أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ * إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [النمل:6-11].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل:6]. هذا قول الله عز وجل، قاله لرسوله ومصطفاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال له: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ الكريم مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل:6]. الذي هو الله جل جلاله وعظم سلطانه. وبهذا أبطل تلك الفرية، وهزم تلك الدعوى من أن الرسول يتلقى ما يتلقاه من الشياطين، فأخبر تعالى أنه يتلقاه من الله العزيز الحكيم، فقال: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى [النمل:6]، أي: تتلقى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ [النمل:6]، أي: من عند حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل:6]. ألا هو الله عز وجل. فهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه، العليم بظواهر الأمور وبواطنها، وأوائلها وأواخرها، وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه.
وقد قررت هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي من الله، وأن القرآن وحي أوحاه الله إليه، وليس كما يقول الكاذبون والمفترون بأنه يتلقاه من الشياطين. وفي هذه الآية تقرير النبوة المحمدية، ووالله إن محمداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف لا وهو يتلقى القرآن من الله عز وجل؟ كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل:6]. ألا وهو الله سبحانه وتعالى.
وهو تعالى هنا يقول: إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ . وقد عرفنا أن موسى عليه السلام هو موسى بن عمران أحد أنبياء بني إسرائيل ورسلهم. وأنتم تذكرن ما جاء في سورة القصص، ففيها بداية القصة، وهي: أن فرعون أصدر أمره على بني إسرائيل أن يقتل ويذبّح الأطفال منهم، ثم إن رجال السياسة قالوا له: هذا الشعب له شأن وله مستقبل، فلا يؤمن أبداً منه، فاذبح الذكور وأبق الإناث، كما قال تعالى: يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [القصص:4].
ثم بعد فترة من الزمن رأى المسئولون والسياسيون أن اليد العاملة تنتهي، والبلاد في حاجة إلى اليد العاملة، فهي بلاد زراعة وصناعة، فأمروه أو أوحوا إليه أن يذبح الأطفال سنة، ويبقيهم سنة. فشاء الله في السنة التي لا يذبح فيها الأطفال أن يولد فيها هارون عليه السلام، وهذا تدبير الله، وفي السنة التي يذبح فيها الأطفال أن يولد فيها موسى، فأوحى الله إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]. ففعلت. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:8]. فالتقطوه من اليم، وفتحوا الصندوق الذي هو فيه أو التابوت، فأعجبوا بجماله وكماله، وبحثوا له عن مرضعة ترضعه، وكانت كلما تجيء أميرة جميلة حسنة طيبة الرائحة لترضعه يأبى أن يرضع منها، وهكذا فعل مع الأولى .. الثانية .. الثالثة .. الرابعة، وكاد يموت من الجوع، ولم يدروا ما يفعلون.
وكان من تدبير الله عز وجل أن أم موسى قالت لأخته: اذهبي ابحثي في البلاد شرقاً وغرباً، وتحسسي؛ علك تعرفين عن أخيك شيئاً، فلما عرفت هذا قالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]؟ فقالوا: نعم. فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [القصص:13]. فأصبحت ترضعه أمه.
ونشأ في بيت فرعون ، وله حادث مذكور أيضاً في السورة، وهو أنه أراد أن يقوم وهو طفل، وكما تعرفون الأطفال يحاولون القيام في السنة الأولى، فأخذ بلحية فرعون ليقوم، فتألم فرعون وتشاءم، وقال: هذا هو، وعزم على قتله، فشفعت فيه زوجة فرعون آسية بنت مزاحم ، وقالت له: امتحنه واختبره، إن كان حقاً يريد إهانتك وإذلالك أو لا يريد ذلك، فقدم له التمر في إناء، والجمر في إناء، فإن أخذ التمر وفضله عن الجمر فهو واعٍ وبصير، وحينئذ اقتله، وبالفعل قدم لموسى التمر والجمر، فتناول جمرة فألقاها في فيه، فأصابته لكنة في لسانه.
ثم نشأ موسى في دار فرعون، ولما بلغ العشرين من السنين أو أكثر، حصلت حادثة أشير إليها في الآية هذه، وهي أنه وجد اثنين يتضاربان ويتقاتلان، وهما قبطي وإسرائيلي، فما كان منه إلا أن أخذ القبطي فلكمه فمات، وهذا بالخطأ، وليس بعمد أبداً. فبحث في المباحث عمن قتله، فقالوا: قتله موسى، فأوحي إلى موسى أن يخرج من هذه الديار، وبالفعل خرج من مصر، كما قال تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:20-21] متى يلقى القبض عليه ويقتل. وانتهى في المسير إلى أرض مدين. وثمت أحداث ذكرت في سورة القصص.
منها: أنه مر ببنتي شعيب وهما تسقيان الغنم، فعجزتا عن إزالة الحجر التي على البئر، فأزالها وسقى غنمهما، وعادتا إلى أبيهما فقصتا عليه القصة، فقال: ائتياني به. فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]. ثم نطقت إحدى الفتاتين فقالت: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]. بعد أن شاهدت قوته وأمانته، القوة في إزالة غطاء البئر بيده، فقد كان حجرة لا يزيلها إلا عشرة أنفار أو أكثر، وأزالها هو، والأمين أنه لما كان يمشي مع الفتاتين أو مع الفتاة كانت الرياح تزيل بعض ثيابها عن جسمها فقال لها: امش ورائي، ودلني على الطريق بحجر، وأبى أن يمشي معها أو أن يمشي وراءها، بل قال: امش ورائي ودليني على الطريق، فعرفت أنه أمين، وحقاً إنه أمين.
ثم عرض عليه شعيب أن يزوجه إحدى ابنتيه، فزوجه على صداق، وهو: أن يرعى له الغنم ثمان سنوات أو عشر إن أراد أن يتفضل بسنتين، وبالفعل قضى مع شعيب عشر سنوات، وأنجبت زوجته أولاداً، ثم خرج بها يريد الديار المصرية؛ ليعود إلى أمه وإخوته.
وهنا بدأت هذه القصة فقال تعالى: إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [النمل:7]، وذلك في ليالٍ باردة في الظلام بعد أن مشى من بلاد شعيب من جهة الأردن إلى مصر، فقال لأهله، أي: لزوجته وأولاده. وفي هذا دليل على أن الرجل هو الكافل للزوجة والولد، والمسئول عنهما.
فقال لأهله: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [النمل:7]، أي: أبصرت ناراً، وقد شاهد بالفعل شجرة خضراء والنار تلتهب فيها، فقال لهم: امكثوا هنا حتى آتيكم بقبس من هذه النار؛ نستدفئ به، فلما دنا من الشجرة إذا هي أنوار إلهية.
واسمعوا ما أخبر تعالى به، فقد قال: إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ [النمل:7]، أي: أجد صاحب النار فيدلنا على الطريق؛ لأنهم ضاعوا في الطريق؛ لأنها ليست معروفة عندهم، وهي ليست طريقاً معبداً، فكانوا تائهين. أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ [النمل:7] مأخوذ من هذه النار؛ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل:7]، أي: تستدفئون به، وتدفعون هذا البرد عن أنفسكم. فهو يخاطب زوجته وأولاده.
فقال: أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الغالب، الْحَكِيمُ فيما أشرع وأقنن، وفيما أعطي وأمنع، فطمأنه وعرفه بربه. وهذه أول بداية الوحي الإلهي لموسى.
وهنا بدأت النبوة الموسوية، والرسالة الموسوية بقوله: يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النمل:9].
فهو لما رآها تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى ، أي: رجع إلى الوراء خائفاً قطعاً؛ لأنها كانت عصا فتحولت إلى ثعبان تهتز، فـ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ، أي: ولم يرجع، فناداه الرب تعالى بقوله: يَا مُوسَى لا تَخَفْ . وموسى خاف قطعاً؛ لأنه بشر، يخاف مما يخافه الناس، وهذا ثعبان أمامه يهتز وهو جان، فلما خاف قال له الحق تعالى: يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [النمل:10]. فالرسل ما يخافون عندي، وأنت رسولي. وهنا ثبتت رسالته، وأنه رسول الله رب العالمين إلى فرعون وملئه وإلى بني إسرائيل.
وقوله: إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ [النمل:10]، أي: عندي، الْمُرْسَلُونَ [النمل:10] الذين نرسلهم، فنحن نحفظهم ونقيهم من كل مكروه، فلا يخافون أبداً.
وهذه اللطمات حصلت لداود عليه السلام في قضية الحكم ذاك الذي حكم به، وحصلت لإخوة يوسف، فقد تآمروا على قتل يوسف، وحصلت للعديد من الأنبياء، فلهذا قال تعالى له: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [النمل:11]. وأنه لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [النمل:10] أبداً إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل:11]. ولكن من ظلم ثم تاب من بعد ظلمه وحسن عمله وصلاحه فلا يخاف عندي.
