وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه كافة للناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فهذه وقفات مع كيد الأعداء لأمة الإسلام في العهد النبوي الكريم، نقفها من خلال بعض الأحداث في غزوة أحد التي كانت في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، والسيرة -كما نعلم- معين لا ينضب من الدروس والعبر والحكم والأحكام التي تجلت في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليمه لأصحابه، وهديه وإرشاده لأمته، كما تجلت في ذلك الصراع بين الحق والباطل، والكيد من أهل الكفر، وإعمال الفتك والنخر في جسد الأمة الإسلامية من قبل أهل النفاق، وسوف ننظر إلى بعض هذه المواقف لنرى أعداء الداخل والخارج، ليكون لنا بذلك نورٌ يكشف ما يحل بمجتمعات الإسلام اليوم، ولندرك في ضوء هذه القصص التي وقعت في السيرة النبوية وما تنزل في شأنها من الآيات القرآنية ندرك حقيقة أعدائنا ممن هم مزروعين بين صفوفنا، أو مقيمين بالعداء على خطوطنا، أعداء الخارج من أهل الكفر، وأعداء الداخل في داخل مجتمعات المسلمين من أهل النفاق، لننظر إلى هؤلاء وهؤلاء كيف كانت مواقفهم وأفعالهم في غزوة أحد، حتى يكون ذلك معيناً ومبصراً لنا لما نكون فيه وعليه في حياة أمتنا الإسلامية وقد امتدت بها كثير من صور العناء من كيد وإجرام الأعداء.
قال ابن هشام : مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم يوم بدر؛ فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا. ففعلوا ذلك.
إنها الدعوة والتحريض، والإثارة والتهييج، وإذكاء نار العداوة في القلوب، وإشعال جمر الغضب على أمة الإسلام، وزرع الخوف من المسلمين لأنهم الخطر الداهم والعدو الغاشم حتى تتوحد الصفوف في العداء نحوهم، وتتوجه القوى المادية والمعنوية بالكيد لهم، هكذا صنع صفوان وعكرمة وغيرهما ممن مَنَّ الله عز وجل عليهم بعد ذلك بالإسلام وصاروا من خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الصورة الحية المتحركة تبين لنا كيف يعمل أهل الكفر في صفوفهم ويأزون أصحابهم أزاً، ويدفعونهم دفعاً، ويستخرجون منهم العون والتأييد المادي والمعنوي، فإذا بهم يجوبون الآفاق، كما يقع اليوم في هذه الدنيا التي نرى فيها تكالب أعداء المسلمين على هذه الأمة المستضعفة في شرق الأرض وغربها.
فكم من دور لمثل ما وقع من عكرمة وصفوان وعبد الله بن أبي ربيعة وغيرهم يقع اليوم في التأليب على أمة الإسلام والمسلمين، وعلى مجتمعات المسلمين في كثير من بقاع الإسلام: وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]، انطلاق، ومشي، وسعي، وحركة، وتأليب، وعرض، وتقليب للحقائق، وتزوير للصورة، وتشويه لأمة الإسلام حتى ينشأ العداء في القلوب، وتتوجه القوى لحرب أمة الإسلام.
قال ابن إسحاق رحمه الله: ففيهم -أي: هؤلاء- كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
هؤلاء قد ذكر الله عز وجل شأنهم بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على تجدد فعلهم وتكرره في كل زمان، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: بأية ملة كانت غير ملة الإسلام كفروا بالله عز وجل، وكفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، (إن الذين كفروا) بهذا الوصف المطلق العام الشامل يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ أي: في كل زمان ومكان وموقف، لماذا؟ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، ويحولوا بين الناس وبين الإسلام. ثم يخبر الله عز وجل عن العاقبة التي ينبغي أن نوقن بها، ولكن ينبغي أيضاً أن نعمل لتحقيقها فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ، وكم نرى من إنفاق الأموال وتدبير الخطط، واستغلال العقول والأفكار الخبيثة والمكر والدهاء الخبيث لكي تقع الدائرة على أمة الإسلام والمسلمين؟
حتى هذا الرجل الواحد الذي ليس عنده من سلاح غير لسانه وشعره دعي إلى ذلك، فلما قيل له ذلك تزعزع عن موقفه، وتحرك ليكون حربة موجهة للإسلام والمسلمين، وليكون قوة تضاف إلى قوة أهل الكفر ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتحرك وانطلق في تهامة يدعو بني كنانة ليكونوا مع قريش ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فهذا فرد واحد جيء به لتكون له مهمة واحدة وأمر محدد معين، المقصود أن يبلي في حرب الإسلام والمسلمين بلاءه، وأن يتحرك حركته بما يستطيع، وهكذا نرى هذه الصورة التي تدلنا على هذا التجييش والانتقاء للطاقات، ومعرفة كل إمكانية حتى توظف في اتجاهها الصحيح في حرب أمة الإسلام؛ لأن الذين كفروا لا يمكن أن يوادعوا، ولا أن يهادنوا، فضلاً عن أن يحبوا أو أن يناصروا، فضلاً عن أن يعينوا أو أن يوافقوا أمة الإسلام في شيء مطلقاً، قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، حقائق القرآن تنطق، وآياته مخلدة إلى قيام الساعة تخبرنا بما علمنا الله عز وجل إياه من حقائق أهل الإيمان والكفر.
ويهاً بني عبد الـدار ويهاً حماة الأديـار ضرباً بكل بتار
ويقلن:
إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق فراقاً غير وامق
أي: غير محب. فكن يحرضن على القتال ويؤلبن عليه، وكانت هذه أيضاً صورة من صور تكامل العداء الذي توجه به كفار قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والمجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، وهي صورة تتكرر وتظهر بهذا التكامل الذي لا يخفى على عين البصير ولا على إدراك العاقل، فإن أمة الإسلام اليوم لا شك أنها تواجه مثل هذه الصور من العداء مع اختلاف وعظمة في الإمكانيات، وكثرة في أولئك الأعداء، وكيد ومكر في التخطيط والدهاء، كثيرة هي الصور التي تشابه في أصلها وتفوق في عظمتها وقوتها وشدتها ما كان عليه كفار قريش في حربهم وعدائهم للإسلام والمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، أفلسنا نرى صورة تتجدد لتلك الحشود التي تحشد ضد الإسلام والمسلمين؟ أولسنا نسمع أبواق الإعلام التي تشوه صورة الإسلام وتتهم أمة الإسلام بالدموية ونحو ذلك؟ أولسنا نرى صور كل فتنة وسبيل من أسباب الكيد والإغراء، وصورة من صور المكر والدهاء وهي تحاك ضد الإسلام والمسلمين؟ وما أمور المسلمين في البوسنة أو كشمير عنا ببعيد، أو في غيرها من بلاد الإسلام، فإن الأمر جد واضح وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، وهم على هذا النهج سائرون، وهذه صورة من الصور ومواقف قليلة في غزوة أحد فحسب، فما ظنك بغيرها؟ وما ظنك بحشود كانت قبل ذلك وبعد ذلك؟ وما ظنك بكيد وكيد كان مثله واضحاً بيناً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولإن كان هؤلاء الكفار هم الصورة الظاهرة للعداء فإن أهل النفاق هم الصورة الخفية المتلونة الشديدة في أثرها من صور العداء؛ لأن أولئك قد باينوا وفارقوا وواجهوا وأظهروا وأعلنوا، أما أهل النفاق فقد اندسوا بين الصفوف وأضمروا غير ما أعلنوا، وهم يطعنون من وراء الظهر كما يقال.
فننظر أيضاً إلى بعض الصور التي جاءت في غزوة أحد، لنرى صورة أكثر أهمية وخطورة فيما يتعلق بالأضرار التي تقع على المسلمين في كل زمان ومكان من أهل النفاق الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في بعض حديثه عن بعض صورهم في أحاديث كثيرة، وكان فيما قاله حديث آخر الزمان من حديث حذيفة : (هم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، إن أمر النفاق بدأ ونجم بعد غزوة بدر لما علت راية الإسلام، وانتصر حزب الإيمان وحزب الرحمن، حينئذٍ قالوا: لا مناص من أن تدخلوا تحت الراية، وتندرجوا في الصف حتى لا تكونوا مفارقين مخالفين. فدخلوا في صف الإسلام وهم على الكفر مقيمون، والبغضاء والحقد والكيد في قلوبهم قد انطوت عليه نفوسهم وأضمروه فيها، فماذا كان لما جاءت غزوة أحد؟ كان من رأي النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر أن يبقى في المدينة ويتحصن فيها، حتى إذا غزاها أهل الكفر كان للمسلمين قدرة على صدهم وردهم وإيقاع الهزيمة بهم، ثم كان بعض المسلمين من المتحمسين الذين لم يشهدوا بدراً وأرادوا شرف الجهاد وطمعوا في أجر الاستشهاد كانوا يرون الخروج، حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ولبس لأمته ودرعه، ثم عزم على القتال.
وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين يرى الرأي الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في البقاء في المدينة، فماذا صنع؟ خرج مع الجيش المسلم حتى إذا كان الجيش بالشوط -مكان بين المدينة وأحد- انخذل عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه ممن وافقه من قومه على نفاقه، انخذلوا بثلث جيش المسلمين ورجعوا، وقال عبد الله : أطاعهم وعصاني، وما ندري علام نقتل أنفسنا؟ فلحقهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله رضي الله عنه، لحقهم ليردهم ويذكرهم بإيمانهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، وتعذروا بحجج أهل النفاق، ومضى عبد الله بن أبي يخذل الناس، حتى إذا آيس منهم عبد الله بن عمرو بن حرام دعا عليهم.
فانظر إلى هذا الموقف، فبعد أن تألبت قريش، وجاءت الأخبار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الجيش العرمرم الذي جاءت به قريش، وهو أكثر من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، ومع ذلك ينخذل عبد الله بن أبي في اللحظة الحاسمة وفي الوقت العصيب، وهكذا هو شأن أهل النفاق، يختفون ويظهرون بمظهر الموافق، حتى إذا جد الجد، ودنت ساعة المواجهة، أو احتاج المسلمون إلى النصرة أو التثبيت كان دورهم الخذلان والتثبيط، وهكذا فعل عبد الله بن أبي بهؤلاء المسلمين.
ثم قد ذكر أهل السير من الأحداث ما يدل على أن أهل النفاق لم يرجعوا كلهم، وإنما رجع بعضهم، وبعضهم واصل المسيرة وظهرت مقالاتهم وأفعالهم في أثناء الغزوة، وكان من خبر أولئك ما ذكره بعض أهل التفسير في قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152] قال: المقصود بأولئك بعض أهل النفاق من الرماة الذين تركوا مواقعهم وانصرفوا إلى الدنيا؛ لأنهم كانوا قد خرجوا إليها.
وكذلك ما روي أيضاً في السير من أن بعضهم لما بلغه شائعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بدأت الدائرة في آخر المعركة تدور على المسلمين قال بعضهم وخرج ما في قلوبهم: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان. ثم قالوا: إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم.
وهذا الزبير رضي الله عنه يروي أيضاً -كما ورد في أسباب نزول بعض الآيات التي جاءت في أحد- قال: إني لأسمع قول معتب بن قشير وأنا في الحلم كالنائم -عندما غشيهم النعاس لتثبيتهم وتطمينهم في غزوة أحد كما حصل في غزوة بدر أيضاً- قال: إني لأسمع قوله وهو يقول: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154].
فكان هذا تثبيطهم في الغزوة، ثم جاء دورهم أيضاً بعد الغزوة، ووافقوا اليهود في المقالة التي أشاعوها بين أهل الإسلام توهيناً لهم وتثبيطاً، وزرعاً للزعزعة بين الصفوف، قالوا: لو كان نبياً ما ظهروا عليه ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه. وقال المنافقون للمسلمين أيضاً: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذي أصابكم.
وهكذا نجد هذه المواقف التي تمثل صورة أكثر تأثيراً في العداء والخذلان في داخل صفوف المسلمين من أهل النفاق، ولو تأملنا لوجدناها تتكرر كثيراً في حياة الأمة الإسلامية اليوم، مما يستدعي أن يحرص المسلمون على معرفة حقيقة أعدائهم في داخل صفوفهم وخارجها، والله سبحانه وتعالى قد بين مصير أولئك وأولئك، فقال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، وهذه العاقبة الختامية، ولكن المسلمون مطالبون أن يرفعوا راية الإسلام، ويحموا حوزة الإسلام والمسلمين، ويحافظوا على حرمات المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فالله نسأل أن يرد عنا كيد الكائدين، ويخذل عنا المعتدين، ويحمينا من شرور الكافرين والمنافقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وإن المتأمل يجد الحقيقة القرآنية في أمر مهم نذكر به، ولعلنا نختم به الحديث عن هذه الصورة الموجزة في غزوة أحد، وهو أمر التعاضد والتناصر والولاء الذي يجمع أهل الكفر وأهل النفاق، فقد أخبر الله عز وجل بذلك في قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، فهم يوالي بعضهم بعضاً، ويناصر بعضهم بعضاً، ويعين بعضهم بعضاً، ويثبت بعضهم بعضاً، ويتبادلون فيما بينهم كل ما يعينهم على تحصيل حظوظهم الدنيوية، والنيل من أهل الإسلام في كل مكان، والله عز وجل أخبر أيضاً عن أهل النفاق فقال: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، أخبر عن حقيقة فعلهم وحقيقة تعاضدهم وولائهم، وأنهم بعضهم من بعض، ولحمتهم واحدة، ودينهم واحد، وقد دعا الله جل وعلا أمة الإسلام إلى أن تحرص على موالاتها ومعاداتها فتجعلها لله سبحانه وتعالى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، وكما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء والبراء عقيدة إيمانية، وكما دعانا القرآن الكريم بآيات تتلى إلى يوم الدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]، وكما بينت الآيات القرآنية في غير ما آية ضرورة ولاء المسلمين بعضهم لبعض، وبرائهم من أعداء الله عز وجل، ولو تحقق ذلك في كل مسلم وفي كل مجتمع لبرئنا كثيراً من أضرار أولئك المندسين في الصفوف، ولبرئنا كثيراً أيضاً من الأوهام والأغلاط التي تجعل بعض المسلمين ربما يحسن الظن بالأعداء، أو يواليهم، أو يناصرهم، أو يكون معيناً لهم -والعياذ بالله- على غيره من المسلمين، وهذا أمر ينبغي أن نتفطن له، وهذه الغزوة يتجدد الحديث عنها دائماً، ونجد فيها وفي غيرها من أحداث السيرة مواقف ودروساً وعبراً تستحق التأمل، ولعل هذه الصورة المبسطة توقظنا إلى الحقيقة الواقعة الشاهدة الناطقة بها أحداث هذا العالم اليوم في تألبه وتكالبه على أمة الإسلام، وسعيه لحربها من داخل صفوفها ومن خارجها وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، وكما قال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، لكنه جل وعلا قد اشترط الشرط فقال: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، فأروا الله عز وجل من قلوبكم وولائكم وبرائكم والتزامكم بدينكم ما يجعل أمر الله بالنصر يتنزل على أمة الإسلام، ويعود -بإذن الله عز وجل- لها سالف عزتها وعظيم مجدها ووحدتها وقوتها التي كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهود الإسلام الزاهرة في أوقات كثيرة.
وفي هذا المقام نذكر أنفسنا أيضاً بالأعمال الصالحة التي ندبنا إليها في الأوقات الطيبة المباركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله)، وفي روايات توضيحية تفسيرية لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحسنة بعشر أمثالها) فشهر بعشرة أشهر، وستة أيام تعدل شهرين، فيكون ذلك عدل السنة كلها.
فاحرص أخي المسلم على أن لا تفوت على نفسك هذا الأجر العظيم، وأن لا تجعل حظك من رمضان والصوم ينقطع بنهاية أيامه، والاستقامة أمر عظيم، قال الله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما استوصاه ذلك الرجل قال: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، فالاستقامة على الطاعات والخيرات من مؤشرات القبول الذي نرجوه من الله سبحانه وتعالى لصيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا، ومن بشائر الخير التي يمنُّ الله بها علينا؛ لأن الطاعة تثمر الطاعة، والقبول يولد العمل الصالح بإذن الله عز وجل.
نسأل الله جل وعلا أن يتقبل أعمالنا، وأن يعيننا فيما بقي من أيامنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم! تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وطرفاً دامعاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأرد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والنفاق والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! إنا نسألك أن تنزل سخطك وغضبك وعذابك على الكافرين، وعلى المعتدين على عبادك المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين اللهم! أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم! اجعلهم عبرة للمعتبرين، لا ترفع -اللهم- لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم! سود وجوههم، ونكس راياتهم، وأذل أعناقهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! وفق العلماء والدعاة العاملين لنصرة الإسلام والمسلمين في مكان يا رب العالمين، اللهم! وعليك بسائر أعداء الدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! ثبت إيمانهم، وزد يقينهم، وعجل فرجهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر