أنتقل إلى الإمام الثاني المبارك سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه.
الإمام مالك هو إمام دار الهجرة، وهو الإمام الثاني من الأئمة الأربعة حسب الترتيب الزمني، وتقدم معنا أن الإمام ابن عبد البر في الانتقاء قدم الإمام مالكاً، وثنى بـالشافعي، وثلث بسيدنا أبي حنيفة، وقلت: لا غضاضة عليه في ذلك، فهو إمام مذهبه، والإمام ابن عبد البر في التمهيد وفي الاستذكار يقول: ينبغي لطالب العلم أن يحرص على العلم الذي يفشو في بلده، والمذهب الذي يفشو في بلده فيحرص عليه، يقول: هذا ليس بمنقصة ولا عار، فلا يخرج عن المألوف المعروف مما هو شرعي.
فمذهب الإمام مالك ينتشر في بلاد المغرب، وهو مذهب شرعي معتبر، فلا ينبغي لطالب العلم هناك أن يقول: أنا سأبحث في مذهب أبي حنيفة وأنشر مذهب أبي حنيفة! هذا ليس من الحكمة، وسيقع تشويش بينه وبين العامة الذين يدينون الله بها المذهب الذي أصوله وفروعه شرعية، فيقول: هذا ليس بعار، مما يطلب من طالب العلم أن يعتني بالعلم الذي عليه شيوخه، والذي هو في المكان الذي هو فيه، ما يفشو من العلم يتعلمه.
إذاً: قدم الإمام مالكاً لأنه إمام مذهبه، وثنى بالإمام الشافعي تلميذ ذلك الإمام، وثلث بالإمام أبي حنيفة رضي الله عنه من أئمة الإسلام الكرام، فأورد هؤلاء الأئمة الثلاثة في الانتقاء، هذا وجه للتقديم، وهناك وجه آخر:
وهو أنه جرت عادة أئمتنا إذا ذُكر عدد من أئمة الإسلام من بقاع مختلفة، أنهم يقدمون العالم الذي هو من المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، إجلالاً لنبينا عليه الصلاة والسلام كيفما كان حال هذا العالم، سواء تقدم في السن أو تأخر، تقدم في الرتبة أو تأخر، وهذا ما فعله الإمام الشاطبي في الشاطبية حينما قدم نافعاً المدني، مع أن عبد الله بن عامر إمام أهل الشام أكبر منه سناً، وهو من التابعين الكرام، وهو شيخ نافع ، فكان الأولى أن يتقدم عليه؛ بل ينبغي أن يتقدم القراء السبعة، فهو أقدمهم سناً، لكن بدأ بـنافع وثنى بـابن كثير؛ لأن هذا مدني، وذاك مكي، كما قال:
فأما الكريم السر في الطيب نافع فذاك الذي اختار المدينة منزلا
فبدأ به إجلالاً لنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فمن هو من علماء المدينة يقدم، وهذا ما فعله أيضاً الإمام ابن عبد البر بهذا الملحظ، فعالم المدينة يقدم، ويليه عالم مكة الذي هو يمني مكي سيدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، فثنى به كما فعل الإمام الشاطبي تماماً، ثم بعد ذلك ختم بسيدنا أبي حنيفة، هذا أيضاً توجيه سديد رشيد، اعتنى به الإمام ابن عبد البر ، مع تقديمه لإمام مذهبه، فلا حرج ولا غضاضة.
وتقدم معنا ثناؤه على سيدنا أبي حنيفة واعترافه بقدره ومرتبته، ورده على لغط اللاغطين، وتشويش المشوشين، وهو الإمام المالكي المذهب كما تقدم معنا، فهذه هي الديانة، وهذا هو الدين رضي الله عنهم أجمعين.
ومحمد بن إسحاق ما قصر، لكن محمد بن إسحاق كما قال أئمتنا نزَّل من منزلته عندما تكلم على سيدنا الإمام مالك، وأما كلام الإمام مالك فما نزل من منزلته، إنما نزل من منزلة محمد بن إسحاق، بقى الإمام مالك مكانه، قال أئمتنا: هذا زلل، لكن محمد بن إسحاق كان ينبغي أن يقف عند حده، فهو دون الإمام مالك، وحتى لو قال فيه ما قال، كان الأولى أن يقول: أنت سيدنا وعالمنا، ولك علينا ذلك، كيف تقول: إني دجال من الدجاجلة! أما أن يقول: ائتوني بكتب الإمام مالك، وبما يحدثكم به مالك، فأنا بيطاره! هذا كلام لا ينبغي، يقول: ما يقوله الإمام مالك اعرضوه علي، فأنا البيطار، والبيطار هو الذي يتعهد الدواب ويروضها، ويقوم على ترويضها، هذا في الحقيقة غلط شنيع من محمد بن إسحاق، لكن هذا هو الضعف البشري، يغفر الله لنا ولهم أجمعين.
قال الخطيب البغدادي كما في السير في الجزء السابع صفحة ثمان وثلاثين: عاب جماعة من أهل العلم في زمان الإمام مالك، عابوا على الإمام مالك إطلاق لسانه في قوم معروفين بالصلاح والديانة والثقة والأمانة. قال الذهبي معلقاً على كلام الخطيب: كلا ما عابهم إلا لأنهم عنده بخلاف ذلك، وهو مثاب على ذلك، وإن أخطأ في اجتهاده. يعني وإن أخطأ في الكلام وقسا فهو مثاب، اجتهد وأخطأ، لكنه عابهم بما فيهم على حسب ظنه، ظن أن فيهم هذه الخصلة فتكلم بما تكلم فيهم.
وتقدم معنا أن هشام بن عروة أيضاً طعن في محمد بن إسحاق، وهذا ما اعتمده الإمام مالك في الطعن، وهو يقول ويحدث عن فاطمة بنت المنذر، زوجة هشام بن عروة، فأخذته الغيرة وقال: كيف؟ من أين اجتمع بزوجتي؟! هذا كذاب يكذب، ما روى عن فاطمة بنت المنذر، فالإمام مالك ضم هذا إلى ما عنده وهو أنه يطعن في نسبه فيعتبره من الموالي، فقال: هذا دجال من الدجاجلة! يغفر الله لنا ولهم، هو مخطئ، لكنه مثاب ومعذور، ورحمة الله واسعة، وتقدم معنا قول الذهبي: ما ادعى محمد بن إسحاق أنه رأى فاطمة بنت المنذر، فـهشام بن عروة بار في يمينه أن محمد بن إسحاق ما رأى زوجته، ومحمد بن إسحاق صادق في الرواية عنها، فليس من شروط الرواية أن يراها، ولا أن يخلو بها، ولا أن يمسها، يقال: سمعنا من عدة نسوة وما رأينا واحدة منهن، وهكذا كان التابعون والصحابة المباركون يروون عن أمنا زوجة نبينا الميمون على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وما رأوا صورتها، لكن كما قلت حصل ما حصل، وهو ضعف بشري، ووقع هذا الزلل، فاطرحه واستغفر الله للطرفين.
يقول: وهذان الرجلان كل منهما قد نال من صاحبه -هذا يقول: أنا بيطاره، وذاك يقول: دجال من الدجاجلة- لكن أثَّر كلام مالك في محمد بعض اللين، محمد بن إسحاق أثر فيه كلام مالك، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة، كلام محمد بن إسحاق ما أثر في الإمام مالك ولا ذرة، كلام المفضول دائماً فضول يطرح، وكلام الفاضل يؤثر حقيقة، وارتفع مالك وصار كالنجم، والآخر له ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام، فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيه فإنه يعد منكراً، هذا الذي عندي في حاله والله أعلم، وهذا هو الذي عليه أئمتنا رضي الله عنهم وأرضاهم.
إخوتي الكرام! مثل هذا يقع بين البشر، ونحن نعيش في دنيا، والدنيا فيها ما فيها، وإذا وقف الإنسان على شيء من ذلك فليعلم الضعف البشري والقصور الإنساني، يستغفر للقائل وانتهى الأمر، وما يسلم أحد من غضب وهفوة وزلة، وهذا حال البشر، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، ورحمة الله واسعة، ونسأل الله أن يرحمهم بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام! إذاً: للإمام مالك صلة بتيم من قريش، صلة حلف لا صلة ولاء، فليس هو ولا أحد من أصوله كانوا أرقاء وحُرروا من قِبل تيم من قريش رضي الله عن المسلمين أجمعين.
إخوتي الكرام! طلب سيدنا الإمام مالك العلم وهو صغير، وكان عمره بضع عشرة سنة، فوق العشر ودون العشرين، وما جرى عليه قلم التكليف بعد، وتأهل للفُتيا، وجلس للإفادة وله عشرون سنة، صار يفتي وعمره عشرون سنة، وحدَّث عنه جماعة وهو شاب طرير، وقصده الناس من سائر البلدان، ولا زال في ريعان الشباب رضي الله عنه وأرضاه، قال الإمام ابن عبد البر في الانتقاء صفحة خمس عشرة: الذين روَوا عن الإمام مالك أكثر من أن يحصروا، رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد جمع الإمام الدارقطني جزءاً في الرواة عن مالك فبلغوا قرابة الألف ممن رووا عن الإمام مالك الفقه والحديث، كالموطأ وغيره رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال الإمام مالك: لقيت مرة محمد بن شهاب الزهري رضي الله عنه وأرضاه وهو راكب على بغلته، فأخذت بلجام البغلة، فحدثني حديثاً طويلاً -وأخشى أن يكون حديث أم زرع الذي يأخذ ثلاث صفحات، وفيه عجائب وغرائب- قال: فتفلت علي منه بعض كلمات، قلت: أعده علي يا إمام! فأبى، فقلت: أما كنت تحب أن يعيد عليك الشيوخ إذا توقفت في كلمات، يعني كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94]، فهذا الحديث الطويل وأنا واقف وأنت راكب على البغلة، وفي الطريق وحدثتني بحديث صفحات، بعض كلمات ما ضبطها، أعد علي الحديث مرة ثانية وأُسمعك إياه كما حدثتني، قال: فأبى، قلت: أما كنت تحب أن يعاد عليك الحديث؟ قال: بلى، قال: فأعاد علي الحديث فأسمعته إياه ففرح، رضي الله عنهم وأرضاهم، هذا حفظ عجيب -إخوتي الكرام- كان عند هذا الإمام المبارك سيدنا الإمام مالك، هذا أمر ما يتعلق بنسب الإمام مالك وولادته وشيء من طلبه للعلم.
وقال الشافعي أيضاً رضي الله عنه وأرضاه كما في الانتقاء وغيره: الإمام مالك معلمي. فقد تعلم ودرس عليه، والإمام الشافعي لما جاء ليدرس على الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه وما كان قد ناهز الاحتلام بعد، كان عمره أربع عشرة سنة، فقال له: أحضر من يقرأ لك، وما جاء إليه إلا بعد أن حفظ الموطأ، قال: يا إمام! أنا أحفظ الموطأ، قال: اقرأ، فلما قرأ دُهش الإمام مالك أيضاً، وقال: إن يكن أحد يفلح فهذا الغلام، فاعتنى به الإمام مالك اعتناء عظيماً.
قال الشافعي: الإمام مالك معلمي وعنه أخذت، فما أحد أمَنَّ علي من الإمام مالك، وكان يقول: الإمام مالك وسفيان - يريد به سفيان بن عيينة - قرينان، ولولاهما لذهب علم الرجال. مالك كان في المدينة المنورة، وسفيان في مكة المكرمة، فيقول: لولاهما لذهب علم الرجال.
وقال سفيان بن عيينة: ما ترك الإمام مالك بعده مثله. وهذا لا شك فيه، وسيأتينا أن العلم لا زال في نقص، إذا مات العالم لا يخلفه من هو مثله، وقال: ستَخْرُب المدينة بعد موت الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه. ولا يراد من خرابها الخراب الحسي، إنما هذا العلم والنور والبهجة التي كانت في زمن الإمام مالك ستنعدم، وسيقل النور بعد وفاته، والأمر كذلك من ذاك الوقت إلى زماننا إلى ما سيأتي، نسأل الله أن يتوب علينا، ولا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه.
ولذلك إخوتي الكرام! هذا الكلام يقوله قرينه إمام المسلمين، وحديثه في الكتب الستة رضي الله عنه وأرضاه، فلا يأتينا سفيه في هذه الأيام ويقول: كيف هذا؟ هذا دين الله سيتولاه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، نقول: أي شك في ذلك؟! لا معارضة بين هذا وذاك، الدين محفوظ، لكن هذا الطلب وهذا الجد وهذا النور وهذه البهجة هل هو موجود في زماننا كما كان في الأزمنة الماضية؟! شتان شتان! إخوتي الكرام! لابد من وعي هذا، الدين محفوظ لا شك، لكن أين الجد والاجتهاد؟ وأين النور؟ وأين البركة؟ هذا لابد من وعيه، فذلك النور سيذهب بعد الإمام مالك، سوف تبقى رسوم، كلما امتد الزمان يقل الخير والبركة، هذا يقوله سفيان بن عيينة رضي الله عنه وأرضاه.
وكان يقول: ما رأيت أشد انتقاء للرجال من مالك، وفي بعض الكتب ضُبطت: أشد انتقاداً، وهما بمعنى واحد، فهو شديد الانتقاد والانتقاء، فلا يأخذ الرواية إلا بعد تحقق من حال الراوي، وقد رأى سبعين -كما يقول هو رضي الله عنه وأرضاه- عند الأساطين -سواري المسجد- ممن يقول: قال النبي الأمين عليه الصلاة والسلام، وما كتب عنه.. لمَ؟ قال: لا أتهمهم، لكن لا أراهم أهلاً لهذا الشأن، لم تكن عندهم صفة العالم التي تؤهله لأخذ العلم عنه، أيوب السختياني إمام أهل السنة، حج كذا حجة من بغداد، والإمام مالك رضي الله عنه يلتقي به، فما كتب عنه ولا روى عنه، ثم لما حج حجته الأخيرة وجلس في فناء زمزم، فكان أيوب رضي الله عنه إذا ذكر النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه يبكي، يقول الإمام مالك: حتى إني لأرحمه، فكتبت عنه ورويت، وهنا كذلك: ما رأيت أشد انتقاداً أو انتقاءً للرجال من مالك، ينتقي ويتخير، ولذلك فمن روى عنه الإمام مالك يقول عنه: ثقة.
سئل الإمام مالك عن راو، فقال للسائل: هل وجدته في كتبي؟ قال: لا، قال: لو كان ثقة لوجدته. صحيح أن الذي في كتبه ثقة، لكن الذي ليس في كتبه لا يعني أنه ليس بثقة، قد يكون هناك ثقة وما روى عنه، كما سيأتينا في تعليق أئمتنا على كلام الإمام مالك، فمن روى عنه ثقة، لكن مَن لم يرو من الثقات قد يكون فاته الرواية عنه في أمصار المسلمين الأخرى.
الشاهد: أنه لا يروى إلا عن الثقات، ويتحرى ويحتاط، رضي الله عنه وأرضاه.
وذكر مرة أمراً فقيل له: الإمام مالك يخالفك في هذا! قال: سبحان الله! أتقرنني بـمالك، مالك يذكر وأنا أذكر معه، إذا أنا خالفت الإمام مالكاً، فمن أنا؟! أتقرنني بـمالك؟ ما أنا ومالك إلا كما قال جرير:
وابن اللبون إذا ما لُذ في قرن لم يستطع صولة البذل القناعيس
يقول: أنا ومالك حالنا كحال ابن اللبون، وهو ولد الناقة الذي عمره سنتان وطعن في الثالثة (إذا ما لُذ) يعني قُيد ورُبط في قرن، والبذل: نهاية سن الإبل، سواء الثامنة أو التاسعة، البذل جمع باذل، وقناعيس جمع قنعاس، وهو الشديد القوي.
إذاً: الجمل في التاسعة قوي نشيط، إذا قيدت معه ابن لبون، هل يستطيع أن يصول ويجول ويمشي كمشيه؟ لا، وابن اللبون إذا ما لُذ: قيد وحبس وربط في قرن وهو الحبل، لم يستطع صولة البذل القناعيس، يقول: أنا كابن اللبون ومالك الباذل القنعاس، فكيف تقيسني عليه، وتجعلني مثله؟ أنت ما عندك إنصاف.
هذا كلام القرين في قرينه رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال العبد الصالح أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان، وحديثه في الكتب الستة أيضاً، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة في السنة التي توفي فيها سفيان بن عيينة، وهو ثقة متقن حافظ إمام قدوة، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء التاسع صفحة خمس وسبعين ومائة، يقول عن سيدنا الإمام مالك: الإمام مالك إمام يقتدى به.
وهذا فيه رد على المشوشين في هذا الحين، الذين يقولون: لا نقلد فلاناً ولا فلاناً، لا مالكاً ولا الشافعي ولا أحمد ولا أبا حنيفة ولا أبا بكر وعمر، رضي الله عنهم وأرضاهم، فهو إمام يقتدى به، هذا يقوله جهابذة العلماء رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال العبد الصالح يحيى بن معين أبو زكريا، وحديثه في الكتب الستة أيضاً، توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وهو حافظ مشهور، إمام الجرح والتعديل، قال كما في الانتقاء وغيره صفحة إحدى وثلاثين: الإمام مالك من حُجج الله على خلقه.
وقد وصل الأمر بسيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه أن قدم الإمام مالكاً على الأوزاعي والثوري والليث بن سعد وحماد بن أبي سليمان شيخ سيدنا أبي حنيفة، رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال الإمام أحمد: الإمام مالك إمام في الحديث إمام في الفقه.
وقال الإمام أبو داود رضي الله عنهم وأرضاهم: رحم الله مالكاً كان إماماً، رحم الله أبا حنيفة كان إماماً، رحم الله الشافعي كان إماماً.
وقال أبو يوسف -وانظر للإنصاف، ومن ثناء العلماء على بعضهم، مع أن هذا من مدرسة، وهذا من مدرسة أخرى، لكنهم يجتمعون ويتعاونون على البر والتقوى- قال أبو يوسف رضي الله عنه وأرضاه: ما رأيت أعلم من أبي حنيفة ومن مالك ومن ابن أبي ليلى. يقول: أنا ما عاصرت ولا اطلعت على أعلم من هؤلاء الثلاثة، ممن رأيتهم، من أستاذي أبي حنيفة، ومن نظيره الإمام مالك، ومن نظيره الثاني ابن أبي ليلى.
إخوتي الكرام! ابن أبي ليلى هو العبد الصالح محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، حديثه في السنن الأربعة، صدوق، لكنه سيئ الحفظ كما حكم عليه أئمتنا بذلك، أما في ديانته فهو إمام مبارك، وحديثه في درجة الحسن إلا ما حصل فيه مخالفة لمن هو أوثق منه وأضبط، رضي الله عنهم وأرضاهم، وأما والده من التابعين عبد الرحمن بن أبي ليلى فهو من التابعين، ثقة، حديثه في الكتب الستة، توفي سنة ثلاث وثمانين.
وقال الإمام البخاري رضي الله عنه وأرضاه عن سيدنا الإمام مالك: إنه إمام، بل جعل إسناد الإمام مالك عن شيخه نافع عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين أصح الأسانيد، وهو سلسلة الذهب عند الإمام البخاري، أصح الأسانيد: عند الإمام البخاري: مالك عن نافع عن ابن عمر.
قال أئمتنا: ويضم إلى ذلك سيدنا الشافعي: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، ويضم الإمام أحمد رضي الله عنهم أجمعين: أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، رضي الله عنهم وأرضاهم، هذه سلسلة الذهب، أئمة جهابذة جمعوا صفات الخير، إذا وُجدوا في إسناد فما بعد هذا الإسناد إسناد، هذا توثيق وثناء الإمام البخاري على الإمام مالك رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولكن لا تعدم الحسناء ذامة، فإن جرى من الأقران فهو لا يعتد به عند الكرام، دعه والسلام، وإن جرى من أهل الشنآن فهذا هذيان، لا يعول عليه عند أهل النهي والأحلام، يعني لو جاء أحد من أهل الزيغ والضلال يطعن في الإمام مالك كحال أهل البدع -كما تقدم معنا- الذين طعنوا في سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه فدع هذا -يا عبد الله- من أهل الشنآن دعه، ومن الأقران من باب أولى لا يعول عليه عند أئمتنا الكرام، ولا يسلم الإنسان ما دام بدار الامتحان، قال الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه كما في الحلية في الجزء السادس صفحة إحدى وعشرين وثلاثمائة، والأثر في ترتيب المدارك وغيره، وانظروه أيضاً في السير، قال لابن أخته مُطرِّف بن عبد الله، وهو من رجال البخاري وسنن الترمذي وسنن ابن ماجه، ثقة إمام مبارك، لم يُصب الإمام ابن عدي في تضعيفه، قال الإمام مالك لابن أخته: ماذا يقول الناس فيَّ؟ قال: أما الصديق فيثني، وأما العدو فيقع، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! لم يزل الناس كذلك.
كان الإمام مالك لا يفتي حتى يقول هذه الجملة قبل كل فتيا: لا حول ولا قوة إلا بالله، لم يزل الناس كذلك، لكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلها يعني بالذم، سيذم بعض الناس، هذا لابد منه، إما من الأقران، وإما من أهل الشنآن، لكن نعم يوجد مَن يثني من أهل الخير الكرام، نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلها.
إخوتي الكرام! سأبدأ الموعظة الآتية بكلام محكم كان في نيتي أن أختم به هذه الموعظة في ثناء العلماء على سيدنا الإمام مالك، وهو كلام تلميذه وصاحبه عبد الله بن وهب : لولا مالك لضللت، ولولا مالك لضل الناس، ولولا مالك لما اهتديت، فقيل له: كيف؟ فعلل كلامه، وكان يقول: المحدث إذا لم يكن له فقيه يقتدي به فهو ضال.
هذا الكلام سيأتي توجيهه بإذن الله؛ لأننا نحتاج بعض الوقت في توجيهه وتقريره، وهو ختام الكلام في ثناء علماء الإسلام على سيدنا الإمام مالك، ثم ننتقل إلى فقهه وديانته بعون الله وتوفيقه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر