وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:38-40].
بالأمس كنا مع تلك الآيات التي تحمل النور والهداية لعباد الله المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:35]، فهذه الآيات جاءت بين آيات حكم الحرابة والمحاربين، وبين آية السراق والسارقين، هذا يقول أهل العلم: من باب تلوين الأسلوب وتنويعه؛ حتى لا يمل السامع ولا القارئ، كانت الآيات في بيان حكم المحاربين، ثم فجأة انتقلت إلى هذا النداء المبارك الميمون وهو فتح الطريق للكمال والسعادة البشرية بالإيمان وتقوى الرحمن والجهاد في سبيل الله، ثم جاءت هذه الآيات تبين حكم السرقة في الإسلام.
والقدر المالي الذي تقطع فيه يد السارق يشترط أن يكون ربع دينار من الذهب فما فوق، القدر الذي تقطع فيه يد المؤمن السارق هو ربع دينار فأكثر، أقل من ربع الدينار يعتبر تافهاً ولا تقطع فيه اليد، والدينار اسأل عنه بائعي الذهب فإنهم يعرفونه، يعرفون وزنه من الميزان.
وليس السارق يسرق الذهب فحسب، كل ما يؤخذ يقوم هل يساوي ربع دينار أو لا يساويه، هذا الأصل، فهذه هي اليد التي تقطع، تقطع من الرسغ، وتعلق في عنق السارق كذا يوماً، روى هذا النسائي وأبو داود والترمذي ؛ لقول الله تعالى: نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، والنكال: ما يجعل المرء ينكل ويعجز أن يفعل مرة أخرى، فالسارق نفسه لا يكرر السرقة فتقطع يده الثانية، وغير السارق يعتبر ويخاف أن تقطع يده فلهذا لا يمد يده لمال يأخذه سرقة.
وما كان دون ربع دينار فهو شيء تافه لا قيمة له عند الناس، ما يكرب المؤمن ولا يحزن إذا أخذ منه ذلك الشيء التافه، على سبيل المثال: لو أخذ من جيبك ريال فهل تتأثر كما لو أخذ منك مثلاً ألف ريال؟ ما تتأثر، هذا شيء تافه، لا تبكي ولا تشتكي.
فبناءً على هذا لو أن شخصاً قال: لا نؤمن بقطع اليد ولا نقر هذا، ونعتبره جهالة أو سفهاً فهو كافر مرتد عن الإسلام كما سمعتم بالأمس مقتضيات الكفر، ولا نحكم بكفره إلا إذا كان أعرب بلسانه وقال: أنا لا أؤمن بقطع اليد ولا أعترف به، فيهذا مرتد كافر، أما كونه ما طبق فقط وسكت فشأنه وأمره إلى الله هو الذي يؤاخذ أو يعفو.
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ [المائدة:39]، أي: بعدما سرق، وهذا ما قطعت يده؛ لأنه ما عرف. وَأَصْلَحَ [المائدة:39]، أي: ما كان قد أفسده، ومن هذا الإصلاح أن يرد الأموال التي أخذها بأسلوب وآخر، سرق من فلان نعجة فيقدرها بكم تساوي ويجعل المال في ظرف ويبعثه بالبريد، أو يرميه تحت الباب بدون أن يطلع عليه أحد، من إصلاحه أن يرد الأموال التي سرقها إن قدر على ذلك، وإن عجز تبقى النية في قلبه واضحة: متى يسر الله لي وحصلت على مال فسوف أقضي ذلك المال وأرده على أصحابه، أما إذا تاب عن السرقة فقط وفي بيته أموال الناس وهو قادر على ردها ولم يردها فما تاب؛ لأن الله قال: (تاب وأصلح) معاً، لكن إذا كان ما سرقه أكله، وما عنده شيء؛ فهذا فقط تكفيه النية والعزم القلبي على أنه لو أمكنه أن يرد هذه الأموال لردها في المستقبل حين يفتح الله عليه في تجارة في وظيفة ويأخذ يسدد تلك الأموال، وقد تكون مالاً واحداً.
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ [المائدة:39]، يغفر له ولا يؤاخذه، وعلل تعالى ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ [المائدة:39]، أي: للتائبين من عباده، رَحِيمٌ [المائدة:39] بالمؤمنين منهم، فإذا كانت صفة الرحمن المغفرة والرحمة؛ إذاً: لا تعجب أنه يغفر لذلك اللص الذي تلصص زمناً وتاب، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:39]، سبحانه وتعالى.
فالسارق لما ضبط وقامت الحجة بالسرقة وقطعت يده هل يطالب برد المال المسروق أو لا يطالب؟ هناك من يقول: يكفي قطع يده، فقطع اليد يساوي نصف الدية للإنسان. والصحيح: أنه يطالب برد المال الذي سرقه، فإذا كان موجوداً بعينه فذاك، فإن لم يوجد بعينه وعنده أموال أخرى فيؤخذ منها ما يسدد لذاك المسروق منه ويعطى قيمته، فإن كان لا مال له فيكفيه قطع يده، وهذا أعدل وأرحم.
الإجماع على أنها لا تقطع؛ ولذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنت ومالك لأبيك )، فإذا سرق الوالد من مال بنته أو ابنه لا تقطع يده إجماعاً؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحب يوجهه: ( أنت ومالك لأبيك )، نص، إذاً: ما دام الولد لي فكيف تقطع يدي؟
إذاً: فسرقة الوالد من مال الولد لا خلاف في أنه لا تقطع يد الوالد، لكن يد الولد يمكن أن ننظر بشأنها في حال السارق، فإذا وجدناه وضبطناه يتلصص فممكن أن تقطع يده حتى يتوب نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، وإذا ما ضبط على شيء ولا عرف بأنه مال مؤمن وإنما اضطر إلى أخذ مال والده؛ إذاً نقول: لا نقطع يده.
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً [المائدة:38]، أي: للسرقة، نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، ما معنى: نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]؟ يقال: نكل به، والتنكيل والنكال: ما يمنع من حدوث هذه الجريمة، أولاً: السارق لا يكرر السرقة وقد قطعت يده. ثانياً: الأمة في المجتمع ما إن يشاهدوا رجلاً قطعت يده حتى يخافوا فلا يقبلوا على السرقة فتقطع أيدهم، ولو تكررت السرقة تقطع يده الثانية، وأول ما تقطع اليمنى.
وكذلك الزوج إذا سرق من مال زوجته، فالزوجة إذا كانت عفريتة ترفع أمرها إلى المحكمة وتقطع يده، لكن إذا ما رفعت أمرها إلى المحكمة فإنها تعفو عن زوجها أو تطالب برد مالها، ولا تقطع يده، فما هناك خلاف إلا في الابن والبنت إذا سرقا من مال الأب، وأما إذا سرق الأب أو الأم من مال أولادهما فلا خلاف في أنه لا قطع أبداً، أما الزوج والزوجة فكالأخ والأخ والعم والعمة، لا فرق.
وهنا مسألة أخرى: إذا كان الزوج شحيحاً والزوجة أخذت من ماله؟ هذه القضية رفعت إلى قاضي القضاة صلى الله عليه وسلم، رفعتها هند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، وقالت: إن زوجي رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي؟ قال: خذي ما تحتاجين أنت وأولادك، بقدر ما تحتاجين إليه، لا تسرقي من جيبه أو من صندوقه ولا تدخريه، لكن خذي قدر الطعام أو الشراب أو الثوب الذي احتجته أنت أو ابنك، فالزوجة إذا أخذت هذا القدر ما يعتبر سرقة حقيقية، يعفى عنها، إذا كان منعه بخلاً، أما إذا كان يوسع عليها وينفق ثم هي تريد أن تتأتي المال وتسرق فإنه تقطع يدها، ومن ذلك التي تحول المال إلى إخوانها في القرية الفلانية.
يقول تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، ليس المراد أن يقطع اليدين الاثنتين، وإنما السارق تقطع يده، والسارقة تقطع يدها، جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ [المائدة:38-39]، قالوا: من الإصلاح أن يرد المال الذي سرقه.
وهنا يقول تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ [المائدة:40]، ألم ينته إلى علمك يا عبد الله المؤمن أو يا أمة الله المؤمنة أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [المائدة:40]، إذاً: إن شاء قطع وإن شاء لم يقطع، إن شاء تاب وإن شاء لم يتب، الملك ملكه وهو المدبر له، لا يصح الاعتراض على الله، لو قال قائل: كيف يتوب عليه وقد أخذ أموال الناس؟ يرد بذلك على الله؛ فإنه يكفر، كيف ترد على من له ملك السماوات الأرض؟! ملكه يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:40] تعذيبه، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [المائدة:40] المغفرة له، هذا شأن المالك، فإذا سرق مالك فأنت حر، قد تتنازل عن فلان فتقول: لا تقطعوا يده، وتقول: فلان اقطعوا يده، شأنك، فما دام الله له ملك السماوات والأرض، وكل الأموال ناطقة وصامتة له؛ إذاً: له أن يصدر هذه الأحكام بالتعذيب والقطع، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:40]، على فعل كل شيء يريده قادر عليه ولا يعجزه شيء.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ يخبر تعالى مقرراً حكماً من أحكام شرعه، وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله ]، ليس شرطاً أن يكون الحرز دائماً صندوقاً ومفتاح من حديد، بل بحسب حاله، فشاة وجدها خارج الباب فما هي سرقة، لكن جعلها في الحظيرة والباب مغلق عليها في زريبة مثلاً هذا حرز عليها، فالضابط: (من حرز مثله).
قال: [ وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله خفية وهو ] أولاً [ عاقل ] ثانياً [ بالغ ]، فإن كان مجنوناً فهل يؤاخذ؟ لا. وإن كان صبياً ما بلغ وسرق ألف دينار فلا تقطع يده، لا بد من البلوغ والعقل، المجنون لا تكليف عليه، والصبي الغلام كذلك.
ثالثاً: [ ورفع إلى الحاكم ] أيضاً، فإذا ما رفعت القضية إلى الحاكم فلا تقطع أنت يد السارق بنفسك، أو ابن عمك يأخذ يده ويقطعها، لا بد من رفعها إلى المحكمة؛ لتتأكد وتتحقق، قد تكون مؤامرة، بنو فلان اتفقوا على أن فلاناً سرقهم والمال في يده، لا بد من المحكمة.
قال: [ والسارقة كذلك ] ما هناك فرق بين الرجل والمرأة [ فالحكم أن تقطع يد السارق اليمنى من الكوع، وكذا يد السارقة ]، ما الكوع؟ عند الفقهاء يقال: فلان لا يفرق بين الكوع والبوع، فما الفرق بين الكوع والبوع؟ الكوع: في اليد، والبوع: في الرجل، كما قيل:
فعظم يلي الإبهام كوع وما يلي الخنصر الكرسوع والرسغ ما وسط
قال: [ مجازاة لهما على ظلمهما بالاعتداء على أموال غيرهما، وقوله: نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة:38]، أي: عقوبة من الله تعالى لهما تجعل غيرهما لا يقدم على أخذ أموال الناس بطريق السرقة المحرمة، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، غالب على أمره، حكيم في قضائه وحكمه، هذا معنى قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا [المائدة:38] ] الباء سببية: بكسبهما، أي: بما كسبا [ من الإثم، نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38].
وقوله تعالى في الآية الثانية: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ [المائدة:39] أي: تاب من السرقة ] يعني: ترك ما أصبح يفكر فيه ولم يعد يسرق [ بعد أن ظلم نفسه بذلك ]، فالسارق ظلم نفسه، صب عليها الآثام والذنوب.
جاءني أحدهم بعد الصلاة يتعنتر علي، قال: ما معنى قوله تعالى: إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]، قلت له: الفاحشة الزنا واللواط وكل قبيح شديد القبح، والظلم للنفس، فكل إثم ظلم للنفس، سرق، كذب، أخر الصلاة، سب فلاناً، كل هذا ظلم للنفس لأنه يصب عليها النتن والعفونة والظلمة.
قال: [ بعد أن ظلم نفسه ] بأكل مال الناس [ وَأَصْلَحَ [المائدة:39] نفسه بالتوبة ] فنفسه فسدت بالذنوب، فأصلحها بالتوبة [ ومن ذلك رد المال المسروق ] سواء كان دينارأ أو كان ألف دينار [ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ [المائدة:39]؛ لأنه تعالى غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين.
وقوله تعالى في الآية الثالثة: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [المائدة:40]، يخاطب تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل من هو أهل للتلقي والفهم من الله تعالى ] وهم المؤمنون؛ لأنهم أحياء يتلقون ويفهمون [ فيقول مقرراً المخاطب: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [المائدة:40]، والجواب: بلى، وإذاً فالحكم له تعالى لا ينازع فيه، فلهذا هو يعذب ويقطع يد السارق والسارقة ويغفر لمن تاب من السرقة وأصلح، وهو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:40] ].
[ هداية الآيات.
من هداية الآيات:
أولاً: بيان حكم حد السرقة، وهو قطع يد السارق والسارقة ]، لقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38].
[ ثانياً: بيان أن التائب من السراق إذا أصلح يتوب الله عليه، أي: يقبل توبته ]، كان يسرق ثم تاب وتاب الله عليه فيعفى عنه، لكن بشرط أن يرد المال إذا كان قادراً على رده ولو بالتدريج؛ لأن الإصلاح يكون بذلك.
[ ثالثاً: إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده ]، ليس شرط التوبة أن تقطع اليد، عزمه فقط على عدم السرقة توبة، فإن رفع قطعت، وإن لم يرفع فتوبته كافية، إلا أن المال إذا كان لديه فإنه يحاول أن يرده بعد عام أو عامين أو عشرة في كل مناسبة.
قال: [ وإن رفع ] أي: أمره إلى المحكمة [ فلا توبة له ]، لو قال: لقد تبت يا عباد الله، والله إني تائب من الآن لا أسرق أبداً فلا تقطعوا يدي فلا ينفعه، وقبل أن يرفع إلى القاضي نعم، قال: تبت وبكى بين يديك فاترك أخاك، لكن إذا رفع وحكمت المحكمة بقطع يده وأعلن عن توبته فلا تنفعه التوبة في قطع يده.
قال: [فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب ]، مهما كان المال الذي أخذه، يده إذا قطعت غفر الله له.
[ رابعاً: وجوب التسليم لقضاء الله تعالى والرضا بحكمه لأنه عزيز حكيم ]، لو كان ضعيفاً فما نسلم له، لو لم يكن عنده حكمة يتخبط ويصدر أحكاما لا معنى لها فلن نقبل، ولكن ما دام عزيزاً حكيماً فكيف يجوز أن تنتقد حكمه أو ترده؟! وقد بينا أن من انتقد حكم الله وقال: لم، فإنه يكفر بذلك، فلم يسعنا إلا التسليم لله عز وجل.
وأقول: أولاً: لسنا بقادرين على إفهام كل سامع وسامعة، هذا لا يقدر عليه إلا الله، لكن شيخكم مستعد إذا أخطأ أن يعلن عن خطئه ويستغفر الله فيه ويطلب من السامعين أن يستغفروا له، هذه قاعدة منذ ثلاث وأربعين سنة، ما نرضى أن نقر الخطأ ولا يحل.
ثانياً: إذا كان الحاكم عاجزاً واضطر إلى معاهدة بينه وبين هذه الدولة الكافرة ليأمن ظلمها وقتالها، فما دامت المعاهدة موجودة لا يحل نقضها ونكثها، حتى ينقضها الكافر، وإلى يوم القيامة: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنفال:61].
إذاً: أمر الله أن يقاتل أهل الجزيرة حتى يدخلوا في الإسلام؛ لأنها قبة الإسلام وبيضته، من لم يرد أن يسلم فليرحل خارج هذه الجزيرة، وجاء ذلك في قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5]. أما غير سكان الجزيرة من الأمم المحاذية فنقرأ لذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، حدودنا من الجهة الغربية مثلاً شمال إفريقيا بعدما دخلنا مصر، كذلك تمشي جيوشنا على النظام الذي وضعه الله، حتى نفرغ من جهة أوروبا من الغرب كذلك، وهكذا، قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة:123]، وإن كانت تلينا دولة كافرة فنتركها ونقاتل واحدة وراءها فما هو بنظام هذا، قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة:123]، فمن أولى بالصدقة والمعروف؟ القريب، جيراننا أولى بهداية الله ممن هم بعيدون عنا.
قلت: ودبر الله وهو الحكيم العليم، فما أصبح المسلمون في حاجة إلى أن يقاتلوا الكفار، لأن بلادهم مفتوحة لنا، لو أننا دبرنا أمرنا أو استعنا بربنا وبعثنا الدعاة وزودناهم بالكتاب والمال؛ لانتشر الإسلام في الشرق والغرب، فرصة ذهبية، لا أقول دائماً: قد تنتهي، لكنها موجودة الآن، فليس من حق أي جماعة أن يقولوا: الآن نخوض البحر إلى أن نقاتل إيطاليا حتى تدخل في الإسلام، ولا يجوز.
إذاً: لا بد من بيعة إمام أولاً، وهو الذي يقود المسلمين إلى الجهاد، وأما الفوضى وكل جماعة وحدهم فحرام هذا ولا يصح.
وقلت -وكتبنا هذا في جريدة وما نشر-: لو أن الحكام المسلمين اتفقوا مع تركيا الإسلامية وجاءت كل دولة بخمسة آلاف أو عشرة آلاف جندي مسلح مدرب، وتكون عندنا نصف مليون، فنستطيع أن نقول للدولة المعتدية في الشيشان: قفي. أو في البوسنة والهرسك، أو ندخل، وما دام حكام المسلمين لا يعرفون هذا فكيف إذاً نقاتل مع الشيشان أو البوسنة والهرسك؟
تبقى مسألة هؤلاء الأحداث، فأنا أقول: إذا ما سمح له والداه أن يذهب إلى البوسنة فحرام عليه أن يذهب، إذا منعه الحاكم يجب ألا يذهب، وإذا كان ضعيفاً أيضاً لا بدن ولا علم ولا قدرة، وإنما يذهب فقط ليأكل طعامهم ويزاحمهم أيضاً فما ينبغي أن يذهب، فإن كان قادراً قوياً وعنده إذن من الحاكم ومن والديه وهو قادر على أن يجاهد فله أن يذهب ليقاتل دفاعاً عن إخوانه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر