إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [14]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا يتم إسلام العبد إلا بشهادته أن محمداً رسول الله مع شهادته أنه لا إله إلا الله، فالإيمان بالرسل -ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم- واجب على كل إنسان، وقد أيدهم الله تعالى ببينات ومعجزات تشهد بصدقهم وصدق ما جاءوا به.

    1.   

    الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً

    قال رحمه الله تعالى: [قوله :( وإن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى ).

    الاصطفاء والاجتباء والارتضاء متقارب المعنى، واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه وأن الخروج عنها أكمل فهو أجهل الخلق وأضلهم، قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26]، إلى غير ذلك من الآيات.

    وذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم باسم العبد في أشرف المقامات، فقال في ذكر الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، وقال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، وقال تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، وقال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك يقول المسيح عليه السلام يوم القيامة إذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم السلام: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى].

    الكلام هنا على الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمداً رسول الله، فبعد أن ذكر بعضاً مما يتعلق بالإيمان بالله تطرق إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الشهادتين قرينتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله لزمته الشهادة بأن محمداً رسول الله، وذلك لأن الله سبحانه شهد له بذلك وسماه رسولاً، فقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، وقال تعالى: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، وأمره أن يخبر بأنه أرسله في قوله: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].

    فإذا كان الله تعالى أخبر بأنه رسوله فمن كمال تصديق الله تصديق ما أخبر به من هذه الرسالة، وتصديق ما أخبر به من أنه مرسل من الله سبحانه وتعالى.

    كذلك إذا شهدنا لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه رسول وصادق واعتقدنا صدقه، لزم من تصديقه الشهادة بأن الله هو الإله الحق؛ لأن جل دعوته إلى (لا إله الا الله)، فأكثر ما دعا إليه تحقيق (لا إله إلا الله).

    فعرف بذلك أن الشهادتين متلازمتان وأن إحداهما مرتبطة بالأخرى، ولأجل ذلك اعتبرتا ركناً واحداً من أركان الإسلام الخمسة، وهو الركن الأساسي الذي تنبني عليه بقية الأركان، وهو شرط لها كلها، فلا يقبل ركن من الأربعة إلا بعد أن يتحقق الركن الأول وهو الشهادتان.

    شرف وصف العبودية للنبي صلى الله عليه وسلم

    وهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث صفات:

    الصفة الأولى: الاجتباء. والثانية: الارتضاء. والثالثة: الاختيار.

    وقد وصفه أيضاً بالعبودية، وتكلم الشارح هنا على العبودية، ونحن نتكلم عليها توضيحاً لما قاله، وإن كان فيما ذكره كفاية، فنقول:

    وصف الله نبيه بالعبودية في هذه الآيات، كما في قوله في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، فما قال: على رسولنا.

    وفي مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، وفي مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، وفي مقام إنزال الكتاب: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، والآيات في ذلك كثيرة.

    وكذلك ذكر الشارح أيضاً أن عيسى وصفه بذلك، فإذا طلب من عيسى الشفاعة قال: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، ولم يقل: (رسول)، وذلك لأن العبودية هي الصفة الأصلية للخلق.

    وكذلك وصف بها أيضاً الأنبياء قبله، قال الله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ [ص:17]، وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ [ص:41]، وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ص:45]، كلهم وصفهم بأنهم عبيد وعباد وواحدهم عبد.

    وكذلك حكى عن عيسى العبودية، وأنها أول ما تكلم به وهو في المهد، فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30]، وقال عنه في آخر سورة النساء: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ [النساء:172] أي: لا يأنف من العبودية، بل يراها صفة شرف، وكذلك الملائكة: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، فالملائكة أيضاً لا يستنكف أحدهم أن يكون عبداً لله، بل هم قد وصفوا بذلك في قوله تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26-27]، فأول ما وصفهم به أنهم عباد، يعني أنهم مملوكون لله.

    وقد وصف الله جميع الخلق بذلك في قوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93].

    أقسام العبودية

    وقد ذكر العلماء أن العبودية لله تنقسم قسمين: عبودية عامة وعبودية خاصة.

    فالعبودية العامة يدخل فيها جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وهي المذكورة في هذه الآية: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، والعبودية هنا معناها أن كلهم خاضع لتصرف الرب سبحانه وكلهم مملوكون له، فإذاً هم عبيد لله سبحانه، وهو الذي يحكم فيهم ويعدل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29] يقوله الله يوم القيامة.

    فالخلق عبيد لله بمعنى أنهم مملوكون، والله هو المالك لهم، فهم عبيده يتصرف فيهم، فهو الذي يميت من يشاء ويحيي من يشاء، ويمرض من يشاء ويشفي من يشاء، ويفقر هذا ويغني هذا، ويعز هذا ويذل هذا، ويمنع هذا ويعطي هذا، ويتصرف فيهم تصرف المالك في ملكه لا معقب له، فإذاً كلهم تحت تصرفه وتحت تقديره وفي قبضته، لا يخرج أحد منهم عن قبضته ولا يستقل بنفسه ولا بملكيته، بل إذا شاء الله انتزع ملكه من يده أو انتزع ما أعطاه له، فهذه عبودية عامة.

    وأما العبودية الخاصة فهي التي ذكرت في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الملائكة، وفي حق الأنبياء وغيرهم، وكذلك ذكرت في مواضع أخرى في حق أولياء الله كقوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63] هؤلاء عبوديتهم خاصة.

    وذكروا في قول الله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6] أن هذه عبودية خاصة، وهذه العبودية مقتضاها ومدارها الذل لله تعالى والخضوع، وذلك أن العبد العابد متى شعر بأنه عبد لله مملوك له، وأن ربه المالك له يتصرف فيه كما يشاء، وأنه لا يملك التصرف لنفسه، ومتى شعر بأنه مخلوق مربوب ليس هو الذي خلق نفسه، ومتى شعر بأن خالقه على كل شيء قدير، ومتى شعر بأن ربه صادق الوعد فيما وعده به، ومتى شعر بأن ربه سبحانه قد وعده على الطاعة بالجزاء الأوفر وتوعده على المعصية بالعقاب الأكبر، إذا شعر بذلك ونحوه خضع لربه وخشع له، إذ التعبد التذلل الخضوع.

    فأصل العبودية الذل، ومنه سمي العبد المملوك عبداً؛ لأنه ذليل لمالكه وسيده، فالخلق كلهم يجب أن يظهروا هذا التذلل طوعاً واختياراً، أن يظهروا الذل لربهم، والخضوع له، والتواضع بين يديه، والاستكانة له، وأن يعترفوا بذلك لربهم، وأنه هو المستحق لذلك وحده.

    وقد فسرت العبادة التي أمر بها العبد بأنها غاية الذل مع غاية الحب، وذكر ذلك ابن القيم في النونية بقوله:

    وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان

    وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان

    ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان

    فإذاً: العبد الحقيقي هو الذي يذل لربه ويخضع، وهو الذي يحب ربه غاية المحبة، وهو الذي يتعبد له غاية التعبد، والأنبياء كذلك، لاشك أنهم قاموا بهذا الوصف، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قام بهذا الوصف، واعتبر في حقه شرفاً، فإذاً ليس في كونه عبداً لله شيء من التنقص، بل العبودية لله غاية الشرف، والعبودية لله غاية العلم، والعبودية لله غاية الرفعة، والعبودية لله والرق له والذل له هي الأصل في الفضل وفي التمكين، فكذلك الأنبياء يعتزون بذلك؛ لأنهم يتعبدون لمالكهم، بل المالك الحقيقي التذلل له والرق له والانتماء إليه يعتبر شرفاً وفضلاً، كما قال ابن القيم على لسان العابد الذي يفتخر بالعبودية:

    إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم

    يعني: يفتخر إذا نسب إلى أنه عبد للرب سبحانه وتعالى، وقد يفتخر أيضاً بعض المماليك بانتمائه إلى الرق لبعض الملوك، فيقول: أنا لي الفخر أن أكون عبداً للملك الفلاني أو مملوكاً له، فإذا كانوا يفتخرون بالرق وبالملكية لبعض من الخلق، فكيف لا تفتخر أيها الإنسان بالرق وبالملكية وبالعبودية لرب الأرباب ومسبب الأسباب، وخالق الكون سبحانه وتعالى.

    1.   

    طرق معرفة صدق النبي صلى الله عليه وسلم

    أحوال الأنبياء الدالة على صدقهم

    قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (وإن محمداً) بكسر الهمزة عطفاً على قوله: (إن الله واحد لا شريك له)؛ لأن الكل معمول القول، أعني قوله: (نقول في توحيد الله).

    والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات، لكن كثيراً منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك.

    ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات؛ فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما وتعرّف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه:

    لو لم يكن فيه آيات مبيِّنة كانت بديهته تأتيك بالخبر

    وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز؛ فإن الرسول لابد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور، ولابد أن يفعل أموراً، والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه، وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده، بل كل شخصين ادعيا أمراً أحدهما صادق والآخر كاذب، لابد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة؛ إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)].

    المعجزات والخوارق

    عرف المسلمون نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وشهدوا له بالرسالة، والطريق إلى معرفته والتصديق له ما أيده الله تعالى به من المعجزات التي دلت على صدقه.

    ومعروف أنه بشر، وأنه واحد من الناس، ولكن معلوم أن الله سبحانه يصطفي رسلاً من خلقه فينزل عليهم الآيات البينات بواسطة الملك، ويوحي إليهم من شرعه ما يشاء.

    فإذاً الرسل الذين يرسلهم إلى خلقه ويؤيدهم بهذه المعجزات يعرف صدقهم لعدة أسباب: منها ما يأتون به من الآيات والمعجزات، كما حصل لكثير من الأنبياء، فإن كلاً من الأنبياء أتى بمعجزات دلت على صدقه.

    فموسى أيده الله بعصاه التي تنقلب إلى حية، وبيده التي تخرج بيضاء، وبالطوفان، وبما أرسله على آل فرعون في قوله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ [الأعراف:133]، وبالغمام الذي ينزل ليظللهم، وبالحجر الذي يتفجر منه الأنهار، وبإنزال المنِّ والسلوى، وغير ذلك من المعجزات.

    وعيسى كذلك أخبر الله تعالى أنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وأخبر بأنه ينبئهم بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم، فيخبرهم بأشياء يخفونها، وأيد هذا بكتابه الذي هو الإنجيل.

    ونبينا عليه الصلاة والسلام أيده الله تعالى بمعجزات، وقد استوفاها العلماء في كتب كثيرة تسمى (دلائل النبوة) من إخباره بمغيبات مما اعتمده من وحي الله سبحانه وتعالى، وكذلك ما يقع منه من بركة طعام وبركة شراب وبركة ماء، وما أشبه ذلك.

    وهكذا ما يخبر به من الأمور التي لم تقع فتقع كما أخبر، وذلك كله اعتمادٌ على وحي الله عز وجل.

    وهكذا ما وقع من المعجزات له، كحنين الجذع له، وتسبيح الحصى بين يديه، وسكون الجمل لما اضطرب وسكنه، وما أشبه ذلك.

    ولو لم يكن إلا تأييده بهذا القرآن الذي أنزله، وجعله معجزاً، وتحداهم أن يأتوا بمثله لكفى، والكلام على هذا يطول.

    ومما أيدهم الله تعالى به أيضاً أن جعل وجوههم دالة على صدقهم، كما في البيت:

    لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر

    فلو لم يؤيده الله بهذه المعجزات لكان وجهه وبشره وطلاقته دليلاً على صدقه، فقد كان مأموناً قبل الإسلام، وكانوا يسمونه بالصادق الأمين، وكان أيضاً حسن الملاطفة، لا يأتي شيئاً من الذي ينكر في الجاهلية وذلك لأن الله حماه واصطفاه واختاره، وكان أيضاً موثوقاً عندهم بكلامه، لا يقول إلا الصدق ولا يتكلم إلا بالصدق، كما شهد له بذلك أعداؤه، فإنه لما سأل هرقل أبا سفيان بقوله: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: لا. قال: إنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله.

    الشريعة المحكمة

    ومما يدل على صدقه ما جاء به من هذه الشريعة التي إذا تأملها العاقل عرف أنها ليست من قبل نفسه، بل هي من حكيم حميد يضع الأشياء في مواضعها.

    فإنه لما أمر بهذه العبادات ونهى عن المحرمات، تأملها كل عاقل فعرف بذلك أنها صحيحة ملائمة للواقع؛ ولذلك روي أن بعض الأعراب لما أسلم ولامه بعض صحبه قال: إني تأملت ما جاء به محمد، فرأيته ما أمر بأمر فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به. بل العقل موافق لما جاء به، وكذلك الفطرة السليمة.

    فهذا مما ميز الله تعالى به أنبياءه: أنه أيدهم بما يدل على صدقهم، حتى يكون ذلك دليلاً على أنهم جاءوا بالشرع الشريف من الله عز وجل، وأنهم صادقون ليسوا بكاذبين، ولو كان أحد منهم كاذباً على الله تعالى، لفضحه ولأظهر كذبه، فلا يجوز ذلك على الله سبحانه، فالله تعالى يتنزه أن ينصر من يكذب عليه، فلو كان كاذباً فيما جاء به لما قواه الله، بل لخذله كما خذل الكذابين، فقد ظهر في زمانه كذابون، ولكن كانت عاقبتهم المحو والاندحار، ظهر في اليمن كذاب يقال له: الأسود العنسي الذي استولى على أكثر اليمن من نجران إلى صنعاء، ثم لما ظهر أنه كاذب قام عليه بعض حشمه فقتلوه.

    وكذلك مسيلمة الكذاب لما ادعى النبوة تبعه من اغتر به، ففضحه الله تعالى وسلط عليه من قتله.

    وشريعة الله التي أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم باقية إلى أن يأتي أمر الله تعالى.

    وضوح كذب الكهان ونحوهم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:221-226].

    فالكهان ونحوهم - وإن كانوا أحياناً يخبرون بشيء من الغيبيّات ويكون صدقاً - فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن مَلَك، وليسوا بأنبياء، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن صياد : (قد خبأت لك خبيئاً، وقال: هو الدُّخ. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت كاهن. وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يأتيني صادق وكاذب). وقال: (أرى عرشاً على الماء)، وذلك هو عرش الشيطان. وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي: الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كان ذلك مضراً له في العاقبة.

    فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله، علم علماً يقيناً أنه ليس بشاعر ولا كاهن، والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة، حتى في المدعي للصناعات والمقالات، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة، أو علم النحو والطب والفقه وغير ذلك، والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟!

    ولا ريب أن المحققين على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضا الرجل وحبه وبغضه وفرحه وحزنه، وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه، قد لا يمكن التعبير عنها، كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد:30]، ثم قال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]].

    هذا الكلام يتعلق برسالة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكيف عرف أنه صادق، وذلك لأن المشركين رموه بالكذب، فمنهم من قال: ساحر كذاب، ومنهم من قال: كاهن، ومنهم من قال: شاعر.

    ورد الله عليهم، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا [الطور:29-30] يعني: انتظروا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:30]، وأخبر بأنه ليس بشاعر فقال: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69].

    وذم الشعراء في هذه الآية فقال: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:224-227]، فإن هذا تنزيه لنبيه أن يكون شاعراً أو يعلمه الشعر، وتنزيه لهذا القرآن أن يكون شعراً، ولهذا قال في آية أخرى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:41-42]، وذلك لأنهم يقولون عنه: إنه من الكهنة.

    لما رأوا الكهنة وسجعهم وإخبارهم بأشياء من المغيبات، ادعوا بأنه كاهن، والكاهن في الأصل هو الذي يدعي علم الغيب، أو يخبر عن المغيبات، أو يخبر عمَّا في الضمير، أو يدل على مكان المسروق ومكان الضالة واللقطة، وذلك بتنزل الشياطين عليه؛ فإن الشياطين تختطف السمع وتسترقه من السماء وتوحيه إلى أوليائها الذين هم السحرة والكهنة، كما أخبرالله تعالى بذلك في قوله: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِف الْخَطْفَة [الصافات:8-10] يعني: الكلمة يخطفها الشيطان من الملائكة فيستمعها، ثم يلقيها في أذن وليه الساحر أو الكاهن.

    أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الشياطين تنزل؛ على أولئك الجهلة: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222] يعني: الكاهن، فـ(أفاك) أي: كذاب. و(أثيم): أي: آثم. أي أنه من أهل الإثم الذي هو الزور والذنب العظيم.

    قال تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ ، والسمع: ما يختطفونه من الملائكة ويلقونه إليهم، وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:223] وقد وردفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في صفة أخذ الكاهن الكلمة من السماء: (فيلقيها إلى من تحته -يعني: الذي يخطفها- ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة)، فالكاهن يستمع الكلمة التي سمعت من السماء،ويضيف إليها كذباً، وهذا معنى قوله تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:223]، فعرف بذلك أن الله تعالى نزه نبيه عن أن يكون بمتهم كالذين تتنزل عليهم الشياطين، وإنما أنزل عليه الملك بهذا الوحي المتتابع المشتمل على الحكم والأحكام مما يدل على أنه من حكيم حميد، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42].

    وذكر أيضاً من الكهنة الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم شاب من اليهود اسمه ابن صياد ، ورد في شأنه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرها، حتى ظن بعض الصحابة أنه المسيح الدجال، واستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في أن يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لا يكن هو فلا خير لك في قتله) فإن كان الدجال فلا تستطيع أن تقتله؛ لأنه قد قدر الله أنه يخرج، وأنه يحصل منه ما سوف يحصل، فلن تسلط عليه.

    أما إذا لم يكن هو فلا خير لك في قتله، ولكن القرائن دلت على أنه ليس هو الدجال، وإنما هو كاهن من الكهنة الذين تنزل عليهم الشياطين، وأخبر بأنه يرى عرشاً في الماء، وذلك هو عرش الشيطان، وأخبر بأنه يأتيه صادق وكاذب، يعني: يأتيه وسوسة من الشيطان أو وحي من الشيطان، فتارة يصدق وتارة يكذب.

    وذلك وحي الشيطان، والشياطين يوحون كما في قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121]، فهناك وحي شياطين تنزل به إلى أوليائها.

    ومما يدل على تكهنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله فقال: قد خبأت لك خبيئاًً. قال: هو الدخ. وكان قد خبأ له سورة الدخان، وفيها قوله تعالى: فَارتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11] إلى آخره، فقال: (اخسأ فلن تعدو قدرك).

    فالحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزهه الله تعالى عن صفات هؤلاء وهؤلاء، وقد وصفه الله بصفات تدل على صدقه وصحة كلامه، وذلك لما يشتمل عليه كلامه من الانتظام ومن الإحكام، وكذلك موقع كلامه في القلوب؛ حيث إنه متى سمعه السامع أصغى إليه والتذ به، سواء كان من القرآن أو مما علمه الله تعالى.

    القرائن الدالة على التمييز بين الصادق والكاذب

    ولاشك أن الناس يفرقون بين صادق الدعوى وكاذبها، فالناس يعرفون كل من يدعي وينتحل أمراً من الأمور وهو ليس من أهله، وذلك ليس يخفى على الفطن، فكل من أعطاه الله تعالى فطنة فإنه يميز بين الصادق والكاذب، فلو كان كاذباً -وحاشاه من ذلك- لما خفي كذبه على جمهرة الصحابة، سيما عقلاؤهم الذين صحبوه مدة طويلة قبل الرسالة وبعدها، وعرفوا صدقه، والتذوا باتباعه، وحمدوا العاقبة لما آمنوا به، وتمنوا أنهم مع السابقين الأولين الذين سبقوا إلى تصديقه واتباعه، وتفانوا في نصرته، وبذلوا في سبيل نصرته أموالهم وأنفسهم، وهجروا بلادهم وأولادهم وأزواجهم وعشائرهم، فلما وصل الإيمان إلى قلوبهم وذاقوا حلاوة العلم والإيمان رخصت عندهم الدنيا بأسرها، وبذلوا في ذلك نفوسهم قتلاً في سبيل الله، ذلك كله دليل على أنهم عرفوا صدقه كما يعرفون أولادهم وأحفادهم.

    كذلك الكاذب في كل نحلة يعرف كذبه، فكل من انتحل شيئاً ليس له فإنه يظهر أمره ولا يخفى على فطناء الناس، وإذا عمل أي عمل وهو ليس من أهله وجرب ذلك وعرف منه، ابتعد عنه الناس وحذروا منه.

    ومثَّل الشارح بالأعمال التي في زمنه، كالخياطة والكتابة والخرازة وما أشبهها، فهذه حرف يدوية قد يتعلمها الإنسان في زمن يسير، ولكن قد يتسمى الإنسان بأنه من أهلها، ويظهر بالتجربة أنه ليس من أهلها، حتى قال بعضهم:

    فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت ثوبك بالمداد

    يعني: إنك لست من أهل هذه الصنعة ولو فعلت ما فعلت.

    وعرف بذلك أن كل من تعاطى شيئاً وهو ليس من أهله، فإن الناس يعرفون أنه كاذب ويظهر كذبه.

    وهذه الدعوى التي جاء بها الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى إلى خلقه لاشك أنها دعوى كبيرة، فلو كانوا كاذبين لما أيدهم الله بما يدل على صدقهم، ولظهر كذبهم وفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ونكَّل بهم.

    وساق الشارح هذه الآية، وهي قوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]، وقد أخبر الله تعالى بأن نبيه يعرف بعض المتسترين بأوصافهم الظاهرة، كما في قوله: فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد:30] يعني: بأمارات تظهر على وجوههم يعرف بها من هو صادق ممن هو كاذب.

    فإذا كانت هذه الأعمال تعرف بالسيما أو بالأمارات الظاهرة، فلا شك أن أمارات النبوة تعرف لمن تأملها.

    1.   

    تفصيل الأحوال الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم

    قال رحمه الله تعالى: [وقد قيل: ما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. فإذا كان صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرآئن، فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله؟ كيف يخفى صدق هذا من كذبه؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة؟.

    ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي: (إني قد خشيت على نفسي، فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق).

    فهو لم يخف من تعمد الكذب، فهو يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب، وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء، وهو المقام الثاني، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كان مجبولاً عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وقد علم من سنة الله أن من جبله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه.

    وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به، واستقرأهم القرآن فقرءوا عليه: إن هذا والذي جاء به موسى -عليه الصلاة السلام- ليخرج من مشكاة واحدة. وكذلك ورقة بن نوفل لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رآه، وكان ورقة قد تنصر، وكان يكتب الإنجيل بالعربية، قالت له خديجة : أي عم اسمع من ابن أخيك ما يقول. فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى.

    وكذلك هرقل ملك الروم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، فسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار، سألهم: هل كان من آبائه من ملك؟ فقالوا: لا. قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا: لا. وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا: نعم. وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا، ما جربنا عليه كذباً. وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه، وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون، وسألهم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا: لا. وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم. وسألهم عن الحرب بينهم وبينه. فقالوا: يدال علينا مرة ونُدال عليه أخرى. وسألهم: هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم: بماذا يأمركم؟ فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

    وهذه أكثر من عشر مسائل، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة فقال: سألتكم هل كان من آبائه من ملك؟ فقلتم: لا. قلت: لو كان من آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلتم: لا. فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله، وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم: لا. فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله تعالى، وسألتكم: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل -يعني: في أول أمرهم-، ثم قال: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم: بل يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتكم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه. فقلتم: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.

    وهذا من أعظم علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لابد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثم ينكشف.

    وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول. وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها، قال: وسألتكم: هل يغدر؟ فقلتم: لا. وكذلك الرسل لا تغدر.

    وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم، وأنهم لا يغدرون علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء لينالوا درجة الشكر والصبر، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) .

    والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة، فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] ، وقال تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2]، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول.

    قال: وسألتكم عما يأمر به فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، وهذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أن نبياً يبعث، ولم أكن أظنه منكم، ولوددت أني أخلص إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب ، وهو حينئذٍ كافر من أشد الناس بغضاً وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان بن حرب : فقلت لأصحابي ونحن خروج: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه ليُعَظِّمه ملك بني الأصفر. وما زلت موقناً بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام وأنا كاره].

    أرفق الشارح هذه القصص للاستدلال بها على صحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء العقلاء الذين معهم معرفة وعلم استدلوا بهذه القرائن على صدقه وعلى صحة رسالته.

    وذلك لأن الله تعالى أجرى العادة أن الكاذب يفضح ويظهر كذبه، فإذا أسر سريرة سيئة أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وعرف الناس ما يخفيه وما يضمره من كذب أو من حقد أو من نفاق أو نحو ذلك.

    ولهذا كان المنافقون الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى أمرهم بما يظهرونه من الكلمات السيئة التي فيها همز ولمز وعيب، فيعرفهم المؤمنون، فإذا عرفوا أن هذا يميل إلى المنافقين، ويجالسهم، ويتكلم معهم، ويلقاهم بوجه منبسط -ونحو ذلك- عرفوا أنه ليس بصادق الإيمان، ولو أنه يلاطف المؤمنين، ولو أنه يظهر لهم التصديق، كما ذكر الله ذلك عن المنافقين عموماً في قوله تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، ولكن فضحهم الله تعالى وأظهر سرائرهم، وعرفهم المسلمون وهجروهم، وحذر الله تعالى نبيه منهم فقال: فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4]، أما صادق الإيمان فإنه يظهر صدقه ويظهر تصديقه بأعماله التي يعملها، فمن صار صادقاً من الصحابة عرفوا تصديقه بأقواله وبأعماله وبمحافظته.

    وهكذا كل صادق فإن الله تعالى يؤيده ويظهر علامة صدقه.

    وإذا كان هذا في الأمور العادية وفي أغراض الناس واحداً واحداً، حيث يعرف الصادق منهم من الكاذب، فيفضح الله الكاذب على رءوس الأشهاد في الدنيا وفي الآخرة، وإذا كان الناس يعرفون الصادق بالتجربة والكاذب بالتجربة؛ فكيف لا يعرف الكاذب المتنبئ؟

    فلو أظهر ما أظهره من التحريف ومن التبديل ومن الكذب ومن السحر ومن الشعوذة وما أشبه ذلك، كما يجري على أيدي الكهنة والمتنبئين ونحوهم، فإن ذلك لا يخفى على الفطن.

    وإذا جبل الله العبد على صفات حميدة عرف أنه لا يتقول على الله تعالى.

    شهادة خديجة رضي الله تعالى عنها

    والقصص التي أوردها فيها قصة خديجة ، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأول زوجاته، وأم أولاده كلهم إلا إبراهيم الذي هو من مارية القبطية التي هي أم ولده، وخديجة هي أول من آمن به من النساء.

    ولما نزل عليه الوحي أول ما نزل وهو بغار حراء جاء إليها فزعاً وقال: (زملوني) فزملوه، أي: غطوه بغطاء حتى هدأ روعه. ثم أخبر خديجة الخبر، وقال لها: (لقد خشيت على نفسي) يعني: خشيت أن يكون نزل بي مس من الجن أو نحو ذلك.

    عند ذلك استدلت بصفات حميدة على أنه لا ينزل عليه هذا الأمر، ولا يسلط الله عليه شيئاً يفسد عليه عقله ويفسد عليه جسمه وعبادته، استدلت بالصفات التي جبله الله عليها، فقالت: (إنك لتصل الرحم)، وصلة الرحم من الأقارب، تعتبر من الأمور التي يحمدها الله تعالى ويأمر بها.

    (وتقري الضيف)، فالطارق إذا نزل به أضافه فأشبعه وأطعمه.

    (وتكسب المعدوم) والمعدوم الفقير ونحوه، تعني: تكتسب صداقته، أو تكسِّبه فتعطيه.

    (وتعين على نوائب الحق)، ولاشك أن هذه الصفات مما جبله الله تعالى عليها، فمن كان فيه هذا الوصف لا يخزيه الله تعالى، هكذا استدلت خديجة رضي الله عنها.

    شهادة ورقة بن نوفل

    والقصة الثانية مع ورقة بن نوفل ، ذكروا أن ثلاثة من قريش أنكروا ما عليه قريش من الضلال، وذهبوا يطلبون ديناً أحسن من ذلك الدين، فكان منهم ورقة الذي اتصل بالنصارى، وتعلم دينهم وتعلم لغتهم وكتابتهم وتنصر، ثم رجع إلى قومه ومعه الإنجيل يترجمه إلى اللغة العربية، وينسخ منه ما شاء الله، وكان معه معرفة بالكتب الأولى وبما اشتملت عليه، وبصفات النبي صلى الله عليه وسلم التي اشتمل عليها الإنجيل وغيره، فلما جاءت إليه أمرته أن يسمع ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، فقص عليه ما رأى، فعرف من كلامه أنه ليس بكاذب، وأن هذا الذي نزل عليه هو الملك الذي نزل على موسى.

    كيف عرف ذلك؟ عرفه بالأمارات التي قرأها في كتب أهل الكتاب، وعرف أيضاً صدقه فيما جاء عنه أنه ليس من أهل الكذب، وقال: (هذا الناموس الذي نزل على موسى، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال: أومخرجيَّ هم؟ قال: نعم. لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً). فآمن به وصدقه وشهد بأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى -يعني: وسائر الأنبياء-، وأخبر بأنه سيناله ما نال الأنبياء من الأذى في ذات الله تعالى.

    فهذا من أهل الكتاب شهد له بأنه جاء بما جاء به الأنبياء؛ لما عرف من الأمارات والدلالات على الصدق.

    شهادة النجاشي رحمه الله تعالى

    والقصة الثالثة مع النجاشي ملك الحبشة، وكان نصرانياً، وكان أيضاً معه معرفة بالكتب، ومعرفة بصفة الأنبياء وغيرهم، فلما جاءه المهاجرون ونزلوا بالحبشة هرباً من أذى قريش وأقاموا عنده، أحضرهم وسمع ما قالوه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرءوا عليه بعضاً من القرآن فبكى وخشع وآمن، وأقسم بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، وأخبر أن مقالته في عيسى هي المقالة الصحيحة، وأنه لم يتجاوز ما هو عليه مثقال هذه - وأشار إلى عود كان بيده ينكب به-، مما يدل على أنه صدقه وصحح رسالته.

    فعرف ذلك مع أنه ما رأى النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما سمع ما جاء به، وسمع القرآن الذي أنزل عليه، وسمع بعض صفاته، فاستدل بها على صدقه وصحة رسالته، وآمن به، وكان يهدي إليه ويكاتبه، وأصدق عنه أم حبيبة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها، وأرسلها إليه عليه الصلاة والسلام، كل ذلك دليل على أنه قام معه وأنه صدقه، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب لما سمع بموته، وذلك كله دليل على أنه كان من المصدقين بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم.

    عرف ذلك مع أنه ما رآه، ولو رآه لازداد يقيناً بصحة ما جاء به وبصدقه.

    فهذا دليل على أن الصادق يعرف الناس صدقه بأدنى ما يسمعون من خبره.

    شهادة هرقل ملك الروم

    وأما القصة الأخيرة فهي مع ملك الروم وهو هرقل، والروم في الشام، وموطنهم في ذلك الوقت دمشق الشام، وكانوا يدينون بالنصرانية، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً يدعوه إلى الإسلام، ويقول فيه: (أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)، وكتب إليه آية من سورة آل عمران، هي قول الله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].

    فلما جاءه هذا الكتاب أرسل من يبحث عن أحد يعرف هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي حتى يسأل عن أخلاقه وعن صفاته، فدل على أبي سفيان ، وكان أبو سفيان قريباً للنبي صلى الله عليه وسلم في نسبه؛ لأنه من بني عبد مناف، وهو الجد الثالث من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، فكلاهما يجتمع في عبد مناف ، وهو أعرف به، وإن كان صده عن الدخول في أول الإسلام أول مرة الرئاسة والمنصب.

    سأله هرقل عن هذه الأسئلة، واستدل بجوابها على صحة ما جاء به.

    فالسؤال الأول عن نسبه، فأخبره أبو سفيان أنه ذو نسب، يعني أنه من أشرف الناس وليس من أطرافهم، ولا من أراذلهم.

    فالأنبياء يبعثون في وسط القبائل وفي أشرفها، لا يبعثون من أطراف القبائل وأراذلها، فاعترف بأنه ذو نسب، يعني: أن آباءه وأجداده لهم شرف ولهم منصب.

    ا­لسؤال الثاني: هل ملك أحد من آبائه؟ فلما أخبره بأنه لم يملك استدل على أنه لو كان أحد من آبائه قد ملك لكان طالباً ملك أبيه، فلما لم يكن كذلك عرف أنه ليس له غرض في ذلك.

    والسؤال الثالث: هل كان كذاباً قبل أن يقول ما قال؟ فلما أخبره بأنه لم يجربوا عليه كذباً، قال: كيف يدع الكذب على الناس ويكذب على الله؟! هذا مستحيل، إذاً ليس هو كذاباً.

    والسؤال الرابع: هل سبقه أحد إلى هذه المقالة؟ فلما أخبر بأنه ما سبق استدل بذلك على أنه صادق؛ لأنه لو قالها أحد قبله لكان مقتدياً به.

    وسأله عن أتباعه فأخبر بأنهم ضعفاء الناس؛ وذلك لأن الضعفاء هم أرق قلوباً، وهم عادة الذين يتقبلون الحق، وهم أتباع الرسل، كما أخبر الله عن نوح في قوله: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء:111] يعني: أراذل الناس، وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [هود:27]، ولكن في العاقبة وفي النهاية أسلم أشراف الناس واتبعوه.

    وسأله: هل يزيدون أم ينقصون؟ ولما أخبره أنهم يزيدون عرف أن زيادتهم دليل على صدق ما هم عليه، وأنهم يتبعونه لاقتناعهم بأن ما جاء به حق، فكل من تبين له الحق اتبعه.

    وسأله: هل يرتد أحد منهم؟ فلما أخبره بأنهم لا يرتدون، بل من دخل في الإسلام تمسك به ولم يرجع عنه أبداً، قال: هكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، فالإيمان الذي دخلوا فيه اطمأنت به قلوبهم، فلما اطمأنت به قلوبهم عرفوا صدقه وصحته فلم يسخطوه، بل تداعوا لنصرته.

    وسأله: هل قاتلتموه؟ فأخبر بأنهم قاتلوه، وأنه ينصر عليهم وينصرون عليه، وذلك من الابتلاء الذي يبتلي الله تعالى به أنبياءه ثم تكون العاقبة لهم.

    ويبتلي أيضاً أتباع أنبيائه كما في الآيات التي سردها الشارح، وقد علق الشارح على هذا تعليقاً حسناً، وذكر أن الله تعالى يبتلي الأنبياء ويبتلي الأولياء، ثم بعد ذلك يفرج عنهم ليظهر من يصدق ممن يكذب، كما قال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11].

    فالابتلاء الذي يبتلي به عباده إنما يكون لإظهار صدقهم من كذبهم، ليتميز من يكون مؤمناً صادق الإيمان ممن هو دعي ليس بصادق الإيمان.

    وسأله: هل يغدر إذا عاهدوه؟ فأخبر بأنه لا يغدر.

    وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على أن يفي بالمواعيد، ولا يؤثر عنه غدر، وقد أمره الله تعالى إذا أحس أو خاف من قوم خيانة أن ينبذ إليهم عهدهم على سواء، قال تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58] أي: عهدهم على سواء، وقل لهم: قد تبرأنا من العهد، ولا عهد بيننا وبينكم، فاستعدوا للحرب، ولا تأتهم بغتة وهم آمنون غافلون باقون على عهدهم وعلى مواثيقهم.

    وأما السؤال العاشر والأخير فإنه يتضمن شرعه الذي جاء به، فقد اعترف أبو سفيان بأنه يأمرهم بعبادة الله وحده، وهو التوحيد، وأنه ينهاهم عما يعبد آباؤهم من الأصنام، وهو الشرك بالله، وأنه يأمرهم بالأشياء التي يشهد العقل بسلامتها وبملاءمتها، ألا وهي الصدق في الحديث، وصلة الرحم، والصبر على الضراء والسراء ونحوها،والعفاف ونحوه، فهذه الخصال التي يأمر بها يشهد العقل بملاءمتها وحسنها.

    فالحاصل أن أبا سفيان لما أخبره بذلك عرف هرقل ملك الروم أنها صفات نبي، وصدَّق أبا سفيان في تلك الصفات، وصدقه أيضاً رفقاؤه ولم ينكروا عليه، وهي صفات صحيحة منقولة مشهورة متواترة عنه، فكان ذلك من الأدلة التي اتضح بها صدقه.

    فالحاصل أن صدق الأنبياء يعرف بالأمارات التي يتميزون بها، بحيث لا يخفى أمرهم على ذي عقل سليم.

    1.   

    الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة تمام للشهادة لله تعالى بالوحدانية

    فابتدأ الشارح رحمه الله بالكلام على الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمداً رسول الله، وذلك لأنها أحد جزأي الركن الأول من أركان الإسلام والذي هو كالأساس لبقية الأركان، وهو ركن الشهادتين.

    ولا شك أن الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله متممة لشهادة أن لا إله إلا الله، وذلك لأنه الذي دل على ربه، والذي بلغ رسالة ربه، والذي عرف بحق الله على عباده، والذي جاء مرسلاً بهذه الشريعة، فالشهادة له بأنه رسول الله تعتبر مكملة لشهادة أن لا إله إلا الله.

    وقد فسرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الثلاثة الأصول بقوله: معنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.

    وشرح هذه الكلمات وإيضاحها يحتاج إلى تطويل، ولكنها بحمد الله ظاهرة لكل متأمل، ولما تكلم أيضاً عن الشهادة في تفسيره للتشهد -أي: شهادة أن محمداً عبده ورسوله- فسرها بقوله: عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، بل يطاع ويتبع، هذا تفسير من الشيخ رحمه الله.

    ولا شك أن هذه الرسالة التي جاء بها هي هذه الشريعة، وإذا كان رسولاً فإن الرسول معه رسالة، ورسالته هي الشريعة المحمدية والشريعة الدينية، قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا [الجاثية:18]، وهي هذا الدين الذي بينه وبلغه.

    1.   

    من لوازم الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة

    محبته صلى الله عليه وسلم وطاعته

    وقد ذكر العلماء للنبي صلى الله عليه وسلم حقوقاً على أمته، فمن تلك الحقوق محبته التي أمر الله بها في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا [التوبة:24] يعني: لا تقدموا محبة شيء على محبة الله ورسوله ومحبة الجهاد في سبيله.

    وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما..) إلى آخره، بدأ بمحبة الله ورسوله وقدمهما على غيرهما، وثبت أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ونفسه ووالده والناس أجمعين).

    ولاشك أن هذه المحبة لها علامات، ومن أظهر علاماتها الاتباع.

    وقد أخبر الله تعالى أن اليهود ادعوا المحبة بقولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] فأنزل الله آية تسمى آية المحنة، هي قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، امتحن الله من ادعى محبته بهذه الآية، فجعل لمحبة الله علامة ظاهرة، وهي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعل لهذا الاتباع ثواباً، فقال: يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] أي: هذا ثوابكم، فإذا اتبعتم النبي صلى الله عليه وسلم أحبكم الله وغفر لكم ذنوبكم.

    وقد ذكر الله عز وجل لاتباعه ثواباً آخر في قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، أمر بالإيمان به، ثم أمر باتباعه، ولذلك لا يكون صادقاً من لم يطعه، ولم يتبع سنته.

    وقد ذكر شيخ الإسلام أن الله تعالى أمر بطاعته وطاعة رسوله في أكثر من أربعين موضعاً، إما أن يصرح بالفعل كقوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]، وإما أن يعطف بالواو كقوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران:132]، وإما أن يقتصر على طاعة الرسول؛ لأنه لا يأمر إلا بأمر الله، كقوله: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56] في عدة مواضع، ولاشك أن طاعته تستلزم اتباعه، فالأمر بالاتباع والأمر بالطاعة من متممات المحبة.

    الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم

    ويدخل في ذلك أيضاً الاقتداء والتأسِّي، دليله قوله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21]، وكلاهما علامة على صدق الإيمان به؛ فإن الله تعالى كما أمر بالإيمان بالله أمر بالإيمان بالرسول، ورتب عليه أجراً، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28]، فأمر بتقوى الله والإيمان بالرسول، وجعل الثواب: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الحديد:28]، وكفى بذلك ثواباً.

    وتقدم ذكر بعض الأدلة على ثبوت رسالة هذا النبي الكريم، فذكر الشارح قول خديجة لما أخبرها الخبر: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).

    وذكر أيضاً قول ورقة بن نوفل لما قص عليه القصة: (هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها حياً إذ يخرجك قومك، ثم قال: لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) .

    وهذا لأنه كان قد قرأ الكتب وعرف ما فيها من صفة الأنبياء.

    وذكر أيضاً شهادة ملك الحبشة النجاشي لما سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه فقال: هذا والذي جاء به موسى ليخرج من إليم -يعني: من الله- أو: من مشكاة واحدة، فشهد له بأنه جاء بما جاء به موسى وعيسى والأنبياء قبلهما.

    وذكر أيضاً قصة هرقل لما سأل أبا سفيان عن تلك الأسئلة التي استدل بها على أنه رسول من الله، وأنه صادق فيما جاء به، ولاشك أن هذه الشهادات تؤكد صحة ما جاء به، وأنه مرسل من الله تعالى.

    وتأتي بقية الأدلة على هذه الشهادة عقلاً ونقلاً..

    1.   

    دلائل أخرى في إثبات نبوة الأنبياء

    الأحوال والقرائن الدالة على صدقهم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما ينبغي أن يعرف أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها، ولكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر، وكذلك العلم بخبر من الأخبار؛ فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثم الآخر يقويه، إلى أن ينتهي إلى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك.

    وأيضاً فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة، كثبوت الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبياً بعد نبي في سورة الشعراء كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده يقول في آخر كل قصة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:67-68] .

    وبالجملة فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول: إنه رسول الله، وأن أقواماً اتبعوهم، وأن أقواماً خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين، وجعل العاقبة لهم، وعاقب أعداءهم؛ هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها.

    ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب كـبقراط وجالينوس وبطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه].

    يقول: بمجموع دلائل النبوة يقوى التصديق بنبوة ذلك النبي، فالله تعالى يؤيد الأنبياء بمعجزات بمجموعها يعرف به صدق كل واحد منهم، ولو لم يكن إلا معجزة واحدة لتوقف الناس أو بعضهم في الصدق، ولكن إذا تأيدت المعجزة بمعجزة أخرى ثم جاءت ثالثة ثم رابعة وهكذا، فمجموعها بلا شك يثير في النفس انتباهاً، ويكون سبباً في التصديق وقوة اليقين.

    ثم ضرب لذلك مثلاً؛ بأن الإنسان لا يتأثر بكلمة، ولكن يتأثر بكلمات، وكذلك لا يشبع من لقمة واحدة، ولكن مجموع اللقم يشبعه، لا يروى عادة من جرعة واحدة حتى تجتمع جرعات.

    وكذلك لا يصدق الإنسان في الأمور الكبيرة بخبر شخص واحد حتى يجتمع عنده أشخاص، فالخبر الأول يثير في النفس انتباهاً، والخبر الثاني يقوي ذلك الذي في النفس، ولا يزال يقوى إلى أن يصير كالشمس يقيناً، فهكذا معجزات الأنبياء بمجموعها يحصل اليقين والتصديق بأن ما جاءوا به من الله تعالى.

    بقاء الآيات الدالة على الأنبياء وأقوامهم

    وقد ذكر الله أنه أرسل رسلاً من قبلنا، وأبقى آيات تدل على صدقهم، فقال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:137-138] يعني: أماكنهم وآثارهم.

    وقال تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:52]، وقال في آية أخرى: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ [القصص:58] يعني أنهم أهلكوا وبقيت آثارهم، فتلك دلالة على أنه هلك قبلنا أمم كذبت، وأرسل إليها رسل، ونزلت عليها العقوبة، ونجى الله الرسل ومن آمن بهم، وأهلك المكذبين، وذكر الله أن من أولهم نوحاً عليه السلام، وأنه أنجاه في السفينة، فقال تعالى: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت:15] يعني: أبقينا تلك السفينة تذكيراً وعبرة للناس إلى يوم الدين، يتذكرون بها تلك السفينة التي نجى فيها من آمن، وغرق من لم يؤمن.

    ويذكر أنا نعلم يقيناً بأنه وجد في الأرض أنبياء جاءوا برسالات، فصدقهم من صدقهم ممن أراد الله هدايته، وكذبهم من كذبهم ممن كتب الله عليهم الشقاوة.

    فنجى الله الأنبياء ومن آمن بهم، وأهلك الله المكذبين وانتقم منهم، نعلم ذلك يقيناً، ولو لم يقصه الله علينا.

    فقص الله علينا قصة نوح وقصة هود وقصة إبراهيم وعاد وثمود وقوم شعيب وأصحاب الأيكة، وقصة فرعون، قص الله هذه القصص، وذكر الشارح أن الله تعالى أمر بالاعتبار بها، فبعد قصة موسى قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً)، وهكذا بعد قصة إبراهيم وقصة نوح، إلى آخر القصص في سورة الشعراء يقول: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) يعني: لعبرة وموعظة.

    فالحاصل أنا نعلم يقيناً بأن الله تعالى أرسل رسلاً، وأن أولئك الرسل مرسلون من الله، وأنه تعالى أيدهم بالمعجزات التي أجراها على أيديهم، وأعجزت البشر، وأعجزت أهل زمانهم، وحاولوا أن يعارضوها كما حكى الله عن فرعون لما رأى تلك الآيات مع موسى فاعتبرها سحراً، فجاء بالسحرة الذين ألقوا حبالهم وعصيهم، فخيل إلى موسى أنها تسعى، ولكن لما ألقى عصاه التقمت ذلك كله، فعرف السحرة أن هذا ليس سحراً، وأنه من الله تعالى؛ فآمنوا واستجابوا لذلك، فعند ذلك بطش بهم وقال: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71].

    فهؤلاء لما كانوا ذوي معرفة بالسحر وعرفوا أن هذا لا يشبهه آمنوا.

    فالحاصل أنا نعلم يقيناً أن أنبياء الله تعالى صادقون فيما بلغوه، وأنهم جاءوا بالشرائع الإلهية التي منها الشريعة المحمدية وأنها والشرائع التي قبلها كلها متفقة على أصل واحد، وهو العقيدة والتوحيد، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] أي: كل منهم جاء بهذه الرسالة، وإنما تنوعت الشرائع في الأوامر والنواهي.

    فإذاً المسلم يعتقد صحة الرسالة، وأن الرسل صادقون، وذلك ركن من أركان الإيمان.

    إخبارهم بما سيكون ووقوعه

    قال رحمه الله تعالى: [ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة:

    منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم.

    ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم؛ عرف صدق الرسل.

    ومنها: أن من عرف ما جاء به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها، تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاءوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم، ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم برٍ يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق].

    زيادة على المعجزات التي أجراها الله تعالى على أيديهم هذه الآيات التي ذكرها، إذا تأملها المتأمل صدق بأنها من الله، وصدق بأنهم جاءوا من عند الله، وأنهم مرسلون صادقون فيما بلغوه.

    فأخبروا بأن الله يهلك المكذبين وينجي المصدقين ووقع ما أخبروا به، فأهلك الله أعداءه وأنجى أولياءه، كما حكى الله تعالى ذلك.

    وأخبروا بأن الله ينصر أولياءه ويخذل أعداءه، كما في قوله: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، فوقع ما أخبروا به، وأخبروا بأمور مستقبلة لم تقع فوقعت ووافقت ما أخبروا به سواء بسواء، وذلك دليل صدقهم وصحة رسالتهم.

    وأخبروا بأن هذه الشرائع من الله، وبالتأمل عرف صدقهم، حيث تواتر عن الأنبياء ما يدل على اتفاق شريعتهم، فصدق المتأخر منهم من قبله ووافق ما جاء به، وأيد المتقدم من يأتي بعده.

    فحكى الله عن عيسى أنه قال: وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، وحكى عنه أنه قال: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].

    وهكذا الرسل يصدق الأول منهم من قبله، ويبشر بمن بعده، أو يأمر بأن يتبع.

    ولاشك أن ذلك كله مع اجتماعه دليل صدق وصحة ما جاءوا به من الرسالة، وأنها من الله تعالى.

    ونحن نعلم يقيناً أنه كان في الأرض رسل، وكان لهم أمم، وجاءوا بشرائع وبلغوها لأممهم، وصدقهم مصدقون وكذبهم مكذبون، وبقيت شرائعهم بعدهم، ونجى الله المؤمنين وأهلك المكذبين، نعلم ذلك بالتواتر زيادة على خبر الله تعالى.

    ونعلم صدقهم بهذه المعجزات التي أجراها الله تعالى على أيديهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756870747