أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:41-46].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41]. هذا خبر من أخبار الله تعالى، وهذا هو القرآن الكريم، يقص الله تعالى فيه على رسوله قصص الأنبياء والأولياء والصالحين. وها نحن ما زلنا مع شمعان مؤمن آل فرعون، وهو يبين الحق ويظهره، ويندد بالشرك والباطل، ويحاول إبعاد الناس عنهما، فاسمعوه يقول: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ [غافر:41] من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وأدعوكم للنجاة من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41]، أي: تدعونني لأبقى على الكفر والشرك وعبادة غير الرب؛ لأكون من أهل النار. فما لكم؟ وأين عقولكم؟ وماذا أصابكم؟ وهو واعظ وداعية إلى الله، فهو يقول: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41]؟ فأنا أدعوكم إلى النجاة بالإيمان بالله وعبادته، والبعد عما يغضب الرب من سائر الذنوب والآثام، وأنتم تدعونني إلى جهنم، وتدعونني لأكفر وأشرك، وأعترف بأن فرعون هو ربنا وإلهنا؛ حتى نكون من أهل النار.
وأخيراً: قال لهم: وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ [غافر:43]، أي: أنا وأنتم. فمردنا رجوعنا إلى الله، لا إلى فرعون ولا أصنامكم وأحجاركم التي تعبدونها. وهذا هو الواقع، فهم يموتون يومياً، ويذهبون إلى الله. فمردنا إلى الله. هذا أولاً.
وثانياً: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43]. والإسراف كما علمتم وعرفتم هو: المبالغة في الشيء والإفراط فيه، وفعل الشيء على قدرٍ ما ينبغي. وهم مسرفون في الشرك والكفر، والكذب والباطل والظلم، وقتل النساء وقتل الأولاد من بني إسرائيل. ولذلك قال: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ [غافر:43] لا غيرهم أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43] الذين لا يفارقونها أبداً، بل يلازمونها ويصحبونها إلى ما لا نهاية له.
ثم قال: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ [غافر:44]، فليس عندي قدرة على هدايتكم، وليس عندي قدرة على إلزامكم بالدعوة والتوحيد والإسلام، ولكني أفوض أمري إلى الله، فهو الذي يتولى جزاءكم، ويتولى هدايتكم. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]. فهو مطلع على أحوالكم الظاهرة والباطنة، وهو العليم بمن يستحق الجنة ومن يستحق النار، والعليم بمن هو أهل للإيمان وأهل للكفر، وهكذا. فهو بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]. يعلم ظاهرهم وباطنهم، وماضيهم ومستقبلهم. ولذلك قال مؤمن آل فرعون: أفوض الأمر إليه، فهو الذي يقضي بيننا.
وأما أرواح المؤمنين والمؤمنات فقد أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها في حواصل طير خضر، ترعى في الجنة. هذه أرواح المؤمنين والمؤمنات الموحدين المتقين لله، فهي في حواصل طير خضر، ترعى في الجنة، وهكذا دائماً وأبداً إلى يوم القيامة، فإذا انتهت هذه الحياة يخلق الله الأجساد من جديد، وتدخل الأرواح في أجسادها، ويدخل أهل الجنة بأجسادهم الجنة، وأهل النار بأجسادهم النار. وقد قال تعالى هنا: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]. وسبحان الله! فقد نجى الله هذا المؤمن، كما قال تعالى: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر:45] به وبالمؤمنين، ونجاه الله منهم، فلم يتمكنوا من قتله، ولا ألقوا القبض عليه ولا سجنوه، وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45]. فنجا شمعان ، وهلك فرعون بأبشع صور من صور الهلاك والعذاب.
ثم قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]. وهذا ليس قول شمعان ، بل هذا قول الله عز وجل. فالنار يعرضون عليها صباح مساء، وغدواً وعشياً. والغدو: الصباح، والعشي: المساء. فهم يعرضون على النار مرتين كل يوم. وأرواحهم كما جاء في الخبر عن سيد البشر في حواصل طير سود، والعياذ بالله. فهي تختلف عن أرواح المؤمنين والمؤمنات. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ [غافر:46] وتنتهي هذه الحياة بالمرة، ويخلق الله من جديد الأجسام بكلمة: كن فتكون، ويدخل فيها الأرواح، فيومئذ تأتي أرواح المؤمنين من الجنة وتدخل في أجسامها، وتأتي أرواح الكافرين المشركين من النار وتدخل في أجسادها، وبعد ذلك بكون الحساب، ثم الجزاء إما بالجنة دار السلام، وإما بالنار دار العذاب والبوار.
ثم قال: لا جَرَمَ [غافر:43]، أي: حقاً أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ [غافر:43] أبداً. فهم يدعونه إلى عبادة فرعون أو الأصنام، وهم ليس بأيديهم شيء في الدنيا، فلو دعوتهم لا يستجيبون لك، ولا يقضون حاجاتك، وكذلك في الآخرة لا يستجيبون، فهم لا يستجيبون لا في الدنيا ولا في الآخرة. وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ [غافر:43]. فاعلموا هذا يا قومي! وهو أن رجوعنا إلى الله، لا إلى فرعون ولا أصنامه وأحجاره، بل نحن عائدون إلى الله بالموت، ثم بعد الموت الوقوف بين يدي الله. وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43]. ونعم والله لهم أصحاب النار، وهم الذين توغلوا في الشرك والشر، والفساد والخبث، وتوغلوا في الباطل والمنكر، وأسرفوا في ذلك، وتجاوزوا الحد. فهؤلاء هم لا غيرهم أصحاب النار.
ثم أراد أن يودعهم فقال: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غافر:44]، أي: فستذكرون في يوم ما ما قلت لكم. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]. فأنا أفوض أمري إلى الله، فهو الذي تولاني، وهو الذي وفقني، وهو الذي علمني، فأنا أفوض أمري إليه، وأنتم مردكم إلى الله، وسيجزيكم بما أنتم أهل له من عذاب الدنيا وخزيها وعذاب الآخرة.
ثم قال تعالى: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر:45]. فحفظه الله مما مكره به فرعون، فقد أراد أن يقتله أو يسجنه، ولكنه نجا، فقد خرج من المجلس والتحق بموسى، وبعث فرعون رجاله في أثره فما عثروا عليه، ووقاه الله سيئات ما مكروا. هذا أولاً. وثانياً: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45]. إذ غرقوا في الدنيا عن آخرهم، ثم لهم عذابهم في البرزخ، فما من واحد منهم إلا ونفسه في جوف طير أسود تعرض على جهنم في الصباح والمساء، كما قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]. وهذا في الدنيا.
ولا ننسى أن أرواحنا أيها المؤمنون! ويا أيتها المؤمنات! في حواصل طير خضر في الجنة، واتصالها بالقبر كاللاسلكي، فهي ترعى من ثمار الجنة صباح مساء.
وأما هذه الآية الكريمة فقد أخبرت عن أرواح الكافرين والمشركين، فقال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]، أي: في الغدو والعشي، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]. وهذه كلمة الله عز وجل، وليست كلمة شمعان عليه السلام.
[ من هداية الآيات:
أولاً: بيان الفرق الكبير ] والعظيم [ بين من يدعو إلى النجاة وبين من يدعو إلى النار ] فالمؤمنون يدعون الناس إلى النجاة من النار، والمشركون والكافرون يدعون إلى النار، والعياذ بالله. وبينهما فرق كما بين السماء والأرض، أو كما بين الحياة والموت، وكذلك [ بين من يدعو إلى العزيز الغفار ليؤمن به ويعبد ] فهناك فرق كبير بين من يدعو إلى الله الحي القيوم، السميع البصير، العزيز الغفار [ وبين من يدعو إلى أوثان لا تسمع ولا تبصر ] أو من يدعو إلى صنم أو حجر أو ميت، والعياذ بالله [ وهي أحقر شيء وأذله في الحياة، وبين من يدعو من لا يستجيب له في الدنيا والآخرة، وبين من يدعو من يستجيب له في الدنيا والآخرة.
ثانياً: التنديد بالإسراف وفي كل شيء ] سواء في الأكل .. في الشرب .. في اللباس، وفي كل الحياة. فالإسراف قبيح وشر وفساد. فالعدل العدل! والقسط القسط! وقد عرفنا هذا من هذه الآيات كلها. فالعدل العدل! فالإسراف حرام، والله يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31].
[ ثالثاً: نعم ما ختم به مؤمن آل فرعون وعظه ونصحه لقومه، وهي: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44] ] فهذه نعم الكلمة، وقد ختم بها مجلسه، فقال: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غافر:44] في يوم من الأيام. فالذي قلته الآن ستذكرونه، وأنا أفوض أمري إلى الله، إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:44-46]. وسبحان الله!
[ رابعاً: إثبات عذاب القبر ونعيمه؛ إذ آل فرعون تعرض أرواحهم على النار صباح مساء ] ومن معتقدنا نحن المسلمين: أن الإنسان يعذب في القبر أو يرحم، ويسعد أو يشقى في القبر بروحه، والذي ينكر هذا فقد كذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فما إن يدخل الإنسان في القبر إلا ويلقى النعيم المقيم إذا كان من أهله، أو العذاب والشقاء إن كان من أهله، وهذا قطعاً، وليس في ذلك شك، فقد قال تعالى في هذه الآية: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]. وهذا ليس يوم القيامة، بل اليوم؛ لأنه هو الذي فيه الغداة والعشي. فهؤلاء النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]. وأما يوم القيامة فسيدخلون جهنم.
إذاً: فعذاب القبر كنعيمه من معتقد أهل السنة والجماعة، فما من إنسان يلقى في قبره إلا ويمتحن ويسأل، فينجح أو يخسر، ويخيب أو ينجح. والله أسأل أن يجعلنا من الناجحين الفائزين في قبورهم.
قال الشيخ في النهر غفر الله لنا وله ولوالدينا ولجميع المسلمين: [ جاء في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ) ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر