إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام [80-94]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان..)

    قال تبارك وتعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام:80]. قوله تعالى: (وحاجَّه قومه) أي: جادلوه وأرادوا مغالبته بالحجة فيما ذهب إليه من توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه تارةً بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد، وأخرى بالتخويف، وقد أشير إلى جواب كل منهما. (قال: أتحاجوني في الله وقد هدان) يعني: أتجادلونني في توحيد الله تعالى (وقد هدان) لإقامة الحجج ورفع الشبه عن نفي إلهية ما سواه، وقد ثبت أنها -أي: هذه الآلهة التي تعبدون من دون الله- ناقصة في ذواتها، فكمالاتها من غيرها، ولا إلهية للناقص المفتقر بذاته، والناقص المحتاج إلى غيره لا يمكن أن يكون إلهاً؛ لأن كماله لا يكون مطلقاً. وقال: (أتحاجوني في الله وقد هدان) بتشديد الجيم والنون، أي: بإدغام نون الجمع في نون الوقاية؛ لأن أصلها: (أتحاجونني) فنون الجمع أدغمت مع نون الوقاية، فصارت نوناً مشددة (أتحاجونِّي) وقرئ بحذف الأولى. وقوله تعالى: (ولا أخاف ما تشركون به) أي: لا أخاف معبوداتكم؛ لأنها جمادات لا تضر بنفسها ولا تنفع. وهو جواب عما خوفوه عليه الصلاة والسلام به في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم، وهذا هو حال الذين تدعوهم إلى توحيد الله وتبطل لهم بالأدلة عبادة غير الله عز وجل وإلاهية غير الله، فيقولون كما قال قوم هود لهود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54] فهم -أيضاً- هنا خوفوا إبراهيم عليه السلام بأن هذه الآلهة إذا كنت تحذر منها ومن عبادتها فإنها قد تنتقم منك أو قد تؤذيك. وهذا كما يحصل في زمننا هذا، فإذا دعوت رجلاً إلى التوحيد ونبذ عبادة القبور والأولياء والأضرحة وغير ذلك فإنه يحذرك من أن هؤلاء الأولياء سيصيبونك بكذا أو كذا، أو يصيبك الجنون، أو تختطف إلى صحراء لا تجد فيها أحداً، إلى غير ذلك من الأساطير التي تقال في مثل هذا الزمان، وكلها تخرج من هذا النبع الواحد، وهو تخويف الموحد الذي يدعوهم إلى التوحيد بآلهتهم، كقول قوم هود: إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54]. وهذا التخويف وإن لم يسبق له ذكر لكنه فُهم، أي: لم يرد في الآيات السابقة ذكر أنهم خوفوه بآلهتهم، ولكن يفهم وقوع هذا التخويف من قول إبراهيم عليه السلام: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80] يعني: هذه الآلهة وهؤلاء الشركاء الذين تخوفونني بهم أنا لا أخاف منهم، ولا أخاف ما تشركون به. قال ابن كثير : أي: ومن الدليل على بطلان قولكم أن هذه المعبودات لا تؤثر شيئاً. يعني أن عجزها عن أن تنفع أو تضر هو أحد الأدلة على بطلان إلهيتها، فكيف أخافها؟! وإذا كان أحد الأدلة التي اعتمدت عليها في إبطال إلهيتها من دون الله هو أنها لا تستطيع أن تنفع ولا تضر لا نفسها ولا غيرها، ولا تؤثر شيئاً فلذلك لا أخافها، ولا أبالي بها مهما خوفتموني بها، فإن كان لها كيد فيكدوني بها ثم لا تنظرون. يعني: إن كانت تستطيع فعلاً أن تكيدني فهيا حرضوها على أن تفعل ذلك، ولا تؤجلوني، بل قوموا بدعوتها إلى الانتقام مني إن كانت تستطيع. ولا شك في أن هذا القول قول صاحب اليقين القوي الراسخ فيما يعتقده من إيمان ومن توحيد. ثم قال عليه السلام: (إلا أن يشاء ربي شيئاً) يعني: من إصابة مكروه بي من جهتها. يعني: لو فرضنا جدلاً أنه أصابني مكروه من جهتها فإنه ليس هذا بفعلها ولا بتغييرها ولا يد لها في ذلك، وإنما سيكون هذا من جهة الله تبارك وتعالى، ولا يد لمعبوداتكم في هذا الضرر أصلاً. فهو في الحقيقة لم يخف إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الخوف الذي أثبته هنا معلق بمشيئة الله وقدرته، فهو كَلاَ خوف منها، فما دام الخوف هو أن يحصل شيء بإذن الله وبإرادة الله فهو يساوي أنه لا خوف من هذه الآلهة وهذه الأصنام. وقوله: (وسع ربي كل شيء علماً) كأن هذا هو علة الاستثناء الذي ورد في قوله: (إلا أن يشاء ربي شيئاً) يعني: أحاط الله بكل شيء علماً، فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال الخوف بي من جهتها؛ لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله أشعر بجواز وقوعه، وهنا إظهار في موقع الإضمار، وهو قوله: (وسع ربي كل شيء علماً) ولم يقل: (وسع كل شيء علماً) ليكون الفاعل ضميراً مستتراً يعود إلى لفظ الجلالة، ولكن كرر وأظهر الضمير فقال: (وسع ربي كل شيء علماً) وكذلك -أيضاً- تعرض لعنوان الربوبية بقوله: (ربي) إظهاراً منه عليه السلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلامه لأمره واعترافه بكونه تحت ملكه وربوبيته. وقوله: (أفلا تتذكرون)، يعني: أفلا تعتبرون بأن هذه المعبودات جمادات لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الذي خلق السموات والأرض.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله..)

    قال تعالى: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81]. قوله: (وكيف أخاف ما أشركتم) يعني: كيف أخاف معبوداتكم وهي مأمونة الخوف؟! وذلك بعدما وضح أنها لا تقدر على أن تضره، ولا أن تنفعه، ولا تنتصر لنفسها، ولا تستطيع أن تكيده، وتحداهم بهذا الذي قاله من قبل، فبيَّن قائلاً: (وكيف أخاف) أي: كيف يتسنى لي أن أخاف (ما أشركتم) من هذه الآلهة التي هي عاجزة وقاصرة عن أن تضرني وهي مأمولة الخوف؟! وقوله: (ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً) قوله: (ما لم ينزل به) الهاء تعود إلى الإشراك، يعني: ما لم ينزل بإشراكه سلطاناً. و(سلطاناً) هنا بمعنى: حجة. وهذا هو المعروف من أن السلطان في القرآن إذا ورد فالمراد به العلم أو الحجة. فقوله: (ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به) أي: بإشراكه (عليكم سلطاناً) أي: حجة؛ إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة، والمعنى: ما لكم تنكرون عليَّ الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهولها؟! وكيف تنكرون عليَّ أني آمن من تهديداتكم بأن تنالني آلهتكم بسوء، وهذا هو موضع أمن في الحقيقة؟! لأنها لا تستطيع أن تسوءني، فلذلك أنا آمن وليس في قلبي أي خوف من أن تصيبني هذه الآلهة بأي شر. وقوله: (وكيف أخاف ما أشركتم) يعني: من معبوداتكم وهي مأمونة الخوف، ولا تستطيع أن تنالني بسوء. وقوله: (ولا تخافون أنكم) يعني: ولا تنكرون على أنفسكم الأمن مع أنكم تأتون بأعظم موجب من موجبات الخوف والهول، وهو الإشراك. وقوله: (فأي الفريقين) أي: أي فريقي الموحدين والمشركين (أحق بالأمن) يعني: من أحق بالأمن من لحوق الضرر (إن كنتم تعلمون)؟! أهو الذي يعبد الله سبحانه وتعالى الذي هو النافع الضار الذي وسع كل شيء علماً، والذي يملك مقاليد السموات والأرض وهو القاهر فوق عباده، الذي أوعدهم على الشرك بأشد النكال وأشد العذاب، فهو قادر على أن ينفذ وعيده، أم الذي يعبد هذه الآلهة التي تخوفونني بها وهي لا تملك لنفسها -فضلاً عن غيرها- نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟! فلذلك قال: (فأي الفريقين) من الموحدين والمشركين أحق وأجدر وأقدم بالأمن من لحوق الضرر (إن كنتم تعلمون) أي: تعلمون ما يحق أن يخاف منه، أو من أحق بالأمن، أو (إن كنتم تعلمون) يعني: إن كنتم من أولي العلم. وجواب الشرط محذوف تقديره: (فأخبروني) أو: إن كنتم من أولي العلم فأخبروني.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم..)

    ثم بيَّن تعالى من له الأمن جواباً عما استفهم عنه الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى على هذا السؤال الذي سأله الخليل عليه السلام فقال سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي: بشرك، كما يفعله الفريق المشركون؛ حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانهم وإحسانهم لأجل التقريب والشفاعة، كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] وهذه نفس الحجة التي تذكر الآن في هذا الزمان على ألسنة من يدعون الإسلام ويعبدون الأضرحة والمقامات والموتى من دون الله سبحانه وتعالى، ترى أحدهم يقول: نحن ما نعبدهم، لكن نحن نتوسل بهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يقربوننا إلى الله، وأما نحن فبذنوبنا ومعاصينا وتقصيرنا لا يليق بنا أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى مباشرة؛ فلابد من واسطة بيننا وبين الله عز وجل، وهذه الواسطة هم هؤلاء الأولياء أو الملائكة أو الجن أو غير ذلك مما عبد من دون الله سبحانه وتعالى. وأصحاب الهياكل أو أصحاب الأشخاص لم يقولوا: نحن نعبد الهياكل التي هي أجرام الكواكب نفسها، ولا الأشخاص الذين صوروهم، إنما قالوا: نحن نستغلها كي تذكرنا بعبادة الله، وتتوسط بيننا وبين الله، وهذا هو كما يقول عباد القبور والأضرحة في هذا الزمان إذا قامت عليهم الحجة، ترى أحدهم يقول: نحن ما نعبدهم، لكن هؤلاء يقربوننا إلى الله، وهم وسائط وشفعاء -والعياذ بالله- إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الظلم الذي لابسوا إيمانهم به، وهو المقصود بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، فالموحدون لا يشوبون إيمانهم بشرك كحال هؤلاء الفريق الآخر الذين يلبسون إيمانهم بالشرك، حيث يزعمون أن هذه الأصنام تقربهم إلى الله زلفى. وقوله: (أولئك لهم الأمن) يعني: يوم القيامة (وهم مهتدون) أي: إلى الحق. وقوله: (وهم مهتدون) مبتدأ وخبر، ومعناه حصر للهداية في هؤلاء الموحدين، يعني: هم المهتدون لا غيرهم، ومن عداهم في ضلال. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت (( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )) قال أصحابه صلى الله عليه وسلم: وأينا لم يظلم نفسه -فهموا أن الظلم هنا معناه المعاصي-؟ فنزلت: (( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )) [لقمان:13])، وهذا لفظ رواية البخاري ، ولفظ رواية الإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقالوا: يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] إنما هو الشرك)، فهذه الرواية توضح رواية البخاري السابقة عن ابن مسعود التي قال فيها فنزلت: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] من جهة أن النزول يراد به تفسير الآية أحياناً، فيقال -مثلاً-: هذه الآية نزلت في كذا. والمقصود أن هذه الآية تفسر هذا الموقف أو هذا الكلام، لا أنه كان سبب نزولها بالفعل، وهذا من الاصطلاحات الدقيقة للصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم، ورحمهم الله أجمعين. فحينما يقول: نزلت الآية في كذا يعني: أن حكم الآية يدخل في هذا الموضوع المتكلم فيه، لا أنها نزلت فيه بالفعل، فالنزول هنا يراد به التفسير، فكلام ابن مسعود حين قال: (لما نزلت: (( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )) قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: (( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )) [لقمان:13]) هل المقصود منه أنها نزلت بالفعل؟ الجواب: لا؛ لأن هذه الآية كانت نزلت قبلها، وهي في سورة لقمان، فمعنى قول ابن مسعود : (فنزلت: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]) فيراد بسبب النزول هنا تفسير الآية، لا أنه بالفعل سبب نزولها، لسبب بديهي جداً، وهو أن آية لقمان كان نزولها من قبل. ولـابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً: (( وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )) قال: بشرك. وقد نقل ذلك عن جملة كبيرة جداً من الصحابة والتابعين، فلا يُعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير الظلم هنا بالشرك، وذلك في قوله: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )) يعني: بشرك، وقوفاً مع الحديث الصحيح في ذلك؛ لأن هذا الحديث بين أن الآيات القرآنية يوضح بعضها ما أبهم في بعض. وحصل نوع من اللبس عند الصحابة في أن الظلم يعم المعاصي فضلاً عن الشرك، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم في هذه الآية خاصة يقصد به الظلم الأكبر الذي هو الشرك في قوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ففسَّر القرآن بالقرآن، وحيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا التفسير فلا يجوز النظر في غيره إذا خالفه، وأي تفسير يخالف ما ثبت عن المعصوم عليه الصلاة والسلام فلا يجوز الأخذ به أو النظر فيه. فمتى ما صح الحديث في تفسير آية فيجب أن نصير إلى هذا التفسير، فلو قيل: لا يلزم من قوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أن غير الشرك لا يكون ظلماً! أي: قد يقول قائل: إن قوله تعالى: (( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ))، هل معناه أن غير الشرك لا يكون ظلماً؟ فيجاب بأن التنوين في كلمة (بظلمٍ) للتعظيم، يعني أن أعظم الظلم وأخطر الظلم وأكثر الظلم هو الشرك، فالتنوين هنا للتعظيم، فهذا التعظيم أشار إلى نوع خاص من الظلم وهو الشرك، فكأنه قيل: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم) وهذا الظلم العظيم هو المشار إليه في قوله تعالى: (( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )) ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد (لم يلبسوا إيمانهم بشرك)، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده. وسياق الآية يؤكد أن هذا هو المقصود، فقوله تعالى: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ )) يعني: بالشرك الذي هو الظلم العظيم؛ لأن هذه القصة هي قصة إبراهيم عليه السلام من أولها إلى آخرها، وهي إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات، فوجب حمل الظلم هاهنا على ذلك، إذ كل سياق القصة في قضايا التوحيد وإبطال ألوهية ما عدا الله سبحانه وتعالى، وليس فيها أحكام شرعية، ولا فيها طاعات ولا عبادات، حتى يقال: إنه يحتمل أن الظلم هنا يقصد به المعاصي، وإنما كله في هذا السياق. يقول القاسمي : حيث علم أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسر الآيات بما تقدم فليعض عليه بالنواجذ، وأما ما هذى به الزمخشري من قوله في تفسير الآية: أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم. وأبى تفسير الظلم بالكفر فإن هذا الكلام مدفوع. يعني أن الزمخشري معتزلي، وعدو لدود من أعداء أهل السنة والجماعة، وهو مع براعته في بلاغة القرآن وفي إظهار إعجاز القرآن البلاغي، لكنه -للأسف الشديد- تلبَّس بهذه البدعة الغليظة، وهي مذهب الاعتزال، ولا يخلو تفسيره -مع نفاسته في باب البلاغة والإعجاز- من محاولة ليّ أعناق بعض الآيات حتى توافق مذهب المعتزلة، فلذلك تصدى له الإمام ناصر الدين في كتابه (الانتصاف) وكشف عورات مذهبه الاعتزالي، وأبان عن وجه الحقيقة فيما دسه الزمخشري من تفاسير أو آراء يحاول بها أن يطوع آيات القرآن لتصحيح مذهبه، ففي مثل هذه المواضع الحساسة تجد الزمخشري يضل ضلالاً مبيناً في تفسير الآيات، فمع وضوح الحديث -وهو متفق عليه- تعين تفسير الظلم هنا بأنه الشرك الأكبر الذي هو الظلم العظيم، إلا أنه أبى ذلك، وقال: لو فسرنا الظلم بالشرك العظيم أو بالشرك الأكبر فكيف يكون عنده الإيمان ويختلط بالشرك؟ وهل الشرك أو الكفر يجامع الإيمان؟! وفسرها بقوله: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم. وأبى تفسير الظلم بالكفر؛ لأن لبس الإيمان بالشرك مما لا يتصور، لأنهما ضدان لا يجتمعان على زعمه! وهذا الكلام مدفوع بأن الشرك يلابس الإيمان، والدليل على ذلك قوله تبارك وتعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] ويقال له كما قال الله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ [البقرة:85] ولا شك أن تخصيص الأمان بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة، بل خائفين ذلك متوقعين له. وفي (الانتصاف): إنما يروم الزمخشري بذلك تنزيله على معتقده في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لا حظ لهم في الأمن، يعني أن العصاة مثل الكفار والمشركين في أنه لا حظ لهم في الأمن المذكور في قوله تعالى: (( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )) ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين. يعني أن الأمن لا يكون إلا لمن جمع بين أمرين: الإيمان والبراءة من المعاصي، بأن يكون مؤمناً الإيمان الذي ينافي الشرك، وبريئاً من المعاصي، ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة هو الخوف اللاحق للكفار؛ لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون من هذا العذاب المؤقت، فإذا كانوا موحدين وماتوا على معاصٍ لم يتوبوا

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه..)

    قال تبارك وتعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]. قوله: (وتلك) الإشارة إلى الدلائل المشار إليها، وهي الدلائل السابقة التي استدل بها إبراهيم عليه السلام وحاج بها قومه، من قوله: أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [الأنعام:74] إلى قوله تبارك وتعالى هنا: (وتلك حجتنا آتيناها) ومعنى (حجتنا) أي: التي لا يمكن نقضها، وهي حجة التوحيد، ودلائل التوحيد لا يستطيع أحد أبداً أن يهزمها. قوله: (آتيناها إبراهيم) يعني: أرشدناه عليه السلام إليها، وعلمناه إياها بلا واسطة معلم، بل هو تعليم مباشر من الله سبحانه وتعالى. قوله: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) أي: آتيناه حجة ودليلاً على قومه الكثيرين ليغلب وحده. يعني أن قومه كانوا كثيرين ومجموعة كبيرة من عباد الأصنام، وهو وحده، فانظر إلى الإبداع في هذا التعبير (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم) أي: وحده في مواجهة كل قومه، ومع ذلك غلبهم عليه السلام بهذه الحجة الناصعة. وقوله: (نرفع درجات من نشاء) يمتن الله سبحانه وتعالى على إبراهيم عليه السلام بأنه رفعه بالعلم والحكمة، وهذا على قراءة (نرفع درجاتِ من نشاء) وهناك قراءة أخرى: (نرفع درجاتٍ من نشاء). وقوله: (إن ربك حكيم) يعني: في رفعه وقبضه (عليم) بحال من يرفعه واستعداده له.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا..)

    قال تبارك وتعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الأنعام:84]. قوله: (ووهبنا له) أي: لإبراهيم عليه السلام. لأن إبراهيم صار غريباً في قومه، ومحارباً من قومه أجمعين، فعوضه الله سبحانه وتعالى عن قومه الذين نبذوه العداء، ومن أجل ذلك اعتزلهم وما يعبدون من دون الله، فاعتزلهم لوجه الله، فامتن الله عليه سبحانه وتعالى بالتعويض؛ لأنه ما ترك أحد شيئاً لله إلا عوضه الله سبحانه وتعالى خيراً منه، فلما اعتزل قومه ونبذهم لأجل الله عوضه الله سبحانه وتعالى بأن وهبه عِوضاً عن قومه لما اعتزلهم وما يعبدون. وقوله: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) يعني: وهبنا له ولداً وولدَ ولدٍ، فالولد هو إسحاق، وولد ولد هو يعقوب، لتقر عينه ببقاء العقب، وأن عقبه ونسله امتدوا وانتشروا. وقوله: (كلاً هدينا) أي: كلاً منهما هديناه الهداية الكبرى بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة، كما قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:49]. قال ابن كثير : يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، وذلك بعد أن طعن في السن وأيس هو وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، كما قال تعالى عنها: قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:72-73]. فبشروهما فتعجبا، وبشروهما مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلاً وعقباً، كما قال تعالى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:112] يعني: لم يبشره فقط بأنه سيرزق بإسحاق ولداً ثم سيرزق ولدَ ولدٍ، وهو يعقوب عليه السلام، وإنما بشر -أيضاً- بأنه يكون نبياً من الصالحين، وسبق أن بينا أن وصف الأنبياء بالصلاح يكون مدحاً لمرتبة الصلاح، وكذلك وصف الأنبياء بالإسلام؛ لأنه لو كان المدح هنا لصفة الأنبياء أنفسهم لاستووا مع عوام أمتهم، لكن المقصود هنا مدح صفة الإسلام والصلاح؛ حيث يتصف بها الأنبياء عليهم السلام. فقال تعالى: (وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين) وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة، وقال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]. ولا شك في أن هذه الجملة من الآيات فيها دليل واضح على أن الذبيح كان إسماعيل ولم يكن إسحاق؛ لأنه لا معنى للابتلاء بذبح إسحاق وقد ضَمن أبوه أنه سيعيش ويولد له أولاد؛ لأنه قبل أن يولد إسحاق بُشِّر إبراهيم عليه السلام بإسحاق وبولد ولده يعقوب بن إسحاق، ولا معنى لأن يكون الذبيح هو إسحاق، فإذا كان من المضمون -والوعد أتاه من الله، ووعد الله لا يخلف- أن إسحاق سيعيش ويكبر حتى ينجب ولداً فهل يصح أن يكون الذبيح -وهو صبي صغير- إسحاق عليه السلام؟! الجواب: لا يمكن ذلك، لكن اليهود -لعنهم الله- حنقاً على أهل الإسلام وأهل التوحيد من نسل إسماعيل عليه السلام يأبون الاعتراف بهذه الحقيقة، ويحاولون أن يحتجروا هذا الشرف بأن ينسبوا موضوع الذبيح إلى إسحاق عليه السلام. وقوله: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به كما قرت بوالده، وإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يُتوهم أنه لا يعقد لضعفه قالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً [هود:72] فربما يقع احتمال أن من يُنجب بعد هذا السن الكبير يكون عقيماً لا يولد له، فلذلك وقعت البشارة به وبولد اسمه يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام لأنه اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه لتقر بهم عينه، كما قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:49]. ثم قال تعالى: (( وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ )) يعني: ونوحاً هديناه من قبلك كما هديناك. وعُدَّ هداه نعمةً على إبراهيم من حيث إنه أبوه، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد؛ لأن نوحاً عليه السلام هو الأب الثاني للبشرية، قال ابن كثير : كل منهما له خصوصيات عظيمة، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به -وهم الذين صحبوه في السفينة- جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم إنما كانوا من ذرية نوح عليه السلام أبي البشرية الثاني. وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يبعث الله عز وجل بعده نبياً إلا من ذريته، يعني: إذا كان كل البشر بعد نوح من ذريته فهذه صفة عامة، وإبراهيم عليه السلام كل الأنبياء بعده هم من ذريته عليه السلام، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27]، وهذا مقطوع به، فلم يبعث نبي بعد إبراهيم إلا وهو من ذريته، سواء أكان من نسل إسحاق، وهو يعقوب ومن بعده إلى آخر أنبياء بني إسرائيل، أم من نسل إسماعيل عليه السلام، وهو سيد الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكلاهما من ذرية إبراهيم. وقال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ [مريم:58]، ثم قال: وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا [مريم:58]، وقوله: (وهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته) يحتمل أن تكون الهاء عائدة على نوح أو على إبراهيم عليه السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وزكريا ويحيى ... فضلنا على العالمين)

    ثم قال تعالى: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:85-86]. اعلم أن المقصود من هذه الآيات وما قبلها وما يلحقها تعديد نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون، وقيامه بنصرة التوحيد ودحض الشرك، فذكر تعالى أولاً أنه رفع درجته بإيتائه الحجة على قومه وتخصيصه بها، ثم جعله عزيزاً في الدنيا حسباً ونسباً، أصلاً وفرعاً؛ أصلاً لأنه تولد من نوح أول المرسلين برسالة عامة، ووهبت له الذرية الطاهرة أنبياء البشر، ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في قوله: (ومن ذريته) يعود على إبراهيم عليه السلام؛ لأن مساق اللفظ لبيان شئونه العظيمة، فأكثر المفسرين على أن الهاء تعود على إبراهيم عليه السلام؛ لأن سياق الآيات قبلها وبعدها هو في بيان رفعة شأن ومنزلة خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولأن مساق النظم لبيان شئونه العظيمة، فكأنه قيل: ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك؛ إذ هدينا من ذريته داود وسليمان.. إلى آخره. فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات، وذكر نوح عليه السلام لأن إبراهيم أحد أولاده، وكونه أحد أولاده يكون هذا من موجبات رفعته، وهذا حتى يبين الله سبحانه وتعالى رفعة شأن إبراهيم عليه السلام أصلاً وفرعاً، فذكر نوح ليبين رفعة أصله، وأنه من ذرية نوح عليه السلام. والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين، وإقامة الحجة على المشركين ومحاجتهم؛ لأنه يريد أن يلزمهم، يعني: أنتم -أيها المشركون، أو أيها العرب- تنتمون إلى إبراهيم عليه السلام، وتنتسبون إلى ملة إبراهيم عليه السلام، فهذا هو إبراهيم عليه السلام الذي كان على خلاف ما أنتم عليه من اتخاذ الأنداد والشركاء، ولا يقال: إن لوطاً ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه، فإن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب تجعل العمَّ أباً، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب عليه السلام أنهم قالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [البقرة:133]، مع أن إسماعيل عم يعقوب، لكنه دخل في آبائه تغليباً. وقال محيي السنة الإمام البغوي رحمه الله تعالى: (ومن ذريته) أي: ذرية نوح عليه السلام، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر في جملتهم يونس، وكان من الأسباط في زمن شعياء، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل. وقال: إن لوطاً عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام، آمن بإبراهيم وخرج معه مهاجراً إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم. ومن قال: الضمير يعود إلى إبراهيم يقدر الكلام: (ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان هدينا)، لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر، وذكر نوح لتعظيم إبراهيم، ولذلك قاسم بيونس ولوط، وجعلهما معطوفين على قوله تعالى: (نوحاً هدينا) من عطف الجملة على الجملة، فكأن إدخال لوط هو على سبيل التغليب، أي: أنه من ذرية أخيه، فذكر على سبيل التغليب؛ لأن من ذكر من الأنبياء هم من ذريته عليه السلام. وبالجملة فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين؛ لأن شرف الذرية وشرف الأقارب شرف، لكنه على الأول أظهر، ويكون في هذا تطرية في المدح لإبراهيم عليه السلام بالعود إليه مرةً بعد أخرى. قال الحافظ ابن كثير في ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم: هذا فيه دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل؛ لأن عيسى لا أب له، ومع ذلك ذكر أنه من ذرية إبراهيم أو نوح، ولا تعارض. فدل هذا على دخول ذرية البنات في ذرية الرجل؛ لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليها السلام، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، هل تجده في كتاب الله؟ وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده، قال: أليس تقرأ سورة الأنعام (ومن ذريته داود وسليمان) حتى بلغ: (يحيى وعيسى)؟! قال: بلى. قال: أليس -يعني: عيسى- من ذرية إبراهيم وليس له أب؟! قال: صدقت. فما ثمرة هذه المسألة؟ ثمرتها أن ذرية الرجل يدخل فيها بناته، فإذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه، أو وقف على بنيه دون ذريته فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه، وبنو بنيه، أي: أولاده الذكور وأولاد أولاده بنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم، بما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) فسماه ابناً، فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوز. وعلى أي الأحوال فالمسألة مختلف فيها، والقائل بها استدل بهذه الآية وآية المباهلة. وآية المباهلة هي قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ [آل عمران:61]، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الحسن والحسين ليطبق قوله تعالى: أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ [آل عمران:61]، فدل على أنه اعتبر الحسن والحسين -مع أنهما من ذرية بنته فاطمة عليها السلام- من أبنائه، فهذا -أيضاً- يؤيد ذلك. والقائل بهذا الكلام الذي ذكرناه استدل بهذه الآية هنا، وهو ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح، وهو لا يمت إليهما إلا من طريق الأم؛ لأنه لا أب له، وكذلك في آية المباهلة، حيث قال تعالى: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ [آل عمران:61]، فجمع الحسن والحسين بعد ما نزلت هذه الآية، إلا إذا قيل: إن من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن أولاد بنته هم من ذريته. ولم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق، كما هو ظاهر من الآية هنا، فإنه تعالى قال: (( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ )) ولم يقل: وإسماعيل. وإنما ذكر إسماعيل بعد ذلك في قوله: (( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ))، وإنما أخر ذكره لأن المقصود بالذكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم، ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وآله وسلم. وإبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومنها إيتاؤه أولاداً أنبياء. واعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبياً من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب، لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، لكن هنا لطيفة في هذا الترتيب، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولاً نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأنهم أصول الأنبياء، وإليهم ترجع أنسابهم جميعاً. فذكر في أول السياق هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، أعني نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأن هؤلاء هم أصول الأنبياء، ولا شك في أن نوحاً أصل هذه الأصول كلها، وإبراهيم خرج منه هؤلاء الأنبياء، خاصة أنبياء بني إسرائيل؛ لأنهم الأكثرون، والسياق فيه الامتنان على إبراهيم بكثرة الأنبياء في ذريته، وهذا إنما أتى من إسحاق ويعقوب وذريتهما. ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان، فبعد النبوة هناك مرتبة الملك والقدرة والسلطان، وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظاً وافراً، فلذلك قال تبارك وتعالى بعد ذلك: (وسليمان وأيوب) إلى آخره. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام، ومن المراتب مرتبة الصبر على الشدة بجانب الملك والسلطان، واجتمعتا في يوسف عليه السلام، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة. ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليه السلام كثرة المعجزات، وقوة البراهين، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر. ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا، والإعراض عنها، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط، فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر، والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقد استدل بقوله تعالى: (( وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ )) من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن العالم اسم لكل موجود من سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملك، فاستدل بهذه الآية (وكلاً فضلنا على العالمين)، من قال بأن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن كلمة (العالمين) تشمل الملائكة. وقوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا) ذكر الله سبحانه وتعالى نعمة الهداية في سياق تعديد نعمه على إبراهيم عليه السلام بشرف أصوله وبشرف فروعه؛ لأن الولد لا يعد نعمة ما لم يكن مهدياً، فامتن عليه بذرية مهدية، أما إذا كانت الذرية غير مهدية فلا تعد نعمة، فأعظم النعمة أن تكون الذرية مهدية، فلذلك وصفهم بقوله: (كلاً هدينا).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم..)

    قال تعالى: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:87]. العطف على (كلاً) أو (نوحاً)، أي: كلاً منهم فضلنا، وفضلنا بعض آبائهم، أو هدينا من آبائهم ومن معهم للدين الخالص جماعات كثيرة. فالمفعول محذوف، يعني: ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم هدينا معهم جماعات كثيرة. وقوله: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط المستقيم) يعني: في الاعتقادات والأخلاق والأعمال، فجعلت لهم هذه الفضائل أيضاً، ولحقت بإبراهيم فازداد ارتفاع درجاته عليه السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء..)

    قال تعالى: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]. قوله: (ذلك هدى الله) إشارة إلى الدين الذي كانوا عليه (يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا) يعني: لو أشرك هؤلاء الأفاضل من الأنبياء عليهم السلام مع عظمتهم (لحبط عنهم ما كانوا يعملون) يعني: من الأعمال المرضية. فالأنبياء لا شك في أنهم يعملون أعمالاً مرضية عظيمة جداً أكثر من أي امرىءٍ من البشر، ومع ذلك لو وقع منهم الشرك لحبطت أعمالهم المرضية، فكيف بمن عداهم ممن هم أقل منهم مرتبة إذا أشركوا بالله سبحانه وتعالى؟! وهذا -بلا شك- فيه تعظيم لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]. والسياق هنا سياق شرط، أي قوله تعالى: (لئن أشركت) وكذلك (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) فهل الشرط يقتضي جواز الوقوع؟ الجواب: لا، الشرط لا يقتضي جواز الوقوع، ومثال ذلك الشرط في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81]، فهل معنى ذلك أن هذا يقع بأن يكون للرحمن ولد؟ الجواب: لا، وإن كانت الآية فيها احتمالات كثيرة. وقوله: (قل إن كان للرحمن ولد) إن: نافية بمعنى (ما) مثل قوله تعالى: (إن هو إلا عبد) يعني: ما هو إلا عبد. فـ(إن) بمعنى (ما) النافية، فكذلك هنا، (قل إن كان للرحمن ولد) يعني: ما كان للرحمن ولد، (فأنا أول العابدين) لهذا الإله المنزه عن أن يكون له ولد. وهناك تفسير آخر في قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد)، وهو: إن كان لله ولد فأنا أول العابدين المستنكفين عن عبادة إله يحتاج إلى الولد. أو أن قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد) مجرد شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، وإنما الشرط لتبيين شيء معين، أو حكم معين، لكن لا يقتضي أن المشروط يقع بالفعل؛ لأن الأنبياء إذا كانوا معصومين من المعاصي فأولى بهم أن يعصموا من الشرك، فهذا لا يقع من الأنبياء قطعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعصمهم ويحفظهم من ذلك. فإذاً: المقصود هنا مجرد بيان خطورة الشرك، وتشنيع لأمره وتغليظ لشأنه تنفيراً منه، فالشرط لا يقتضي الوقوع، مثل قوله تعالى: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:17]. فالشرط لا يقتضي جواز وقوع هذا الفعل. وفي قوله تعالى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر:4] شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، وكذلك في قوله هنا: (( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) فهو شرط، وهو لا يقتضي جواز وقوعه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة..)

    ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]. قوله: (أولئك)، إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر، والمعطوفين عليهم عطفوا لاستلطافهم بما ذكر من الهداية وغيرها. وقوله: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب)، الكتاب هنا اسم جنس، والكتب هي كثيرة، لكن هنا المقصود جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية. وقوله: (آتيناهم الكتاب)، المقصود بالإيتاء: التفهيم التام لما فيه من الحقائق، والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق، وهذا أعم من أن يكون بالانزال ابتداءً أو يالإيغاث إسقاءً، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين. وقوله: (آتيناهم الكتاب والحكم)، أي: الحكمة، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب، (والنبوة)، أي: الرسالة، وقيل: (النبوة)، وإن كانت أعم إلا أن المراد بها ما يشمل الرسالة؛ لأن المذكورين رسل. ولا تعارض بين قولك: محمد نبي الله ومحمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن كلمة النبوة أعم، هذا هو السبب في عدم التعارض؛ لأن النبوة تشمل الرسل، وتشمل غير الرسل، فهي مرتبة أعم، لكن أخص منها مرتبة الرسالة، فلا تعارض، بل بينهما عموم وخصوص، لكن في تفسير هذه الآية إذا أردنا أن نفسر قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)، فنخص المعنى العام للنبوة بمعنى الرسالة؛ لأن المذكورين كلهم رسل، ولم يقتصروا على مرتبة النبوة. وقوله: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء)، الهاء في قوله: (بها) تعود إلى هؤلاء الثلاثة: الكتاب، والحكم، والنبوة، يعني: بهذه الثلاثة المذكورة. وقوله: (هؤلاء)، يعني: قريشاً، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون لما يصدقه جميعاً، كما هو معروف أن الإيمان حقيقة كلية متركبة من أجزاء، وهذه الأجزاء لا ينفصل بعضها عن بعض، فإذا حبطت واحدة منها حبط جميع الإيمان، يعني: لو أن الإنسان آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولكنه كفر باليوم الآخر، والبعث والنشور فإن كل إيمانه يحبط، فيصح أن يوصف -مع أنه يصدِّق بالأنبياء ويصدق بالله- بأنه لا يؤمن باليوم الآخر، ولا يؤمن بالله، ولا بالملائكة، كما قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]. ونحن نعلم أن أهل الكتاب يؤمنون بالبعث وبالنشور، ويؤمنون باليوم الآخر، لكن أطلق عليهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر؛ لأنهم بكفرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، أو بعيسى -وهذا كان في حق اليهود- فقد كفروا بجميع الأنبياء، لو واحد مسلم آمن بجميع الأنبياء لكنه قال: إلا عيسى، أو إلا يونس، لصار كافراً متساوياً سواء بسواء مع إخوانه في الكفر، فيحبط كل إيمانه، ولو آمن بكل الملائكة ما عدا جبريل فإنه أيضاً يحبط كل إيمانه، ويسمى كافراً خارجاً من ملة التوحيد. فمن ثمَّ قال تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء) يعني: المشركين من قريش (فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين)، يعني: وفقنا للإيمان بها (قوماً ليسوا بها بكافرين)، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وأتباعهم، أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأظهر؛ لأنه إذا قلنا: (( فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ))، وهذا يصلح أن يكون في مقابلة كفار قريش لأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، فإن في إيمانهم غنية عن إيمان الكفرة بها. ولا شك أن في التكنية عن توفيقهم للإيمان بها بالتوكيل إيذان بفخامتها وعلوها، وأنه مما ينبغي أن يقدر قدرها، قياماً بحق الوكالة. قال الرازي : دلت هذه الآية على أن الله تعالى سينصر نبيه صلى الله عليه وسلم، ويقوي دينه، ويجعله مستعلياً على كل من عاداه، قاهراً لكل من نازعه، وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع، فكان جارياً مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده..)

    قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:90]. قوله: (أولئك) إشارة إلى الأنبياء المذكورين. قوله: (الذين هدى الله) أي: إلى الصراط المستقيم. قوله: (فبهداهم اقتده) أي: بطريقتهم، وهي بالإيمان بالله، وتوحيده، والأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، والصفات الرفيعة، ونحو ذلك. واستدل بهذه الآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ. أي أن الأصل هو أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) أي: اقتد بهداهم. ولذلك لما سئل بعض العلماء عن دليل من القرآن الكريم عن وجوب إعفاء اللحية استدل بهذه الآية التي في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) أي: هؤلاء الأنبياء المذكورون، ووجه الاستدلال أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه ووجدهم قد اتخذوا العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه، فقال له هارون عليه السلام: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] ومعنى ذلك أنه كانت له لحية عظيمة بحيث أنها تمسك، ولم تكن مثل اللحية المجوسية التي تكون مقصوصة بحيث لا تمسك؛ لأن هذه هي سنة المجوس، فالمجوس كانوا يقصونها، وهناك فرق بين القص وبين الحلق، فالحلق استئصال، أما القص فتكون فيه اللحية موجودة. فمن قصَّر لحيته إلى حد الحلق فلا يعتبر قد خالف المشركين؛ لأن المجوس كانوا يتركونها بحيث تكون قريبة جداً إلى الحلق. والشاهد من الكلام أن الأمر للقدوة أمر لأتباعه، كقوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، فهذا الأمر موجه للرسول عليه الصلاة والسلام، لكن المقصود به هو وأتباعه، فأمر القدوة أمر لأتباعه، فإذا أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهؤلاء الأنبياء ومنهم هارون الذي كان ذا لحية طويلة فهو أمر لنا؛ لأننا مأمورون -أيضاً- بالاقتداء بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم. لكن قد يعكر على هذا الاستدلال أنه يفتقر إلى دليل يدل على أن هارون أتى بها على سبيل الوجوب، وهذا الاستدلال من لطائف الاستدلال. واستدل بها ابن عباس رضي الله عنهما على استحباب السجدة في سورة (ص)؛ لأن داود عليه السلام سجدها، رواه البخاري وغيره، ولفظ البخاري عن العوامي قال: سألت مجاهداً عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟! يعني: أين دليلك على سجودك؟! قال: أو ما تقرأ (ومن ذريته داود وسليمان) إلى قوله: (أولئك الذين هدى الله فبداهم اقتده)؟! فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: اقتداءً بداود؛ لأنه أمر بالاقتداء به. واحتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقريره أن خصال الكمال وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، وقد تنوعت الكمالات التي اتصف بها الأنبياء، سواء في الصبر على البلاء، والشدة، والبأس، والملك، والسلطان، ونحو ذلك، فكانت هذه الخصال مفرقة في الأنبياء عليهم السلام، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، كما قال تعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13]. وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء، ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين، وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس كان صاحب التضرع، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه خصلة معينة من خصال المدح والشرف، ثم إنه تعالى لما ذكر الكل أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم بأسرهم، فقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فأُمر نبينا عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بهم في كل خصال الفضائل والكمالات التي تحلو بها، فكأنه أمر بأن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، وهو معصوم عن مخالفة ما أمر به، فإذا أمر الله سبحانه وتعالى النبي عليه الصلاة والسلام بأمر فإن النبي لا يتصور أبداً أنه يخالف أمر الله عز وجل؛ لأنه معصوم عن مخالفة ما أمره الله به، ومعنى ذلك أنه بالفعل امتثل هذا الأمر، واجتمع فيه جميع ما تفرق فيهم من الكمال، فثبت بذلك أنه أفضلهم، ولا شك في أن هذا استنباط حسن. وقوله: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) هذه الهاء تسمى هاء السكت، ويقرأ بسكون الهاء وإثباتها في الوقف دون الوصل، وهي على هذا هاء السكت، ومن العلماء من يثبتها في الوصل أيضاً لشبهها بهاء الضمير، ومنهم من يكسرها، وفيه وجهان: أحدهما: أنها هاء السكت أيضاً، شبهت بهاء الضمير، وليس بشيء، والثاني: أنها هاء الضمير، والمضمر المصدر، أي: اقتد الاقتداء. وقوله: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الشورى:23] الهاء في قوله: (عليه) المقصود بها القرآن، أو المقصود بها التبليغ، فإن مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما. وقوله: (( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )) (إن هو) أي: البلاغ، أو أن المقصود به القرآن، ولذلك قلنا: إن السياق يشير إلى أن قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه) يعني البلاغ أو القرآن الكريم، وقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين) أي: عظة وتذكير لهم؛ ليرشدوا من العمى إلى الهدى. وفي هذه الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى جميع الخلق من الجن والإنس، وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق، فقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين) أي: لجميع العالمين، وجميع الخلائق الجن والإنس، رغم أنف هؤلاء الذين يحاولون أن يزعموا أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قاصرة على العرب. وهناك برنامج في الإنترنت قال عنه بعض الإخوة: إن موسوعةً عن الإسلام موجودة فيه باللغة الإنجليزية، فاطلعت على أشياء منها عن طريق ورق مكتوب فرأيت من ضمن الأشياء أن واحداً من الخبثاء تكلم عن كلمة القرآن، وشرح قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)، فأشار إلى أن القرآن نزل باللغة العربية حتى يعقلها العرب، ثم قال: إن القرآن نزل على الشعوب العربية، ومضى في الكلام كأنه يمدح الإسلام! ولا شك في أن هذا معنىً خطير؛ لأنه حصر الإسلام في العرب، وهذا من المقطوع ببطلانه، وهو من البديهيات المعروفة في دين الإسلام.

    حكم أخذ الأجرة على التعليم وتبليغ الدعوة

    قيل: إن الآية تدل على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام، وللفقهاء في هذه المسألة كلام، فقوله تعالى: (( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )) قال فيه بعض المفسرين: في هذه الآية إشارة إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلوم؛ لأن ذلك جرى مجرى تبليغ الرسالة. وعلى كل الأحوال فالآية تدل على نفي سؤاله صلى الله عليه وسلم منهم أجراً كي لا يشق عليهم الامتثال، أما استفادة الحل والتحريم من الآية ففيه خفاء، فالقائل بالإباحة يقول: المعنى: لا أسئلكم جعلاً تعففاً. يعني: وإن حل لي أخذه فأنا أتعفف عن أخذه. فيقول: إن الآية تدل على إباحة أخذ الجعل. والقائل بالتحريم يستدل بالآية على تحريم أخذ الأجرة على التعليم، وقال في قوله تعالى: (لا أسألكم عليه أجراً) أي: لأنه حرم عليَّ ذلك. قال ابن القيم: وأما الهدية للمفتي ففيها تفصيل: فإن كانت بغير سبب الفتوى، كمن عادته أنه يهاديه، أو مَنْ لا يَعرِفُ أنه مفتٍ فلا بأس بقبولها، والأولى أن يكافأ عليها، وإن كانت بسبب الفتوى فإن كانت سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته؛ لأنها تجزل المعاوضة عن الإفتاء. وأما أخذ الرزق من بيت المال فإن كان محتاجاً إليه جاز له ذلك، وإن كان غنياً عنه ففيه وجهان. فطلب الأجرة لا يجوز؛ لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا يجوز المعاوضة عليه، كما لو قال: لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة. أو سئل عن حلال وحرام فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة. فهذا حرام قطعاً، ويلزمه رد العوض، ولا يملكه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرءوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به). وقال أيضاً: (من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به، فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به). وعن أبي بن كعب قال: (علمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: إن أخذتها أخذت قوساً من نار). وهناك أحاديث أخر، وبها استدل على حظر أخذ الأجرة على التعليم، وأما أخذ الأجرة على التلاوة ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قصة اللديغ قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، اقتسموا، واضربوا لي معكم سهماً)، وكان هذا الأجر على الرقية. و الشوكاني يقول: قوله: (أحق ما أخذتم عليه أجراً) عام يصدق على التلاوة في الرقية أو التعليم، وأخذ الأجرة على التلاوة لمن طلب من القارئ ذلك، وأخذ الأجرة على الرقية، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء لأجل كونه قارئاً، ونحو ذلك، فيخص من هذا العموم تعليم المكلف، ويبقى ما عداه داخلاً تحت العموم. والموضوع كبير، وفيه اختلاف كبير بين العلماء، وليست غايتنا أن نحقق هذه المسألة، ولها موضع آخر في أحكام الإجارة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره ...)

    قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91]. ولما بين تبارك وتعالى شأن القرآن العظيم، وأنه نعمة كبرى على العالمين أتبعه ببيان كفرهم بذلك على وجهٍ سرى إلى الكفر بجميع الكتب المنزلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:89-90]، فبيَّن لهم النعمة الكبرى التي هي القرآن الكري بقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين)، ومع ذلك كفروا به، فقال عز وجل: (( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا )) لما جاءتهم نعمة القرآن والوحي (مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). قوله: (وما قدروا حق قدره) يعني: ما عظموه حق تعظيمه. وكلمة (حق) في قوله تعالى: (حق قدره)، منصوبة على المصدرية؛ لأن أصلها (وما قدروا الله قدره الحق)، فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه. وقوله: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) يعني: حين اجترءوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء، إذ طاوعتهم قلوبهم أن يقولوا هذه الكلمة، يعني أن قول هذه الكلمة يعكس أنهم ما قدروا الله وما عظموا الله حق تعظيمه تبارك وتعالى، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لا ينفون نزول القرآن على الرسول عليه السلام فقط، وإنما ينفون أصل إرسال الكتب من الله سبحانه وتعالى إلى جميع الأنبياء مبالغة في نفي الرسالة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلاً، حيث قيل في جواب سلبهم العام لإثبات قضية جزئية بديهية التسليم: (( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ )) أي: ضياءً من ظلمة الجهالة وبياناً يفرق بين الحق والباطل (( تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا )) أي أنهم كانوا يجزئونه أوراقاً يبدونها للناس مما ينتخبونه، فكيف ينكر إنزال شيء وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان موجود في قراطيس؟! أي: في أوراق مكتوبة. وعدل عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته فقال: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) ولم يقل: قل: من أنزل التوراة. ثم مدح الكتاب بقوله: (نوراً وهدى للناس) فكل هذا لزيادة التقريع، وتشديد التبكيت، وإلقام الحجر. وقوله تعالى: (وتخفون كثيراً) أي: تبدونها وتخفون. أي أن قوله تعالى: (تخفون) معطوف على (تبدونها) والعائد محذوف، فقوله: (وتخفون كثيراً) أي: كثيراً منها. ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه، وبالمعترف لديهم بأحقيته، وفيه نعي على أهل الكتاب لسوء صنيعهم المذكور؛ إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين. وقوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام:91] يعني أهل الكتاب، (وعلمتم) يعني: على لسان محمدٍ صلى الله عليه وسلم (ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) يعني: من المعارف التي لا يرتاب في أنها تنزيل رباني، ومن الذي أنزل هذا؟ (قل الله) أي: أنزله الله. أو: الله أنزله. وأمره بأن يجيب عنهم إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، يعني أنه يسألهم السؤال ثم يجيب، إشارة إلى أن الجواب متعين، ولا يحتمل أن يكون هناك جواب غير هذا الجواب، وتنبيهاً على أنهم بهتوا، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب، فتولى هو الجواب فقال: (قل الله) يعني: هو الذي أنزل هذا الكتاب. وقوله: (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) أي: بعد التبليغ وبعد إلزامهم الحجة (ذرهم) أي: اتركهم (في خوضهم) أي: باطلهم (يلعبون) أي: يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضرراً، مع تضييع الزمان، وهذا هو حال اللاعب، فهذا حال هؤلاء الذين كفروا بالقرآن الكريم، وهو أنهم يفعلون فعل اللاعب، واللعب لا يجر للإنسان نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً، بجانب أنه يضيع عليه الوقت والزمان. وهذه الآية فيها قولان: القول الأول: أنها مكية النزول تبعاً للسورة؛ لأن سورة الأنعام مكية، وأن القائل: (ما أنزل الله على بشر من شيء) هم المشركون، وإلزامهم بإنزال التوراة لأنها كانت عندهم من المشاهير الذائعة، فألزمهم بإنزال التوراة؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى اليهود على أنهم أعلم منهم، وأنهم أهل كتاب، وكانوا يعرفون بالتوراة، هذا هو الظاهر. وقال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: هذه الآية نزلت في قريش. قال ابن كثير: وهو الأصح. وهذا اختيار الإمام ابن جرير ؛ لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، ولأن اليهود ما قالوا: (ما أنزل الله على بشر من شيء) وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من البشر، كما قال تعالى : أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس:2]، وقال تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء:94]، وكذلك قالوا هنا: (ما أنزل الله على بشر من شيء). إذاً: يكون المقصود بها كفار قريش لا أهل الكتاب. فألزموا بإنزال الكتاب الذي جاء به موسى، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيباً لقولهم وإيقافاً على عنادهم، ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف، وتسليم قريش بأنهم أهل كتاب، وأنهم أعلم منهم لأجل هذا الكتاب، مما يوجب اعترافهم بأحقية التوراة، وأنها منزلة من لدنه تعالى. القول الثاني: أن هذه الآية مدنية النزول، ولا يرد أن هذه السورة مكية، فلا إشكال في أن تكون السورة مكية في العموم، لكن يكون فيها بعض الآيات مدنية؛ لأن مناظرات اليهود إنما جرت في المدينة النبوية، ولأن كثيراً من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية، وحينئذ فقولهم: هذه السورة مكية يعني أنها سورة مكية إلا ما استثني مما ألحق بها. والقائلون بأنها مدنية قالوا: نزلت في طائفة من اليهود، أو في فنحاص أو في مالك بن الصيف. وذكر المفسرون لكلٍ من هذه الأقوال قصصاً تؤيد قولهم. وقال أبو السعود رحمه الله تعالى: ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط -أي: في قوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى)- بل إلزامهم بإنزال القرآن أيضاً، فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعاً؛ لأن التوراة تشهد للقرآن الكريم، ولأن التوراة فيها أدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: (تجعلونه قراطيس) يعني: تضعونه في قراطيس مقطعة، وورقات مفرقة. فقوله تعالى: (تجعلونه قراطيس) يعني: تجعلونه في قراطيس، وحذف حرف الجر بناءً على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم، أو: تجعلونه نفس القراطيس المقطعة، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة، يعني أنهم يجعلونه قراطيس لكي يظهروا البعض ويكتموا البعض الآخر. وقوله تعالى: (تبدونها ويخفون كثيراً) يعني: يبدونها ويخفون، دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الديني عمن يهتدي به.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ...)

    قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام:92]. ولما أبطل كلمتهم الشنعاء بتقرير إنزال التوراة بين تنزيل ما يصدقها بقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ). قوله: (وهذا كتاب) يعني: هذا القرآن. وقوله: (أنزلناه مبارك) يعني: كثير المنافع والفوائد؛ لاشتماله على منافع الدارين، وعلوم الأولين والآخرين، وما لا يتناهى من الفوائد. قال الرازي: العلوم إما نظرية وإما عملية، فالأولى أشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجدوه في هذا الكتاب، وأما الثانية التي هي العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح وإما أعمال القلوب، وهو المسمى بتهذيب الأخلاق وتزكية النفس، ولا تجد هذين العلمين مثلما تجده في هذا الكتاب. ثم جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا القرآن الكريم والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة، وقد شوهد هذا في كل عصر، فإن الله سبحانه وتعالى يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين. وقوله: (مصدق الذي بين يديه) يعني: من التوراة. أو: من الكتب التي أنزلت قبله. وفيه إثبات التوحيد موافقاً لها، فالأمر بالتوحيد في نفي الشرك وفي النهي عن الشرك موجود في سائر أصول الشرائع التي لا يطرأ عليها النسخ. قوله: (ولتنذر أم القرى ومن حولها) أم القرى هي مكة، سميت بذلك لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلهم ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأناً وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل. وفي ذكرها بهذا الاسم المنبئ عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستلزم لإنذار أهل الأرض كافة، وإنذار أهلها يلزم منه إنذار كل القرى والمدن والبلاد في أرجاء الأرض وما حولها، أي: من أطراف الأرض شرقاً وغرباً، كما قال تعالى: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، وقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وقال أيضاً: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، وقال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20]، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي -وذكر منهن- وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة). ثم قال تعالى: (( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )) فمن صدَّق بالآخرة خاف العاقبة، وما يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب. وقوله: (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) يعني: بالنبي أو بالقرآن، ويحافظون على الصلاة، وخصص الصلاة لكونها أشرف العبادات بعد الإيمان وأعظمها قدراً؛ ولأن من حافظ على الصلاة فهو لما سواها أحفظ، فلذلك اقتصر على ذكر الصلاة فقال: (وهم على صلاتهم يحافظون). ولذلك لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] والمقصود به الصلاة، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر) وفي هذا نظر؛ لأن الكفر قد أطلق على غير ترك الصلاة من المعاصي.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي..)

    قال تعالى:وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]. قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:93] أي: اختلق إفكاً فجعل له شركاء أو ولداً، أو افترى أحكاماً في الحل والحرمة، كـعمرو بن لحي وأشباهه ممن ينطبق عليهم قول الله: أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام:93] وممن ادعى النبوة كذباً، وهذا يزيد على الافتراء في دعوى النبوة، وهذا تهديد على سبيل الإجمال، كعادة القرآن، فإنه يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك. وقوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) يعني: لا أحد أظلم من هؤلاء، (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) يعني من ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي، بما يفتريه من القول، كـالنضر بن الحارث ، وهذا كقوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [الأنفال:31]. فقوله: وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ [الأنعام:93] يعني من ينكر إعجاز القرآن الكري، حتى قال: (سأنزل مثلما أنزل الله) مع أنه قد عرف إعجازه، فكأنه ادعى لنفسه قدرة الله، وكأنه -أيضاً- ادعى الإلهية لنفسه؛ لأن القرآن لا يقدر على أن يأتي به على هذه الصورة المعجزة إلا الله سبحانه وتعالى، فمن قال: سأنزل مثلما أنزل الله فكأنه يدعي أنه قادر على ما لا يقدر عليه إلا الله من هذه المعجزة الظاهرة، وكأنه يسوي قدرته بقدرة الله، ويلزم من ذلك أنه يدعي الإلهية لنفسه، ولا يجترئ على هذه الوجوه من الظلم من يؤمن بالآخرة، فيعلم ما للظالمين فيها المبَيَّن في قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ [الأنعام:93] يعني أصحاب هذه الأقوال وهذه الأفعال المذكورة في أول الآية بقوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الكذب أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) فإنه لا أحد أظلم من هؤلاء، وهؤلاء هم الظالمون؛ لأن الإنسان الذي عنده إيمان بالآخرة وخوف من العاقبة والآخرة وما أعد الله للظالمين فيها لا يجترئ على أن يأتي بشيء من هذه الأشياء المشار إليها في الآية، فمن ثمَّ استطردت الآية في ذكر أحوال الظالمين في الآخرة، باعتبار أن هؤلاء أظلم الظالمين. يقول تعالى: (ولو ترى) أي: انظر إلى أحوالهم: (وَلَو تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) قوله تعالى: (في غمرات الموت) أي: في شدائده وسكراته وكرباته (والملائكة باسطوا أيدهم) أي: بالضرب والعذاب. وهذا كقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [الأنفال:50]. وقوله: (( أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ )) أي: قائلين لهم: أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم. تغليظاً وتوبيخاً وتعنيفاً لهم، والظاهر أنه لا يمكن أن يكون في ذلك مجاز، وإنما هو حقيقة، وأن هذا يحصل حقيقة مع الكفار عند احتضارهم على الصورة المحكية، ومتى ما أمكن حمله على الحقيقة فلا نعدل عنه إلى المجاز. قال الحافظ ابن كثير : إن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصي وتأبى الخروج، وروحه تهرب خوفاً من الملائكة، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم وهم يخرجون: (أخرجوا أنفسكم) ومما يؤيد الحقيقة ويبعد المجاز قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [الأنفال:50] فإن الحقيقة صريحة في قوله: (ولو ترى) وقوله: (يضربون)، ومراعاة النظائر القرآنية أعظم ما يفيد في باب التأويل. قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية بيان حال الكافر عند القبر وعذاب القبر، واستدل بها محمد بن قيس على أن لملك الموت أعواناً من الملائكة. لأنه هنا ذكر مجموعة من الملائكة وليس ملكاً واحداً. يقول تعالى: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ قوله: (اليوم) يعني وقت الإهانة، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له، أي: من الآن فصاعداً، فمن وقت الإهانة لكم عذاب دائم لا ينقطع. وقوله: (تجزون عذاب الهون) أي: الهوان الشديد (بما) أي: بسبب (بما كنتم تقولون على الله غير الحق) كالتحريف، وكدعوى النبوة الكاذبة، وهو جرأة على الله متضمنة للاستهانة به سبحانه وتعالى (وكنتم عن آياته تستكبرون) حتى قال بعضكم: (سأنزل مثل ما أنزل الله).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى..)

    قال تعالى في آخر هذا الربع: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94]. قوله تعالى: (ولقد جئتمونا) أي: جئتمونا للحساب والجزاء (فرادى) أي: منفردين عن الأموال والأولاد وما آثرتموه من الدنيا، أو: (فرادى) ليس معكم أعوان ولا أوثان ممن زعمتم أنهم شفعاء، و(فرادى) جمع فريد، كأسير وأسارى. وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: أيها الناس! إنكم تحشرون إلى الله حفاةً عراة غرلاً (( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ))[الأنبياء:104]..) أخرجه الشيخان . ورويا -أيضاً- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحشرون حفاة عراةً غرلاً. قالت عائشة : فقلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك). وروى الطبري بسنده عن عائشة (أنها قرأت قول الله عز وجل: (( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )) فقالت: يا رسول الله! واسوأتاه! الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوءة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال، شُغِلَ بعضهم عن بعض). وقوله: (( وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ )) يعني: ما تفضلنا به عليكم في الدنيا، فشغلتم به عن الآخرة من الأموال والأولاد والخدم وغير ذلك، فتركتم ما خولناكم من النعم (وراء ظهوركم) يعني: في الدنيا، ولم تحملوا منه نقيراً. وفي هذا إشارة إلى أنهم لم يصرفوه إلى ما يفيدهم في الآخرة، بل انشغلوا به عن الآخرة، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!)، وزاد في رواية: (وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس). ثم قال تعالى: (( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ )) يعني: شركاء لله في الربوبية واستحقاق العبادة، (( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ))، وفي قراءة أخرى بالرفع (لقد تقطع بينُكم)، أي: شملكم. فإن البين من الأضداد، فيستعمل للوصل ويستعمل للفصل، أي: تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات. وقوله: (( وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ )) أي: ذهب عنكم ما زعمتم من رجاء الأنداد والأصنام. وهذا كقوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ* وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166-167]، وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وقال عن إبراهيم عليه السلام مخاطباً قومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بينكم فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت:25]، والآيات في هذا كثيرة جداً. سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756015930