما استطعنا أن نعرف هذه الأحداث, ونعيشها كأننا معها.
وهذه شكوى نوح عليه السلام لربه، فقد شكا نوح إلى ربه ما عاينه وما عاشه وما قام به, وما حدث بينه وبين قومه. فنوح يشكو إلى ربه ما وجد من قومه وما لقيه منهم، وما قدموه له وكيف أعرضوا عنه. فهيا نسمع وكأننا مع نوح في تلك الأزمنة البعيدة، قال نوح: رَبِّ [نوح:5]! أي: يا رب! إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي [نوح:5] إلى أن يعبدوك وحدك, ويتبعوني؛ حتى أبين لهم ما يعبدون الله به من العبادات التي شرعها الله. وقد دعوتهم لَيْلًا وَنَهَارًا [نوح:5]. فقد كان يدعوهم بالنهار وبالليل ألف سنة إلا خمسين عاماً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا [نوح:6]. فكلما أدعوهم بالليل أو بالنهار ما يزيدهم دعائي إلا هروباً وتخلصاً؛ حتى ما يعبدون الله، وإنما يصرون على عبادة الأوثان والأصنام.
وقد صبر ألف سنة إلا خمسين عاماً, وهو يواجه هذه المواجهة، وفي النهاية قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا [نوح:5-7] على ما هم عليه من الشرك والكفر, وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [نوح:7]. وقد كان هذا والله كما أخبر تعالى. وكأننا نعيش مع نوح، وهو يشكو إلى ربه هذه الشكوى.
وكذلك وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح:9]، أي: في الليل في بيوتهم, فكان يقول لأحدهم: يا فلان! لا تكفر ولا تشرك, وتب إلى الله، وارجع إليه. وهكذا كان يدعوهم بالليل والنهار, وفي السر والعلانية.
ثم قال تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح:16]، أي: مضيئة طول الدهر. فهذا الذي ينبغي أن يعبد، لا أن تعبد اللات والعزى، ولا يعبد فلان مما يعبدون، والعياذ بالله.
وقد علمتم بالأمس أن الأولياء من الصالحين ماتوا, فزينت لهم الشياطين أن يضعوا صوراً لهم على قبورهم, فعبدوهم بعد الجيل الثاني، وأصبحوا يؤلهونهم مع الله. فبعث الله نوحاً ليبطل هذه النظرية الفاسدة، ويرجع بهم إلى توحيد الله، ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً.
وهو هنا يقول لهم: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح:15-16].
فعلى ذي العقل أن يفكر من خلقه فقط، ويسأل من خلقه، وسيعرف أنه الله. وعندئذ عليه أن يتعلم كيف يعبده ويطيعه، لا أن يعرض عنه. وهذا هو واقع آلاف الملايين من اليابان إلى الأمريكان من المشركين الكافرين, فهم كقوم نوح, والعياذ بالله، بل هم شر من قوم نوح، فهم لا يفكرون في خلق السموات والأرض، ولا في الشمس ولا في القمر، ولا من أين جاءت, ولا إلى أين تكون أبداً، بل همهم الأكل والشرب والنكاح فقط، وهم ملايين الملايين. ولم يأت كافر يريد أن يعلم من خلقه ويدلوه عليه, ثم إذا علم أنه الله سأل عنه, وعن كيفية عبادته؛ حتى يعرف كيف يعبد الله. فهم لا يأتون ولا يسألون. وهم يسمعون القرآن في إذاعاتهم، وأنه وحي الله وكتابه، ويعلمون أنه نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومع هذا فهم في إعراض كامل. ولو تقف تدعوهم كما وقف نوح فإنك تلقى كما لقي نوح، فسيعرضون عنك, ولن ينظروا إليك، فيسدون آذانهم حتى لا يسمعوا، والعياذ بالله.
ثم قال تعالى: ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا [نوح:18]. فقد أنبتنا من الأرض, ثم يعيدنا إليه, وليس الذي يفعل هذا آباؤنا ولا أجدادنا, ولا أسلافنا ولا غير ذلك, بل الله هو الذي يعيدنا تحت الأرض, ونحن أيضاً سننتقل إلى تحت الأرض، ووالله لن يبقى واحد منا على الأرض، بل كلنا سنرجع تحت الأرض. وليس الذي فعل هذا الدولة ولا الشعب ولا الأصنام, بل هذا فعل الله عز وجل. إذاً: فلا يعبد إلا الله, ولا يعبد معه الشيطان, ولا ما يزينه من عبادة الأصنام والأحجار.
ثم قال تعالى: وَيُخْرِجُكُمْ [نوح:18] والله منها إِخْرَاجًا [نوح:18]. وذلك يوم القيامة. وقد قال سمعتم قوله تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:1-5]. فهي تتحلل كالصوف وتنتشر، ويفنى كل شيء، ولا يبقى إلا الله في هذا الكون. ثم يعيدنا أحياء من جديد؛ للحساب والجزاء، فمن كان مؤمناً صالحاً أكرمه وأنعم عليه, وأسكنه الجنة دار السلام فوق السماء السابعة، ومن كان مشركاً فاسقاً فاجراً أذله وأهانه, والعياذ بالله، وجعل جهنم هي مصيره، وإليها يصير، كما قال تعالى: مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162] .
هكذا يقول نوح عليه السلام لقومه: ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا [نوح:18], أي: في الأرض، وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [نوح:18] كاملاً قطعاً أحياء.
قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا [نوح:19-20], أي: طرقاً فِجَاجًا [نوح:20], أي: واسعة، شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً, وحيث تمشي الأرض مبسوطة لك في أي مكان. ولم يفعل هذا الأصنام ولا الأحجار ولا الشياطين, وإنما الذي فعل هذا الله. وهذا هو الذي يجب أن يعبد، والذي يجب أن يحب، والذي يجب أن نعرفه معرفة يقينية كاملة، حتى إذا ذكرناه رهبناه وخفنا منه, وذكرناه وعبدناه وبكينا بين يديه، وليس الأصنام والأحجار والشهوات, والعياذ بالله.
هذه شكوى نوح عليه السلام إلى ربه كما سمعتموها.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: رسم الطريق الصحيح للدعوة القائم على الصبر وتلوين الأسلوب ] بالأسلوب الذي كان عليه رسل الله, وهو ليس بالصياح والضجيج، ولكن بالهدوء والسكون، وتحليل الأشياء وبيانها وتوضيحها, كما فعل نوح ليلاً ونهاراً. فعلى الدعاة أن يسلكوا هذا السبيل؛ حتى يبلغوا دعوة الله عز وجل, ولو انطلق منا أناس إلى أمريكا والصين واليابان يدعون بدعوة نوح لدخل الناس في الإسلام، ولكننا كما يعلم الله.
[ ثانياً: بيان كره المشركين للتوحيد والموحدين، وأنهم لبغضهم لنوح ودعوة التوحيد سدوا آذانهم؛ حتى لا يسمعوا، وغطوا وجوههم؛ حتى لا يروه، واستكبروا؛ حتى لا يروا له فصلاً ] وما واجهه نوح عليه السلام وواجهه نبينا عليه الصلاة والسلام، وواجه الدعاة المؤمنين الموحدين منا اليوم أيضاً. فالمسلمون العاكفون على القبور والأولياء يعبدونهم إذا ذكرت التوحيد أمامهم يغضبون، ويسدون آذانهم كقوم نوح. وهذا سيبقى إلى يوم القيامة، فمن قلبه ميت وليس بحي لا يستجيب ولا يسمع، والعياذ بالله.
[ ثالثاً: استعمال الحكمة في الدعوة ] فلا بد أن يكون الداعي حكيماً [ فإن نوحاً لما رأى أن قومه يحبون الدنيا أرشدهم إلى الاستغفار؛ ليحصل لهم المال والولد ] فنوح عليه السلام لحكمته دعاهم إلى الله؛ من أجل أن يعبدوه، وبين لهم الطريق إلى ذلك, وهو أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه، وأن الله سيمددهم بالأموال والبنين والأمطار, وما إلى ذلك. فقد حاول أن يجذبهم إلى عبادة الله بالحكمة.
وقال الفضيل بن عياض : قول العبد: أستغفر الله، معناه: أقلني. فـالفضيل بن عياض يفسر الاستغفار، ويقول: لما تقول: أستغفر الله فكأنك قلت: يا رب! أقلني, ولا تؤاخذي ولا تعذبني. ويروى عن الحسن البصري : أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً فقال له: استغفر الله، فقيل له في ذلك، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله يقول في سورة نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]. وكما قلت لكم: من شعر بحاجته إلى ولد أو إلى مال فعليه بباب الاستغفار، ولا يزال يستغفر ليل نهار حتى يفتح الله عليه, ويعطيه ما أراد, أخذاً بهذه الآية. فاستغفروا ربكم يمددكم بأموالٍ وبنين.
ومعنى الاستغفار: طلب المغفرة من الله؛ حتى لا يؤاخذنا بذنوبنا، فإذا أذنبنا نستغفر الله قائلين: ربنا! أقلنا ولا تؤاخذنا.
[ رابعاً: استنبط بعض الصالحين من هذه الآية: أن من كانت له رغبة في مال أو ولد فليكثر من الاستغفار الليل والنهار, ولا يمل؛ حتى يعطيه الله تعالى مراده من المال والولد ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر