بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
نحذر التجار وننبهم نصحاً لله ولكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فنقول: قد يأتي مشروع في البلد، مثل مرور شارع أو غيره بأراضٍ شاسعة، وأصحاب الأراضي لا يعلمون بذلك، ولكن الذين عندهم التخطيط يعلمون، لهم أصدقاء أو اطلعوا على ذلك من مرجعه، فيذهب التاجر وكأنه لا يعلم شيئاً، فيشتري ما يعلم بأن المشروع سيمر من عنده؛ لأنه يعلم أن الدولة ستعوض بأضعاف القيمة، ويخفي هذا الأمر على أصحاب الأراضي ويشتري منهم، وبعد فترة يظهر المشروع، ويعوض المشتري أضعاف أضعاف ما دفع، فهل هذا ناصح؟! لا، وكيف يستحل هذا التعويض المضاعف ويحرم صاحبه منه؟!
وقد ذكرنا ورع سلف هذه الأمة، اشترى أحدهم السكر لما علم أن الإنتاج سيقل، ثم تورع عن الربح، وهو بيع وشراء صحيح، لكن في المستقبل ربما يعوض بشيء آخر، ولكن مع ذلك تأسف وأحس بالحرج، وأحس بالريبة، فترك ذلك، ورجع إلى صاحب السكر، ودفع إليه الربح!!
ويذكر العلماء أن رجلاً أرسل بضاعته إلى البصرة، وقال لغلامه: بعه بالسعر الذي وجدته يوم وصوله، فوجد الغلام السعر نازلاً، فأمسك عن البيع، وبعد فترة ارتفع السعر، وباع البضاعة بربح كثير، وأرسل لصاحبه، فكتب إليه: لقد خنتنا، لقد أمرتك أن تبيع بسعر اليوم الذي وصلت فيه، فأمسكت حتى ارتفع السعر، فتصدق بكل القيمة على فقراء البصرة، ولعلنا ننجو بذلك!!
ماذا نقول -يا جماعة- في هذه النماذج؟!
وبالنسبة في الوقت الحاضر لا تكاد تجد مثلها إلا ما شاء الله، فيستغرب الإنسان على هذه الصور، وهو ليس بغريب.
جمع السلعة في إبّانها عند وفرتها، فيضعها في مخازنه حتى إذا انقطع من الأسواق إنتاجها، أخرجها وباع، فهذا تاجر يحتكر ليتحكم في المسلمين، وهو ظالم؛ لأنه يتحكم في قوت الناس، أما إذا كان يجمع ليبيع، ولا يقصد وقت الغلاء، فلا مانع من ذلك، مثلاً: حين الحصاد يجمع القمح ويبيع، وحين الجذاذ يجمع التمر ويبيع، ولكنه لو احتكر ذلك إلى الشتاء مثلاً، ليبيع التمر عندما تنفذ السلعة، ولم تبق إلا عنده، فيتحكم في السلعة عند البيع للناس، فهذا هو الخاطئ المذكور في حديث: (لا يحتكر إلا خاطئ)، بمعنى: ظالم، ويقول علماء الحسبة: للإمام أن يتدخل ويجبره على البيع بما لا ضرر ولا ضرار، وما يجعلونه من أخذ امتياز السلعة، والتحكم بها في السوق داخل في هذا الباب، أما حرية البيع والشراء فلا شيء فيه، فإذا كان يجمع الحبّ في وقته، ثم يأتي بعد انتهاء الحصاد وينزل السلعة إلى السوق، والدكاكين مفتوحة، والمستودعات مفتوحة، والبيع والشراء قائم، فلا مانع في ذلك؛ لأنه لم تتوقف حاجة الناس إلى ما في يده.
ذكروا أن رجلاً احتكر طعاماً، ثم رأى في الخريف سحابة، فخشي أن تمطر، ويزرع الناس، ويكثر الطعام، فيضيع عليه ما احتكر، فقال: أكرهت الخير للمسلمين؟! فأخرج ما احتكره، وباعه برأس ماله، دون أن يربح شيئاً.
لماذا المحتكر خاطئ؟ يبينه قصة هذا الرجل، فحينما احتكر الطعام تمنى ارتفاع السعر، وارتفاع السعر يأتي نتيجة قلة السلعة، وقلة السلعة شدة على الناس، فإذا جاء المطر، وأنبتت الأرض، وتوافرت السلعة؛ كره ذلك، فهو لا يحب المطر، بل يكرهه لما يترتب عليه من الخير للمسلمين.
والمرابي يكره أن يستغني الناس عنه، فهو يحب للفقراء الفقر والحاجة والاضطرار، فإذا سمع بأن عميله استغنى كره ذلك؛ لأنه يريده دائماً متعاملاً معه، فإذا جاء الخصب وجاء الغنى كره ذلك المرابي؛ ولهذا فإن المرابي عدو المجتمع.
فمن الناس من تكون عنده شفافية في معرفة الحلال والحرام، يرى الريبة في الشيء فيعافه، ويذكرون عن بعض السلف كـابن سيرين وغيره، أن منهم من يترك أربعين ألفاً، ومنهم من يترك خمسمائة ألف من ميراثه من أبيه؛ لأن أباه كان يعمل في عمل فيه ريبة، وأحمد بن حنبل رحمه الله أبى أن يأكل خبزاً في بيت رجل في كسبه ريبة.
وسئل عن رجل طلبته أمه أن يطلق زوجته: أيطلقها براً بأمه؟ فقال: إذا كان قد بر أمه في كل شيء، ولم يبق إلا هذا فليفعل، أما أن يبرها في طلاق زوجته ثم يضربها، فليس هذا ببر.
ويذكرون عن عبد الله بن عمر أنه جاءه أهل العراق يستفتونه في دم البعوض، فقال: واعجباً لكم! تستفتونني في دم البعوض، وقد قتلتم الحسين بن علي !
والورع قسمان:
- ورع من أهله، فهو من أهل الورع.
- وورع مصطنع مظلم، فهذا بينه وبين الله.
وهذا الحديث -أيها الإخوة- لو تدبره الإنسان وعمل به، فإنه يرسم له منهج حياته: فيما يدع، وفيما يأخذ، وفيما يتناول من طعامه وشرابه ولباسه، وفيما يتقي الله في كسبه، وقد قال العلماء في الحديث الذي قبله: لو أن إنساناً اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيه درهم واحد حرام؛ ما قبل الله صلاته في ذلك الثوب!
وذكرنا قصة الذي أمر غلامه أن يبيع السلعة بسعر يومه، فانتظر ولم يبع حتى ارتفع السعر، فكان يكفيه أن يأمره أن يتصدق بفارق السعر، ولكنه أمره أن يتصدق بالثمن كله، وقال فيما كتبه إليه: لعلنا ننجو بذلك!
هذا الحديث وإن كان موجزاً في عبارته (دع ما يريبك إلا مالا يريبك) إلا أنه يأتي على كل تصرفات الإنسان، والناس في هذا الحديث طبقات ودرجات، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
الجواب: الحديث السابق كان فيه أبحاث عديدة، ولكن خشينا أن نبدأ بها فيضيع علينا الوقت على هذا الحديث، فمن أبحاث الحديث الأول:
- آداب الدعاء.
- الزمن الذي يتحرى فيه الدعاء.
- المكان الذي يختار.
- نوع الدعاء.
وكل هذه يذكرها العلماء في مقدمات كتب الأذكار والأدعية، وهي مطروقة، وأوسع من ساق ذلك صاحب نزل الأبرار: السيد صديق خان .
ومن الذين يستجاب دعاؤهم؟
جاءت أحاديث عامة، وجاءت أحاديث خاصة، فمن الخصوص المريض والمسافر والصائم، والمسافر المراد به من سافر مطلق سفر إما سفر طاعة وإما سفراً مباحاً، وإذا كان سفر معصية فبعض العلماء يقول: ليس له حق أن يترخص برخص المسافر، فمن باب أولى أنه لا يستجاب له الدعاء، وليعلم أن المضطر مسافراً كان أو مقيماً مضمونة له إجابة الدعوة، وكذلك المظلوم براً كان أو فاجراً، حتى الكافر كما في الحديث القدسي: (إني لأنصر المظلوم، ولو كان كافراً، علم أن له رباً فدعاه)، وقال الله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] ولم يقل: باراً أو فاجراً؛ لأن المضطر عند الشدة يقلع عن اعتقاده وتعلقه بكل شيء إلا بالله سبحانه وحده، وحينئذٍ يكون مؤمناً مخلصاً في دعائه.
ومن أسباب إجابة الدعاء الإخلاص، فالإخلاص سر استجابة الدعاء، والمضطر أشد الناس إخلاصاً، هذا ما يتعلق بسؤال: من المسافر الذي تستجاب دعوته؟
الجواب: زيارة مسجد قباء ليس فيه نص على استجابة الدعاء عنده، ولكن وردت بعض الآثار فيما بين الركن والمقام، فهناك تستجاب الدعوات، وجاء في الحديث الصحيح (أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف بالملتزم ما بين الركن والباب، ملصقاً صدره إلى جدار الكعبة وهو يبكي، فقال له
ومن أسباب استجابة الدعوة: الخضوع والتذلل بين يدي الله، حتى ذكر بعض العلماء أن من آداب الدعاء أن يجثوا الإنسان على ركبتيه، وقد جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه عندما كثرت الأسئلة على رسول الله فغضب وقال: (لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم عنه) وعلم عمر أنهم أغضبوا رسول الله، فقام وجثا على ركبتيه وقال: يا رسول الله! نستغفر الله ونتوب إليه، رضينا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً. يا رسول الله! كنا في الجاهلية فلا تكشف أستارنا، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55] أي: بخشوع بين يدي الله، وهذا من آداب الدعاء.
أما الذهاب إلى قباء للصلاة فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين، كان له كأجر عمرة)، وكان صلى الله عليه وسلم يقصده ويذهب إليه كل أسبوع، وكان يصادف ذلك يوم السبت، وليس ذلك لذات السبت، ولكن كان يترقب أخواله بني النجار أن يصلوا الجمعة في المسجد النبوي، فإذا صلى وغاب بعضهم أو لم ير شخصاً كان يريد أن يراه، فمن الغد يوم السبت يذهب إلى قباء ليراهم هناك، وقال أنس : هذا المسجد لو لم يكن عندنا لاستحق أن تضرب إليه أكباد الإبل.
ومسجد قباء نزل فيه القرآن الكريم، فقال تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، فكفى بهذا شرفاً لقباء، وقد ورد أن المسجد الذي أسس على التقوى هو هذا المسجد النبوي، وقد أشرنا أن الأولوية إنما هي نسبية، فكل مسجد بني من أول يوم بنائه على التقوى خالصاً لله، بخلاف المسجد الذي يبنى مباهاة ومضارة لقوم آخرين، والله أعلم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، ونسأله من فضله، وأن يغنينا وإياكم بالحلال عن الحرام، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر