فالرجولة أصل عظيم من أصول التربية على هذا الدين والإيمان به والدعوة إليه، وإنه حيثما توجد الرجولة، وحيثما تكون البطولة، فإنه يكون عزالدين ومنعته، وغلبة الحق وقيام الدعوة إلى الله، وإحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويجب أن نفرق بين مجرد الذكورة وبين الرجولة؛ فإن الله عز وجل خلق الزوجين الذكر والأنثى، فجعل بني آدم زوجين إما ذكر أو أنثى، لكن ليس كل الذكور رجالاً.
يكفيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مواقف الرجولة أن يقف وحده، والناس كلهم قاموا ضده، وأن يدعو إلى الله ويحطم الأصنام جميعاً، ترتجف قلوب ملوك الروم والفرس منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يجف مداد صلح الروم بعد! كما ثبت ذلك في الصحيح وفي قصة هرقل.
أية رجولة هذه التي عُلِّمَها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه، وخَلَقَه وَجَبَلَه عليها، ثم عَلَّمها أصحابه من بعده صلوات الله عليه وعليهم أجمعين؟! أية رجولة أعظم من قيامه على الصفا لينذر عشيرته الأقربين؟! ثم ذلك الموقف الشجاع العظيم الذي وقفه في هجرته.
مواقفه العظيمه في الجهاد في سبيل الله إذ يخبر أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لولا أن يشق عليهم لما بقي خلف سرية تخرج في سبيل الله، ولما تخلف عنها قط!! وقال أصحابه رضوان الله عليهم [[كنا إذا حمي الوطيس (اي اشتدت المعركة) احتمينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]] وقد تمثل هذا الأمر يوم حنين إذ أقبلت هوازن وما أدراك ما هوازن؟! وقد أعدت وأجلبت؛ حتى قال بعض مسلمة الفتح ممن لم يتمكن الإيمان في قلبه: لن يردهم اليوم إلا البحر! وقال الآخر: بطل السحر اليوم! ومع ذلك وقف -صلوات الله وسلامه عليه- وقد كاد أن يتولى أكثر المسلمين، وقف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ينادي: يا أصحاب بدر! يا أصحاب الشجرة! حتى اجتمعوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ثابت في مكانه، ثم تحولت المعركة لصالح المسلمين، وانتصروا بفضل الله.
وهناك مواقف عظيمة في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة أصحابه الكرام في اليرموك، والقادسية، ونهاوند، وغيرها، لا تعد ولا تحصى، ولكننا سنضطر أن نتجاوزها كلها، لنتحدث عن أمر يجب أن يتنبه له المربون والدعاة الوعاظ فيما يتعلق بالرجولة، وهو من أين تنبع الرجولة؟ وأين توجد الرجولة؟ وكيف نربي في شبابنا الرجولة؟ كل منا يوصى ابنه كل يوم (كن رجلاً) (نريد أن تكون رجلاً) باختلاف اللهجات والمقصود منها واحد؛ فأين يكون محضن ومهد هذه الرجولة؟ وكيف نربيها؟ وكيف ننميها؟
لو أن كل واحد منا صحب أبناءه إلى المسجد لوجدنا أن أكثر من ثلاثة أرباع المسجد من الأطفال أو الشباب! أليس كذلك؟! إذا كان كل منا عنده أربعة أو ثلاثة أو اثنان أو خمسة، فيكون الأكثرية كذلك، فينطبق عليهم أنهم رجال، كيف خرجوا من الطفولة إلى الرجولة؟ هل هو بالانتقال إلى المرقص أو الملهى أو الملعب؟ لا والله؛ بل هو بالانتقال من البيت إلى المسجد، ينتقل هؤلاء من وصف الطفولة إلى وصف الرجولة كما دلَّ عليه كتاب الله.
إذن الرجل -أولاً- يتلقى مبادئ الرجولة من المسجد، انظر إلى من تراه رجلاً بجثته؛ لو قلت له: قم أمام الجماعة في قرية فقط وألقِ كلمة، أو تقدم صل بالناس (وهو مجرد ذكر ليس برجل) يخاف ولا يستطيع!! لكن لو أتيت إلى رجل من هؤلاء الرجال -حفظة القرآن- فإنه يتقدم ويصلي بنا ويقرأ الأجزاء الطويلة! أليس هذا رجلاً؟! هذه الرجولة من أين تعلمها؟ من المسجد، ولو قلت له: قم اخطب الجمعة، لقام وخطب! وهكذا تربى الصحابة الكرام على هذه الرجولة، وتنافسوا فيها.
وأبناء الصحوة الإسلامية المباركة كل من كان في ميدان من ميادين العلم والجهاد والدعوة، هؤلاء يجب علينا -نحن المربون- أن نعيد فيهم هذه الرجولة، ونربيهم على هذه الرجولة؛ إذ لا رجولة غيرها، وكل ما عداها فهو لهو، وعبث، وتضليل، بل ربما كان فتنة لهم، بل ربما كان إخراجاً لهم من دينهم وإيمانهم وعقيدتهم؛ فالرجولة إنما تنمو إذا اقترنت بإحياء المساجد، وبإقامة الدين، وبتحفيظ كتاب الله تبارك وتعالى، وبالأمر بالمعروف، وبالنهي عن المنكر، وبالدعوة إلى الله عز وجل، هنالك يكون محضن الرجولة، وهنالك يصبح الصغير رجلاً، ويصبح بطلاً؛ كـمحمد بن القاسم، وطارق بن زياد، وأمثالهما من الفاتحين الذين فتحوا أمماً عظيمة، وهم في سن لا نقارنه ولا نقيسه إلا بشباب ما يسمى بالثانوية!
فتتلقفهم المدرسة، أليس حراماً أن يمضي الطفل اثنتي عشرة سنة: ست في الابتدئية، وست في متوسط وثانوي، ثم يتخرج ولا تستطيع أن تصفه بأنه رجل! سبحان الله! أية تربية هذه؟! أين كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يربون؟! اثنتي عشر سنة كفيلة أن تحوله إلى طاقة، إلى شعلة، إلى قائد، إلى مجاهد، إلى عالم، إلى مفتٍ، إلى محدث، إلى فقيه، إلى نحوي، إلى لغوي..، واقرءوا سير العلماء، في أي سن كانوا عندما بلغوا مبلغ الفتوى، والعلم، والحفظ، والجهاد، والدعوة؟!
أي ظلم يُظلَمُه الفتى المسكين؟! الذي ولد وله نفس العقل الذي كان لأولئك، وفي نفس البيئة، ولكنه ظلم بأن يظل يدرس، ثم يدرس، وتمضي عليه هذه السنوات، ثم لا يكون مستحقاً أن يقال عنه رجل إلا القليل! وقد يقال: إنه ربما يعوض ذلك الإعلام، وربما يعوض ذلك المجتمع؛ وأظن أن الحديث في الإعلام أصبح من الكلام المكرر، والكلام فيه أشبه باللغو؛ لأنه لا يمكن أن يربي على خلق ولا على فضيلة ولا على جهاد، ولا تربى عليه نشء إلا نشأ في أودية أخرى!! لا نريد أن نتحدث عنها أصلاً؛ لأنها بعيدة عن الله واليوم الآخر والدار الآخرة، فهي لن تربطه بالله ولا بتقوى الله ولا بطاعة الله!
إن قلب المجتمع النابض، إن حقيقة المجتمع، إن انتماء المجتمع مرتبط بأصل أصيل وركن ركين، وهو فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] إنه مرتبط بالمساجد هذا هو الأصل، وهذا هو المنطلق فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108] سبحان الله! هكذا الرجولة، الرجولة مرتبطة ببيوت الله، بالطهارة، بالبيوت التي أسست على تقوى من الله، والتي رفعت بذكر الله، والتي هي لله عز وجل.
وهكذا كان الصحابة الكرام، من أين تخرج العلماء الذين درسوا على يد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس رضي الله عنه، والذين حفظوا هذه الآلاف المروية عن أبي هريرة رضي الله عنه الدوسي الجهراني ومعاذ؟ أين تعلموا؟
ثم العلماء من بعدهم الإمام أحمد ومالك والشافعي، وأولئك الأئمة الأعلام في الحديث وغيره، حتى اللغويون (علماء اللغة) أين كانوا يعلمون اللغة؟ سبحان الله! كل شيء كان ينطلق من المسجد! ولهذا نقلل من قدر المسجد جداً إذا سميناه جامعة! مع أن جامعاتنا ومعروفة الآن! ومعروف ماذا تخرج!! فلا أريد أن أقلل من شأنه، وأقول: "كان جامعة" إلا على سبيل التجوز، يؤخذ فيه كل أنواع العلوم فهو جامع وجامعة، ومقر قيادة، وإمارة، وحكم، ودعوة إلى الله عز وجل.
أين المربون، والمعلمون، والمفتون، والموجهون؟! أم أن المسجد للصلاة فقط؟! وحتى هذه قصرنا فيها!! نصلي مع تأخرٍ أحياناً أو تقاعس وتخلف، نصلِّى فيها ثم تقفل سبحان الله! ولذلك يعشعش في الأذهان ما يريد العلمانيون والمفسدون أن ينشروه من أن الدين لا علاقة له بالحياة، إذا كنت متديناً فصلِّ واخرج، وبعد ذلك إن أردت الربا فتعامل به! وإن أردت الاختلاط فهو ميسر! وإن أردت اللهو واللعب فله مجالاته! وله ميادينه ومؤسساته! أي لا يمكن أن تظل متديناً أو مرتبطاً بهذا الدين إلا بالارتباط بالمسجد!! والبعض لا يأتي إلا يوم الجمعة!! فبالله عليكم أية رجولة في أمة هذا حالها؟! إنها أبعد ما تكون عن حقيقة الرجولة؛ فيها ذكورة، ولكن الرجولة فيها قليل، هذا حالنا، وهذا حال مساجدنا؛ عندما حصرنا الدين بمعنى واحد هو جانب من جوانبه، وحصرنا عمل المسجد في ذلك، ثم نرجو خير الدنيا والآخرة!! كيف يأتي خير الدنيا من المطر والنعمة والغيث ودوام المال والرفاهية والصحة؟! وكيف نريد الجنة، ونريد الفوز برضا الله، ونريد أن نرى وجه الرحمن تبارك وتعالى، وهذا مقام بيوت الله عندنا؟!
والله! إن من يقم المسجد هو خير عند الله ممن يسكن القصور في معصية الله عز وجل! لكن كيف نعرف؟! مشكلتنا أننا كبَّرنا وعظَّمنا الدنيا وأهلها، وأصبحنا نتفاخر، يقول الله في القرآن: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] زينة وتفاخر وتكاثر!! وأصبحنا نقول: فلان عنده وعنده!! ومات فلان صاحب الأموال والمؤسسات وصاحب الملك! لكن لو مات واحد من السودان كان ينظف المسجد، قلنا: الله يرحمه، قال: ماذا كان عمله؟ وماذا كان عنده!
والله لو أعدنا المعايير الشرعية كما في كتاب الله وكما تربى عليها الصحابة، لعظمنا بيوت الله، وعظمنا كل شيء يتعلق ببيوت الله عز وجل، يكفي أنه: { من بنى مسجداً لله كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة} الله أكبر، بيت في الجنة! سبحان الله بيوت الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، الشجرة فيها يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها!! هذه بيوت الجنة! لو عُظِّمت بيوتُ الله، لبنيت ورفعت وشيدت، كيف ترفع؟ ترفع حساً وترفع معنىً؛ أما رفعها حساً، فتكون أجمل وأنظف وأفضل، بشرط أن يخلو ذلك عن الأمور التي قد تدخل في المكروه والبدعة، ولكن تعظم ويختار لها الموقع المناسب، فيختار لها البناء الجميل والفرش الممتاز، وكل ما يخدم المرافق والمصالح والمنافع التي تتعلق بها، ثم ترفع معنىً (وهو المهم) ترفع في القلوب، وتعظم، ويُجلُّ كلُّ من كانت حياته وقيمته مستمدةً من هذا المسجد، وفي هذا المسجد؛ من جاء ليعلم أو يتعلم، من جاء ليعظ أو يستمع لذكر الله ويُوعَظ، فهذا هو الذي نحبه وهذا هو الذي نعظمه، وهذا هو الذي نقدره؛ كما عَظَّمَ صلوات الله وسلامه عليه شأن هذه الجارية ولم يستهن بعملها.
أكثر ما يشغل بال الشباب الزواج! ولا سيما مع هذه المصائب والفتن والمغريات والملهيات والمثيرات التي تريد أن تقحمهم إقحاماً في الرذيلة، والدعاة المضلون كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {دعاة على أبواب جهنم} ينعقون في كل إذاعة ومنبر ومجلة وصحيفة يريدون أن يغروهم بالرذيلة، هؤلاء الشباب ألم يفكروا في الجنة وما فيها من الحور العين؟ ألم يسألوا، ما هو مهر الحور العين؟ ألم يعلموا أن كنس قمامة المسجد هو المهر؟! كنس القمامة من المسجد هو مهر الحور العين، لماذا؟ هب أنني شاب نظيف ولا أريد أن أظهر أمام الناس إلا بأنظف مظهر، ولكنني من أجل بيت الله أذللت نفسي! ولكن لمن؟ لله، أما غير الله فلا نذل له، نذل لله ولكل من أمرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن نذل له من الطاعة، والمراد به وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا أتيت لأقم المسجد فأنا بهذا العمل أدفع مهر الحور العين.
ولذلك من عرف الله عز وجل، ومن عرف الجنة، والنار، ومن عرف قيمة ذكر الله، فليسابق إلى مثل هذه الأمور، إلى التنافس لإحياء بيوت الله، وإعمار بيوت الله، وإحياء ذكر الله تبارك وتعالى في كل مكان، أن يرفع النداء!! النداء الذي نسمعه، ولكننا نغفل عن معناه! من منا لا يسمع (الله أكبر)؟! من منا لا يسمع: (أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة وحي على الفلاح؟!) نسمعها لكن هل تدبرنا ووعينا معناها ومدلولها في حياتنا؟! كيف نقول: الله أكبر، ونسمع الله أكبر، ونأتي إلى بيت الله، ثم لا نُعظِّم بيت الله، ولا من دعا إلى الله، ولا من قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مِن أبنائنا وممن يُعلِّم أبناءنا، لا لذاته ولا لشخصه، ولكن لارتباطه بهذا الدين، لأنه يدعو إلى الله وهو أكبر تبارك وتعالى من كل شيء؟!
يجب أن يكون كل ارتباط في سبيل الله، وكل ما أريد به وجه الله أكبر عندنا من كل شيء، وأعظم من كل شيء! نحب أبناءنا إذا حفظوا كتاب الله، من يحفظ شيئاً من القرآن، يكون أحب الناس إليك في القرية أو في المدينة!
وكذلك من يدعو إلى الله، ومن يعظ، ومن يذكر، تحبه لله، وفي الله، يرتبط قلبك بقلبه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الأرواح جنود مجنده، ما تعارف منها ائتلف، وماتناكر منها اختلف}، يراك فيشعر أنك تحبه، وتشعر أنه يحبك؛ لأنه من جنود الله، ولأنه من أولياء الله، ولأنه ممن يأوي إلى بيت الله، ولأنه ممن يرفع ويعظم شعائر الله، هكذا يجب أن تكون أواصرنا القلبية، ومن هنا تعود إلينا البطولة فيصبح طفلنا وذكرنا وأنثانا وشاعرنا وفقهينا وعالمنا ونحوينا كلهم في ميزان واحد، وهو ميزان التقوى، ويصبح لهذه الأمة معنى آخر، وتنال موقعاً لا تستطيع أن تناله أية أمة في التاريخ.
أبشركم وأطمئنكم أنه لا يدعو أحد إلى الله خالصاً من قلبه، مجتهداً في النصح لهذه الأمة، يريد لها الخير إلا ويلقي الله تبارك وتعالى محبته في قلوبها! هذه قاعدة! وهذه من أسرار القلوب التي لا تدخل تحت أنظار أهل الموازين الدنيوية، ولا يستطيعون أن يدركوها، بل هم أنفسهم يعجزون عنها، لماذا؟ لأن سرها عند الله عز وجل، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إن الله إذا أحب عبداً، نادى جبريل عليه السلام ياجبريل، إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض )
وأنت بحسك البسيط، وبنظرتك الأولية، انظر إلى وجوه اجتمعت على ذكر الله في بيت من بيوت الله، من القسمات من التعبيرات والعيون ترى الصفاء والخير والنور!! ثم انظر إلى وجوه قوم اجتمعوا على غير ذلك! ماذا تجد؟! المؤمن ينظر بنور الله، وغير المؤمن لا يستطيع أن يميز، لا يستطيع أن يرى؛ لكن الذي آتاه الله البصيرة والفراسة يميز بين الوجوه.
والله! إذا عرض عليك اجتماع تستطيع أن تقول هؤلاء يجتمعون على ذكر الله! أو تقول: هؤلاء يجتمعون على معصية الله! لماذا؟ لأن كل إناء بما فيه ينضح، لأن القلوب وما يعتلج فيها يظهر على صفحات الوجوه!! هذا سر أودعه رب العالمين لا يستطيع أحد من الناس أن ينفك عنه، بل السعيد من اكتشفه، ومن عرفه، ومن آتاه الله البصيرة، لكي يدركه ويستمتع به ويحمد الله تبارك وتعالى على هذا.
حدثني أحد الإخوة من الدعاة، فقال: ذهبت إلى منطقة من مناطق المملكة، فدخلت إلى محل غناء لأعظ صاحبه، فإذا بفلبيني نصراني يريد شريط لـكات استيفن، والكآبة تخنقه، فقُلت له: هل تعرف استيفن؟ فقال: نعم، فقلت: أتدري ما حصل له؟ قال: لا، فقلت: أسلم، قال: فأنا مسلم من الآن، ولا يدري ما هو الإسلام وذلك من شدة إعجاب الناس به! يوسف إسلام لما سئل: كيف شعورك؟ قال: لا أستطيع أن أعبر إلا أن أقول: إنني كنت في ظلمات بعضها فوق بعض، وخرجت إلى نور لا نهاية له. سبحان الله!! الليلة الواحدة بملايين الجنيهات وبمئات الألوف من الجنيهات، والجماهير تعلق صورته على الصدور وفي كل مكان، وصاحب الدخان يقول: ضع سيجارة شركتي في فمك فقط وخذ كذا ملايين! وصاحب السيارة يقول: قف جوار السيارة، وضع يدك عليها، لنأخذ لك صورة وخذ كذا ملايين.
أدنى حركة يمكن أن يتحدثوا عنها؟! كيف حذاؤه! وهل يحب البطاطس؟! هل يأكل البيض؟! كل فعل يريدون أن يعرفوه! يعبدونه كما يعبدون الأصنام!! وهو يقول: والله مع هذا الشعور عند الناس، أنا أحتقر نفسي وبعد أن يغني يذهب إلى البيت لينعزل عن الناس كلهم بنفسه، يشعر بالنقص والاحتقار!
ومن النماذج: امرأة أوروبية مشهورة، وإن كانت لم تسلم بعد، ونحن ما نزال في تواصل معها لتسلم ولكنها اعتزلت الفن كلياً؛ تقول: كلما أرجع إلى أي فيلم من أفلامي أقول: كم كنت سخيفة جداً عندما أمثل هذا! وكم قالت لي ابنتي الصغيرة أما كنت تستحين يا أماه وأنت تمثلين هذا الدور؟! سبحان الله!
إن المضيع للصلاة ولطاعة الله يبخل حتى على أبيه وعلى أمه بالريال أو بالدرهم، فإذا جاءه الصاحب في الخبث والفجور، يدفع ويتبرع ويستدين وأكثرهم مَدِين من أجل اللهو والفساد! لا ينفقه على أهله وأولاده!! بل يضيعهم ويحرمهم من ضرورات الحياة من أجل متعة محرمة، أين الرجولة؟! لا عرض، ولا غيرة، ولا مسئولية، ولا كرم! أين الرجولة؟ إنهم يفقدون حتى معاني الرجولة المعروفة لدى الجميع والبدهية لدى الجميع، والتي هي أقل من الرجولة الحقيقية التي يعرفها المؤمنون.
إن الهلال إذا رأيت بدوه أيقنت أن سيصير بدراً كاملا |
ويقول الآخر: أول الغيث قطرة؛ فأصبحنا نرى من أبناء أمتنا من تخرج وتعلم، وإذا به منارة في منطقته وفي قريته! وإذا الناس كلهم -شيخ القبيلة أو شيخ القرية والأمناء والإمام والناس- يحبونه بينما تراهم يكرهون ذلك الفاجر العاصي الذي يتبع اللهو واللعب، ويرتكب ماحرم الله.
لكن يحتاج الخير منا إلى دعم، وإلى تشجيع، وتأييد، ومساندة، وأن نشترك في الخير، ونتسابق إليه، ونتنافس عليه، كل منا بقدر ما يستطيع، من لم يجد إلا الدعاء فليدع، فليحب الدين والخير والصلاح والإيمان والتقوى والفضيلة، وحفظة كتاب الله عز وجل، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أَحِبَّهم، ادعُ الله لهم؛ فهذا وحده خير عظيم.
وإن استطعت أكثر من ذلك فافعل، لماذا؟ لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، ومقام الرجولة يقتضي منك أكبر من ذلك، لكن أقل شيء أن تحبهم، وأن تدعو لهم، وأن تعلم أبناءك، وأن تغبط من الآباء كل من كان ابنه حافظاً لكتاب الله ومقيماً لحدود الله.. نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر