وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن مع سورة الذاريات المكية، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوة الآيات، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ * وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذاريات:38-46].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تقدم في السياق الكريم أن الله عز وجل أهلك قوم لوط وحول مدينتهم سدوم إلى بحيرة منتنة، وهي موجودة إلى الآن، ماؤها أسود منتن، وقال تعالى: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [الذاريات:37]، في إهلاك الله تعالى لقوم لوط وتدميرهم آية تدل على وجود الله، على قدرة الله، على علم الله، على حكمة الله.. وكلها مستلزمة لألوهية الله تعالى، فلا إله إلا هو، والذي نزلت عليه هذه الآيات لن يكون إلا رسولاً لله، فتقرر بذلك معنى: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
والذين يخافون العذاب الأليم عذاب يوم القيامة، عذاب الجحيم؛ هم الذين ينتفعون بهذه الآيات؛ لأن لهم بصائر يبصرون بها، أما الكافرون الذين لا يخافون عذاب الله لا في الدنيا ولا في الآخرة فهم عمي لا يبصرون وأموات ليسوا بأحياء.
وهنا ذكر تعالى أربع آيات، فمن كان له بصر يبصر فسيشاهدها، وكل آية تدل على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق، وأن من يطيع الله يكرمه ويعزه، ومن يعصيه يهينه ويذله.
إِذْ أَرْسَلْنَاهُ [الذاريات:38] من القائل: إذ أرسلناه؟ الله، هذا كلام الله، أرسل موسى؛ إذ بعدما خرج من الديار المصرية نزل بمدين وعاش أكثر من عشر سنوات، ثم انتقل إلى مصر، وفي الطريق أوحى الله إليه وأرسله إلى فرعون.
إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [الذاريات:38] بحجج قطعية، عصاه استوعبت كل ما هو أمامها، يده كأنها فلقة قمر، وهذه هو الحجة والسلطان المبين، تسع آيات أرسله الله بها وسلطان مبين.
وَهُوَ مُلِيمٌ [الذاريات:40] مستوجب اللوم، لم؟ دمر قومه، أهلكهم، عذب بني إسرائيل، ادعى الربوبية، ادعى الألوهية، كيف لا يلام؟ أغرقه الله وجيشه العرمرم وهو مليم والعياذ بالله تعالى، هذه آية أكبر من آية سدوم وعمورة، فرعون برجاله بركنه دُّمر في ساعة!
هكذا يقول تعالى: وَفِي عَادٍ [الذاريات:41] وفي إهلاكنا لعاد، إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات:41] علام يدل هذا؟ على وجود الله، علم الله، قدرة الله، وعلى نبوة هود عليه السلام، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الدار الآخرة والجزاء فيها على الكسب في الدنيا.
وَفِي عَادٍ [الذاريات:41] آية أخرى إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات:41] فدمرتهم، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات:42] جبال تفتت، ومبان، حيوانات، بشر، جعلتهم كالفتات، ما تترك من شيء في تلك الديار إلا دمرته هذه الريح.
ومن عجائب العلم أن أهل البادية يعرفون قرة العجوز في آخر الشتاء، وسبب تسميتها: أن عجوزاً دخلت في غار في جبل، فجاءتها الريح تدور حتى دخلت عليها وجرتها وكسرت رأسها، فتسمى ريح العجوز أو قرة العجوز، فما نجا أحد لا عجوز ولا أب ولا كبير.
هكذا يقول تعالى: وَفِي عَادٍ [الذاريات:41] أي: إهلاكنا لعاد أمة من أقوى الأمم وأعظمها، لم تكن أمة أعظم من عاد في أيامها أبداً، واقرءوا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8] وكان طول أحدهم ستين ذراعاً، فأهلكهم الله.
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات:41-42]، وهل تعرف العظام إذا تكسرت وتفتت؟ هذا هو الرميم.
ومدائنهم موجودة إلى الآن، وكان الحبيب صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم ما يسمح لرجاله أن ينزلوا هناك ليشربوا من ذلك الماء، وإلى الآن لا تدخل إلا وأنت تبكي وإلا فلا تدخل، والجهال يدخلون ويضحكون لضلالهم.
هكذا يقول تعالى: وَفِي ثَمُودَ [الذاريات:43] أي: آية رابعة، وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ [الذاريات:43]، من القائل لهم؟ قال لهم صالح بأمر الله: تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ [الذاريات:43-44]، ما معنى: عتوا عن أمر ربهم؟ تكبروا وتجبروا، أبوا أن يؤمنوا ويعبدوا الله عز وجل، هذا هو العتو.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الذاريات:44]؛ لأنهم جاثمون من يوم الأربعاء، ما يقدرون على الحركة، لا أكل ولا شرب.
ثم قال تعالى: فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ [الذاريات:45] ما يستطيع واحد أن يقوم وهم على ركبهم من يوم الأربعاء، فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ [الذاريات:45] من ينصرهم وقد خذلهم الله وهيأهم للعذاب والدمار والخراب بعدما عصوا رسول الله صالحاً، وفسقوا عن أمر الله وأصروا على عبادة الأصنام والأحجار والعياذ بالله تعالى، من ينصرهم؟ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ [الذاريات:45] أهلكهم الله، فهذه آية كآية سدوم.
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ [الذاريات:46] أي: قبل عاد وثمود وقبل موسى وهارون؛ لأن نوحاً أول الرسل، بينه وبين آدم قرابة ألف سنة فقط، وكان الناس يعبدون الله ويتناقلون العبادة جيلاً عن جيل، ثم بعد ذلك حصل الجهل والفساد فعبدوا خمسة آلهة، فأرسل الله نوحاً عليه السلام، واقرءوا سورة نوح ما بين المعارج والجن: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [نوح:1]، فعاش بينهم ألف سنة إلا خمسين سنة يدعوهم ليعبدوا الله وحده فقط، وهم مصرون على الشرك معاندون مكابرون، جيل بعد جيل في تسعمائة وخمسين سنة، فما كان من الله جل جلاله وعظم سلطانه إلا أن أغرقهم، فاضت الأرض بالماء وأمطرت السماء الماء والتقى الماءان فأغرقهم أجمعين، ولم يبق على وجه الأرض إلا نوح ونيف وثمانون نسمة في سفينة نوح، لماذا؟ لأنهم أصروا على الشرك والكفر وعلى التكذيب والعناد، فلهذا استوجبوا عذاب الله فأهلكهم، ولولا أن الله عز وجل جعل رسوله محمداً ذا رحمة ووصفه بأنه الرءوف الرحيم لكانت البشرية تهلك كما أهلك من قبلها، ولكن لا يهلك الناس مع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رحمة الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ومع هذا ينزل بهم الجوع والفقر والخوف والحرب والمرض والآلام، لكن الإهلاك الكامل والدمار ما يحصل، أما الفسق والفجور والكفر فلا بد أن له نتائج في الدنيا مشاهدة معلومة.
هكذا يقول تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذاريات:46] ما معنى: فاسقين؟ خارجين عن طاعة الله ورسوله نوح عليه السلام، فكل من خرج عن طاعة الله ورسوله فهو فاسق، من: فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، فنبرأ إلى الله أن نكون من الفاسقين.
معشر الأبناء والإخوان، معشر المؤمنات! تعوذوا بالله أن تكونوا من الفاسقين، فمن هو الفاسق؟ هو الذي يترك أمر الله فما يفعله، الذي يرتكب ما نهى الله عنه ويفعله، والله! لهو الفاسق، لكن إذا كان يتوب فإنه يتوب الله عليه، أما إذا استمر على الفسق ولازمه فترة فإنه يصبح الفاسق ويموت على الفسق والعياذ بالله تعالى، نبرأ إلى الله من ذلك.
وهكذا أربع آيات أضيفت إلى الآية الخامسة كلها تشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق وهو الجزاء على الكسب في هذه الدنيا، فالعمل الصالح كالعمل الفاسد كلاهما جزاؤه ليس هنا ولكن هناك؛ إذ هذه دار عمل وتلك دار جزاء، حياتان: حياة العمل هي هذه، وحياة الجزاء هي الدار الآخرة.
وقبل مائة سنة ما كنا موجودين، وسوف نموت، وإن متنا بعدما وجدنا انتقلنا إلى الدار الآخرة.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير كل من التوحيد والنبوة والبعث؛ لما في الآيات من دلائل على ذلك ].
من هداية هذه الآيات التسع: تقرير النبوة المحمدية، والبعث الآخر، وأنه لا يُعبد بحق إلا الله، هذه الآيات كلها تقرر هذه الحقيقة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والبعث الآخر حق.
[ ثانياً: قوة الله تعالى فوق كل قوة؛ إذ كل قوة في الأرض هو الذي خلقها ووهبها ].
من هداية الآيات: أن قوة الله فوق كل قوة، ولا تساويها قوة ولا تعادلها، بل ما من قوة إلا والله واهبها وخالقها، جميع القوى الله موجدها وخالقها، وتجلى لنا هذا، فماذا فعل بعاد؟ دمر أمة كاملة في ساعات، وماذا فعل بقوم صالح من ثمود؟ قضى على أمة كاملة في ثلاثة أيام، أية آيات أعظم من هذه؟
[ ثالثاً: اتهام المبطلين لأهل الحق دفعاً للحق وعدم قبول له يكاد يكون سنة بشرية في كل زمان ومكان ].
من هداية هذه الآيات: نقد المبطلين وانتقادهم للدعاة والصالحين هذه سنة بشرية تكاد لا يفارقها زمان، وجود من ينقد أهل الحق ويتعرض لهم ويؤذيهم هذا موجود إلى يوم القيامة.
[ رابعاً: من عوامل الهلاك العتو عن أمر الله، أي: عدم الإذعان لقوله، والفسق عن طاعته وطاعة رسله ].
وهذه توجه إلى أمة الإسلام أولاً، تلك الأمة التي هبطت من علياء السماء فعطلت شرع الله وأبعدت كتاب الله وحولته إلى الموتى، وتعيش على الفسق والفجور إلا من شاء الله وأنقذه ونجاه، والله! إنها لتحت المنظار، إما أن تدمر وإما أن تعود إلى الحق والطريق المستقيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر