قال الله تبارك وتعالى:
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأحقاف:21].
قوله تعالى: (واذكر أخا عاد) يعني: هوداً عليه السلام، فقد كان أخاهم في النسب وليس في الدين، فهي أخوة نسبية وليست دينية. (إذ أنذر قومه بالأحقاف) ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر قصتهم لقومه؛ ليخافوا ويتعظوا.
وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود؛ ليقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه إياه.
(إذ أنذر قومه بالأحقاف) الأحقاف جمع حقف، وهو الرمل المستطيل المرتفع.
قال
قتادة : ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً باليمن أهل رمل مشرفين على البحر.
إذاً: الأحقاف هي ديار عاد، وهي الرمال العظام في قول
الخليل وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم.
إذاً: الأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوج، ولم يبلغ أن يكون جبالاً.
وقال
ابن زيد : الأحقاف رمال مشرفة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً.
يقال: احقوقف الرمل، أو احقوقف الهلال، أي: اعوج.
وقال
قتادة : هي جبال مشرفة بالشحر، والشحر قريبة من عدن.
وقال
مقاتل : هي باليمن في حضرموت.
وهناك بعض الأقوال الضعيفة سبق أن تعرضنا لها قريباً، وهي أن قوم عاد كانوا بمصر، وإليهم تنسب الآثار والديار المعروفة عند قدماء المصريين، والله تعالى أعلم.
إعراب قوله تعالى: (إذ أنذر قومه)
(إذ أنذر) إعرابها: بدل اشتمال من (أخا عاد) وهو هود عليه السلام.
(إذ أنذر قومه)، أي: وقت إنذاره إياهم، فالبدل إما بدل كل من كل، ويكون مطابقاً للمبدل منه ومساوٍ له في المعنى، كما تقول: مررت بأخيك زيد، أو زره خالداً. هذا بدل كل من كل.
وهناك بدل بعض من كل، كما تقول: أكلت الرغيف ثلثه. هذا بدل بعض من كل.
وهناك بدل مباين للمبدل منه، وهو إما أن يكون على سبيل الإضراب أو الغلط والنسيان.
الإضراب مثل أن تقول: أكلت خبزاً لحماً.
وبدل الغلط والنسيان مثل أن يكون الإنسان يتكلم ثم يخطئ في الكلام، ثم يأتي بالكلام الصحيح عقب ما أخطأ فيه، فهو كان يقصد البدل فقط، وإنما غلط فذكر المبدل منه، كما يقول مثلاً: رأيت رجلاً حماراً، أخطأ ثم استدرك وقال: رأيت حماراً، فأتى بها على نسق واحد، رأيت رجلاً حماراً.
أما البدل الذي هنا في قوله: (إذ أنذر قومه) فهو بدل الاشتمال، وبدل الاشتمال يدل على المعنى في متبوعه، كما تقول: أعجبني زيد علمه، فهذا بدل اشتمال، ومثاله في القرآن الكريم:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [البقرة:217]، أي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، و(قتال فيه) بدل اشتمال من الشهر الحرام.
كذلك قوله تعالى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً [مريم:16] يعني: أن شأن مريم يشتمل على أمور كثيرة، فأنت تذكر انتباذها مكاناً شرقياً، فكذلك هنا (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه) أي: اذكر وقت إنذاره قومه، فهذا بدل اشتمال من هود.
معنى قوله تعالى: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه)
(( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ )) أي: قد مضت الرسل بإنذار أممها قبله وبعده؛ متفقين على ألا تعبدوا إلا الله.
إذاً قوله تعالى: (( وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ )) الجملة في محل نصب حال، و(خلت) يعني: مضت. (الرسل من بين يديه) الهاء تعود على هود عليه السلام. (من بين يديه)، من قبله. (ومن خلفه)، من بعده.
قال
ابن كثير : وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين.
(ألا تعبدوا إلا الله)، أي: لا تشركوا مع الله سبحانه وتعالى شيئاً في عبادتكم إياه.
وقال كل واحد منهم عليهم السلام:
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ [الأعراف:59] أي: من عبادة غير الله
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59] أي: بمقدار عذاب الله بالشرك.
وقوله عز وجل: (ريح فيها عذاب أليم)، هذه صفة للريح، (تدمر كل شيء)، هذه صفة ثانية للريح، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت هذه الريح تحمل الفساطيط -جمع فسطاط وهي الخيام -وتحمل الظعينة -وهو الجمل يظعن عليه- والهودج سواء كانت فيه امرأة أم لا، فترفعها كأنها جرادة ثم تضرب بها الصخور.
قال
ابن عباس : أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب، ورأوا ما كان خارجاً من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريح، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال واحتملتهم ورمتهم في البحر، فهي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: (تدمر كل شيء بأمر ربها).
قال
ابن عباس: (تدمر كل شيء) أي: كل شيء بعثت إليه، وهذا التفسير يجب أن ننتبه له، فقوله: (تدمر كل شيء بأمر ربها)، ليس على عمومه ولا على إطلاقه، لكنه مقيد بـ: كل شيء بعثت لتدميره، وليس كل شيء على الحقيقة كما يظهر لأول وهلة.
قيل: إن هذه الريح أمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال كما قال الله:
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:7]، والحسوم: الدائمة في الشر، إذ شرها مستمر لا ينقطع، ثم أمر الله سبحانه وتعالى الريح فكشفت عنهم الرمال، واحتملتهم ورمتهم في البحر، والتدمير الهلاك، وكذلك الدمار، وقرئ: (يدمر كل شيء)، من دمر دماراً دمره ودمر عليه ودمر يدمر دموراً: دخل بغير إذن، وفي الحديث: (
من سبق طرفه استئذانه فقد دمر) يعني: دخل بغير إذن.
قوله عز وجل: (تدمر كل شيء)، يعني: تدمر كل شيء من بلادهم مما من شأنه الخراب، كما قال تعالى:
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات:42] يعني: كالشيء البالي.
إذاً: كل شيء هنا ليست على عمومها وإنما المقصود بها: كل شيء أمرت به، أو من شأنه أن يدمر، وما الدليل على قولنا: لابد من تفسيرها: بأنها دمرت كل شيء أمرت بتدميره؟
الجواب: قوله: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم)، فبقية الآية دل على أن المساكن لم تؤمر الريح بتدميرها.
وقد احتج الإمام
أحمد رحمه الله تعالى بهذه الآية في مسألة من مسائل العقيدة، وهي مسألة كلام الله سبحانه وتعالى، فإنه اعتمد على هذا التفسير بأن هناك فرقاً بين قول الرحمن وبين ما كان بقوله.
قال الإمام
أحمد في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية: (ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال: أخبرونا عن القرآن هو شيء؟ فقلنا: نعم هو شيء، فقال: إن الله خالق كل شيء، فلم لا يكون القرآن مع الأشياء المخلوقة، وقد أقررتم أنه شيء؟!
ومثل هذا السؤال من المغاليط، فهو يدفع إلى إجابة بعينها ويحاول أن يستدرجك إلى إجابة بعينها، مع أن الصواب ليس فيها، وإنما الصواب في غيرها.
يقول الإمام
أحمد رحمه الله تعالى: فلعمري لقد ادعى أمراً أمكنه فيه الدواء، ولبس على الناس بما ادعى، فقلنا -رددنا على هذا المغالط-: إن الله في القرآن لم يسم كلامه شيئاً، وإنما سمى شيئاً الذي كان يقوله، ألم تسمع إلى قوله تبارك وتعالى:
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ [النحل:40]، فالشيء ليس هو قوله، إنما الشيء الذي كان بقوله، وفي آية أخرى:
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا [يس:82]، فالشيء ليس هو أمره، إنما الشيء الذي كان بأمره.
ومن الأعلام الدالات أنه لا يعني أن كلامه من الأشياء المخلوقة، أنه قال للريح التي أرسلها على عاد:
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ، وقد أتت تلك الريح على أشياء، فلم تدمرها مثل منازلهم ومساكنهم والجبال التي بحضرتهم.
فكذلك إذا قال: (( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ))[الزمر:62]، لا يعنى نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة.
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام:19]، فمما يخبر به عن الله أنه شيء، ولذلك كما قلنا في تفسير:
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] نقول: خالق كل شيء في عالم الممكنات لا المستحيلات ولا الواجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، كما هو اصطلاح المتكلمين.
كذلك قال في ملكة سبأ:
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، أليس ملك سليمان شيئاً؟ وهل هي أوتيت ملك سليمان؟ لا. يعني: أوتيت من كل شيء مما تؤتاه الملوك، وليس على الإطلاق، وقد كان ملك سليمان شيئاً ولم تؤته.
وكذلك إذا قال: (خالق كل شيء)، لا يعني أن كلامه مع الأشياء المخلوقة.
وشأن أهل البدع دائماً إساءة الفهم، ومغالطتهم في المناقشات، مثلاً: يقول الله سبحانه وتعالى:
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وقال عز وجل:
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]، وقال المسيح عليه السلام:
تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، وقال سبحانه وتعالى:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، مع أنه قال:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يعني بقوله: (كل نفس ذائقة الموت)، نفسه عز وجل تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فبنفس الباب نرد على من يستدل بقوله: (الله خالق كل شيء)، على أن كلام الله أو أن القرآن مخلوق لعموم قوله: (كل شيء)، كما بينا.
الفرق بين أمر الله القدري والشرعي
الهدي النبوي مع السحاب والمطر
معنى قوله تعالى: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم)
قال الله تبارك وتعالى:
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ *
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:29-30].
(وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن) أي: أملناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك.
(يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا)؛ ليتم التدبر والتفكر.
(فلما قضي) فرغ من قراءته كمل تأثرهم به، فأرادوا التأثير به، يعني: من شدة تأثرهم بسماع القرآن أرادوا أن يؤثروا به في قومهم من الجن.
(ولوا إلى قومهم منذرين) أي: رجعوا فوراً، (إلى قومهم منذرين) لهم عما هم فيه من الضلال.
(قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى)، وخص موسى لأنه المتفق على تعظيم كتابه، وقد علمنا صدقه؛ لأن هذا القرآن رأينا أنه يصدق الكتب التي بين يديه، وقد فضل عليها؛ لأنه (يهدي إلى الحق) أي: إلى معرفة الحقائق.
(وإلى طريق مستقيم) لا عوج فيه، وهو الإسلام.
قال
ابن كثير : (يهدي إلى الحق) في الاعتقاد والأخبار، (وإلى طريق مستقيم) في الأعمال، فإن القرآن مشتمل على شيئين: خبر وطلب، فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال تعالى:
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، وقال تعالى:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33]، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وهكذا قالت الجن: (يهدي إلى الحق) أي: في الاعتقادات، (وإلى طريق مستقيم) أي: في العمليات.
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله.
وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *
وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ [الأحقاف:31-32] أي: ليس بمعجز ربه بهربه إذا أراد الله عقوبته؛ لأنه في قبضته وسلطانه.
وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ [الأحقاف:32] أي: نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه.
أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:32] أي: على غير استقامة.
هذه الجملة من الآيات نحتاج إلى إيضاح بعض الأمور المتعلقة بها.
الربط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشرع
قوله تعالى: (( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ )) ذكر الله سبحانه وتعالى أنه صرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من الجن، والنفر عدد أقل من العشرة.
وأخبرنا جل وعلا أنهم لما حضروه قال بعضهم لبعض: (أنصتوا) أي: اسكتوا مستمعين، (فلما قضي) أي: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من قراءته (ولوا) أي: رجعوا (إلى قومهم) من الجن في حال كونهم (منذرين) أي: مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا بالله، ويجيبوا داعيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأخبروا قومهم أن هذا الكتاب الذي سمعوه يتلى المنزل من بعد موسى (يهدي إلى الحق) وهو ضد الباطل، (وإلى طريق مستقيم)، لا اعوجاج فيه.
يوجد ارتباط وثيق بين رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وكليم الله موسى عليه السلام، والقرآن دائماً يربط بينهما في مناسبات عدة منها هذه الآية، وقوله أيضاً:
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً [الأحقاف:12]، فانظر إلى الربط بين القرآن والتوراة؛ لأنها أساس الإنجيل الذي هو فرع عن التوراة ومكمل لها.
كذلك الربط بين محمد وموسى في حادثة الإسراء والمعراج، وتردد الرسول عليه الصلاة السلام بين ربه وبين موسى عدة مرات.
كذلك في حادثة بدء الوحي عندما قال
ورقة بن نوفل لـ
خديجة: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى.
كذلك لما قرأ
جعفر بن أبي طالب على
النجاشي سورة مريم وبكى من حوله قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم باستماع الجن لتلاوته
إرهاصات ما قبل النبوة
بين يدي الأحداث المهمة يحصل دائماً إرهاصات، وهي تعتبر كالمقدمات لأمر مهم سوف يحصل بعد ذلك.
نضرب أمثلة لذلك: ميلاد المسيح عليه السلام: ما الإرهاصات التي كانت قبله؟
حمل امرأة زكريا بيحيى عليه السلام، وهذه مقدمة بين يدي ما هو أعظم؛ لأن امرأة زكريا كانت قد بلغت من الكبر عتياً، وجرت سنة الحياة أنه لا يولد لمثلها؛ لأنها كانت عقيماً، وكان هو قد بلغ من الكبر عتياً، ولما رأى كرامات الله سبحانه وتعالى لـ
مريم عليها السلام قال:
يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:37-38]، فدعا ربه أن يهبه الولد الصالح، وقد كان -كما هو مفصل في القرآن الكريم- خرق للعادة، ومعجزة، لكنه إرهاص ومقدمة بين يدي ما هو أعظم وأخطر، وهو معجزة ميلاد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
أيضاً: بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لها إرهاصات ومقدمات تنبئ عن أن شيئاً مهماً جداً سوف يحصل؛ مثل حادثة الفيل، فهي إرهاص حصل قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام يدل على أن الله يحمي هذا البيت؛ لاقتراب بعثة محمد؛ لأنه ولد عليه السلام في نفس عام الفيل.
ومن هذه الإرهاصات أيضاً: ما حصل من هواتف الجن وإخبارها عن شيء خطير وقع في هذا الكون، وهو تشديد الحراسة في السماء، فعلموا أن شيئاً خطيراً سوف يحصل؛ لأن السماء ما حرست من قبل هذه الحراسة؛ وذلك إنما حصل لأجل أن يحرس الوحي، ولا يتمكن الجن أن يسترقوا شيئاً من أخبار الوحي.
من هذه الأحاديث ما رواه
البخاري في صحيحه عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت
عمر يقول لشيء قط: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظنه، وهذا من الفراسة قال: بينما
عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم، علي بالرجل، يعني: أول ما رأى
عمر هذا الرجل قال: أظن أن هذا كان كاهناً في الجاهلية، و
عمر من المحدثين الملهمين، وكانت عنده فراسة شديدة رضي الله تعالى عنه، فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم! فقال
عمر : فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، فقال الرجل: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت:
ألم تر الجن وإبلاسها
ويأسها من بعد إنكاسها
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟
قولها: ألم تر الجن وإبلاسها، يعني: تحيرها ودهشتها، ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص، جمع قلوص، وهي الناقة الشابة، وأحلاسها: جمع حلس، وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت الظهر.
فقال
عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا
جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، يعني: في تلك اللحظة لما ذبح العجل صرخ هذا الجني بهذا الصوت: يا
جليح! وهذا اسم رجل، فكان يناديه: يا
جليح! رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، قال: فوثب القوم، فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا
جليح ! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.
فـ
عمر نفسه أكد الخبر الذي قاله هذا الرجل الذي كان كاهناً في الجاهلية، بأن حكى هو حكاية حضرها أن جنياً صاح هذا الصياح.
وهل الجن يعرفون الغيب؟
لا، لكن هذه الإرهاصات كانت بمثابة مقدمات بين يدي نزول الوحي؛ إذ قبل أن ينزل الوحي إلى السماء اشتدت الحراسة كما قال الله حاكياً عن الجن قولهم:
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا *
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:8-9].
استماع الجن للقرآن في وادي نخلة
قال الإمام
أحمد : حدثنا
سفيان ، قال: حدثنا
عمرو ، قال: سمعت
عكرمة، عن
الزبير في قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن) قال: بنخلة -وهذا اسم للمكان- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة، ويقرأ القرآن، فأمال الله هؤلاء الجن ووجههم كي يحضروا هذه الصلاة.
وقال تعالى:
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] أي: من الزحام، وحرصهم على استماع القرآن. (لبداً) يعني: بعضهم على بعض، فاللبد يكون طبقات بعضه على بعض.
وروى
أحمد و
البيهقي عن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، ورجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا: يا قومنا
إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا *
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2]، وأنزل الله على نبيه:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ .. [الجن:1] إلى آخر الآية، فمعنى ذلك أن الرسول عليه السلام ما شعر بهم حين استمعوا إليه، وإنما أوحي إليه قول الجن؛ لأن الله تعالى قال: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من آية الجن). وهذا الحديث رواه
البخاري و
مسلم و
الترمذي و
النسائي .
قال
الحسن البصري: إنه عليه السلام ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله عليه بخبرهم.
من هواتف الجن قبل البعثة
قال
مسلم : حدثنا
محمد بن المثنى ، قال: حدثنا
عبد الأعلى ، قال: حدثنا
داود -وهو
ابن أبي هند- عن
عامر قال: سألت
علقمة : هل كان
ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال
علقمة : أنا سألت
ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: (
لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل: استطير -أي: اغتيل- فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم).
ولهذا الحديث عدة طرق تدل بمجموعها أن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المرات ذهب إلى الجن قصداً، فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وشرع الله لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت، ويحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم كما قال
ابن عباس ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما قال
ابن مسعود.
وأما
ابن مسعود فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته الجن ودعائه إياهم، وإنما كان بعيداً منهم، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه، ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة.
وروى الإمام
أحمد عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً، فيكون ما سمعوا حقاً وما زادوا باطلاً، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبث جنوده، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض.
وذكر
محمد بن إسحاق ، عن
محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل، وإيذائهم له، فذكر القصة بطولها ثم قال: (
ولما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعه الجن باسم الله)، قال
ابن كثير : ( وهذا صحيح، ولكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دل عليه حديث
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المذكور، وخروجه إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين.
والرجل الذي كان كاهنهم هو
سواد بن قارب، قال
البيهقي في حديث
سواد بن قارب: ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح.
ثم روى بسنده عن
البراء قال: (
بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس! أفيكم
سواد بن قارب ؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كان السنة المقبلة قال: أيها الناس! أفيكم
سواد بن قارب ؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين! وما
سواد بن قارب ؟ قال: فقال له
عمر : إن
سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً، قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع
سواد بن قارب ، قال: فقال له
عمر : يا
سواد ! حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال
سواد: إني كنت نازلاً بالهند، وكان لي رئي من الجن، قال: فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم، واعقل إن كنت تعقل، فقد بعث رسول من
لؤي بن غالب ، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحساسها وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى أخير الجن كأنجاسها
فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى راسها
قال: ثم أنبهني فأفزعني، وقال: يا
سواد بن قارب ! إن الله عز وجل بعث نبياً فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول :
عجبت للجن وتطلابها وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس قداماها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى قابها
فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم قال :
عجبت للجن وتخبارها وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس ذوو الشر كأخيارها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ما مؤمنو الجن ككفارها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، قال: فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي، فما حللت نسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بالمدينة -يعني: مكة- والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: مرحبا بك يا
سواد بن قارب ! قد علمنا ما جاء بك، قال: قلت: يا رسول الله! قد قلت شعراً فاسمعه مني، فقال صلى الله عليه وسلم: قل يا
سواد! فقلت:
أتاني رئي بعد ليل وهجعة ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك رسول من
لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت بي الدعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا رب غيره وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن
سواد بن قارب
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال لي: أفلحت يا
سواد! فقال له
عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن).
وساق الإمام
الماوردي هذا الحديث الذي هو علم من أعلام النبوة في هتوف الجن ثم قال: ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه، ولا يحد قوله، فخروجه عن العادة نذير، وتأثيره في النصوص بشير، وقد قبلها السامعون، وقبول الأخبار يؤكد صحتها، ويؤيد حجتها، فإن قيل: إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، جاز أن تكون دليلاً على صحة الكهانة، -ونحن لم نقل: إنها دليل من أدلة النبوة، وإنما قلنا: هي إرهاصات ومقدمات بين يدي الوحي- وهنا الإمام
الماوردي رحمه الله تعالى يقول: وإذا كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، فيجوز أن تكون دليلاً على صحة الكهانة، وعنده وجهان: أحدهما أن دلائل النبوة غيرها، وإنما هي من البشائر بها، وفرق بين الدلالة والبشارة إخباراً.
والثاني: أن الكهانة عن مغيب، والبشارة عن معين، فالعيان معلوم، والغائب موهوم.
معنى صرف الجن إلى النبي
رسل الله إلى الجن
قال الله تعالى:
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]، لما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر، فقال: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)، والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا عرفت ذلك، وقامت البراهين عليه، ولم ينجع في الكافرين؛ (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) أي: الزم الثبات والحزم فإنك منهم.
قال
مجاهد: أولو العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
وقيل: نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى.
وقال
ابن جريج منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس.
وقال
الشعبي و
الكلبي : هم الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة.
وقيل: هم الرسل المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثمانية عشر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط، واختار هذا
الحسين بن الفضل ؛ لقوله بعد ذكرهم:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].
وقيل: إن الرسل كلهم أولو عزم، وعلى هذا فتكون (من) في قوله تعالى: (فاصبر كما صبر ألوا العزم من الرسل) بيانية لا للتبعيض، أي: اصبر كما صبر الرسل الذين هم أولو العزم.
وقيل: هم اثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل.
وقال
الحسن : هم أربعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى.
فأما إبراهيم فقيل له:
أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة:131]، ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه، فوجد صادقاً صابراً في جميع ما ابتلي به.
وأما موسى فعزمه حين قال له قومه:
إِنَّا لَمُدْرَكُونَ *
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62].
وأما داود فأخطأ خطيئة فنبه عليها، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة وقعد تحت ظلها.
وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة، وقال: إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها.
فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اصبر، أي: كن صادقاً فيما ابتليت به، كما صدق إبراهيم، واثقاً بنصر مولاك مثل ثقة موسى، مهتماً بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهداً في الدنيا مثل زهد عيسى.
ثم قيل: هي منسوخة بآية السيف.
وقيل: إنها محكمة.
وذكر
مقاتل : أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له.
يقول
القاسمي: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)، أي: أولوا الثبات والجد منهم فإنك منهم.
والعزم في اللغة كالعزيمة، ما عقدت قلبك عليه من أمر، والعزم أيضاً القوة على الشيء والصبر عليه، فالمراد به هنا: المجتهدون المجدون أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم وقدره وقضاه عليهم.
ومطلق الجد والجهد والصبر موجود في جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل وكثير من الأولياء، فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل، وأن (من) بيانية لا تبعيضية، فكل رسول من أولي العزم، فإن أريد به معنى مقصود ببعضهم فلابد من بيانه ليظهر وجه التخصيص، وقد اختلف في عددهم إلى أقوال:
الأول: أنهم جميع الرسل.
والثاني: أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى ومحمد.
والثالث: أنهم خمسة، بزيادة عيسى كما قيل:
أولي العزم نوح والخليل المنجد وموسى وعيسى والنبي محمد
عليهم الصلاة والسلام.
والرابع: أنهم ستة بزيادة هارون أو داود.
والخامس: أنهم سبعة بزيادة آدم.
والسادس: أنهم تسعة: بزيادة إسحاق ويعقوب ويوسف، وقد يزاد وينقص.
وتوجيه التخصيص: أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق، وذبه عن حريم التوحيد وحمى الشريعة، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية وأموره الخارجية، ومبارزة كل أهل عصره كما وقع لنوح، أو الملك الجبار في عصره وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية كـ
نمرود إبراهيم، و
جالوت داود، وفرعون موسى، ولكل موسى فرعون، ولكل محمد
أبو جهل ، وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة حسية، ونفس ربانية، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام؛ فمن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص، وهذا مما كشفت بركاتهم سره.
وقوله تعالى: (( وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ )) أي: ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم، فإن ذلك نازل بهم لا محالة، وإن اشتدت عليك الأمور من جهتهم.
كلام الشنقيطي في المراد بأولي العزم من الرسل
معنى قوله تعالى: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون ...)
قوله تعالى:
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ [الأحقاف:35] من العذاب أو من الآخرة.
لَمْ يَلْبَثُوا [الأحقاف:35] أي: في الدنيا، حتى جاءهم العذاب، أو لم يلبثوا في قبورهم حتى بعثوا للحساب.
إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف:35] يعني: في جنب يوم القيامة.
قيل: نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا.
بَلاغٌ [الأحقاف:35] أي: هذا القرآن بلاغ، (بلاغ) خبر مبتدأ محذوف، والدليل قوله تعالى:
هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52]، وقوله تعالى:
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106]، والبلاغ بمعنى التبليغ.
وفي قوله:
بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [الأحقاف:35] بعض العلماء وقف على (ولا تستعجل)، ثم بدأ: (لهم بلاغ) وهذا خطأ، ذكر ذلك
أبو حاتم، ويجوز بلاغاً على المصدر أو على النعت للساعة، والخفض على معنى: من نهارٍ بلاغٍ.
وروي عن بعض القراء (بلغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) فيقف على (من نهار).
وقرأ: (بلّغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون).
قرأ الجمهور (يُهلك) على البناء للمفعول، وقرأه
ابن محيصن: على البناء للفاعل. (يَهلك) والمعنى: أنه لا يهلك لعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة، الواقعون في معاصي الله.
وقال
قتادة : لا يهلك على الله إلا هالك مسرف.
وقيل: هذه الآية أقوى آية في الرجاء، (بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون)، يعني: لا يهلك مع رحمة الله وفضله (إلا القوم الفاسقون).
قال العلامة
الشنقيطي في قوله تعالى: (بلاغ) أصوب القولين في قوله تعالى: (بلاغ) أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا بلاغ، بدليل قوله:
هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52]، وقوله:
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106]، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
والبلاغ اسم مصدر بمعنى التبليغ، وقد علم من استقراء اللغة العربية أنه يأتي كثيراً بمعنى التفعيل، فبلغه بلاغاً أي: تبليغاً، وكلمه كلاماً أي: تكليماً، وطلقها طلاقاً أي: تطليقاً، وسرحها سراحاً، وبينه بياناً، كل ذلك بمعنى التفعيل؛ لأنها مضاعفة العين غير معتلة.
وأما القول بأن المعنى وذلك بلاغ، فهو خلاف الظاهر كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
وقال
القاسمي رحمه الله تعالى: (فهل يهلك) أي: بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل والحكمة، (إلا القوم الفاسقون) الذين خالفوا أمره، وخرجوا من طاعته، نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه.