الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء وأيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله عز وجل الذي جمعني مع حضراتكم جميعاً في هذه اللحظات الكريمة الطيبة على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أخي الحبيب! إن موضوع هذا اللقاء موضوع جليل؛ لأننا سنتحدث فيه عن كلام ربنا الجليل، فالقرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى، فهو الحجة البالغة، والدلالة الدامغة، والعصمة الراقية، والنعمة الباقية، وهو شفاء الصدور، وهو الحكم العدل إذا ما اشتبهت الأمور.
أولاً: مصدرية القرآن الكريم دليل على إعجازه، بمعنى: أنك إذا علمت أن القرآن من عند الله؛ فاعلم يقيناً أنه كلام معجز؛ لأنه كلام الله جل جلاله، وهذا معنى أن مصدرية القرآن دليل على إعجازه، والله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن أعظم معجزات نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، مع كثرة ما أجرى الله لنبينا صلى الله عليه وسلم من معجزات، إلا أنني أود أن أؤكد للمسلمين والمسلمات بأن أعظم وأكرم وأخلد وأبقى معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم: هي القرآن الكريم.
فأنت تعلم أن الله سبحانه وتعالى قد بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيئة اشتهر أهلها بالبلاغة والبيان، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب قومه بلغتهم؛ فأنزل الله تبارك وتعالى عليه هذا القرآن المعجز ليتحدى الله به البشرية كلها، لا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، وإنما في كل العصور، بل وستعجب إذا قلت لك بأن التحدي ما زال قائماً إلى هذه اللحظة، بل إلى يوم القيامة ونحن في القرن الحادي والعشرين ما زال ربنا تبارك وتعالى يتحدى بهذا القرآن الكريم البشرية كلها.
مراحل تحدي الله للمشركين أن يأتوا بمثل القرآن
خوف أهل الشرك والكفر من سماع القرآن
كسر القرآن لعناد الكفر واستكباره
وبدأ القرآن يتنزل ويقرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضوان الله عليهم ما نزل منه، فلقد نزل القرآن منجماً -أي: مفرقاً- على مدار ثلاثة وعشرين عاماً، مفرقاً بحسب الأحوال والحوادث، فيحدث الشيء وتنزل النازلة؛ فينزل قرآن يربي هذه القلوب والعقول والضمائر والأخلاق.. ينزل القرآن مع كل حدث؛ ليعلم الصحابة رضوان الله عليهم أن الله مطلع عليهم، يسمع كلامهم، ويعلم سرهم ونجواهم.
جاءت امرأة تشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها، وهي المجادلة التي أنزل الله في حقها قرآناً، وسميت سورتها بسورة المجادلة، والسيدة
عائشة في جانب من جوانب حجرتها، لا تسمع كثيراً من كلام وشكوى المرأة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك استمع الله قولها من فوق سبع سماوات، وأنزل الله القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعالج هذه المشكلة ولو كانت فردية، فما ظنك إن كانت المشكلة جماعية تعم الأمة بأسرها.
تقول
عائشة رضي الله عنها: (
تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، فلقد جاءت المجادلة تشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في جانب الحجرة لا أسمع كثيراً من كلامها؛ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1]).
عهد النبي صلى الله عليه وسلم
فالقرآن نزل منجماً -أي: مفرقاً بحسب الأحوال والقضايا والحوادث- على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقرأ النبي الآيات الكريمة، فتحفظها صدور أصحابه رضوان الله عليهم، فلقد من الله عز وجل عليهم بصدور واعية، وعقول وقلوب فاهمة حافظة، وهذا من رحمته وحكمته وهذه المرحلة هي مرحلة استيعاب القرآن في الصدور.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يكتب؛ اتخذ من بعض الصحابة كتاباً كـ
زيد بن ثابت -الذي سمي بكاتب الرسول، ويا لها من منقبة، وكـ
أبي بن كعب ، وكـ
عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآيات يجمع الكتبة، ويقرأ عليهم الآيات الكريمة الجليلة، ويكتبونها على اللخاف -واللخاف: هي الحجارة الرقيقة- والجلود، والرقاع، وجمع القرآن بهذه الصورة المفرقة، لكنه كان محفوظاً في صدور الصحابة رضوان الله عليهم.
وكان يحفظه جمع كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي المصطفى صلى الله عليه وسلم والقرآن على الحجارة، والأخشاب، والرقاع، فضلاً عن صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم.
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق
ولما تولى الخلافة من بعده صلى الله عليه وسلم -وهي المرحلة الثانية-
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقامت جيوش أهل الردة تريد أن تدمر الأخضر واليابس، وجيَّش
الصديق رضوان الله عليه لقتال أهل الردة جيوشاً؛ شاء الله سبحانه وتعالى في أخطر هذه المعارك على الإطلاق، ألا وهي معركة اليمامة في العام الثاني عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، التي كانت بين المسلمين وبين الكذاب
مسيلمة؛ أن يقتل في معركة اليمامة عدد كبير جداً من القراء، أي: ممن كانوا يحفظون كتاب الله سبحانه وتعالى.
وجاء
عمر بن الخطاب رضي الله عنه فزعاً إلى
أبي بكر رضي الله عنه فقال: (يا خليفة رسول الله! أدرك كتاب الله عز وجل، اجمع القرآن؛ فلقد قتل جمع كبير من القراء، وأخشى أن يضيع القرآن)، فتردد
الصديق ؛ لأن
الصديق رضوان الله عليه كان أشد الناس اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟! كيف أجمع القرآن في صحف واحدة؟
عمر بن الخطاب ذلكم الرجل الملهم، الذي آتاه الله بصيرة، بل هو الذي وافق الله سبحانه وتعالى في كثير من آيات القرآن.
ونزل القرآن موافقاً لقول
عمر لا لرأيه، بل لقوله بتمامه، فمثلاً: قال
عمر بن الخطاب يوماً: يا رسول الله! فلنتخذ من مقام إبراهيم مصلى؛ فنزل قول الله تعالى:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
والشاهد أنه حتى بنفس الكلمات التي يقولها
عمر رضوان الله عليه تتنزل آيات القرآن الكريم، فأشار
عمر بن الخطاب على
أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا خليفة رسول الله! اجمع القرآن. لكنه تردد قال
الصديق : فظل
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراجعني حتى شرح الله صدري لما شرح له صدر
عمر. والحديث في صحيح البخاري.
فأرسل
أبو بكر رضي الله عنه إلى كاتب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهو
زيد بن ثابت رضي الله عنه.
اسمع ماذا قال
الصديق لـ
زيد ، قال: (يا
زيد ! إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك)، انظر إلى هذا التعبير: (إنك رجل شاب) هو شاب، لكنه قدم صفة الرجولة، ليعلم شبابنا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من الشباب، و
الصديق حينما أسلم كان في الثامنة والثلاثين من عمره؛ لأن الرسول أوحي إليه في الأربعين، أما
عمر بن الخطاب و
الأرقم بن أبي الأرقم و
عبد الله بن مسعود و
زيد بن ثابت و
الزبير بن العوام و
علي بن أبي طالب و
سعد بن أبي وقاص وغيرهم وغيرهم فقد كانوا في ريعان الشباب، لكنهم كانوا رجالاً.
فـ
الصديق يقول لـ
زيد : (يا
زيد (إنك رجل)؛ هذه واحدة، (شاب عاقل لا نتهمك)، أي: أنت عندنا عدل ثقة، (فتتبع القرآن فاجمعه).
وانظر إلى هذا الرجل الذي يعرف قدر المسئولية وثقل الأمانة، قال
زيد رضوان الله عليه: (والله لو كلفوني نقل جبل لكان أيسر علي مما كلفوني به من جمع القرآن).. أمانة ثقيلة لا يعرف قدرها إلا الرجال، ولكن:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
وبدأ
زيد بن ثابت رضوان الله عليه في جمع القرآن الكريم من العسب -جمع عسيب، وهو جريد النخل- واللخاف وصدور الرجال، ومن المواضع التي وجدت عليها آيات القرآن الكريم في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، وجمع القرآن الكريم كله في صحف، وهذه هي المرحلة الثانية.
ثم انتقلت الصحف إلى
أبي بكر رضي الله عنه، إلى أن توفي
الصديق ، فانتقلت الصحف إلى بيت الخليفة الراشد
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وظلت الصحف في بيت
عمر ، ثم توفي
عمر رضي الله عنه، فانتقلت الصحف بهيئتها وحالتها إلى بيت
حفصة زوج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابنة سيدنا
عمر رضي الله عنهما.
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان
فلما تولى الخلافة بعد
عمر رضي الله عنه سيدنا
عثمان بن عفان رضوان الله عليه، وامتدت الغزوات والفتوحات في أرمينيا وأذربيجان، وبدأت راية التوحيد ترفرف على كثير من الأرض، وعاد
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أمين السر النبوي، ذلكم الرجل الذي أطلعه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسماء المنافقين، حتى ذهب إليه يوماً
عمر بن الخطاب وقال: (أنشدك الله يا
حذيفة ! هل سماني رسول الله في المنافقين؟ قال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً).
فـ
حذيفة رضوان الله عليه حضر هذه الغزوات، فعاد -والحديث في صحيح
البخاري وغيره- إلى
عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو يقول: (أدرك الأمة يا أمير المؤمنين قبل أن تختلف في كتابها كما اختلفت الأمم من قبلها! قال
عثمان : وما ذاك؟ قال: غزوت أرمينيا وأذربيجان، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة
أبي بن كعب ، فيأتون بما لم يسمعه أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة
عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمعه أهل الشام، فكفر بعضهم بعضاً).
وكان من رحمة الله سبحانه للأمة أن أنزل القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم على سبعة أحرف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف)، فكان الرجل يقرأ بقراءة
عبد الله بن مسعود، فيسمع صحابي آخر قرأ بقراءة
أبي بن كعب ، كقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَثبتوا) ، والقراءتان صحيحتان، وكلاهما من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من باب التخفيف والتيسير -كما قال جمهور المفسرين من أهل العلم.
فاختلف الصحابة القراء؛ فجاء
حذيفة رضوان الله عليه إلى
عثمان فقال: (أدرك الأمة يا أمير المؤمنين)، فشرح الله صدر
عثمان رضي الله عنه لما قاله
حذيفة ، فجمع القرآن الكريم.
أرسل الخليفة الثالث لـ
حفصة : أن أرسلي إلينا بالصحف، فأرسلت الصحف التي جمعت في عهد
أبي بكر رضي الله عنه، وانتقلت منه إلى
عمر ثم إلى
حفصة ، ونادى
زيد بن ثابت مرة أخرى، ونادى الكتاب الذين اختارهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يتتبعوا القرآن، وأن يجمعوه، ثم قال لهم: إذا اختلفتم أنتم و
زيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنه قد نزل بلسانهم.
واستقرت الصورة الأخيرة للقرآن على لسان قريش. أي: على اللسان الذي نزل به القرآن الكريم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نزل بلغة قريش، وجمع
عثمان رضوان الله عليه القرآن كله في مصحف واحد، وهذا هو الذي يسمى بالمصحف الإمام، ونسخ منه مجموعة من المصاحف، وأرسل إلى كل مصر -أي: إلى كل أفق من الآفاق، وبلد من البلدان الضخمة- بمصحف، وظل هذا القرآن موجوداً بين أيدينا إلى هذه اللحظة، لم تحذف منه آية، ولم تتغير فيه كلمة، ولم يتبدل فيه حرف؛ مصداقاً لقول ربنا جل جلاله:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]؛ وما تولى الله حفظه لا يضيعه أحد!
أن جمع القرآن بدأ من عهد سيدنا فضيلة الشيخ! قلت: إن كل إنسان يستطيع أن يأخذ من القرآن، سواءً الكيميائي والعالم والمهندس.. وغيرهم، لكن الحقيقة اليوم أنا نرى القرآن بقي موجوداً في السيارة ليتبرك به وعلى الرفوف إلا من رحم ربي...
الشيخ: هذا هو الذي ينبغي أن نتحدث عنه في هذا اللقاء، فنحن نتحدث عن حق القرآن علينا، وكما تفضلت وافتتحت اللقاء الكريم، بأن فضل القرآن على كل كلام كفضل الله سبحانه وتعالى على كل الخلق والبشر.
فهذه العبارة تبين لنا أن القرآن الكريم لا حد لفضله، ولو اجتمع علماء الأمة، ومن الله عليهم بلغة البيان، وفصاحة الأسلوب، وعظمة التبيان، فلن يستطيعوا أن يعبروا عن فضل القرآن، كيف وقد ذكرت بأن فضله كفضل الله على كل خلقه.
من الذي يستطيع أن يحد هذا الفضل أو أن يعرف مقداره؟ لا أحد، إلا من أنزل القرآن سبحانه وتعالى، ولكن أستطيع أن أقرب لكم، وذلك من كلام نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم لأولئك الأفاضل من المسلمين والمسلمات؛ ليعلم كل مسلم ومسلمة فضل القرآن، وحتى لا يهجر أحدنا كتاب الله سبحانه.
وقبل ذلك أقول: إن كثيراً من المسلمين أو إن بعض المسلمين والمسلمات ربما لا يفتح كتاب الله عز وجل إلا في رمضان.
مداخلة: قد يقول: أنا ختمت في رمضان خمس مرات.. ست مرات، وهذا يكفيني!!
الشيخ: وهذا شيء جميل وعظيم وجليل، لكن الذي يقلق القلب أنه ربما بعد هذا الجهد المبارك يغلق كتاب الله عز وجل، ويضع المصحف في القطيفة الفخمة الضخمة، ويظل هذا الكتاب مغلقاً إلى أن يأتي رمضان.
أهمية أن يجعل الإنسان لنفسه ورداً يومياً من القرآن
فضيلة القرآن والتنافس فيه
فضل الذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق