يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! حدثتكم في الجمعة الماضية عن خروج المهدي وعن أحداث تسبق خروجه، وحدثتكم عن صفاته وبعض من أخباره، وحتى يكون الحديث متصلاً سأحدثكم اليوم عن الدجال ، وهو أعظم فتنة تمر على البشرية، فما من نبي إلا حذر قومه الدجال ، ولكن تحذير نبينا صلى الله عليه وسلم كان أشد؛ لأنه سيخرج في هذه الأمة، وخروجه أمر عظيم وجسيم، وتبلغ فتنته مبلغاً لا يعلمه إلا الله، أما ترى أننا نتعوذ من فتنته في دبر كل صلاة، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا يبقى لهم سائمة إلا هلكت، وأنه يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر عليهم، ويأمر الأرض أن تنبت لهم، إنها والله فتنة عظيمة، لذلك حذر الأنبياء منها، وكان نبينا أشد الأنبياء تحذيراً.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وكان أكثر خطبته عن
إنها فتنة عظيمة عباد الله! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يخرج حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر، من أجل هذا اخترت الحديث عنه حتى لا تسكت المنابر عن التحذير من فتنته.
فهيا معاً نطوف بين الأحاديث والآثار التي تحذر وتنذر وتخبر عن فتنته، وقد أطيل قليلاً لكني أردت أن يكون الحديث تاماً ومتصلاً من وقت خروجه إلى نهايته.
قال ابن فارس : لأن أحد شقي وجهه ممسوح مشوه، وقيل: لأنه ممسوح العين، وهذا ما اختاره أكثر أهل العلم، وقيل: لأنه يمسح الأرض، أي: يقطعها تجولاً في أربعين يوماً، فلا تبقى بقعة في الأرض إلا يطؤها في أربعين يوماً.
وقد يقول قائل: ولماذا سمي المسيح ابن مريم بذلك؟
اختلف في ذلك على عدة أقوال، منها: أنه يمسح على الأعمى والأكمه والأبرص فيبرأ بإذن الله، ويمسح على الميت فيحيا بإذن الله، وقيل: لأنه أمسح الرجل، فليس لرجله أخمص، وقيل: إنه خرج من بطن أمه كأنه ممسوح بالدهن، وقيل: إن حسن الوجه يسمى مسيحاً في اللغة، فعلى هذا يكون على وجهه مسحة جمال وحسن، وقيل غير ذلك.
فلدينا مسيحان: مسيح على وجهه مسحة قبح، ومسيح على وجهه مسحة حسن وجمال.
ويقول البعض عن الدجال : المسيخ، بدلاً من المسيح؛ وذلك للتفريق بينهما، وهذا ليس بصحيح، وإنما يفرق بينهما فيقال: مسيح الهداية ومسيح الضلالة.
فمسيح الهدى يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ومسيح الضلالة يفتن الناس بما يعطاه من الآيات، كإنزال المطر وإحياء الأرض وغيرها من الخوارق.
ومنها: الدجال مأخوذ من الدجالة وهو طلاء البعير بالقطران؛ سمي بذلك لأنه يغطي الحق ويستره بسحره وكذبه، كما يغطي الرجل جرب بعيره بالدجالة والنصب والاحتيال.
ومنها أيضاً: أن الدجال هو الضارب في نواحي الأرض وقطعه لها، يقال: دجل الأرض إذا ضرب في مشارق الأرض ومغاربها.
ويقال: الدجال من التغطية، أي: أن كل شيء غطيته فقد دجلته، فـالدجال يغطي الحق ويظهر الباطل.
وقالوا كذلك: الدجل من ماء الذهب الذي يطلى به الشيء فيحسن ظاهره وداخله خزف أو عود، فـالدجال يطلي الأشياء لتصبح في ظاهرها حسنة وهي باطلة.
وإليك مزيداً من الأخبار، فأعوانه وجنوده الشياطين كيف لا وهم أنصار كل باطل وأعداء كل حق؟! قاتلهم الله أنى يؤفكون! جاء في رواية: (وإن من فتنته أن يقول لإعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وبعثت لك أمك، أتشهد أني ربك، فيقول الإعرابي: نعم، فيتمثل له شيطانان على صورة أبيه وعلى صورة أمه، فيقولان له: يا بني! اتبعه فإنه ربك) فهل من فتنة أشد من هذا!
ومنذ أيام مضت ادعى رجل في اليمن النبوة، وادعى قبله أقوام.
ومن العلامات التي تسبق ظهوره أيضاً: فتح القسطنطينية، عن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الملحمة العظمى، وفتح قسطنطينية، وخروج
ومن العلامات ومما نلاحظ في هذه الأيام: تغير الأحوال وتبدل الأشياء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) صححه ابن حجر .
ومن العلامات السابقة لظهوره كذلك: جوع وقحط وحاجة، جاء في حديث أبي أمامة الطويل: قال صلى الله عليه وسلم: (وإن قبل خروج
ويكون معه جبل من خبز ونهر من ماء، والناس جائعون ليس معهم خبز ولا ماء، فماذا يمنعهم من اتباعه؟!
إنها والله فتنة عظيمة، فالغني يريد أن يزيد في غناه، والفقير يريد أن يخرج من فقره، وأهل البادية في جهل، والنساء ناقصات عقل ودين، واليهود له تبع؛ لأنه منهم.
جاء في رواية: (أنه لا ينجو منه إلا سبعون ألفاً من الرجال وخمسون ألفاً من النساء، والذين يعرفون كذبه يفرون إلى الجبال).
وقال أبو هريرة : أحدثكم ما سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن
وقد اختلفت الروايات في تحديد تلك الفترة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج
وفي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعين يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم،قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا قدره)، فانظر كم هم حريصون على صلاتهم؛ لأن الفتن يستعان عليها بالصبر والصلاة.
قال أهل العلم: إنما قال ذلك لشدة حبهم للفتن والقلاقل، وليس للصحابي أن يقول ذلك اجتهاداً، إنما هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما إسراعه في الأرض فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله الصحابة عن ذلك: (فقالوا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح) رواه مسلم .
ومعنى ذلك: أن سرعته كالمطر عندما ينزل فتتبعه الريح.
عباد الله! وعلى الرغم من شدة البطش التي عرف بها الدجال وتلك الخوارق التي معه، إلا أنه في الشدائد يعرف الرجال بإيمانهم، ويعرفون بصدقهم، ويعرفون بثباتهم، ويعرفون بتمسكهم بالحق، فلا يخشون إلا الله، ولا يفرون من الموت، واسمع من خبرهم في مواجهة الدجال ، فهم يعرفونه لأنه مكتوب على جبينه كافر لا يقرؤها إلا المؤمن، وإن كان لا يقرأ أو يكتب.
فعند مسلم من حديث أبي سعيد قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً حديثاً طويلاً، حدثنا عن
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، وإن من تقواه التمسك بكتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم الذي حذرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فجزاه الله عنا خير ما جازى نبياً عن أمته.
عباد الله! السؤال: هل الدجال موجود؟ وكيف تكون نهايته؟ فاسمع رعاك الله وبارك فيك.
عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما قالت: (خرجت إلى المسجد فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور الرجال، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: ليلزم كل إنسان مصلاه، ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكني جمعتكم لأن
فـالدجال موجود، وينتظر فقط أن يؤذن له، والله أعلم.
فسيعيث الدجال في الأرض فساداً، ثم ينزل عيسى عليه السلام، فماذا يحدث للدجال إذا رأى عيسى عليه السلام؟ إذا جاء الحق زهق الباطل، وإذا جاء النور تبدد الظلام، وإذا جاء العدل هرب الظلم والظلمة والطغاة، فإذا رأى مسيح الضلالة مسيح الهدى ذاب كما يذوب الملح في الماء.
وهذا منظر بديع حين ينزل عيسى عليه السلام، فقد ثبت في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان مرفوعاً: (فبينما هو كذلك -يعني
الله أكبر إنه منظر جليل بديع يؤذن بنهاية الظلم والكفر والطغيان.
قالت أم شريك في حديث آخر: (يا رسول الله! فأين الناس حينها؟! -أي: أين الناس حين ينزل عيسى عليه السلام؟- قال: هم يومئذ قليل وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح - يعني:
عباد الله! ما نذكر هذا إلا ليزداد المؤمن إيماناً: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:18-19]، وحتى ننجو من فتنته، فلا بد من المبادرة بالأعمال الصالحة، والاستعاذة من شره، وحفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، وفي رواية: من آخر سورة الكهف، فإنها تعصم من فتنته.
أسأل الله أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الموحدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم احفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء دينك، اللهم انصر من نصرهم واخذل من خذلهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين! وسدد رأيهم ورميهم، وصن أعراضهم واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين!
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا! من الراشدين.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر