إسلام ويب

تابع تفسير سورة الفتح [10]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    شرح حديث صلح الحديبية

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فقد قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الشروط: [ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط. حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة؛ فخذوا ذات اليمين)، فوالله! ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل! حل! فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله! مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره)، فقال بديل : سأبلغهم ما تقول. قال: فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـبديل ، فقال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس، خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر ، قال: أما والذي نفسي بيده! لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء). ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فوالله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله! لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له! وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له)، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مكرز وهو رجل فاجر)، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو . قال معمر : فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد سهل لكم من أمركم). قال معمر : قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)، فقال سهيل : والله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله)، قال الزهري : وذلك لقوله: (لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها). فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به)، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب ].

    إتيان صاحب بني كنانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

    انتهينا في شرح هذا الحديث عند قول عروة لما رجع إلى أصحابه وقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك.. إلى قوله: وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته. قوله: (فقال رجل من بني كنانة) وفي رواية: فقام الحليف ، وقيل: إنه من رءوس الأحابيش، وقال: أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير ويمنع ابن عبد المطلب ، فقام رجل من بني كنانة فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن - يعني: الجمال- فابعثوها له) يعني: أثيروها دفعة واحدة. وزاد ابن إسحاق : فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: سلك هذه الطريقة ليبين لهذا المبعوث أنهم ما أتوا لقتال وإنما أتوا معتمرين، وآية ذلك أن الرسول عليه السلام أمرهم أن يدفعوا البدن دفعة واحدة حتى يراها، ثم إن البدن كانت مقلدة ومشعرة، وهذا يؤكد أنهم ما أتوا لقتال؛ فلذلك لم يصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يقترب منه حتى عاد إليهم ليحذرهم. وفي مغازي عروة عند الحاكم : فقام الحليف -يعني: لما رأى الجمال بهذه الهيئة- فقال: هلكت قريش ورب الكعبة، إن القوم إنما أتوا عماراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك)، وهذا لا يتعارض مع قوله: ولم يصل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: لعله يحتمل أن يكون الرسول خاطبه من بعد لما قال: هلكت قريش ورب الكعبة! إن القوم إنما أتوا عماراً أي: استعظم كيف يأتون محرمين بهذه الهيئة ثم يصدون عن البيت! وكانوا يعرفون في الجاهلية أن هذا سبب من أسباب الهلكة، فقال: (هلكت قريش ورب الكعبة)؛ لأنهم يصدون من قصد هذا البيت للعمرة، فلذلك قال له النبي عليه السلام: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك). يقول: فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له)، واستقبله الناس يلبون -حتى يشعروه بأنهم ما أتوا إلا للاعتمار- فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. والتقليد في هذا السياق هو التقليد للبدن يعني: أن يعلق في عنق الهدي قطعة من جلد وغيره يكون علامة على أنه هدي، وأما الإشعار فهو أن يطعن صفحة سنام الإبل اليمنى، وهي مستقبلة القبلة، ويلطخها؛ بالدم ليعلم أنها هدي، والتقليد والإشعار من تعظيم وإظهار شعائر الله، وربما أحياناً يضع بعض الناس على الجمال نوعاً من القماش الأبيض إشارة أيضاً إلى أنها هدي، والإشعار أيضاً علامة على أن هذا الهدي مسوق إلى بيت الله عز وجل، فهذه من أمارات إظهار شعائر الله سبحانه وتعالى. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. وزاد ابن إسحاق : وغضب وقال: يا معشر قريش! ما على هذا عاقدناكم! أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له؟! فقالوا: كف عنا -يا حليف- حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى. ويؤخذ من هذا أن كثيراً من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم، وكانوا ينكرون على من يصد عن ذلك، وهذه من بقايا دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    إرسال قريش مكرز بن حفص إلى رسول الله

    قال: فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مكرز وهو رجل فاجر). قيل: إن وصفه بالفجور له أكثر من سبب منها: أنه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية فخرج في خمسين رجلاً، فأخذهم محمد بن مسلمة وهو على الحرس، وانفلت منهم مكرز ، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك. فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، وفي رواية ابن إسحاق : فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا). فحين بعثت قريش سهيل بن عمرو فهذه أمارة على أنهم وافقوا على عقد معاهدة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    إرسال قريش سهيل بن عمرو لعقد الصلح

    وفي حديث سلمة بن الأكوع قال: (بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه، فلما رأى النبي سهيلاً قال: (قد سهل لكم من أمركم) يعني: تفاؤلاً باسمه، فأتى سهيل بن عمرو النبي صلى الله عليه وسلم -يقول الزهري في حديثه- فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً يعني: هلم نعقد عقد المصالحة هذا؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب). قوله: (فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً) وفي راوية ابن اسحاق : (فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهم القول -التصالح- حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم هذا). وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقيل: لا تجاوز عشر سنين، استدلالاً بهذا الحديث، وهو قول الشافعي والجمهور، وقيل: تجوز الزيادة، وقيل: لا تجاوز أربع سنين، وقيل: ثلاثاً، وقيل: سنتين، والأول هو الراجح والله تعالى أعلم، وهو مذهب الجمهور ومنهم الشافعي أن المدة لا تزيد عن عشر سنوات، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب -والكاتب هو علي رضي الله تعالى عنه- فقال له: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، يملي على علي أن يكتب نص عقد الصلح، فأملاه: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي! ولذلك قال تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30]، وهذا الكفر باسم الرحمن كان عناداً منهم، وإلا ففي أشعارهم ما يدل على أنهم يعرفون أن من أسماء الله عز وجل الرحمن. فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي! ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) (قاضى) بوزن فاعل من قضيت الشيء، أي: فصلت الحكم فيه، وفيه جواز كتابة مثل ذلك في المعاقدات، والرد على من منعه معتلاً بخشية أن يظن أنها نافية، نبه عليها الخطابي أي: أن بعض الناس كره استعمال كلمة: (هذا ما قاضى)؛ لأنه يمكن أن يفسرها أحد الطرفين بالنفي فيكون معناها: الذي لم يقاض عليه، لكن (ما) هنا ليست نافية، بل موصولة، (هذا ما قاضى) يعني: هذا الذي قاضى عليه، فهذا الحديث دليل على جواز استعمال عبارة: هذا ما قاضى عليه كذا وكذا. فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني)، هذا لن يغير في الحقيقة شيئاً، فبعد شهادة الله عز وجل لرسوله عليه السلام بالرسالة وبالشهادة وبالصدق، فهو مستغن عن شهادة غيره، فقال: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله). قال الزهري : وذلك لقوله، يعني: تساهل معهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه منذ البداية تعهد وأقسم: (والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، وما المقصود بحرمات الله؟ قلنا: يحتمل أن تكون حرمة الإحرام، وحرمة الشهر، وحرمة البدن، وقلنا: إن هذا القول مرجوح، والمقصود بالحرمات هنا صلة الرحم وحقن الدماء، وإلا فجميع العلماء يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أقسم وقال: (والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله) فالواو هنا بمعنى الفاعل، والمراد: المشركين، لو كانوا يعظمون الإحرام أو الحرم أو الشهر ما كانوا صدوهم من الأصل، ولكن المقصود بالحرمات هنا: صلة الرحم والقرابة بينهم وبين المسلمين. وبسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أقسم وقال: (لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) فلأجل ذلك تساهل معهم، وتجاوز عن كتابة البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، وتجاوز عن إثبات (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله). فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) يعني: من شروط الاتفاق: أن تتركونا ولا تحولوا بيننا وبين الطواف في البيت وأداء العمرة، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة. هذه هي حمية الجاهلية، يعني: كيف يشيع في العرب أنكم أتيتم وأكرهتمونا على أن تأتوا وتعتمروا، لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة أي: قهراً، وفي رواية ابن إسحاق : أنه دخل علينا عنوة. قال: ولكن ذلك من العام المقبل، يعني: العام المقبل تأتونا، ونسمح لكم بدخول مكة لأداء العمرة، فكتب. فقال سهيل - وهذه مادة أخرى من مواد الاتفاق- : وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. أي: من شروط المعاهدة أن أي رجل من قريش يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى لو كان مسلماً فتتعهد أن ترده إلينا. وفي رواية ابن إسحاق : على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه. وفي الظاهر هذا فيه غاية الإجحاف بالنسبة للمسلمين، يعني: أنهم اشترطوا عليه: أنه لو أتاك رجل من مكة إلى المدينة مهاجراً مسلماً فلا بد أن ترده إلينا، ومن أتانا من عندك لا نرده إليك؛ فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟! كيف نوافق على هذا البند المجحف؟ كيف نرد رجلاً أتانا من المسلمين إلى المشركين وقد جاءنا مسلماً؟! يقول الحافظ رحمه الله تعالى: زاد ابن إسحاق في قصة الصلح بهذا الإسناد: (وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة) يعني: أمراً مطوياً في صدور سليمة، فتترك المؤاخذة لما تقدم بينهم من أسباب الحروب وغيرها، كأنه قال: عفا الله عما سلف لما حصل بيننا من الحروب والاحتكاكات، ونحافظ على العهد الذي وقع بيننا. قال: (وأنه لا إسلال ولا إغلال) يعني: لا سرقة ولا خيانة، والمراد أن يأمن بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سراً وجهراً. وقال ابن إسحاق في حديثه: (وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه) يعني: من القبائل التي تريد أن تتحالف مع الرسول عليه السلام أو مع قريش. فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. قال: (وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة علينا، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها في أصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيره). قال ابن إسحاق : فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل ، وقد قال سهيل : على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو : يعني: ابن سهيل بن عمرو نفسه، وكان قد حبسه في مكة، وكان يعذبه عذاباً شديداً لأنه أسلم، فبينما هم يتباحثون هذه المباحثات إذا بـأبي جندل بن سهيل بن عمرو قد هرب من المحبس الذي حبسه فيه، وجاء يركض في أغلاله، وهي أغلال ثقيلة كانت عليه، وهو يمشي ببطء حتى ألقى نفسه أمام النبي عليه السلام وأمام الصحابة. يقول: فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يركض في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل أبوه: هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد) قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: (ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: فعلام نعطي الدنية في ديننا إذاً؟! قال: إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري، قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به). قال عمر : (فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: يا أبا بكر ! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا إذاً؟! قال: أيها الرجل! إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فوالله! إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً. أي: هذا الموقف كان عمر يندم عليه؛ لأنه راجع الرسول عليه السلام هذه المراجعة ولم يسلم وينقاد لحكمه من أول وهلة، فاعتبر هذه معصية، فأخذ يكثر من الأعمال الصالحة حتى تكفر عنه ما فعله في هذا الم

    رد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل أثناء الصلح

    قوله: (فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل ) جندل على وزن جعفر، وكان اسمه العاصي فغيره عندما أسلم، وهذه سنة، فالأسماء المنفرة أو القبيحة من السنة أن تغير إلى اسم أفضل، فهذا الرجل أبو جندل كان اسمه العاصي فغيره عندما أسلم، ولزمته هذه الكنية: أبو جندل ، وله أخ اسمه عبد الله أسلم قديماً، وحضر مع المشركين بدراً ففر منهم، وانضم إلى جيش المسلمين في بدر، ثم كان معهم بالحديبية، واستشهد عبد الله باليمامة قبل أبي جندل بمدة، وأما أبو جندل فكان حبس بمكة ومنع من الهجرة وعذب بسبب الإسلام. وفي رواية: (فإن الصحيفة لتكتب إذ طلع أبو جندل بن سهيل وكان أبوه حبسه فأسلم). وفي رواية عن عروة : (وكان سهيل أوثقه وسجنه حين أسلم، فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين، ففرح به المسلمون وتلقوه، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل يرسف) يعني: يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد، فإنه ثقيل، فهذا معنى (يرسف) يعني: يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد، فقال سهيل : هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، وفي رواية ابن إسحاق : فقام سهيل بن عمرو إلى أبي جندل -ابنه- فضرب وجهه وأخذ يلببه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد)، قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، من الإجازة يعني: استثنيه أو سامح في هذا، وفي بعض الروايات: (فأجره لي). وفيه: أن الاعتبار في العقود بالقول ولو تأخرت الكتابة والإشهاد، فالعبرة باللفظ حتى لو تأخرت الكتابة عن الكلام والإشهاد، ولأجل ذلك أمضى النبي صلى الله عليه وسلم لـسهيل الأمر في رد ابنه إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تلطف معه بقوله: (لم نقض الكتاب بعد) رجاء أن يجيبه لذلك، ولا ينكره بقية قريش لكونه ولده، فلما أصر على الامتناع تركه له؛لأنهم كانوا قد اتفقوا على هذا البند. قال: (فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل)، هذا نوع من التلطف به والإلحاح (بلى فافعل) قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز : بلى قد أجزناه لك، ومكرز كان شريكاً له في الوفد المفاوض، وليس معنى قوله: (أجزناه لك) أن نتركه عندك، لا، فالمعنى: نأخذه لكن لا نعذبه، فالتزموا على أنهم لا يعذبوه، فهو أراد أن يظهر أنه ليس متصفاً بالصفة التي أخبر عنه النبي عليه السلام بقوله: (وهو رجل فاجر)، فهو يريد أن يقول أنه ليس بفاجر، وأنه موافق على أن يجيبه. قال أبو جندل : (أي معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله). زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل ! اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً). يعني: ما دمنا عقدنا عقداً فلا بد أن نلتزم به؛ لأن الرسول عليه السلام لم يوافق على أنه إذا جاءه مسلم يقهره على أن يعود إلى الكفر، لكن هو فقط لا يقبله التزاماً بهذا العقد، ووفاءً بالقسم الذي أقسمه أنهم لا يدعونه إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله إلا أجابهم إليها، فقال: (يا أبا جندل ! اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً). وفي رواية أبي المليح : (فأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، عمر اقترب منه وأخذ يقول له: اصبر فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب، ويدني بقائم السيف منه؛ يحرضه ليأخذ السيف ويضرب به أباه، فانظر إلى هذا الفعل من عمر ! فـعمر كان لا يستطيع أن يصرح له بقلته احتراماً للعهد، وحتى لا يغدر، فهو يعرض له بطريقة غير صريحة، حتى لا يكون ذلك طعناً في العقد. قال: (فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب قال: ويدني قائم السيف منه، قال عمر : رجوت أن يأخذه مني فيضرب به أباه؛ فضن الرجل بأبيه) يعني: بخل بأبيه، وعز عليه أن يقتل أباه. قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما: أن الله قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم تمكنه التورية، يعني: السبب أن الرسول عليه السلام رده إليهم أن له سعة ورخصة في أن يتقيهم كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فيستطيع أن يستعمل التقية أو التعريض والتورية بحيث يوهم أنه ما زال مثلهم؛ حتى لا يصيبه الأذى الذي يصيبه، يعني: له سعة ورخصة في أن يكف عنه الأذى عن طريق التورية والتعريض، فلم يكن رده إليهم تسليماً لـأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية. الوجه الثاني: أنه إنما رده إلى أبيه، وغالب الظن أن أباه لا يبلغ به الهلاك، ومهما عذبه فلن يبلغ به إلى حد أن يهلكه. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به عباده المؤمنين، واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلماً من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم لما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير ، وقيل: لا، وأن الذي وقع في قصة الحديبية منسوخ، وأن ناسخه حديث: (أنا بريء من كل مسلم أقام بين ظهراني المشركين)، هذا قول الحنفية، وعند الشافعية تفصيل: فالعاقل يرد، والمجنون والصبي لا يردان، وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب، والله تعالى أعلم.

    مراجعة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر

    قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى) وزاد الواقدي من حديث أبي سعيد قال عمر : (لقد دخلني أمر عظيم، وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط)، وفي حديث سهل بن حنيف فقال عمر : (ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟! فقال: (يا ابن الخطاب ! إني رسول الله ولن يضيعني الله)، فرجع عمر متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر ، وظل يردد نفس العبارات لـأبي بكر ، والعجيب أن أبا بكر رد بنفس الأجوبة مع أنه لم يكن حاضراً الموقف! وهذا التوافق في هذه الردود من أمارات شدة المحبة. قوله: (فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر ) وفي رواية أخرى: فقال عمر : (اتهموا الرأي على الدين) يعني: يحذر المسلمين من أن يقابلوا أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام وخبر الله وخبر رسوله بالتكذيب، فيجب على المسلم أن يسلم لأمر الله ورسوله عليه السلام، ولا يكون له الخيرة في أمره إذا قضى الله ورسوله أمراً، فيقول للصحابة: خذوا درساً وعبرة من موقفي هذا! وفي رواية ابن إسحاق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح؛ لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في آخر سورة الفتح: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27]، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، وعند الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت، فلما رأوا أن ذلك في السنة المقبلة شق عليهم ذلك. ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى، فيجوز للإنسان أن يسأل ويناقش إلى أن يتضح له المعنى؛ بدلالة هذا الحوار بين النبي عليه السلام وبين عمر ، وبين عمر وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما وعن الصحابة أجمعين. ويستفاد منه: أن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد. وهذا مأخوذ من قوله: (أأخبرتك أنك آتيه العام) يعني: أأخبرتك أنك تأتيه هذا العام؟ لكن هذا وعد، وهل هو موعد في وقت معين؟ لا، يعني: أنا أخبرتك أنك سوف تأتي البيت وتطوف به، لكن هل ذكرت لك الوقت الذي سوف تدخله؟ قال: لا، قال: (فإنك آتيه ومطوف به)، فهذا دليل على أن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد، وإذا لم يرد مخصص ولا مقيد فالكلام على عمومه. وفيه: أن من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته.

    ثبات أبي بكر وموقفه الراسخ في صلح الحديبية

    قوله: (فأتيت أبا بكر ): لم يذكر عمر أنه راجع أحداً في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ وذلك لجلالة قدره، وسعة علمه عنده، ومثل هذه المواقف تثبت فعلاً أن أبا بكر هو الرجل الثاني في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتجد في سيرة أبي بكر العقل والثبات مع ما لـعمر رضي الله عنه من الفضائل، لكن عمر بعد أبي بكر في الترتيب. ومن ذلك أيضاً موقف عمر عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين تقارن بين موقف أبي بكر وموقف عمر رضي الله تعالى عنهما، وموقفهما عند قتال أهل الردة؛ هذه المواقف بلا شك تبين فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه على عمر . وجواب أبي بكر لـعمر بنظير ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم سواء، دلالة على أنه كان أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى. ومواقف أبي بكر في هذا كثيرة جداً منها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قبيل وفاته صعد المنبر وقال: (إن عبداً قد خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)، فبكى أبو بكر في الحال، فتعجب الصحابة لبكائه! فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (هناك عبد خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله) فلماذا يبكي أبو بكر ؟! الجواب: لأن أبا بكر كان أفهم الصحابة وأعلمهم، وأحبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكملهم، ففهم أبو بكر من ذلك أن هذا العبد هو الرسول عليه السلام، وأنه على وشك أن يفارقهم، وأن الرسول كان ينعي نفسه إلى الصحابة رضي عنهم، لكن لم يفقه هذا إلا أبو بكر؛ لأنه أعرف الناس بحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى. والمسلمون استنكروا الصلح المذكور، وقاموا على رأي عمر في ذلك، وسيأتي في حادثة الحلق وفي بقية القصة أن عامة المسلمين كانوا على موقف عمر فقد كانوا مبهوتين ومذهولين من هذا الموقف، واختص أبو بكر رضي الله تعالى عنه بهذا الموقف الثابت الحكيم الرائع، واستنكر المسلمون الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر في ذلك. وظهر من هذا الفصل أن الصديق رضي الله عنه لم يكن في ذلك موافقاً له بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواءً، والدليل في هذا التطابق في العبارات، والردود التي وجهها النبي عليه السلام لـعمر حين راجعه هي نفسها سواءً بسواء الردود التي ذكرها أبو بكر معه ويعني أبو بكر لم يكن حاضراً ذلك، وهذا يذكرنا بحادثة ابن الدغنة الذي وصف أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بنظير ما وصفت به خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تمام الموافقة من علامة المحبة، فالمحبة هي التوافق في كل شيء، فتجد المتحابين بينهما التوافق الغريب والعجيب، فـخديجة لما وصفت الرسول عليه السلام قالت: (والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) وكذلك ابن الدغنة لما أراد أبو بكر أن يخرج من مكة أبى ذلك وقال له: إنك يا أبا بكر لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل .. إلى آخره، نفس العبارات التي قالتها خديجة رضي الله تعالى عنها، فاتفقت الصفات المتناسبة تماماً، وهكذا شأن المحبين التوافق في الصفات! يقول: (فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر ! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟! قال: أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق) والغرز للإبل بمنزلة الركب للفرس، والمراد به التمسك بأمره وترك المخالفة له كالذي يمسك بركب الفارس لا يفارقه. قال عمر (أليس كان يحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به). قال الزهري : قال عمر : (فعملت لذلك أعمالاً) يعني: من الذهاب والمجيء والسؤال والجواب، وفي قول في تفسير (فعملت لذلك أعمالاً): أنه كان في حالة اضطراب شديد بسبب مراجعته في هذا الموقف، ولم يكن ذلك شكاً من عمر ، بل حثاً على إذلال الكفار، لما عرف من قوته في نصرة الدين. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعدما حكى هذا القول عن بعض القراء: وتفسير الأعمال بما ذكر مردود -يعني التفسير بالذهاب والمجيء والسؤال والجواب.. إلى آخره- يقول: بل المراد به: الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداءً. وقد ورد عن عمر التصريح بمراده بقوله: (أعمالاً)، ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول: (ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ) يعني امتثالاً لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]. وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر : (لقد أعتقت بسبب ذلك رقاباً وصمت دهراً). إذاً: المقصود من قول عمر رضي الله تعالى عنه: (فعملت لذلك أعمالاً) لا يمكن أن يكون المراد بالأعمال أنه استمر يذهب ويجيء ويسأل ويحاور على سبيل الشك، وإنما على سبيل طلب الحكمة في هذا الأمر، ورفع الالتباس، وهذا القول مردود بدليل أن عمر صرح بمراده بهذه الأعمال، وهو أيضاً لم يذهب ولم يراجع إلا أبا بكر بعد الرسول عليه السلام؛ لأنه يعلم أن أبا أبكر أعقل الناس وأعلمهم وأفقههم، ولم يرجع بعد ذلك إلى أن يسأل أيضاً، فلم يتردد على أحدٍ من الصحابة بعد أبي بكر، والله تعالى أعلم. والراجح أن نقاش عمر رضي الله تعالى عنه لا يمكن أن يكون شكاً في النبوة؛ لأن رواية ابن إسحاق فيها: أن أبا بكر لما قال له: (الزم غرزه، فإنه رسول الله) قال عمر : (وأنا أشهد أنه رسول الله)، وأيضاً الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إني رسول الله ولست أعصيه)، إيماءً إلى أن هذا الفعل إنما فعله عن وحي يوحى. يقول الحافظ : والذي يظهر أنه توقف ليقف على الحكمة في القصة، وتنكشف عنه الشبهة، ونظيره في قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاده الحكم، بخلاف الثانية، فلعل عمر طمع في أن يوافقه الوحي كما وافقه في أكثر من مناسبة، وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه، وإلا فجميع ما صدر منه كان معذوراً فيه، بل هو مأجور؛ لأنه رضي الله عنه مجتهد فيه.

    أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالنحر والحلق في الحديبية

    يقول: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، قال: فوالله! ما قام منهم رجل. كانوا في حالة من الغم والاكتئاب والحزن؛ بسبب ما شعروا أن الصلح هضم للمسلمين وإجحاف بهم. قال: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة : (يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً). قوله: فلما فرغ من قضية الكتاب، وزاد ابن إسحاق : فلما فرغ الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين، ومنهم: أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهم ومكرز بن حفص وهو مشرك. قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، وهم في حالة إحرام، وقد أحصروا عن البيت، وحال العدو بينهم وبين البيت، ومن أحكام الإحصار التحلل، فكان يجب أن يتحللوا ويحلقوا، فهم تباطئوا لشدة الغم والحزن من هذا الموقف، كيف بعد هذه المدة من الحرمان من البيت والكعبة أن يحال بينهم وبين الطواف؟! وقد كان عندهم أمل عظيم، وهم مستعدون أن يقاتلوا في سبيل أن يصلوا إلى الكعبة ويعتمروا فيها، فهذا كان سبب الصدمة الشديدة التي عانوا منها، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام بعدما فرغ من العقد والكتاب: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، وفي رواية أبي الأسود عن عروة : فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فساقه المسلمون يعني: إلى جهة الحرم، وكان يمكن أن يرسلوا الهدي إلى الحرم ويواعدوا شخصاً يأخذه وينحره في وقت معين. يقول: فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فساقه المسلمون -يعني إلى جهة الحرم- حتى قام إليه المشركون من قريش فحبسوه، قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح:25]، فمنعوا هذا الهدي أن يبلغ محله وهو داخل الحرم، فالمشركون منعوه من ذلك؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بالنحر في نفس المكان الذي هم فيه؛ حتى يتحللوا من الإحرام. قوله: (فوالله ما قام منهم رجل) قيل: كأنهم توقفوا عن الامتثال لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو تباطئوا رجاء نزول الوحي لإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوغ لهم ذلك؛ لأنه كان زمان وقوع النسخ، ويحتمل أن يكونوا ألهتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة. يعني: كانوا في حالة من الاندهاش والاستغراق في التفكير فيما ألم بهم، خاصة أنهم قادرون على أن يقاتلوا المشركين، وأن يصلوا إلى الكعبة بعد هذا الحرمان لسنوت طويلة، وحيل بينهم وبين العمرة أو الحج، فلذلك كانوا في غاية الغم والحزن والشعور بالذل، مع ظهور قوتهم واعتقادهم أنهم قادرون على أن يغلبوهم ويقهروهم، ويدخلوا إلى البيت الحرام أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور كما سيأتي من كلام أم سلمة ، وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور، ولا لمن نفاه، ولا لمن قال: إن الأمر للوجوب لا للندب؛ لما يتطرق القصة من الاحتمال، والدليل إذا قارنه الاحتمال سقط به الاستدلال. فالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما قال لهم ذلك ثلاث مرات ولم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، وفي رواية ابن إسحاق فقال لها: (ألا ترين إلى الناس! إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه!)، وفي رواية: (فاشتد ذلك عليه، فدخل على أم سلمة فقال: هلك المسلمون! أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا!)، قال: فجلى الله عنهم يومئذ بـأم سلمة : انكشف العذاب عنهم والإهلاك برأي أم سلمة الرأي الصائب والحكيم هو الذي رفع عنهم هذا الحرج، وهذا الضيق والهلاك الذي أوشك أن ينزل بهم. قال: فجلى الله عنهم يومئذ بـأم سلمة رضي الله عنها، فلما شكا إلى أم سلمة ما وجده من الناس، قالت أم سلمة : (يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم) زاد ابن إسحاق : قالت أم سلمة : (يا رسول الله! لا تكلمهم؛ فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح) يعني: هم في حالة إحباط شديد مستغرقين ومدهوشين مما يحصل، فـأم سلمة التمست العذر للصحابة رضي الله تعالى عنهم، قالت: (يا رسول الله! لا تكلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح) ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم، ويحتمل أنها فهمت أن الصحابة فهموا أن الرسول عليه السلام لما بقي على حالة الإحرام وهم محرمون أيضاً، فلما أمرهم أن يحلوا هم، رأوا أن الرسول عليه السلام لم يتحلل، وهم سوف يتحللون، ولذلك جاءت نصيحتها صائبة تماماً حتى تذهب هذا الوهم، فلما حل من إحرامه كأنه قال: حتى أنا سأتحلل وسيجري عليكم ما سيجري علي، فربما كانوا فهموا قبل نصيحة أم سلمة رضي الله عنها أنهم هم الذين سيتحللون أما الرسول فسيبقى على إحرامه. يقول الحافظ : ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم، وأنه هو سيستمر على الإحرام أخذاً بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر. وفيه فضل المشورة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم شاور أم سلمة ، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقاً أبلغ من القول، لكن الفعل إذا انضم إلى القول يكون أقوى من القول المجرد. وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة، خلافاً لأحاديث كثيرة موضوعة في هذا الأمر، مثل حديث: (شاوروهن وخالفوهن، فإن في مخالفتهن البركة)، ولا شك أن بعضهن كذلك، ولكن قد تكون المرأة عاقلة كـأم سلمة ، وممكن أن المرأة تتفوق على مئات من الرجال: فلو كان النساء كمن ذكرن لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال عموماً هذا موقف عظيم رواه البخاري ، فالرسول عليه السلام أخذ بمشورة أم سلمة ، ومن سيرتها يعلم أنها امرأة عاقلة وحكيمة، وآتاها الله سبحانه وتعالى رجاحة العقل، ونحن نعرف أن كثيراً من النساء تقاس بمئات من الرجال؛ لرجاحة عقولهن وقوة رأيهن، لكن إن كن بخلاف ذلك فينبغي الحذر. وفيه فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة وفضل أم سلمة ورجاحة عقلها حتى قال إمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة! وهذه مبالغة من إمام الحرمين ، وإلا فنحن نستطيع أن نأتي بأدلة من القرآن والسنة والسيرة والتاريخ بخلاف ذلك، فمن ذلك: بلقيس كانت امرأة عاقلة في غاية الرجاحة، وانتهى بها عقلها إلى أن أسلمت مع سليمان لله رب العالمين. كذلك ابنة شعيب في قصة موسى ما كان أعقلها في قولها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، فهذه من المشورة الصائبة، وأي شرف أعظم من أن يصاهر الرجل نبي الله وكليمه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؟! كذلك امرأة فرعون لما قالت له: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص:9]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد). أيضاً في العصر المتأخر من النساء اللاتي رجح عقلهن زوجة الإمام محمد بن سعود أمير الدرعية واسمها موضي بنت وهطان ، فعندما أوى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إلى الأمير محمد بن سعود في الدرعية يستنصره ويطلبه بأن يساند هذه الدعوة بقوته وبأسه؛ كانت امرأته عاقلة جداً، ومن نوادر النساء، فقد انفردت بزوجها وشجعته، وكان من إخوته من هم تلامذة لشيخ الإسلام، فأتى أخواه وكلما زوجته أن الأمير محمد بن سعود لو أيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب سيكون ذلك فتحاً كبيراً، ونصراً عظيماً للإسلام، فرغبت هي زوجها وشجعته على أن يؤوي شيخ الإسلام رحمه الله ويحميه، وبسبب ذلك وقعت هذه الحركة التجديدية التي لم يأت مثلها حتى اليوم وإلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى. ونظير هذا ما وقع لهم في غزوة الفتح من أمر

    دخول الناس في الإسلام بعد صلح الحديبية

    في رواية الزهري : ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى إذا كان بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح، قال الزهري : فما فتح في الإسلام قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس؛ كلم بعضهم بعضاً، والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه. فهذا هو معنى كون صلح الحديبية فتحاً حقاً وصدقاً؛ لأن السيوف توقفت، وبالتالي بدأ إعمال العقول، وبدأ التفكير، وانطفأت حمية الجاهلية، يقول الإمام الزهري : فما في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس، كلم بعضهم بعضاً، والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه. يعني: ما وجهت الدعوة في خلال تلك الفترة لأحد عنده شيء من العقل حتى لو كان عقله ضعيفاً، لكن عنده شيء من العقل إلا استجاب، فما بالك بمن عنده عقل وافر؟! يقول: لم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. يعني: تضاعف عدد المسلمين في خلال سنتين، فصلح الحديبية كان سنة من الهجرة، فهو يقصد بتينك السنتين: مدة الصلح، فقد كانت سنتين فقط؛ لأن المشركين نقضوه بعد مرور سنتين، وهم اتفقوا على مدة عشر سنين، لكن حصل أنهم نقضوا العهد، فبالتالي حصل فتح مكة بعد سنتين في سنة 8 من الهجرة، فالإشارة إلى أن الواقع أن هذا الصلح استمر سنتين فقط؛ لأن المشركين نقضوا العهد وغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأحلافه، هذا هو المقصود. يقول هنا: ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. يعني: من صناديد قريش. ومما ظهر من مصلحة الصلح المذكور غير ما ذكره الزهري أنه كان مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجاً، وكانت الهدنة مفتاحاً لذلك، ولما كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح سميت فتحاً -كما سيأتي في المغازي-؛ فإن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقاً حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت، يعني: هذا الصلح كان في الظاهر شراً لكنه في الحقيقة كان خيراً عند النظر للعاقبة. قال: وكان في الصورة الظاهرة ضيماً للمسلمين، وفي الصورة الباطنة عزاً لهم، فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، وظهر من كان يخفي إسلامه، فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة!

    هجرة النسوة المؤمنات حال الصلح

    يقول: ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10] حتى بلغ: بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة:10]، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية.

    هروب أبي بصير من مكة إلى المدينة

    قال: ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير -رجل من قريش- وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين -وهو غير أبي جندل ، هرب من مكة إلى المدينة- فأتوا النبي عليه السلام فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فمن بنود المعاهدة: أن من أتاك من عندنا ولو كان على دينك فلابد أن ترده إلينا، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، يعني: سلمه لهما النبي صلى الله عليه وسلم، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة.

    قوله: (ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير وهو رجل من قريش) عتبة بن أسيد بن جارية حليف بني زهرة. فمعنى قوله: (رجل من قريش) يعني: من الحرم؛ لأن بني زهرة من قريش. (فأرسلوا في طلبه رجلين) وفي بعض الروايات: فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام، فقالا للنبي عليه الصلاة والسلام: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، وفي رواية ابن إسحاق : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بصير ! إن هؤلاء القوم صالحونا على ما علمت، وإنا لا نغدر، فالحق بقومك فقال: أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني ويعذبونني؟! قال: اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً).

    وفي رواية أبي مليح : (فقال له عمر -وهذه قصة عمر مرة أخرى-: أنت رجل وهو رجل ومعك السيف) وهذا أوضح في التعريض لقتله، واستدل بعض الشافعية بهذه القصة على جواز دفع المطلوب لمن ليس من عشيرته إذا كان لا يخشى عليه منهم؛ لكونه صلى الله عليه وسلم دفع أبا بصير للعامري ورفيقه، ولم يكونا من عشيرته ولا من رهطه، لكنه أمن عليه منهما؛ لعلمه بأنه كان أقوى منهما، ولهذا آل الأمر إلى أنه قتل أحدهما وأراد قتل الآخر.

    وفيما استدل به لذلك نظر؛ لأن العامري ورفيقه كانا رسولين من قريش، ولو كان فيهما ريبة لما أرسلهما من هو من عشيرته.

    وأيضاً وقع في رواية أبي مليح : جاء أبو بصير مسلماً وجاء وليه خلفه فقال: يا محمد! رده علي، فرده.

    المهم أنه دفعه لهذين الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله! إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت به، ثم جربت به! فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: (لقد رأى هذا ذعراً)، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: (يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم) يعني: أوفى الله ذمتك فأنت لم تغدر فقد سلمتني لهم، لكن هأنذا الآن عائد إليك مرة ثانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مسعر حرب! لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.

    قوله: (فنزلوا يأكلون من تمر لهم) وفي رواية الواقدي : (فلما كانوا بذي الحليفة دخل أبو بصير المسجد فصلى ركعتين وجلس يتغدى ودعاهما فقدم سفرة لهما فأكلوا جميعاً).

    قوله: (فقال أبو بصير لأحد الرجلين) وقوله: (فاستله الآخر) يعني: صاحب السيف أخرجه من غمده، قوله: (فأمكنه منه) أي: بيده، قوله: (فضربه حتى برد) أي: حتى خمدت حواسه، وهذا كناية عن الموت؛ لأن الذي يموت يبرد جسمه، لأن الميت تسكن حركته، وأصل البرد السكون، وفي رواية ابن إسحاق (فعلاه حتى قتله).

    قوله: (وفر الآخر) وفي رواية أخرى: (وخرج المولى يشتد) أي: هرب.

    قول النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه: (لقد رأى هذا ذعراً) أي: خوفاً، وفي رواية: (فزعاً)، فقال: قتل والله صاحبي، وفي رواية أخرى: (قتل صاحبكم صاحبي وإني لمقتول) يعني: إن لم تردوه عني، وعند الواقدي : (وقد أفلت منه ولم أكد).

    وفي رواية: فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما فأوثقاه حتى إذا كان ببعض الطريق ناما، فتناول السيف بفيه فأمره على الوثاق فقطعه، وضرب أحدهما بالسيف، وطلب الآخر فهرب، والأول أصح، يعني: الرواية التي ذكرناها آنفاً هي الأصح.

    وعند ابن عائذ في المغازي : وهرب الآخر وأتبعه أبو بصير ، فبالتالي هو يجري وأبو بصير وراءه حتى وصل إلى المدينة، حتى دفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وهو عاض على أسفل ثوبه، وقد بدا طرف عورته، والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه وأبو بصير يتبعه.

    فجاء أبو بصير فقال: (يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك) يعني: ليس عليك منهم عقاب فيما صنعته أنا، وفي رواية: فقال أبو بصير : (يا رسول الله! عرفت أني إن قدمت إليهم فتنوني عن ديني؛ ففعلت ما فعل، وليس بيني وبينهم عهد ولا عقد).

    وفيه أن للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده إذا شرط لهم ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بصير قتله العامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية.

    وكما قلنا: يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، يعني: حينما يكون التفسير للمجموع لا شك أن المعادلة تختلف، وتحتاج إلى موازنات واعتبارات بخلاف ما لو كان الشخص مسئولاً عن نفسه، وبخلاف ما لو كان هو يتصدر باسمه نفسه وحده، ففي هذه الحالة يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، وهذه الحادثة دليل واضح على هذه القاعدة المهمة.

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مسعر حرب! لو كان له أحد)، (ويل أمه)، هذه كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، يعني: ظاهرها هي فيها ذم (ويل أمه) ولكن أحياناً يستعملونها في المدح؛ لأن الويل هو الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل. قال بديع الزمان في رسالة له: والعرب تطلق (تربت يمينه) في الأمر إذا أهم، ويقولون: (ويل أمه) ولا يقصدون الذم، والويل: يطلق على العذاب والحرب والزجر، وفي حديث أن الرسول قال للأعرابي: (ويلك)، وأصل قولهم: (ويل فلان) يعني: وي لفلان، فكثر الاستعمال فألحقوا بها اللام فصارت ويل، وهي أصلاً: وي لفلان، فلما كثر استعمالها ألحقوا اللام بالياء فصارت (ويل)، وقيل: إن (وي) كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها اتباعاً للهمزة وحذفت الهمزة تخفيفاً، والله تعالى أعلم.

    قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مِسعر حرب)، قال الخطابي : يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.

    (ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد) يعني: لو كان له أحد ينصره ويعاضده ويناصره، والمراد: هذا الرجل لو انضم إليه رجل مثله فسيشعلونها ناراً وحرباً، وفي رواية الأوزاعي : (لو كان له رجال)، فلقنها أبو بصير أي: التقط هذه الكلمة، (فانطلق وهرب)، ففيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، فهذه إشارة إليه بأنك إن بقيت هنا سنسلمك، وإن كنت تستطيع أن تفر ففر، وأيضاً لو انضممت لأحد سيكون ما يكون، فكأنه أشار عليه بالفرار دون أن يصرح بذلك، لئلا يرده إلى المشركين، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به، فإن المسلمين على هذه الظروف سيأتون من مكة إلى المدينة، فلذلك عليهم أن يتجمعوا مع بعض، ولن نكون مسئولين عنهم، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم: يجوز التعريض بذلك لا التصريح، كما في هذه القصة، والله أعلم.

    فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، أي: ساحل البحر، وعين ابن إسحاق المكان الذي نزل فيه فقال: وكان طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام وهو يحاذي المدينة إلى جهة الساحل وهو قريب من بلاد بني سليم، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بـأبي بصير.

    وـأبو جندل كان مأسوراً في مكة، فلما هرب أبو بصير استطاع أن يهرب أيضاً، فلحق بـأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بـأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم: يعني عملوا جميعاً حرب عصابات، كلما تأتي قافلة من قريش ذاهبة إلى الشام بالتجارة يقطعون عليها الطريق، ويأخذون ما معهم، ويقتلون المشركين.

    فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه سلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، أي: من يأتيك إلى المدينة يكون آمناً، ولا ترده إلينا، فتراجعوا عن هذا الشرط! فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24]، حتى بلغ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [الفتح:26]) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.

    (فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم) يعني: أرسل إلى هذه العصابة من الصحابة، وفي بعض الروايات: (فبعث إليهم فقدموا عليه) وعند الزهري : فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير فقدم كتابه وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه .. إلى أن قال: وقدم أبو جندل ومن معه إلى المدينة فلم يزل بها إلى أن خرج إلى الش

    1.   

    من فوائد الحديث التي ذكرها الحافظ ابن حجر

    شرح الإمام البخاري بعض الألفاظ الغريبة في الحديث، فقال: قال أبو عبد الله : معرة العر: الجرب. تزيلوا: تميزوا. وحميت القوم: منعتهم حماية، وأحميت الحمى: جعلته حمى لا يدخل. وأحميت الرجل إذا أغضبته. وهذا سوف يأتي إن شاء الله تفسيره في نهاية الكلام على سورة الفتح. ثم قال الحافظ خاتماً فوائد هذا الحديث -دون ما تقدم أثناء شرح الحديث-: أن ذا الحليفة ميقات أهل المدينة للحاج والمعتمر. وأن تقليد الهدي وسوقه سنة للحاج والمعتمر فرضاً كان أو سنة. وأن الإشعار سنة لا مثلة، والإشعار: هو جرح جانب السنام الأيمن، فهذا ليس من المثلة وإنما هو سنة. وأن الحلق أفضل من التقصير، وأنه نسك في حق المعتمر محصوراً كان أو غير محصور. وأن المحصر ينحر هديه حيث أحصر، ولو لم يصل إلى الحرم، ويقاتل من صده عن البيت، وأن الأولى في حقه ترك المقاتلة إذا وجد إلى المسالمة طريقاً. وفي هذا الحديث أشياء تتعلق بالجهاد منها: جواز سبي ذراري الكفار إذا انفردوا عن المقاتلة ولو كان قبل القتال. وفيه: الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش لطلب غرتهم، وجواز التنكب عن الطريق السهل إلى الطريق الوعر لدفع المفسدة وتحصيل المصلحة، واستحباب تقديم الطلائع والعيون بين يدي الجيوش، والأخذ بالحزم في أمر العدو لئلا ينالوا غرة المسلمين، وجواز الخداع في الحرب، والتعريض بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان من خصائصه أنه منهي عن خائنة الأعين. وفيه: فضل الاستشارة من استقراء الرأي واستطابة قلوب الأتباع، وجواز بعض المسامحة في أمر الدين، واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قادحاً في أصله، إذا تعين ذلك طريقاً للسلامة في الحال، والصلاح في المآل، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم. وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال، بل عليه التسليم؛ لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالباً بكثرة التجربة ولاسيما مع من هو مؤيد بالوحي. وفيه: جواز الاعتماد على خبر الكافر إذا قامت القرينة على صدقه، قاله الخطابي مستدلاً بأن الخزاعي الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً له ليأتيه بخبر قريش كان حينئذ كافراً، قال: وإنما اختاره لذلك مع كفره ليكون أمكن له في الدخول فيهم، والاختلاط بهم، والاطلاع على أسرارهم، قال: ويستفاد من ذلك جواز قبول قول الطبيب الكافر. يعني: إذا علم منه الصدق في النصيحة. قلت: ويحتمل أن يكون الخزاعي المذكور كان قد أسلم ولم يشتهر إسلامه، وحينئذ فليس ما قاله دليلاً على ما ادعاه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756945040