ولله الحمد والمنة لقد أعلنت الحضارة المادية إفلاسها، وشعرت بأنها بحاجة إلى دين حق، فما هو واجب المسلمين نحو هذا، وما هو المطلوب من دعاة الإسلام؟
وأشهد أن نبينا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، عليه من ربه أزكى سلام وأفضل صلاة، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.
أما بعــد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فإنها وصيته سبحانه للأولين والآخرين من عباده، فنعم الموصي ونعم الموصى ونعمت الوصية.
بتقوى الله يتحقق تاج السعادة، وفي ظلالها ينال وسام السيادة، وعلى ضوء سناها تحصل الريادة، ومن ذرى عليائها تنطلق دفة القيادة قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].
إخوة الإسلام: صلاح البلاد والعباد بدين يحقق مصالح المعاش والمعاد، وإنه عندما تشتد حلقة الظلمات تمس الحاجة إلى من يضيء الدروب، وعندما يطغى جارف التيارات تحتاج الأمة إلى من ينبري لكشف الخطوب، وحينما يعلو الطوفان وتتصارع الأمواج يندر أن تجد من يسبح ضدها، لكن عناية الله وفضله ولطفه ورحمته بعباده تقتضي أن يهيئ لهذه الأمة في كل زمان ومكان من يضيء لها معالم الدروب، ومن يقارع بإذن الله عواتي الخطوب، ويقاوم شدة الأمواج العاتية، ويصارع قوة التيارات الغاشمة، ويجدد لهذه الأمة أمر دينها، فلما علا طوفان الجاهلية الأولى وطغى الشرك والوثنية؛ منَّ الله على هذه الأمة ببعثة النبي المصطفى والحبيب المجتبى، والرسول المرتضى، محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حمل لواء الدعوة بعده صحابته الغر الميامين، وتمر القرون وتتتابع السنون وتعيش أمة الإسلام في أوضاعها بين مد وجزر، ولا يزال ولله الحمد والمنة في كل الأعصار والأمصار من هو قائم لله بحجته، منافح عن دينه وملته، واليوم ترسو سفينة الأمة على شاطئ عالمنا المعاصر، حيث علا طوفان الافتتان بالحضارة الغربية، وطغى تيار الحياة المادية، فانبهر كثير من بني جلدتنا، ومن يتكلمون بألسنتنا بما عليه ظاهر القوم، وأصيب كثير من أرباب الفكر والثقافة وحملة الأقلام بالانهزامية الفكرية والخلقية والثقافية، وكثر دعاة جهنم فأكثروا على الرعاع وخدعوا الدهماء بزخرف القول وقشور التقدمية المزعومة والمدنية الزائفة.
ومع هذه البشائر فإن هناك من يريد إسدال الستار على عقول أبناء هذه الأمة؛ لتتمكن خفافيش أدعياء الحضارة من التسلل في ليل حالك؛ لترتفع ألسنة لهيب المفتونين لحماية هذا العفن والدفاع عنه والدعوة إليه، بدعاوى مزركشة، وأقوال مزخرفة، وألبسة فاتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، يركبون مطايا من الموضات، ويتزينون بأشكال من التقليعات، في شماتة خلقية وسذاجة فكرية، فكان لابد من كشف الستور، وإخراج المغمور، وإماطة اللثام، والعمل على إشعاع النور في الظلام، تنويراً للخلائق، وإيضاحاً للحقائق وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
كيف انخدعت فئام من الأمة؟ وكيف انحدرت إلى هذا المستوى من التخلف المزري، والواقع المرير، حتى فتت العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة بما يحقق لأعدائهم السيطرة على مقدراتهم والاستيلاء على خيراتهم؟ انتزعت فلسطيننا ، واستولى الأعداء على مقدساتنا، ونحيت شريعة الله في كثير من البلاد، بل أقيمت المتاريس ضدها بأجيال انتزعت هويتهم وربوا على فكر أعدائهم، وسممت كثير من مناهج التعليم، ووسائل الإعلام في كثير من بلاد المسلمين؛ حتى أفرزت أجيالاً نافرة من دينها، منسلخة عن قيمها؛ فخرجت تنعق بدعوات غربية، وتعتنق أفكاراً جاهلية، وترى في الدين تأخراً ورجعية، فإلى الله المشتكى.
ألم يأن يا أمة الإسلام! أن تعيى الأمة رسالتها، وأن تتعرف على الخلل الكبير في حضارة أعدائها، لا سيما عجزهم عن التوفيق بين مطالب الروح والمادة، وعجزهم عن إيجاد التوازن بين الثوابت والمتغيرات؛ مما أنتج خللاً فكرياً وفساداً خلقياً لا مخلص منه إلا الإسلام.
فيا أهل الإسلام: يا من أعزكم الله بهذا الدين! وشرفكم بحمل أمانته يوم أن عجزت السماوات والأرض والجبال.. إن عليكم تبعة هائلة، ومسئولية كبيرة تجاه دين الله تعلماً وتعليماً، ودعوة وإصلاحاً، فالدين قادم بحمد الله، لابد أن تستيقن الأمة بدرجات اليقين كلها علمه وحقه وعينه، أنه لا مخلص لعالم اليوم من أزماته الخانقة وأوضاعه المتردية إلا الإسلام، والإسلام الحق على عقيدة التوحيد الصافية، والمتابعة الصحيحة للمنهج السليم كتاباً وسنة، على منهج سلف الأمة.
وإن الناظر الغيور؛ ليأسى أشد الأسى من تضييع الأمة لكثير من الفرص في الدعوة إلى دينها، واستغلال وسائل العصر الحديثة كالإنترنت ونحوه.
أين من يحمل هموم العمل للإسلام؟
هاهو العالم يفتح صدره للإسلام، فأين المسلمون وأين العاملون المخلصون بمنهج سليم وأسلوب حسن، وكم يبذل المسلمون من أوقاتهم وجهودهم لدينهم؟
كفى حزناً للدين أن حماته إذا خذلوه قلنا كيف ينصروا |
أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب |
فقل لذوي البصائر أين كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا |
قال تعالى: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:31-32].
لقد أهملت الإنسان وتجاهلت روحه ووجدانه، وعقله وقلبه، ولم تنسجم مع فطرته التي فطره الله عليها، بل فتحت له الشهوات البهيمية بدعوى الحرية الشخصية، وجعلت منه آلة تمور ورحى تدور، خالية من معاني الروح ومعالي القيم.
ولذلك تتعالى الصيحات من هنالك وهناك، منذرة بسوء مصير البشرية في ظل هذه الحضارة المادية؛ الخاوية من مقومات الروح والإيمان، وتوشك أن تنحدر إلى الهاوية، والفضل ما شهدت به الأعداء، هاهم النصبة يعلنون صيحات الخطر بأنه لا حضارة إلا بالإسلام، وهذه نصوص الشرع، وهذا شواهد التاريخ، وهذه شهادات الواقع، وليس من رأى كمن سمع.
لقد أعز الله هذه الأمة بالإسلام، هدمت معسكرات الوثنية، ودكت معاقل الجاهلية، وحطم القياصرة، وكسر الأكاسرة، وهزم التتار والصليبيون بالإسلام ليس بغيره، وانتصر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعز عمر وسعد وخالد وطارق وصلاح الدين بالإسلام، وأصبحت الأمة قوية مرهوبة الجانب بالإسلام ليس إلا، وستنتصر هذه الأمة المعاصرة بالإسلام بإذن الله؛ لأنه دين الفطرة قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30].
ومع ذلك كله فلابد أن يقدم المسلمون لدينهم، ويصلحوا أنفسهم، ويعالجوا عيوبهم من الداخل، ويسدوا كل ثغرة يريد أن ينفذ العدو منها، وأن يتحدوا على المفترين، وينبذوا كل الاتجاهات والمذاهب وجميع الأحزاب والمشارب التي تخالف تعاليمه، وأن يؤصلوا في أنفسهم وأجيالهم العلم الشرعي النافع، والتربية السليمة.
وعلى المسلمين جميعاً أن يبذلوا لدينهم؛ لأن الناس متعطشون لغذاء الروح بعد أن ملوا التفنن بغذاء الأبدان لا سيما في العالم الغربي، وإن على العلماء والدعاة إلى الله وأهل الخير والصلاح من أهل الكفاءة العلمية، أن يسهموا في زيارات الدعوة والتوجيه لما لها من الأثر الفاعل على جميع الصعد، تصحيحاً في المناهج، وتقوية للأواصر، وتشجيعاً للمسلمين في كل مكان، وتحسيساً لهم بمكانتهم ودورهم ومكانة بلد الإسلام التي يشعرون أنها تهتم بهم وترعى شئونهم وتشاطرهم آلامهم وآمالهم، وبالتالي سد الباب أمام كل من يريد الاصطياد في الماء العكر، من أصحاب الاتجاهات المنحرفة، والمسالك الضالة، والمشارب المشبوهة.
كما أن من أهم الأعمال الملحة في عصرنا الحاضر، العمل على إيجاد قنوات إعلامية إسلامية، تبث الدعوة إلى الله ومحاسن الدين بلغات شتى؛ لأن الإعلام اليوم في العالم كله يلعب دوراً كبيراً في التأثير على جميع الفئات، وإن من المؤسف حقاً ألا تجد للإسلام إلا صوتاً خافتاً في بعضها، مما يتطلب من المعنيين بشئون المسلمين، لا سيما أهل الثراء والمال، وذوي اليسار ورجال الأعمال، أن يسهموا بسد هذه الثغرة أداء للواجب عليهم تجاه دينهم وأمتهم.
أتعجز الأمة بكفاءاتها ورجالها ومواردها أن ينبري منها رجل رشيد، ذو حزم ورأي سديد، فيعمل على إقرار العيون، وشرح الصدور بقنوات إسلامية تواكب تطورات العصر، وتحمل رسالة الإسلام، ولو ببث كتاب الله بعد أن عملت القنوات الفضائية أبشع أعمالها، بوأد الفضيلة ورفع راية الرذيلة غثاءً وهراءً، وعفناً أخلاقياً تبكي له الفضيلة، وتئن من نأوائه الأخلاق والقيم.
ومما ينـزف القلب دماً أنها قد تعود في معظمها إلى أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا! أين حمية القوم الدينية وشهامتهم العربية وغيرتهم الإسلامية، نعوذ بالله من العمى بعد البصيرة.
لكل شيء إذا ما حل سلوان وما لما حل بالإسلام صنوان |
ألا نفوس أبيّات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان |
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان |
سدد الله خطى العاملين، ونفع بالأسباب، وبارك في جهود الغيورين، وجعل الأعمال خالصة لوجه الكريم، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعــد:
فاتقوا الله عباد الله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
معاشر المسلمين: إن دين الإسلام الذي هدانا الله إليه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لهو المنة الكبرى والنعمة العظمى، هو دين الخير والعدل والرحمة والمحبة والوئام والسلام.
إن البشرية اليوم تتطلع إلى أن تتفيء ظلال هذا الدين القويم مما يتطلب الجد في مجال العمل للإسلام، والنهوض بمستوى الدعوة إلى الله، وتنسيق الجهود بين العالمين، والحذر من الفرقة والخلاف التي لا يستفيد منها إلا العدو المتربص.
إن هناك فرصاً عظيمة، يؤسف كل غيور على أوضاع أمته أن يفرط في استغلالها المسلمون، فالأرض خصبة جداً، والفرص مواتية، والقضية ترجع إلى حاجة الأمة اليوم إلى وضع خطط سليمة، ومنهجية مدروسة، تخرّج دعاة على مستوى العصر الذي يعيشونه؛ لنثبت للعالم صدق توجهاتنا وسلامة مقاصدنا، بعد أن شوه الإسلام من طرف علماني شهواني منحرف في ثقافته وأخلاقه، ومن طرف جاهل غال عنيف لا يؤمن إلا بسفك الدماء، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
وإن من التحدث بنعم الله تلك الجهود المشكورة والأعمال المذكورة، وعند أهل الإنفاق غير منكورة، التي يبذلها جنود مجهولون من أهل الخير والدعوة والإصلاح ممن آثروا ما عند الله، ولا ينسى الدور الفاعل لبلاد الحرمين الشريفين حرسها الله في هذا المجال، فلا تكاد بلاد من بلاد الدنيا إلا ولها فيه مركزاً أو مسجداً أو صرحاً علمياً أو حضارياً جعله الله خالصاً لوجه الكريم، وضاعف مثوبتها وزادها من الخير والتوفيق، والحق أنه لا يدرك مكانتها وفضلها إلا من اغترب عنها
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً |
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، كما أمركم بالصلاة والسلام عليه ربكم جل في علاه، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك والمضطهدين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم عجل بنصرهم يا قوي يا عزيز! اللهم فارج الهم وكاشف الغم رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، مجيب دعوة المضطرين، نسألك اللهم رحمة من عندك تغنينا بها عن رحمة من سواك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر