قال الله تعالى:
وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283].
قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر) يعني: إن كنتم مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى، ولابد من ربط هذا الشرط بما قبله، يعني: إن كنتم على سفر وتداينتم؛ لأن صدر هذه الآية مرتبط بالآية التي قبلها، وهي أطول آية في القرآن:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .. [البقرة:282] فلابد من ربط هذه الآية بما قبلها يعني: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى وكنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة، يعني: الذي يستوثق به في هذه الحالة: رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق وثيقة لدينه.
وهذا الرهان إنما يكون إذا لم يأمن بعضكم بعضاً بلا وثيقة، والدليل على هذا أنه سبحانه قال بعد ذلك مباشرة: (( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا )) يعني: لحسن ظنه به واستغنى بالثقة فيه وبأمانته عن الوثيقة (( فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ )) يعني: من باب: أدِ الأمانة إلى من ائتمنك (فليؤد الذي اؤتمن) وهو الشخص المدين، وإنما عبر عنه بذلك ولم يقل: فليؤد المدين الدين وإنما قال: (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) لأن الرجل إذا وثق فيك وكان بوسعه ألا يعطيك هذا المال إلا باستيثاق برهن أو غيره، فإنه يجب ألا تخيب ظنه وقد أحسن الظن فيك.
وكثيراً ما يحصل نزاع بين الناس بسبب هذا الأمر، ويشتكي كثير من الناس من أن بعض الناس لا يؤدي الحقوق إذا حان أجلها، بل منهم من يجحد ويماطل! فنذكر في هذا المقام عبارة
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حينما قال: ما خان أمين قط، ولكن اؤتمن غير أمين فخان. فإذا كان الشخص فعلاً متصفاً بصفة الأمانة فالأمين لا يمكن أبداً أن يخون إلا أن يشاء الله، لكن الذي يحصل أنك تضع ثقتك في غير موضعها، ولكن اؤتمن غير أمين فخان، فهذا هو الواقع الذي يحصل، فالله سبحانه وتعالى كما ترون قد أنزل أطول آية في القرآن -وهي آية الدين السابقة- لأجل حفظ مال المسلم في جنيهات معدودة، فبين كيف تحفظ له؛ ولذلك يعتبرون هذه الآية من آيات الرجاء، وهناك بحث لطيف يذكره بعض العلماء وهو مبحث بعنوان: ما هي أرجى آية في القرآن؟ وفي المقابل أيضاً ما هي أخوف آية في القرآن؟ فبعض العلماء ذهب إلى أن أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي والكبائر من الموحدين هي هذه الآية آية الدين، ووجه ذلك أن هذه الآية تبين كيف أن الله سبحانه وتعالى يرعى ويحفظ ويشرع من التشريعات ما يضمن حق المسلم ويراعي شئونه حتى في أشياء دقيقة، فأنزل أطول آية في القرآن لحفظ مال يسير من الدريهمات أو الجنيهات، وإذا كان كذلك فلا شك أن عناية الله سبحانه وتعالى بعبده المؤمن في عرصات القيامة وفي أهوالها يرجى أن تكون أعظم، وأن تكون رحمته أوسع، فهذا هو وجهها.
بعض الناس يستحيي في هذا المقام من كتابة الدين، وهذا غير صحيح؛ لأن الاستيثاق بالكتابة أو بالإشهاد ليس معناه أنك تخونه أو أنك لم تثق به، لكن هذا يكون لاعتبارات كثيرة، منها: أنك يمكن أن تموت أنت أو يموت هو وبالتالي ينتقل لورثته الحق، وورثته إذا قالوا: أين ما يثبت أنه كان لك دين على الميت؟ فلا شك أن التوثيق يثبت الدين ويحسم الخلاف ويضبط حقوق الناس.
والأمر الآخر: أن بعض الناس قد ينسى، فبعض الناس يكون حريصاً في قلبه على أن يوثق الدين، لكنه يستحي وهذا الاستحياء لا يسمى استحياء لكنه عجز، وهو لا يدخل في الحياء المحمود وإنما هو عجز.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (
ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم - وذكر من هؤلاء الثلاثة- رجل أدان ديناً فلم يشهد عليه) أي: أقرض رجل رجلاً مالاً ولم يشهد عليه ولا كتبه، فلما جاء موعد حلول أجل الدين وطالبه به جحده وقال: ما لك عندي شيء، فهنا إذا دعا صاحب المال على هذا المدين المقترض لا يستجيب الله سبحانه وتعالى دعاءه عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد شرع من الأحكام ما يضمن له حقه، وهو الذي بمحض إرادته تخلى عنها وتنازل عنها، أو هو الذي وضع ثقته في محل لا يستحقها، أي: ائتمن شخصاً وهو غير أمين.
فالشاهد من ذلك: أنه إذا دعا عليه لا يستجاب له، وكيف يدعو عليه وقد أنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الطويلة التي هي أطول آية في القرآن، ثم هو بمحض إرادته لم يعمل بها، فليلم نفسه ولا يلم غيره؛ فهو الذي قصر.
يقول تبارك وتعالى هنا: (( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا )) يعني: لحسن ظنه به واستغنى بالثقة والأمانة عن أن يأخذ منه رهناً.
(فليؤد الذي اؤتمن أمانته) المقصود به: المدين، وإنما عبر عنه بذلك لأنه العنوان لتعينه طريقاً للإعلام؛ لأنه لا يوجد طريق للإعلام الحق سوى الائتمان والثقة ولحمله على الأداء (أمانته) أي: دينه، وإنما سمي أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به.
(وليتق الله ربه) يعني: في رعاية حقوق هذه الأمانة، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التحذير والتأكيد ما لا يخفى.
(ولا تكتموا) يعني: أيها الشهود! لا تكتموا الشهادة.
(ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) قال
الزمخشري: فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: (فإنه آثم)، وما فائدة ذكر القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده. يعني: الرجل هو الآثم وليس قلبه فقط.
قال
الزمخشري: قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها في قلبه، فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إلى القلب؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني، ومما عرفه قلبي؛ ولأن القلب هو رئيس الأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: قد تمكن الاسم في أصل نفسه، وملك الاسم أشرف مكان فيه وهو قلبه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، ولكنه أيضاً متعلق بالقلب (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه).
فاللسان عبارة عن ترجمان عما في القلب؛ ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح.
(وإن كنتم على سفر) يعني: إن كنتم مسافرين وتداينتم بدين إلى أجل مسمى (ولم تجدوا كاتباً فرهان) وفي القراءة الأخرى (فرهُنُ) وكلاهما جمع رهن (مقبوضة) مقبوضة أي: تستوثقون بها، وهذا القيد الذي جاء في هذا الحكم معلق بقيدين (إن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً) فالقيد الأول: أن يكونوا في السفر، والقيد الثاني: عند افتقاد الكتَّاب، لكن بينت السنة جواز الرهن في الحضر، وجواز الرهن مع وجود الكاتب، حتى لو وجدنا كاتباً وأمن بعضنا بعضاً ولم نكتب فلا حرج في ذلك.
والدليل على ذلك ما رواه
البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها (
أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد) فهذا كان في الإقامة ولم يكن في السفر، وهم كانوا في المدينة، وسيجدون كاتباً، لكنه مع ذلك لم يكتب.
فالتقييد بما ذكر من السفر ووجود الكتاب؛ لأن التوثيق فيه أشد؛ فالتوثيق في حالة السفر يحتاج الإنسان إليه أكثر من حالة الحضر.
وأفاد قوله تعالى: (فرهان مقبوضة) اشتراط القبض في الرهن يعني: أنه لابد من قبض الشيء المرهون، وأن يحوزه الشخص المرتهن.
وأفاد قوله: (مقبوضة) اشتراط القبض في الرهن والاكتفاء به من المرتهن.
(فإن أمن بعضكم بعضاً) أي: أمن الدائن المدين على حقه فلم يرتهن (فليؤد الذي اؤتمن) أي: المدين (أمانته) دينه (وليتق الله ربه) في أدائه (ولا تكتموا الشهادة) إذا دعيتم لإقامتها (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) خص بالذكر لأنه محل الشهادة، ولأنه إذا أثم تبعه غيره فيعاقب عليه معاقبة الآثمين.
قال الله تعالى:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286].
قوله تعالى:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] وهذا كلام مستأنف من الله سبحانه وتعالى أي: اطمئنوا فإن الله لن يكلفكم إلا ما في طاقتكم، ولن يحاسبكم على هذه الوساوس والخواطر ما لم تتكلموا أو تعملوا بها.
ويحتمل أن تكون هذه العبارة من باقي ذكر المؤمنين ودعائهم.
وقوله: (وسعها) يعني: ما تسعه قدرتها.
(لها ما كسبت) يعني: من الخير، والمقصود ثوابه.
(وعليها ما اكتسبت) أي: من الشر، فلا يؤخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكسبه مما وسوست به نفسه.
(ربنا لا تؤاخذنا) يعني: وقالوا: (ربنا لا تؤاخذنا) أي: بالعقاب، (إن نسينا أو أخطأنا) يعني: تركنا الصواب لا عن عمد، كما أخذت به من قبلنا، وقد رفع الله سبحانه وتعالى ذلك عن هذه الأمة كما ورد في الحديث الصحيح: (
إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فسؤالهم اعتراف منهم بنعمة الله سبحانه وتعالى، وقد رفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
ولأن من خصال هذه الأمة رفع الآصار ورفع المشقة وإعذار الأمة بهذه الأعذار، كالإكراه والجهل والنسيان وغير ذلك، فمن خصائص هذه الأمة العذر بالإكراه، فهذه من الآصار التي كانت على من قبلنا، فمثلاً إذا تأملنا حكاية الله سبحانه وتعالى عن أصحاب الكهف، أنهم قالوا:
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ [الكهف:20] ثم ذكروا احتمالين فقط
يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20] يعني ما كان لهم عذر في أن يعودوا في ملتهم، بل كان يجب عليهم أن يثبتوا على الدين، فإما أن يرجموا وهم ثابتون عليه، وإما أن يعودوا كفاراً، فلم يكن لهم سعة في الاعتذار بالإكراه؛ وإنما هذا من خصائص هذه الأمة.
(ربنا ولا تحمل علينا إصراً) يعني: أمراً يثقل علينا حمله.
(كما حملته على الذين من قبلنا) يعني: بني إسرائيل، وإذا تتبعنا شرائع التوراة وجدنا من ذلك شيئاً عظيماً جداً، ففي التوراة كثير من الآصار والأغلال التي بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم برفعها، فالشرائع السابقة كانت تأتي خاصة لكل أمة تعالج العوج الذي في أخلاقها وفي قلوبها، وكانت بنو إسرائيل من أكبر الأمم عوجاً وعتواً وعناداً، فكما أنهم لما عاشوا تحت القهر بسبب فرعون وملائه أذلوهم واستعبدوهم وآذوهم واضطهدوهم؛ فمشوا على الخنوع والمذلة، فمن أجل ذلك عوقبوا بالتيه في الأرض حتى ينشأ جيل جديد يتحرر من آثار هذا الذل الذي عاشوا عليه من قبل، كذلك العوج الذي في أخلاق وطباع اليهود -لعنهم الله- أدى إلى أن الله سبحانه وتعالى كان يشرع لهم كثيراً من الآصار والأغلال عقوبة لهم، وكان يتم التشديد عليهم بسبب تنطعهم وعنادهم وعتوهم، وخبث طباعهم ولؤمهم، كما قال تعالى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160] بكذا .. وبكذا، هذه كلها باء السببية أي: بسبب كل هذا الإجرام من اليهود -عليهم لعائن الله- حرم الله عليهم الطيبات، وانظر في قصة البقرة، أمروا أن يذبحوا أي بقرة عندما قال لهم موسى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] لكن لما شددوا شدد الله سبحانه وتعالى عليهم، فإذا تتبعنا هذه الأحكام سنجد كيف أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أجمعين، ورحمة لليهود، لكنهم أبوا وبقوا في هذه الآصار والأغلال كما سنبين إن شاء الله.
فكان من هذه الآصار أن التوبة تكون بقتل النفس، فإذا أرادوا أن يتوبوا يقتل بعضهم بعضاً، كما قال الله:
فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] وكذلك في الزكاة كان الواحد منهم يخرج ربع المال في الزكاة، وكذلك كان الواحد منهم إذا تنجس ثوبه فإنه يقطع ويقرض موضع النجاسة من الثوب، وغير ذلك من الأحكام الشديدة.
ولهذا فإن هذا اعتراف بنعمة الله سبحانه وتعالى
رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] أي: الذين عاقبتهم بهذه التشريعات، وقد فعل الله سبحانه وتعالى ذلك فخفف عن هذه الأمة، وهذا الباب واسع جداً، ولضيق الوقت لا نستطيع أن نفصل فيه القول، فهذه الشريعة تميزت برفع الحرج ورفع الآثار ورفع الأغلال، وبالسماحة وباليسر حتى قال صلى الله عليه وسلم: (
بعثت بالحنيفية السمحة).
(ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) المقصود بقوله: (لا طاقة) يعني: لا قوة لنا به من التكاليف والبلاء.
(واعف عنا) أي: امح ذنوبنا.
(واغفر لنا وارحمنا) الرحمة فيها الزيادة على المغفرة.
(أنت مولانا) أي: سيدنا ومتولي أمورنا.
(فانصرنا على القوم الكافرين) يعني: بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم، فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، وفي الحديث (
لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله عليه وسلم قيل له عقب كل كلمة: قد فعلت) أي: رحمة من الله سبحانه وتعالى، وأي شرف أن ننتسب إلى هذه الأمة المرحومة! فتأمل إذا قرأت هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يجيبك ويقول لك بعد كل دعاء: قد فعلت، قد فعلت، قد فعلت! وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أيتها الأمة.
تنبيهات تتعلق بالآيات الآخيرة من سورة البقرة
أمثلة من آصار اليهود
قوله تبارك وتعالى:
رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] هو ما كلفه بنو إسرائيل مما يهد الأركان، وقد ذكر
القاسمي رحمه الله تعالى هنا حوالى خمس صفحات وهي تؤكد ما وصف به هذا التفسير (محاسن التأويل) من أنه أحياناً ينساق وراء الإسرائيليات، لكن له عذر في بعض المواضع، فإنه أراد أن يأتي بأمثلة حية من التوراة التي بين يدي القوم على هذه الآثار والأغلال التي عاقبهم الله سبحانه وتعالى بها.
فمثلاً: من ضرب أباه وأمه يقتل قتلاً!
ومن سرق إنساناً وباعه أو وجد في يده يقتل قتلاً!
ومن شتم أباه وأمه يقتل قتلاً.
وإذا مات إنسان في خيمة -مثلاً- فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجساً سبعة أيام!
وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس!
وكل ماء مكشوف لم يسد ويربط على فمه فهو نجس!!
وهناك أشياء كثيرة جداً بهذا المعنى، مثل إيجاب القتل في القصاص يعني لا تقبل دية من القاتل المذنب بل إنه يقتل!
وإذا كان لرجل ابن معاند ومارد ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما فإن أباه وأمه يمسكانه ويأتيان به إلى شيوخ مدينتهم ويقولون لهم: ابننا هذا معاند ومارد ولا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكير؛ فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت!
معنى قوله تعالى: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا...)
قوله تعالى: (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) أي: من بليات الدنيا والآخرة، فالدعاء الأول (ربنا ولا تحمل علينا إصراً) هذا طلب رفع شدائد التكليف، أما قوله: (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) فهذا فيه رفع شدائد البليات.
(واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) فإن من حق المولى أن ينصر عبده وأن يتولى أمره على أعدائه، وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله تعالى حسبما مر في تضاعيف السورة الكريمة هي غاية مطلبهم.
ثم تختم هذه السورة الطويلة بقوله تعالى:
أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، وهو لتمكين كل الدين، فأقصى غاية عند المؤمنين والمسلمين الصادقين إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
يقول
الرفاعي فتضمن ذلك وجوب قتال الكافرين وأنهم أعدى الأعداء، وأن قوله تعالى:
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] ليس ناهياً عن قتال المشركين وأعداء الدين، وإنما هو إشارة إلى أن الدين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه، بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة دون الإحواج إلى القتال، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دل عليه عقله، ومن أبى دخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام وماطر السهام.
فضل الآيتين من آخر سورة البقرة
فضل سورة البقرة
خاتمة تفسير القاسمي لسورة البقرة
القاسمي رحمه الله تعالى ختم تفسير سورة البقرة باقتباس جميل جداً هو في الحقيقة في غاية الروعة، وما أشد مناسبته لختام سورة البقرة؛ لأنه جمع فيه الفضائل العظيمة جداً في القرآن، يقول رحمه الله تعالى: تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله وله الحمد، كله يثيب ويعاقب ويكرم ويهين ويخلق ويرزق ويحيي ويميت ويقدر ويقضي، ويدبر الأمور النازلة من عنده دقيقها وجليلها والصاعدة إليه، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.
فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وصلاحهم ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، يذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم ما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوقاتهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم.
ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها.
ويذكِّر عباده بفقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكر لهم غناءه عن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته.
وتشهد من خطابه عتابه لأحبابه بألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومذهب فسادهم، والدافع عنهم، والحامي لهم، والناصر لهم، والكفيل لمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق وناصرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.
وإذا علمت القلوب من القرآن أن الله جواد رحيم جليل، هذا شأنه؛ فكيف لا تحبه، وتتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل من سواه؟!
وكيف لا تلهج بذكره وتصير حبه والشوق إليه والأنس به هو رضاؤها وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟!
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء حزننا، وأعنا على إكمال ما قصدناه بفضلك يا أرحم الراحمين!