ومعنى (تلقى) أي: تلقيه القرآن بواسطة جبريل، فقد كان جبريل يأتي بالسورة وبالآيات ويلقيها في روعه.
وقوله: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ ، الحكيم العليم هو الله جل جلاله وعظم سلطانه. فأبطل بهذا دعوى المبطلين الذين قالوا: هذا الذي يقوله من كلام الكهنة والسحرة، ومن وحي الشياطين. فاستأصل الله هذه الفرية الباطلة نهائياً.
ثم قال له في بداية هذا القصص العجيب: واذكر إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ [النمل:7]. وفي قراءة نافع (بشهابِ قبس) بالإضافة. لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل:7]. وقد علمنا أن هذا تم بعد أن خرج موسى بزوجته وأولاده من بلاد مدين، التي هي أرض شعيب النبي، بعد أن عاش عنده عشر سنوات، ثم خرج في طريقه غرباً متجهاً إلى مصر؛ لأجل والدته وإخوانه. وفي هذه الحال كان الفصل شتاء كأيامنا هذه، والبرد عاماً، ففقدوا ما يشعلون به النار، ثم إذا به يشاهد من بعيد ناراً فقال لأهله: امكثوا هنا، واصبروا حتى آتي إلى النار، فإن وجدت عندها من يعرف الطريق فسيدلنا، أو آتيكم بشهاب نقتبسه من تلك النار، فنوقد ناراً عندنا ونستدفئ بها. وهذا كلام واضح بيّن، كما قال تعالى: إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل:7]. والاصطلاء هو الاستدفاء، كما قال الشاعر:
النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل الفواكه شاتياً فليصطلي
وهذا قالها قبل ما تنزل الآيات.
فليس أحسن من الدفء في الشتاء، لا فاكهة ولا تمر ولا عنب.
والشاهد عندنا في قول موسى عليه السلام لزوجته وأولاده: لَعَلَّكُمْ ، أي: كي تصطلوا وتستدفئوا بهذه النار.
ثم قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهَا ، أي: وصل إلى تلك النار وهي نور وليست بنار، ولكن من بعيد ترى ناراً ملتهبة، فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ ، أي: ناداه ربه عز وجل، كما قال تعالى: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ [الشعراء:10-11]. وكما نادى ربنا محمداً صلى الله عليه وسلم، وينادي أنبياءه ورسله. والله معنا بعلمه وقدرته، وحكمته وتدبيره، وهو فوق عرشه، بائن من خلقه، والكون كله في قبضته وبين يديه، واقرءوا لذلك قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
وقال هنا: فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [النمل:8]. والذي في النار موسى عليه السلام، وَمَنْ حَوْلَهَا [النمل:8]. ويفسر بعض أهل التفسير أيضاً أن من في النار هو الرب تبارك وتعالى. ولكن ما سمعتم أولى، فمن في النار هو موسى، ومن حولها أي: من الملائكة، وأيضاً ومن حولها من الأرض المباركة. وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل:8]! وحقاً فقد تنزه الله وتقدس عن صفات المحدثين.
ثم قال تعالى: يَا مُوسَى [النمل:9]! فناداه مرة ثانية إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النمل:9]. وأنا صاحب هذه الأنوار، أي: أنوار الله التي تجلت هنا، فأنا الله العزيز الحكيم.
ثم قال تعالى له: وَأَلْقِ عَصَاكَ [النمل:10] من يدك، فقد كان في يده عصا، فَلَمَّا [النمل:10] ألقاها رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ [النمل:10]. وليست من الجن. والجان عند العرب هذه الحية وخاصة التي تضطرب وترتفع كالجان، فيقال فيها: جني أو جانّ. فلما رآها هكذا وَلَّى مُدْبِرًا [النمل:10]، أي: رجع إلى الوراء وخاف؛ لأنه بشر. فهو وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [النمل:10]، أي: ما رجع لما هرب عائداً، فهو لم يرجع إلى العصا التي تحولت إلى حية أو جان. فقال له الرب تبارك وتعالى: يَا مُوسَى لا تَخَفْ [النمل:10]، أي: من هذه الحية التي شاهدت أو هذا الجان؛ وذلك إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ [النمل:10]، أي: عندي الْمُرْسَلُونَ [النمل:10]. وأنت أحدهم، فلا تخف أبداً لا من الحية، ولا من فرعون ولا من ملئه، ولا من إنس ولا جان، فطمأنه ربه تعالى بقوله: لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ [النمل:10]، أي: عندي الْمُرْسَلُونَ [النمل:10]. وأنت منهم. ففاز موسى بالرسالة، وأصبح رسول الله ونبيه، وإلا فقد خرج من الديار المصرية وهو لا يعرف أنه نبي ولا رسول، وعاش مع شعيب عشر سنوات. ولكن الكمال كمال آداب وأخلاق، وطهارة وصفاء كما قالت المرأة: إنه قوي أمين، والآن نبأه الله وأرسله إلى فرعون.
ولما قال تعالى: إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [النمل:10] قال تعالى هنا: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ . وكلمة إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ، أي: قطعاً إذا ظلم لابد وأن يخوفه الله، وأن يؤدبه ويجزيه. وهنا لما وقع في نفس موسى الخوف من أنه قتل القبطي قال تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ، أي: فعل سيئة فتاب منها واستبدلها بحسنة فوقها فغطتها وسترتها. وهذا عام في الأنبياء والمرسلين، وفينا نحن، فأيما مؤمن أو مؤمنة يقارف ذنباً ويعقبه بالتوبة والعمل الصالح إلا ويمحى أثره ويستر ولا يرى؛ لقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:70].
وأقول: ليست هذه خاصة بموسى ولا بالمرسلين، بل هي عامة في كل البشر، فأيما إنسان ذكر أو أنثى يعصي ربه بغفوة .. بغلطة .. بهفوة من الشيطان، ثم يبكي بعد ذلك ويتوب إلا تاب الله عليه، ويمحي أثرها، ولا يبق لها أثراً في نفسه.
ولهذا فرضت علينا التوبة، فالتوبة فريضة الله على كل مؤمن ومؤمنة. وأيما مؤمن يذنب ذنباً إلا ويجب أن يتوب. وحرم تأخير التوبة، بل وجب تعجيلها، ولا يحل أن تقول: أتوب يوم الخميس المقبل، أو الشهر الفلاني، بل تب على الفور؛ حتى ينمحي أثر ذلك الذنب؛ لقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا [الفرقان:70]، الآية من سورة الفرقان. وهنا يقول تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ . والحسن: الحسنة، والسوء: السيئة، فمن استبدل السيئ بالحسن فلا خوف عليه؛ لقوله تعالى: فَإِنِّي غَفُورٌ له رَحِيمٌ [النمل:11] به. وهنا طابت نفس موسى وهدأت، وزال من خاطره ذلك الخوف، مع أن قتل القبطي كان خطأً تجب فيه كفارة صيام شهرين أو عتق رقبة.
قال: [ معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية ] وإثباتها وتأكيدها؛ إذ نفاها المشركون والكافرون، ونفاها الآن الملايين من النصارى والمجوس وغيرهم [فقوله تعالى: وَإِنَّكَ ] يا رسول الله! [ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل:6] ] فهو رسول الله، وهو يتلقى الوحي من الله. وبهذا تقررت النبوة المحمدية. فارفع رأسك وقل: أشهد أن محمداً رسول الله، ولا تخف.
قال: [ يخبر تعالى رسوله بأنه يلقّن القرآن ويحفظه ويعلمه من لدن حكيم في تدبيره، عليم بخلقه، وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه.
وقوله تعالى: إِذْ قَالَ مُوسَى ، اذكر لمنكري الوحي والمكذبين بنبوتك ] اذكر لهم: [ إِذْ قَالَ مُوسَى ، إلى آخر الحديث، هل مثل هذا ] القصص [ يكون بغير التلقي من الله تعالى؟ ] فهذا والله لن يكون إلا بالتلقي من الله تعالى [ والجواب: لا. إذاً: فأنت رسول الله حقا وصدقاً. إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ ، أي: امرأته وأولاده ] وأهل الرجل زوجته وأولاده فيقال: هم الأهل. فقال موسى لأهله: [ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ، أي: أبصرتها مستأنسا بها ] وكما علمتم أن الليالي كانت مظلمة وشاتية، والبرد شديد، وانقطعت عنهم النار، ولم يكن عندهم كبريت ولا حجر يشعلونها به، فلهذا لما شاهدها وأبصرها قال: [ سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ] يدلنا على الطريق التي تهنا فيها ولم نعرفها؛ لأنه إذا وجد ناراً يجد معها صاحبها فيسأله: من أين الطريق؟ لأنهم تائهون [ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل:7]، أي: تستدفئون، إذ كانوا في ليلة شاتية باردة، وقد ضلوا طريقهم ] وأخطئوه، ولم تكن الطرق كما هي الآن معبدة.
[ وقوله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهَا ، أي: النار نُودِيَ ، أي: ناداه ربه تعالى قائلاً: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ، أي: تقدس من في النار التي هي نور الله جل جلاله. وهو موسى عليه السلام، ومن حولها من أرض القدس والشام ] والخلاف موجود في شرح هذه الآية [ والله أعلم بمراده من كلامه. وإنا لنستغفره ونتوب إليه إن لم نوفق لمعرفة مراده من كلامه وخطابه. فاغفر اللهم ذنبنا، وارحم عجزنا وضعفنا، إنك غفور رحيم ] لأن الخلاف في كلمة ناداه هل ربه كان هناك أو موسى هو الذي بورك؟ فهناك خلاف كثير في التفاسير، والطريق السليم ما سمعتم، وهو أن نقول: الله أعلم بمراده من كلامه، وفوضنا الأمر لله. ثم نستغفره تعالى، أي: نطلب المغفرة منه، ويستجيب الله لنا والحمد لله.
[ وقوله تعالى: وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل:8]، نزه تعالى نفسه ] وقدسها [ عما لا يليق بجلاله وكماله.
وقوله ] تعالى: [ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النمل:9]، أي: الذي يناديك هو الله ذو الألوهية ] وصاحب الألوهية [ على خلقه، العزيز ] أي: [ الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده، الحكيم في قضائه وتدبيره وتصريف ملكه.
بعد أن عرفه بنفسه وأذهب عنه روع نفسه أمره أن يلقي العصا؛ تمريناً له على استعمالها، فقال: وَأَلْقِ عَصَاكَ ، فألقاها فاهتزت كأنها جان، أي: حية خفيفة السرعة. فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا ، أي: رجع القهقرى فزعاً وخوفاً. وَلَمْ يُعَقِّبْ [النمل:10]، أي: لم يرجع إليها خوفاً منها. فناداه ربه تعالى: يَا مُوسَى لا تَخَفْ من حية ولا من غيرها ] فلا تخف مطلقاً [ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل:10]، أي: نفسه باقتراف ذنب من الذنوب، فهذا يخاف لكن إن هو تاب بعد الذنب ففعل حسنات بعد السيئات فإنه لا يخاف؛ لأني غفور رحيم، فأغفر له وأرحمه.
وطمأن تعالى نفس موسى بهذا؛ لأن موسى كان شاعراً بأنه أذنب بقتل القبطي قبل نبوته ورسالته ] أيام شبابه [ وإن كان القتل خطأ إلا أنه تجب فيه الكفارة ] وهي: [ عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين ].
وعسى أن يكون السامعون والسامعات فهموا كلام ربهم. زادني الله وإياكم نوراً وهداية.
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير النبوة المحمدية ] والله. فهذه الآيات تقرر وتؤكد وتثبت أن محمداً نبي الله ورسوله، وإلا لما تلقى القرآن من الله وليس برسول ولا نبي، بل هذا مستحيل.
[ ثانياً: مشروعية السفر بالأهل والولد ] فيجوز للمسلم أن يسافر بزوجته وأولاده على أن يكون السفر خيراً، وليس شراً [ وجواز خطأ الطريق ] أيضاً، فمن الجائز أن يخطئ الإنسان الطريق ولا يعرفها [ حتى على الأنبياء والأذكياء ] فموسى نبي وذكي، ومع هذا أخطأ الطريق.
[ ثالثاً: قيومية الرجل على النساء والأطفال ] فالرجل قيم على امرأته وأولاده، وهو الذي يقدم لهم ما يحتاجون إليه، ويحميهم ويحرسهم من غيرهم، وقد قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:34]. فدلت هذه الآية على هذه اللطيفة.
[ رابعاً: تجلي الرب تعالى لموسى في البقعة المباركة ومناجاته، وتدريبه على العصا والسلاح الذي يقاوم به فرعون وملأه فيما بعد ] فقد تجلى الرب تعالى لموسى، وناداه في البقعة المباركة حيث تلك الشجرة، وناجاه ودربه على العصا عندما قال له: الق يا موسى! العصا، فألقاها، فاهتزت كأنها جان، فقال له: خذها وامش إلى فرعون؛ لتقاتله بها. فهذا تدريب. والتدريب على السلاح مشروع، ويجب أن يدرب كل الناس على السلاح، والقرآن سبق بهذا.
[ خامساً ] وأخيراً: [ الظلم يسبب الخوف والعقوبة ] والله، فإذا ظلم العبد سبب له هذا الخوف والعقوبة [ إلا من تاب منه وأصلح فإن الله غفور رحيم ].
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر