أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
وبعد:
فإن ديننا القيم كله محاسن، ومن محاسن هذا الدين القيم أنه شرعت فيه المواساة بين أبنائه ومعتنقيه والمتدينين به، ولهذه المواساة صور متعددة، فبالمواساة تتضمد الجراح وتطيب، فكل من جرح بجرح له من يواسيه، وكل من ابتلي بابتلاء وجب على المسلمين أن يلتفوا حوله، وفرضت له عليهم حقوق كي تضمد جراحه، وكي يجبر كسره.
شرعت المواساة في ديننا بصور متعددة: فهناك مواساة بالأموال، وهناك مواساة بالأبدان، وهناك مواساة بالوجاهات، وهناك صور أخر من صور المواساة كالمواساة بالتعزية وغيرها من أنواع المواساة، فلا تكاد تبتلى إلا وتجد من يواسيك ويذكرك بالله، ويسليك بحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
شرعت المواساة بالمال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (آمن بي إذ كذبتموني، قلت لكم: أنا رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال
فمن أفضل أنواع البر: أن تبحث عن الذين كان يصلهم أبوك، وعن الذين كان يساعدهم أبوك، وعن الذين كان يعولهم أبوك، فتواصل المساعدة، وتواصل المعاونة؛ جبراً لكسر هؤلاء الذين فقدوا عزيزاً عليهم، والذين يظنون أن مورداً من موارد الرزق سينقطع عنهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه بعد موته) ، فتبحث عن أصدقاء أبيك، وعن أقارب أبيك، فتصلهم كما كان الأب يصلهم.
فـأبو بكر وعمر ظنا أنها تبكي لفقدان رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان هو الذي يدخل عليها، فإذا بالذي يدخل عليها الآن رجلان آخران غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء يحزن بلا شك، ولكن ما هو سبب حزنها الأكبر؟
قالا لها: ما يبكيك يا أم أيمن ؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت أم أيمن: أعلم ذلك، والله إن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع، فهيجتهما على البكاء فجعلتهما يبكيان معها، بكت لأن جبريل الذي كان ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام فيوجه المؤمنين: يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا، يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كذا، الذي كان ينزل بما يرقق القلوب، الذي كان ينزل بما يجلي الأمور قد انقطع، فكان هذا سبب الفجيعة الكبرى لـأم أيمن ، فبكت وبكى أبو بكر وعمر معها رضي الله عنهم.
الشاهد من ذلك: قول أبي بكر لـعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فأرادا أن يعوضاها عن المصيبة التي ابتليت بها من فقدان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
كانت خديجة أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكانت من أحب الناس إليه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت تواسيه بكلماتها الطيبة في أول بعثته، كقولها: (والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتنصر المظلوم، وتعين على نوائب الحق)، وقدمت له أموالها مواساة ومؤازرة منها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها.
وبعد أن ماتت كان يكثر من الدعاء لها، وكان كلما ذبح ذبيحة من الذبائح أرسل إلى أصدقاء خديجة من هذه الذبيحة، وكان يتعاهد أصدقاء خديجة بالهدايا والعطايا، وكانت هالة بنت خويلد أخت خديجة رضي الله عنها كلما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذن، ارتاح لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقابلها بحفاوة بالغة وقال: (اللهم
غارت أم المؤمنين عائشة من ذلك، فقالت: (وما تذكر يا رسول الله! من عجوز حمراء الشدقين -أي: قد تساقطت أسنانها فأصبح مكان الأسنان حمرة- هلكت في غابر الدهر، أبدلك الله خيراً منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رزقني حبها) وفي روايات أخرى (واستني بمالها، وواستني وواستني وفعلت وفعلت) فهذا من حسن عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفعله المعروف بأصدقاء خديجة رضي الله عنها.
حتى إن عمر رضي الله عنه حين كان يقسم الغنائم والعطاءات كان يقدم البدريين في القسمة على من جاء من بعدهم، وكل بحسب سبقه للإسلام؛ فجاء عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد كي يأخذا عطاءهما، فأعطى عمر أسامة بن زيد أكثر من عطيته لابنه عبد الله بن عمر، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يا أبت! إن أسامة لم يسبقني بمشهد في الإسلام، ولم يسلم قبلي، ولم يسبقني بغزوة من المغازي، فلمَ فضلته عليّ يا أبي؟!
قال عمر: يا بني ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحبه أكثر منك، وكان يحب أباه أكثر من حبه لأبيك؛ فلذلك فضلته عليك!
فواصل عمر رضي الله عنه مسيرة المودة لـأسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.
واقعة أخرى في شأن آل زيد بن حارثة ، كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جالساً في المسجد، فرأى شاباً يجر ثوبه ويمشي في المسجد، بطريقة فيها نوع من الفخر لا يكاد يذكر.
الشاهد: أنه قال متغيظاً عليه رضي الله تعالى عنه: من هذا الفتى؟ ويهم ابن عمر رضي الله عنهما أن يقول له قولاً شديداً، فقالوا له: هذا هو أيمن بن أسامة بن زيد ، فنكس ابن عمر رأسه في الأرض، وقال: لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبه، وأعرض ابن عمر عن الانتقاد الشديد الذي كان سيوجهه لـأيمن بن أسامة بن زيد ، مواصلة لمسيرة المحبة لأهل زيد التي بدأها رسولنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
المواساة مشروعة في ديننا بصور أخر، فجعلت التعزية من حقوق المسلم على أخيه المسلم، والصحيح أنها لم تقيد بزمن، ولم تخصص بوقت، فحديث (لا عزاء بعد ثلاث) لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد ورد ما يعكر عليه، ألا وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل جعفر أمهل ثلاثاً، ثم ذهب إلى أهل بيته يعزيهم، فذهب إلى أسماء بنت عميس وكان عليه الصلاة والسلام يمسح على رءوس أطفاله اليتامى، ويطمئنهم ويطمئن أمهم.
فأمهم تبكي وتخاف عليهم العيلة، أي: الفقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مطمئناً لهذه الأرملة آنذاك (أتخشين العيلة عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة) ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن جعفر دعوة بقيت له طيلة حياته، قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم بارك لـ
فلزاماً علينا أن نواسي من ابتلوا بفقد أبيهم، نواسي الأيتام الذين فقدوا أباً عزيزاً عليهم، كان يدخل عليهم في يومه بما رزقه الله من فاكهة وطعام وشراب فحرموا هذا العطاء، فلابد لهم ممن يواسيهم وهذا من محاسن هذا الدين القيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) وأشار عليه الصلاة والسلام بالسبابة والوسطى.
فليوصل كل من ابتلي، وليعز كل مصاب، وليعد كل مريض، شرعت عيادات المرضى، وشرعت التعازي في الجنائز، وشرع الرفق بالأيتام والحنو عليهم، وشرعت الشفقة على الأرامل؛ شرع كل ذلك تخفيفاً للجراح التي يبتلى بها العباد، وقد أثني على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا كله في جاهليته قبل أن يبعث عليه الصلاة والسلام، يقول أبو طالب في شأن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يواسى الفقراء كما واسى المهاجرون الأنصار؛ قدم المهاجرون إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لهم في بلادهم بيوت، وكانت لهم في بلادهم أموال ودور، لكنهم تركوا ذلك كله مع محبة شديدة له، فتركوا الديار وفارقوا البلاد مع حبهم الشديد لديارهم وبلادهم، دل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من مكة، وهو واقف على جبل الحزورة ينظر إليها والدمع يذرف من عينيه على وجهه وخديه، يقول لها: (والله يا مكة! إنك أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت) ثم يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
لكنهم وجدوا من يواسيهم، وجودوا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبونهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، بل وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] حتى قال سعد بن الربيع لـعبد الرحمن بن عوف: يا عبد الرحمن ! انظر إلى أي زوجتي هاتين أعجبتك حتى أنزل لك عنها فتتزوجها! وقال: يا عبد الرحمن ! إني رجل كثير المال فهلم أقسم مالي بيني وبينك نصفين!
صور من المواساة افتقدها أهل الإسلام في هذه الأزمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأشعريين وهم قبيلة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم، جمع كل منهم ما عنده من طعام، ثم طرحوه، ثم اقتسموه بينهم بالسوية فأنا منهم وهم مني) (إذا أرملوا في الغزو) أي: قلَّ زادهم، وقلَّ طعامهم، (جمعوا ما عندهم من طعام)، فكل يأتي بالقليل أو بالكثير الذي عنده، صاحب القليل يأتي بقليله، وصاحب الكثير يأتي بكثيره، ثم يطرحونه جميعاً في مكان واحد، ثم يقتسمونه بينهم بالسوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهم مني وأنا منهم).
هذه صور من صور المواساة يجب أن تتفشى فيما بيننا، ويجب أن ندفع الشح عن أنفسنا، فلنعد إلى حياتنا ما فقد من سيرة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن سير أصحابه الكرام، ألا فاستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر