يقول الأستاذ يوسف العظم : لقد مرت كتب الأستاذ السيد أو عطاؤه الفكري أو القلمي في ثلاث مراحل: أولاً: الكتب الفنية فيما يتعلق بالتصوير الفني ومشاهد يوم القيامة. ثانياً: كتب الانفعال والحماسة في الإسلام، ومنها: معركة الإسلام والرأسمالية، ومنها: كتاب السلام العالمي والإسلام. ثالثاً: كتب المنهج والتي في قمتها المعالم والظلال والخصائص وهذا الدين، ولذلك فعند دراسة كتب سيد قطب وإنتاجه لابد من وضوح هذه المراحل لمعرفة كل مرحلة، يقول: وأرى أنه من الضروري أن يراجع المفكرون المسلمون فكر الشهيد سيد قطب حتى ينال من التقدير ما يستحق، وليس من المفيد أن نقيم حول فكره سياجاً من التهديد فلا يمس، وحالة من الرهبة حول آرائه فلا تناقش، وقد قلت في كتاب: (الشهيد سيد قطب قائد الفكر الإسلامي المعاصر حياته ومدرسته وآثاره)، وكان ذلك عام ثلاثة وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين ميلادية، قلت في كتابي ذاك: نحن نقدر الرجال ولا نقدسهم، ومن تقديرنا لهم: أن نضعهم حيث يفرض الحق أن يوضعوا، وحيث يحب المنصفون؛ لأننا نعاملهم بلا قداسة ولا عصمة ولا تنزيل. وأختصر المقولة لضيق الوقت فأنقل ما قاله الإمام مالك وهي كلمة أخذها مجاهد عن ابن عباس ، وأخذها عنهما الإمام مالك كما قال الصدقي في الفتاوي، الجزء الأول صفحة مائة وتسعة وأربعين: ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
ونرى أن الخلاف حول فكر سيد قطب سببه أمران: الأول هو الفهم غير السليم لما يقوله سيد قطب حول معاني الاستعلاء أو العزلة الشعورية، وهو أمر لم يقصده الشهيد كما يمارسه بعض الشباب اليوم، إذ لا يكتفون بالاستعلاء على قيم الغرب كما دعا له الشهيد، وإنما يستعلون على الناس من بني قومهم ومجتمعهم وأهلهم. والثاني: الأخطاء التي وقع فيها الشهيد وهو يقدم تراثه الرائع وعطاءه المبرور، حيث دعا إلى اعتزال معابد الجاهلية، وعنى بذلك مساجد اليوم، وفي حديثه عن دار الحرب ودار الإسلام كان متطرفاً إلى حد أنه لم يترك للمسلمين بقعة من الأرض يتحركون فيها ويعملون، ومن هنا فإني أرى، وهذا اقتراح أقدمه: أن يعمل فريق من علماء المسلمين المقدرين لفضل الفكر المؤمن، المحبين للحق؛ على إقامة حلقة أو لجنة لدراسة فكر الشهيد وتهميشه في كتابيه: المعالم والظلال.
ثم قال: والشهيد كما هو معروف رجاع إلى الحق في أكثر من موقف عندما روجع في أكثر من موضوع، غير أني لقيت في مقابل اقتراحي هذا الذي قدمته في كتابي الذي أشرت إليه منذ أكثر من عشر سنوات، أقول: لقيت استهجاناً من البعض ورفضاً لأن يستجيب أحد لمراجعة فكر الشهيد، وتبصير الشباب بجانب الخطأ فيه وجوانب الصواب الكثيرة، إلا أن هذا الذي أشرت إليه لا يمكن بحال أن يقودنا إلى إنكار ما قدمه الشهيد سيد قطب من فكر وعطاء وجهد مبرور في معظم كتبه، ولا يجوز بحال أن يظلم كما ظلم الإمام علي من فريقين من الناس، فريق من الناس كفروه، وبعض الغلاة ألهوه، لا يجوز أن يظلم الشهيد سيد قطب من أمته، فريق يقدس فكره ولا يقبل الإشارة إلى بعض ما ورد فيه من أخطاء، وفريق يحاول النيل منه؛ فيصوره على أنه مجرد أديب وليس مفسراً، والحقيقة أني أعرف جوانب منها، وقد سمعتها على لسان الشهيد، وقد لازمته فترة في مصر، وهي: أنه كان يحيل بعض الإخوة السائلين في مجلسه إلى بعض الإخوة الفقهاء الذين يعرفون من أحكام الشريعة أكثر مما يعرف، فهو ليس فقيهاً يرجع لكل مقال قاله، ولا هو أديب فحسب بل هو مفكر إسلامي فتح الله عليه، فقدم فكره العميق بأسلوب أدبي مشرق، مع ما لهذا الفكر من إيجابيات عظيمة، وسلبيات لابد للحركة الإسلامية الواعية الأم أن تتداركها، وتشير إليها لئلا يزداد تخبط الشباب، ويكبر الشق أو الصف الإسلامي الواحد.
هذا فيما يتعلق بكلام شخص مقرب جداً من الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى.
أيضاً قبل أن نعرض بحث الدكتور جعفر شيخ إدريس ، نذكر تعليق علم من أعلام الإخوان المسلمين وهو الدكتور يوسف الطبلاوي حفظه الله، يقول: بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
فحديثي هو تعليق على بحث الأخ الجليل الدكتور جعفر شيخ إدريس ، ومناقشة بعض الحاضرين في الندوة له، وذلك حول ما يتعلق بالشهيد العظيم سيد قطب ، وأفكاره وقضية المنهج عنده، خاصة في كتاب المعالم، والحقيقة أن الأمر ليس أمر كتاب المعالم، فما المعالم إلا قبسات من الظلال، فالأصل هو الظلال وليس المعالم، بعض الناس يقولون: إن الأمر مجرد هامش على كتاب المعالم ويذكرونه في الحواشي، والأمر ليس تحشية في موضع أو موضعين أو عشرة أو عشرين، أو مئات المواضع؛ هذا فكر يسري في الكتب مسرى العصارة في الأوصال، ومسرى الدم في الجسم، والمسألة ليست كما يقول أخي الأستاذ يوسف العظم : إنها تعليق على بعض الأخطاء، فهذه تقال إذا كان الحديث عن أخطاء جزئية، ولكن المسألة هنا تتعلق باتجاهات، وهذا اتجاه والرجل صاحب اتجاه وصاحب مدرسة، وهذا الاتجاه يجب أن يقوم، ولا تستطيع أن تهمشه إلا إذا كانت المسألة جزئية، وإنما هو صاحب أفكار متسلسلة مرتبط بعضها ببعض.
الأمة الإسلامية انقطعت من الوجود، وهو له رأيه المتطرف في مسألة بني أمية وعثمان وغيره، ورد عليه الأستاذ محمود شاكر من قديم في مسألة الصحابة (ولا تسبوا أصحابي)، ورأيه في المجتمع الإسلامي على طوال التاريخ، ورأيه في المجتمع الحالي، وأنه لا يوجد على وجه الأرض مجتمع مسلم قط في أي بلد من البلاد، حتى المجتمع الذي يعلن ارتباطه بالإسلام، ويقول: إن المجتمع جاهلي، كنت أظن أن كلمة: (مجتمع جاهلي) تعني مثلاً جاهلية التبرج أو تبرج الجاهلية، أو جاهلية الحمية، لا كما يقول الشرك والكفر، وهذا في الظلال في عشرات المواضع، ودعونا نتكلم بصراحة: إن من حق الأجيال المسلمة أن تعرف هذا الأمر على حقيقته، ولقد كنت لا أعرف هذا، كنت قد قرأت سيد قطب القديم، وسيد قطب مراحل، هناك سيد قطب في المرحلة الأولى وهي مرحلة الأديب الناقد الذي كان ينتمي إلى مدرسة العقاد ، وكان مبهوراً ببلاغة القرآن، وظهر هذا في كتب التصوير الفني ومشاهد القيامة في القرآن، ومرحلة سيد قطب المعجب بنظام الإسلام، والداعي إلى عدالته ونظامه، وخير ما يصور هذه العدالة الاجتماعية، ومرحلة السلام العالمي والإسلام، ومرحلة معركة الإسلام والرأسمالية، وفيها كتب عن التاريخ ومنهاج ودراسات إسلامية ومقالات مختلفة، ثم المرحلة الثالثة وهي: المرحلة التي بدأت في السجن، ونقول الآن: إنها كانت لظروف نفسية معينة يعيشها هو ويعيشها المجتمع الإسلامي كله نتيجة لتسلط الطواغيت، وظهور الكفر ووثبة الشيوعيون على أجهزة الإعلام وغير ذلك، في هذا الوقت الذي كان يعذب فيه كل من يدعو إلى الله ويدعو إلى الإسلام في حين تفتح المجالات للآخرين الذين ينكرون الإسلام جهرة وعلانية، في هذا الوقت كتب سيد قطب كتاباته وهي في الظلال أساساً، فاستخرج منها المعالم، وسيد قطب في هذه الكتب له مرحلة أخرى، ولذلك حكى بعض الناس أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما كتب كتبه القديمة، ولما قال له أحدهم: إذاً فأنت كـالشافعي لك مذهبان جديد وقديم؟ قال: نعم، ولكن الشافعي غير في الفروع وأنا غيرت في الأصول، يعني أصول التفكير؛ لأنه بدأ يفكر في أن المجتمع غير مسلم، مجتمع جاهلي، والناس غير مسلمين، ولذلك يقول: وإن كان يدعون أنفسهم مسلمين، أو يسمون أنفسهم مسلمين، أو ما يسمونه العالم الإسلامي، فمثل هذه التعبيرات موجودة منتشرة في كتبه التي كتبت في تلك المرحلة، وراح الذين تتلمذوا عليه يرددون التعبيرات نفسها.
وإني ما كنت أعرف هذا حتى جاءتني رسائل تتكلم عن الموضوع الذي أشار إليه الأخ الأستاذ يوسف العظم ، أعني مسألة: معابد الجاهلية، لقد أرسل إلي طلاب يدرسون في القاهرة من اليمن وغيرها عما جاء في الظلال في سورة يونس: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87]، والتي انطلق منها الشهيد قائلاً: اعتزلوا معابد الجاهلية، واعكفوا على أنفسكم، وأخذ منها هؤلاء: أن المساجد التي تتبع السلطات الجاهلية، ويشرف عليها موظفون إنما هي بيوت للشرك، ولقد اضطررت أن أرد على هذا الكلام، وذلك من سنين طويلة، ولكن القضية كلها تتفرع من قضية: هل الناس الذين من حولنا مسلمون أم لا؟ هذه هي القضية الأساسية التي ينبغي الوقوف عندها، إن الأخ الدكتور جعفر وقف في مسائل يمكن أن تؤول مثل مسألة جيل الصحابة، يعني: هل ممكن جيل الصحابة يتكرر أم لا؟ فهذا أمر يمكن أن نقول فيه: إنه يمكن أن يوجد مثل جيل الصحابة أو قريب منه، وفي هذه القضية حكي الخلاف فيها بين ابن عبد البر والجمهور في: هل يمكن أن يكون بعض الناس في عصرنا هذا أو ما بعد عصرنا يساوي الصحابة أو لا؟ هل تفضيل قرن الصحابة تفضيل للمجموع أو تفضيل للجميع ؟ ابن عبد البر يقول: يمكن أن يأتي بعض الناس في عصر متأخر مثل الصحابة أو مثل بعض الصحابة، واستثنى المبشرين بالجنة والسابقين الأولين وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان، وقال: يمكن بعد ذلك أن يأتي ناس أفضل من بعض الصحابة، فهذه قضية معروفة من القديم، والمشكلة هي: أن قضية المجتمع الجاهلي وما يترتب عليها إنما يجب أن نعرض على الناس العقيدة، ولا نعرض أسس النظام الإسلامي، فهم لم يسلموا، فكيف تعرض عليهم أسس النظام وتفصيلاته؟ فالعقيدة أولاً: يجب أن يفهموا لا إله إلا الله بمعنى الحاكمية. هذا ما يدعو إليه، ولذلك كما قال أخونا الدكتور وهبة الزحيلي : كيف يمكن فعلاً الاجتهاد لوضع حلول لمشكلات عصرية للاقتصاد الإسلامي مثل التأمين والبنوك وغير ذلك؟
المقصود: أن الأستاذ سيد قطب رحمه الله كان له موقف معين من الاشتغال بالفقه أو بأمور العصر غير مفهوم الحاكمية، وتقديم العقيدة من جديد للناس، هو كان يرى أن من خاطب الناس بالحجاب بالحلال والحرام بهذه القضايا الفقهية كان يرى أن هذا مثل من يستنبت البذور في الهوى، كيف تخاطب مجتمعاً أصلاً ليس هو في حالة تحاكم إلى الإسلام أو لـ: لا إله إلا الله. وتقول لهم: حجبوا النساء، أقيموا حدود الله في كذا أو في كذا، وهو أصلاً لم يمتثل هذه العقيدة أو لم يفهمها؟ فهذه نقطة من النقاط الخطيرة جداً في فكره، وسوف يأتي كلام فيها بالتفصيل ونقاش العلماء لهذه النقطة أيضاً.
أيضاً الحديث عن الفقهاء واستنبات البذور في الهواء، فقد كان ينكر على الفقهاء الذين يتكلمون في قضايا الفروع العملية، ويصف أن هذا استنبات للبذور في الهواء، فيقول: ينبغي للزهور أن توضع في التربة، والتربة لابد أن تكون هي الأصل. يشير بذلك إلى المجتمع الذي تشرب بالعقيدة وقبلها، وذكر هذا بتطويل أكثر في حوالي عشرين صفحة في الظلال، وفي كتاب: الإسلام ومشكلات الحضارة، وأعلن أن الذين ينادون بتجديد الفقه الإسلامي، وتطوير الفقه الإسلامي هؤلاء الناس الطيبون السذج، الذين يريدون أن يجتهدوا لمجتمع لم يوجد بعد، وحينما يولد المجتمع الإسلامي يمكن أن نجتهد له، وقيل: إن الذين يستفتون في أمور الإسلام كلهم هازلون، والذين يجيبونهم هازلون، وليس من الواقعي وليس من الإيجابية في شيء أن نستفتي الإسلام ونحن نخرج لساننا له.
يقول الدكتور القرضاوي : وهذا في الحقيقة تجميد وتغيير، فهناك ناس كثيرون يستفتون ويريدون أن يعرفوا الحلال من الحرام، هل كل من سأل في حكم شرعي يسأل وهو يخرج لسانه للإسلام؟ هذا غير واقع في الحقيقة، بالعكس الأصل في الناس -ولله الحمد- الغالب عليهم أنهم حينما يسألون يريدون أن يطبقوا حكم الله سبحانه وتعالى في القضية، هل إذا انفصلت السياسة أو الدولة أو الحاكمية عن الشريعة واتجه وانحرف المجتمع إلى العلمانية، هل معنى ذلك: أن نأتي نحن بفأس ونحطم أيضاً البقايا الموجودة في مواقف أخرى في المجتمع أو في قاعدة المسلمين العريضة؟! نحطم ونقول: ناس كفار ليس لهم علاقة بالإسلام والاشتغال بالفقه وبالحلال والحرام، والناس تخرج لسانها للإسلام، ثم تقول: ما حكم الإسلام في كذا؟ كلا. هذا ليس واقع الناس، ليس كل من يسأل يخرج لسانه للإسلام، ويقصد الاستهزاء أو غير ذلك، إنما تسأل الناس في الحقيقة حتى تحترم دينها، حتى تطبق ما عجزت عن تطبيقه في المجتمع تطبقه في أنفسها؛ لأن هذا داخل في طاقتها.
يقول الدكتور القرضاوي : وهذا في الحقيقة تجميد وتغيير، فهناك ناس كثيرون يستفتون ويريدون أن يعرفوا الحلال من الحرام، يريدون أن يعرفوا البنوك وما بها؟ التأمين ماذا نفعل فيه؟ هل توجد بدائل شرعية؟ لماذا لا نجتهد كما قال الأخ الدكتور عويس ؟ لماذا لا نضع حلولاً؟ إن هذا كله مبني على فكرة المركزية: هي فكرة أنه لا يوجد مجتمع مسلم ، والدكتور القرضاوي هنا يلمح فقط للقضايا المعاصرة التي جدت، لكن ليس فقط الذي نحتاجه القضايا المعاصرة، نحن نحتاج إلى مخاطبة الناس في دينهم، أين المسلم الذي لا يتوضأ أو لا يصلي أو لا يتزوج أو لا يطلق أو لا يبيع أو لا يشتري؟ أليست الشريعة الإسلامية غطت كل هذه المجالات من الحياة؟ فإذاً كيف نطالب الناس أن تهجر الكلام في الحلال والحرام بناءً على أنهم غير مسلمين أصلاً، ونقول: إن من الهزل أن نخاطبهم في الحلال والحرام والتعليم إلى آخر ذلك.. كل مسلم مطالب بأن يتعلم، ويجب أن يتعلم قدراً معيناً يقيم به عبادته.
يقول الدكتور القرضاوي : إن هذا كله مبني على فكرة مركزية: هي فكرة أنه لا يوجد مجتمع مسلم، وأن المسلمين الذين يدعون أنفسهم مسلمين هؤلاء ليسوا مسلمين؛ لأنهم موالون للجاهلية الحديثة، ولذلك يجب أن يقوم كل هذا الفكر.
إن سيد قطب قدم الكثير للفكر الإسلامي، وقدم بعد ذلك دمه وعنقه في سبيل الله، وهو مجتهد أصاب أم أخطأ، هو مأجور على الاجتهاد ولكنه ليس معصوماً، كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فمن الإنصاف لـسيد قطب ، ومن الإنصاف للفكر الإسلامي، ومن الإنصاف للحركة الإسلامية، ومن الإنصاف للمسلمين، ومن الإنصاف للإسلام نفسه: أن نقوم فكرة سيد قطب الآن، وبعد أن مضت مدة على استشهاده؛ لأن أي كلام قبل ذلك ربما اعتبر كأنه انضمام إلى خصوم سيد قطب ، ولكن بعد مضي هذه السنين يمكننا أن نراجع تفكيره وإنتاجه ونقومه بميزان الكتاب والسنة، وبميزان الأصول التي عندنا، نسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويجزيه خير ما يجزي العاملين المخلصين للإسلام، وأن يغفر لنا جميعاً. وبهذا أنهى الدكتور يوسف القرضاوي كلمته.
يقول: قضية المنهج من أهم القضايا الفكرية التي واجهتها الحركة الإسلامية المعاصرة؛ لأن علاقة المنهج بالحركة علاقة طبيعية وشيجة، فالذي يريد أن يتحرك حركة عاقلة رشيدة لابد له أن يحدد الغاية التي يريد التحرك نحوها، والطريق التي يسلكها لبلوغ تلك الغاية، ولأنها كذلك من أكثر القضايا التي ينبني عليها العمل، والتي يؤدي الاختلاف فيها من ثم إلى اختلاف بين الجماعات العاملة للإسلام، وإلى انشقاقات داخل الجماعة الواحدة، ولأن الخطأ في فهمها قد يؤدي إلى تطويل الطريق ويؤدي من ثم إلى دفع أثمان باهضة، وفقد ضحايا غالية، وقد يؤدي إلى الخمول والركود، أو اليأس والقنوط، وقد يؤدي إلى الفشل برغم طول المدة، وكثرة العمل، إلى غير ذلك من النتائج الخطيرة على سير الحركة.
ثم يقول تحت عنوان: غاية الحركة الإسلامية: قلنا إن الحركة الرشيدة تستدعي تحديداً للغاية، وتحديداً للطريق الموصل إليها، فما غاية الحركة الإسلامية في عصرنا؟ يجيب كثير من الدعاة عن هذا السؤال بقولهم: إن غايتنا مرضاة الله تعالى، وهذا صحيح إذا كان المقصود به أنه الغاية الكبرى والقصوى، لكن هذه غاية يبتغيها كل مسلم سواء كان فرداً منعزلاً في جزيرة أو شعب جبل، أم كان عاملاً في جماعة، وبغض النظر عن الجماعة التي ينتمي إليها، والعصر الذي يعيش فيه، والمكان الذي يوجد فيه، هذه الغاية الكبرى تندرج تحتها غايات هي بمنزلة الوسائل المؤدية إليها، والناس حين ينتظمون في جماعة يكون غرضهم -باعتبارهم جماعة- تحقيق إحدى هذه الغايات الثانوية: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، فالمسلمون يسعون كما يسعى الكفار للتمكن في الأرض، لكن غرضهم من التمكن هو إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهم يفعلون ذلك ابتغاء مرضاة الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، فإذاً المؤمن قد يسعى لتحقيق الغاية نفسها التي يسعى لتحقيقها الكافر، وقد يعمل العمل نفسه الذي يعمله الكافر أو المنافق، لكن المؤمن يعتبر هذه الغاية الأرضية وسيلة لغاية سماوية أكبر، بينما يعتبرها الكافر غاية نهائية، أو وسيلة لغاية أرضية أخرى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
نعود لسؤالنا مرة أخرى: ما غاية الحركة الإسلامية في عصرنا؟ غايتها أن تتمكن في الأرض لتجعل الحياة في كل أرض تمكنت فيها موافقة لشرع الله تعالى في تصورات الناس العقائدية، وشعائرهم التعبدية، وعلاقاتهم الاجتماعية، ونظمهم السياسية، وأوضاعهم الاقتصادية، وسياساتهم الدولية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
ثم يقول تحت عنوان: أهمية كتاب المعالم: كيف تعمل الحركة إلى هذه الغاية؟ هذه هي قضية المنهج الذي نتحدث عنه، والتي هي موضوع كتاب المعالم، ذلك الكتاب الذي لا نعرف في تاريخ الحركة الإسلامية المعاصرة كتاباً كان أكثر منه انتشاراً ولا أقوى تأثيراً، ولا أخطر نتائج، ولا أشد رعباً لأعداء الحركة الإسلامية.
معروف أن كتاب المعالم هو زبدة وخلاصة الظلال.
يقول الدكتور جعفر : وقد انقسم الناس حوله ثلاث فئات: فئة قادحة اعتبرته سحراً أسود، ودعوة للظلم وبرنامجاً للتخريب والإثارة والخروج، وكثرة من الشباب مادحة اعتبرته أملها المفقود، ورائدها المأمول الذي يحدد لها معالم الطريق الذي تسلكه للتمكن في الأرض، وفئة منصفة اعتبرتها كالفئة الثانية كتاباً عظيمة لداعية عظيم، وأخذت ما فيه من حق وخير، واستفادت منه كثيراً، لكنها ظلت تذكر أن مؤلفه مع إخلاصه وسعة علمه بشر لم تكتب له العصمة، فأخذت من قوله وتركت.
يقول: وعلى منهج هذه الفئة الثالثة نحاول أن نثير الخلاف في هذا البحث القصير، فنؤيد الكاتب فيما أصاب فيه، ونفسر بعض عباراته التفسير الذي نراه صحيحاً ومناسباً، ونستدرك عليه بعض ما يبدو لنا أنه أخطأ فيه، ونستدرك على بعض قرائه بعض ما نراهم أخطئوا فيه سواء كان لخطئهم هذا ما يسوغه من كلمات الكاتب الشهيد أو لم يكن ذلك، وذلك لأن غرضنا هو التعاون على تسديد سير هذه الحركة، حتى تبلغ غايتها، وتؤتي ثمارها بإذن الله تعالى.
ثم يقول: غاية الحركة ومنهجها في كتاب المعالم. هو في الحقيقة أولاً بدأ يلخص في عبارات مركزة كتاب المعالم، فلأننا نناقش منهج الكتاب فمن الأفضل أيضاً أن نمر على هذا الاختصار والتلخيص.
يقول: يستهل الأستاذ سيد قطب كتابه بتقرير أن الحضارة الغربية بشقيها الديمقراطي والرأسمالي والجماعي الشوعي لم تعد صالحة لقيادة البشرية بسبب إفلاسها في عالم القيم، وأنه لابد من قيادة جديدة تملك إبقاء الحضارة المادية وتنميتها، وتزود البشرية بقيم جديدة جدة كاملة، وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي، وأن الإسلام وحده هو الذي يملك تلك القيم وهذا المنهج، ولكن الإسلام لا يملك أن يؤدي أهدافه إلا أن يتمثل في مجتمع، بيد أن وجود الأمة المسلمة قد انقطع منذ قرون كثيرة، فلابد إذاً من بعث تلك الأمة كي تتسلم القيادة، ويتساءل الكاتب: كيف تبدأ عملية هذا البعث الإسلامي؟ وهذا يقوده إلى قضية المنهج التي نحن بصددها، ولعلنا نستطيع أن نرتب خطوات هذا المنهج من شتى فصول الكتاب في الآتي:
أول خطوة في طريق بعث الأمة الإسلامية هي: وجود طليعة تعزم على تسلم القيادة، الأفراد الممثلون لهذه الطليعة الذين انسلخوا عن المجتمع الجاهلي، والذين خلصت ضمائرهم من العبودية لغير الله يكونون جماعة مسلمة هي التي ينشأ منها المجتمع المسلم، لابد لهذه الطليعة من معالم في الطريق تعرف منها طبيعة عملها، وحقيقة وظيفتها، وطلب غايتها، ونقطة البدء في الرحلة الطويلة، كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعاً، أين تلتقي مع الناس؟ وأين تختبئ؟ ما خصائص الجاهلية من حولها؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام، وفيم تخاطبها؟ ثم تعرف أين تتلقى في هذا كله؟ وكيف تتلقاه؟
هذه المعالم لابد أن تستقى من المصدر الأول لهذه العقيدة: القرآن، و(معالم في الطريق) كتب للوفاء بهذا الغرض، وهو موجه لتلك الطليعة المرجوة المرتقبة، لكي تؤدي هذه الجماعة رسالتها وتتسلم قيادة البشرية عليها أن تكون كجيل الصحابة، ذلك الجيل القرآني الفريد؛ لأن القرآن والسنة اللذين خرجا ذلك الجيل ما زالا بين أيدينا، وغيبة شخصه صلى الله عليه وسلم لا تفسر عدم تكرار جيل الصحابة، ولكي تكون هذه الطليعة كذلك الجيل عليها أن تسلك المنهج الذي تخرج عليه، وهو يتمثل في أن تستقي من القرآن وحده، ولا تخلطه بمنابع أخرى، وأن تتلقى منه لتنفذ لا لتستمع أو تتثقف، وأن تعتزل الجاهلية المحيطة بها، أول ما تلقاه ذلك الجيل القرآني وأهم ما تلقاه من القرآن الكريم هو العقيدة، وبالعقيدة ينبغي أن تبدأ هذه الطليعة الجديدة.
العقيدة هي: لا إله إلا الله، وهي تعني رد الحاكمية لله في الأمر كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم.
إن أول ما ينبغي أن ندعوا الناس إليه هو العقيدة حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، فقد ظل القرآن المكي ثلاثة عشر عاماً يتحدث في قضية العقيدة ولا يتجاوزها إلى شيء مما يقوم عليها من التعريفات المتعلقة بنظام الحياة، لماذا؟ لأن العقيدة هي الأساس التي تقوم عليه وتنبثق منه كل تنظيمات الإسلام وتشريعاته، فإذا استقرت العقيدة في النفس استسلمت للنظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، ولأن هذا الدين منهج عملي حركي جاد، ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلاً، والقرآن لم يعرض قضية العقيدة في تلك الفترة في سورة نظرية أو لاهوت أو جدل كلامي، وإنما كان يخاطب فطرة الإنسان، ولذلك لم يعرض القضية في تلك الصور، وإنما عرضها في صورة تجمع عضوي حيوي، وتكوين تنظيمي مباشر من الحياة ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها، وكان نمو هذه الجماعة ممثل لنمو البناء العقدي، كل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي ولا يتمثل من خلاله هو خطأ وخطر، كذلك هذا هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين في أي وقت إلا به.
يقول الدكتور جعفر شيخ إدريس تحت هذا العنوان: نستطيع أن نرى في هذه الصورة الموجزة إيجازاً يكاد يكون مخلاً لقضية المنهج في المعالم شيئاً من سر ذلك الاستقبال العظيم الذي قوبل به ذلك الكتاب، ولا سيما من الشباب، وشيئاً من ذلك التأثير الذي لم نر له مثيلاً في كتاب الحديث؛ إنه يدعوهم لهدف واضح كل الوضوح وسامق كأعلى ما يكون السموق، إنه لا يطلب منهم أقل من أن يسعوا لتسلم قيادة البشرية، وهو هدف مغرٍ وجذاب لكل ذي همة من الشباب، وهو مع اعترافه بأن الطريق إلى ذلك الهدف شاق وطويل إلا أنه يقنع قارئه بأنه ليس بالأمر المستحيل لمن عزم على السير فيه وأعد له عدته وها هي عدته، إنه قيم جديدة ومنهج جديد، وكلا الأمرين يملكهما الإسلام ولا يملكهما دين أو مذهب سواه، وإذا كانت الحضارة الغربية قد فاقتنا في المجال المادي؛ فإن التفوق عليها في هذا المجال مع أهمية التقدم المادي لوجودنا الذاتي ليس من المؤهلات المطلوبة لتلك القيادة، فها هو الغرب يتراجع عن هذه القيادة برغم امتلاكه لهذه القوة، وسبب تراجعه هو إفلاسه في عالم القيم، وهو يدعوهم إلى أن يكونوا كجيل الصحابة، ويغريهم بأن هذا أمر ممكن إذا هم سلكوا إليه المنهج الصحيح، وإذا أرادوا أن يكرروا ذلك الجيل، وأن يتسلموا قيادة البشرية؛ فعليهم أن يعتزوا بقيمهم الإسلامية، وأن يستعلوا بها على قيم الحضارة الغربية وسائر القيم الجاهلية التي تسود العالم الذي انسلخوا منه، عليهم أن يضعوا قيم الإسلام للناس كما هي من غير اعتذار ولا خجل ولا تدسس، وأن يصارحوهم بأنها تختلف عن القيم التي اعتادوها، وأن المسافة بعيدة بين القيم الإسلامية وهذه القيم الجاهلية، وأن النقلة من هنا إلى هناك بعيدة.
هذه الروح الاستعلائية الاعتزازية القوية هي موضوع بعض فصول الكتاب وفقراته، ولكن الأهم: أنها تسري في الكتاب كله، وهي في رأيي أهم وأغلى وأبقى ما استفاده الناس من كتاب المعالم.
إن هذا الكتاب بهذه الروح يمثل مرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية المعاصرة، قفزت فيها الدعوة من مرحلة المجاملة والتردد والاعتذار إلى مرحلة المباهرة والتحدي والاعتزاز، وهذه المرحلة هي أغلى وأبقى ما استفاده الناس من كتاب المعالم، وإنه لإنجاز عظيم، وإنها لنعمة كبرى على العبد أن يجعله الله سبباً لنقل الدعاة إلى هذه المرحلة الجديدة التي تطلبها دعوتهم، ولكن ينبغي ألا ننسى فضل الدعاة الذين سبقونا، وأن نتذكر أنه لم يبدأ من فراغ، وإنما أضاف لبنات مهمة إلى بناء كان قد وضع أساسه وشيد بعض أدواره دعاة قبله.
هذا بعض ما يتجلى لنا من الصورة الموجزة التي رسمناها، وأما إذا اكتملت الصورة بالرجوع إلى الكتاب والرجوع إلى مؤلفه في الظروف التي خرج فيها؛ فإن أسراراً أخرى تتجلى، منها: أن الكتاب صيغ بأسلوب يمتاز بالوضوح والقوة والجد والجمال، وباللهجة الصادقة الأمينة، يقرأه الداعية وكأنه خطاب من صديق عزيز يسدي إليه بعض النصائح الغالية، وقد ظاهرت هذه العوامل الداخلية الذاتية لقوة الكتاب عوامل خارجية، فقد ظهر الكتاب في وقت ظن الناس فيه أن الحركة التي ينتمي إليها الكاتب قد قضي عليها، فإذا به يذكرهم بوجودها بهذه الصيحة المدوية، وقد قرأ الناس بين أسطر الكتاب معارضة قوية للسلطة الغاشمة التي كانت بلاد الكاتب تعيش تحت وطأتها آنذاك وزاد من اقتناعهم بذلك: مصادرة الكتاب، كما هي طريقة المغفلين في محاربة الفكر، يظن أن مصادرة الكتاب هو الحل، فزاد من اقتناع الناس بذلك مصادرة الكتاب، ومحاولة الحيلولة دون انتشاره، لكن قوة الكتاب بلغت ذروتها ففي وقت من الأوقات كان بعض الشباب يتداولون كتب الأستاذ سيد في المعاطف والثياب؛ لأنها كانت تعامل كالمخدرات، لكن كانت تقرأ ربما أكثر من الآن، وكان الشباب يهتم بها أكثر من الآن، بسبب أنها كانت تحارب، أما الآن لما توفرت لم يعد الإقبال عليها كما كان في ذلك الوقت، فعامل الله هؤلاء بنقيض قصدهم، في حرب الكتاب، لكن قوة الكتاب بلغت ذروتها حين رأى الناس كاتبه يلقى الموت مطمئن البال مستعلياً على السلطة الغاشمة ساخراً منها، فهرعوا إلى الكتاب يقرءونه وصورة الكاتب الشهيد ماثلة أمام أعينهم، فيحسون أنه كان جاداً وأميناً في كل كلمة خطها قلمه، وتذكر كثير منهم قوله في مناسبة أخرى: إن كلماتنا تظل عرائس من الشموع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة.
يقول: لقد استمعنا في هذه الفترة الطيبة المباركة إلى بحثين عظيمين، ولكن استوقفني النظر إزاء تحديد الفكر الإسلامي، وكأن الاتجاه يتجه إلى حصر الفكر في مفهوم العقيدة والقضايا العامة، وكأنهم يعزلون الفكر عن نطاق الاجتهادات الإسلامية التي مثلتها أعمال الأئمة العظام من فقهاء المذاهب، وكأن الفقه مراد له ألا يكون من أنماط هذا الفكر. يعني: دائماً يتكلمون على قضايا العقيدة وقضايا عامة، ويفصلون الفكر عن الفقه مع أن الفقه حاكم على الفكر، ليس الفكر أن يفتح الكتاب أو يتدبر شخص بفكره وبعقله، ويهيم فيه ثم قد يصيب وقد يخطئ، فهناك فرق بين الفكر وبين العلم، ولذلك نحن نأخذ دائماً قضايا الفكر وكتب الفكر بحذر، لابد أن يكون هناك وعي كاف لمن يقرأ في كتب الفكر حتى لا يتابع المفكرين في بعض توهيماتهم وتخبطهم، والمفكر لابد أن يكون مجذوباً بخيوط تشده إلى أصول أهل السنة والجماعة حتى لا يهيم بعيداً، ولا بد أن يكون مجذوباً بخيوط من العلم الشرعي حتى لا يخالف الأحاديث والأدلة، ومجذوباً ومشدوداً ومقيداً بخيوط تجذبه نحو الفقه الإسلامي حتى لا يشذ عن الفقهاء ويتخبط بعيداً عنهم، ففكر بدون علم قد يأتي بشر كثير.
يقول الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله: وكأن الفقه مراد له ألا يكون من أنماط هذا الفكر، مع أن الإسلام لم تتضح صورته، ولم تبرز معالمه، ولم يكتب لها الخروج، ولم تعرف صلاحيته للتطبيق في مؤتمرات العالم المقارنة للقوانين والأنظمة والتشريعات إلا عن طريق الفقه الإسلامي، فكيف أستطيع أن أقبل ما أشار إليه ضمناً الأخ يوسف العظم من أن سيد قطب كان يحيل إلى الفقهاء يعني: كيف الأستاذ سيد قطب رحمه الله يتكلم في تنظير الفكر الإسلامي، ويتكلم عن عدم وجود دولة إسلامية؛ ويتكلم في هذه القضايا الحساسة والمصيرية وهو يعترف ضمناً أنه لم يكن فقيهاً، فيحكي عنه الأستاذ يوسف العظم أنه كان يكتب ملازم من الظلال أو بيت من الشعر ثم يعرضها على إخوانه الفقهاء.
يقول: وكيف أقبل ما سمعته من الأخ الدكتور جعفر من أن تصورات الفقهاء واستنباطاتهم كانت بمثابة استنبات الجذور في الهواء؟ كيف نتكلم على فقه الفقهاء وكلام الفقهاء في الحلال والحرام والفروع ونحوها استنباط جذور في الهوى أو أنه هزل، أو أن هؤلاء الذين يسألون على الأحكام الفرعية والذين يجيبونهم هؤلاء هازلون وهؤلاء هازلون، كيف يسمى هذا هزلاً؟ كيف ننظر بهذه النظرة التي فيها ازدراء للفقه، وأهمية الفقه في حياتنا والتزامنا بديننا.
يقول الدكتور وهبة الزحيلي : وكيف أقبل ما سمعته من الأخ الدكتور جعفر : من أن تطورات الفقهاء واستنباطاتهم كانت بمثابة استنبات البذور في الهواء، إني لا أقبل وأرفض كل هذه الفكرة أسلوباً ومنهاجاً وتطوراً، وإن له كتابات كثيرة في هذا الموضوع -أي: الأستاذ سيد رحمه الله- تقصي الفقه، وتبعده عن القيام بأي عمل حتى تقوم دولة الإسلام، وعندئذٍ يأتي عمل الفقهاء، لا يمكنني أن أقبل مثل هذا التصور من المرحوم سيد قطب -أنا أتلوها فقط كأمانة-، وحتى أن بعض من يتحمس لأفكاره يعادون فكر الإسلام من هذه الزاوية، لا يمكننا أن نفصل الإسلام عن هذا الاجتهاد العظيم؛ لأننا لا بد أن نبحث قضايا العصر، ومن الذي يبحثها: أليس هم الفقهاء؟ أليس الفقه هو الذي يتصدى لبحث الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ ثم إني لم أجد في بحث الأستاذ محمد عبد الله السمان ولا في كلام الأخ الدكتور فتحي عثمان إشارة من ناحية الفكر إلى فقه الإسلام، وكأنهما حصرا الفكر في زاوية معينة هي زاوية العقيدة، ولا يمكنني أن أقبل بأي حال من الأحوال تلك المقولة لو استقبلت من أمري ما أدبر لاكتفيت بالقرآن.
هذه حكاها بعض المحاضرين عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، واعتقد أن هناك تصرفاً في حكايتها، فـشيخ الإسلام ما كان يقصد بقوله: أني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لاكتفيت بالقرآن، إذ لا يمكن أنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة، فهو نادم على كل وقت ضيعه في مناظرة المتكلمين والفلاسفة، ونقد هذه المذاهب دون أن يرتبط بالقرآن الكريم، قال هذا لما خلا شيخ الإسلام في آخر سجنه رحمه الله بالقرآن، وفتح عليه معارف عظيمة جداً في كتاب الله تبارك وتعالى، حتى هذه المقولة يمكن أن تؤخذ بشيء من النظر؛ فبعض الناس الذين استفادوا من إثراء شيخ الإسلام المكتبة الإسلامية بالرد وبإبطال مذاهب الفلاسفة والمتكلمين والصوفية وأعداء الإسلام قالوا: ما كتبه شيخ الإسلام أفاد كثيراً، واستفادوا منه في هذه الأشياء.
يقول: ولا يمكن أن أقبل تلك العبارة التي هزت كل كياني، وهي: أن مساجد اليوم معابد الجاهلية لم أفهم هذه العبارة ولم أعرف ما مدلولها، أأصبحت المساجد هي معابد الجاهلية؟ ثم إن الأخ محمد عبد الله السمان قد وقع في خطأ عندما صور الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي، فكل من أهل الرأي وأهل الحديث لم يقصر جهده لا على الحديث وحده، ولا على الرأي وحده، وإنما كان كل واحد منهما يعمل بالحديث وبالرأي معاً، ولكن غلب على أحد الاتجاهين العمل بالحديث، وغلب على الآخر العمل بالرأي، وليس الرأي ما نعرفه اليوم بالفكر المحض، وإنما هو رأي يستمد أصوله من روح التشريع الإسلامي، الرأي كان عندهم في الغالب هو القياس مثلاً أو ما شابه ذلك، مش الرأي، يعني: الفكر الآن يهيم بدون ضوابط في هذا الزمان، وإنما هو رأي يستمد أصوله من روح التشريع الإسلامي ومبادئه العامة فهو لا يكاد يخرج عن دائرة النص وإن سمي رأياً. هذا كلام الدكتور وهبة الزحيلي حول السنة والفقه في منهج السيد قطب .
بقي أيضاً تعليقات أخرى مفيدة -إن شاء الله- لكثير من المفكرين يناقشون فيها بحث الدكتور جعفر شيخ إدريس حول قضية المنهج في فكر السيد قطب .
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر