وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن الآن مع سورة الواقعة المكية، ومع الآيات الأولى منها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:1-12].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن عقيدة البعث والجزاء, عقيدة الإيمان بالدار الآخرة, هذه العقيدة لا يستقيم إنسان على وجه الأرض فلا يميل ولا ينحرف ولا يعوج ولا يظلم ولا يسيء إلا إذا كان يعتقدها, يعتقد أنه سوف يبعث وسوف يجازى بعمله، فأركان الإيمان ستة, أعظمها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والدار الآخرة.
ولهذا فالسور المكية كلها تعالج الدار الآخرة, أي: تدعو البشرية إلى الإيمان بلقاء ربهم، تدعو البشرية إلى أنهم بعدما يموتون سوف يحيون وسوف يحاسبون على عملهم في الدنيا، وسيجزون به إما بنعيم مقيم وإما بعذاب أليم، وها هي ذي سورة الواقعة تقرر ذلك.
ثم قال تعالى: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:3] تخفض أناساً إلى جهنم وترفع آخرين إلى أعلى الجنة، ومتى يتم هذا الخفض وهذا الرفع؟ إذا وقعت الواقعة، إذا قامت القيامة فأناس في الجنة وآخرون في جهنم, خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:3].
ففي هذه آية الكريمة يقول تعالى: إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا [الواقعة:4], ترج رجة عنيفة شديدة حتى ما يبقى على ظهرها أحد، لا بناء ولا عمارة.
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [الواقعة:5] كالبسيسة, تفتت تفتيتاً كاملاً، هذه الجبال على ضخامتها وعلوها من جبال التبت إلى غير ذلك تذوب ذوباناً، ومثل هذا قوله تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:1-5], هذه كلها علامات يوم القيامة، هذه علامات الساعة الآتية لا محالة، وإنها والله! لقريبة، وقد أخبر تعالى بهذا، أما قال عز من قائل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]؟ والرسول الكريم يقول: ( بعثت أنا والساعة كهاتين ), ويجمع بين أصبعيه الوسطى والسبابة, والآن مضى ألف وأربعمائة وعشرون سنة، والله! إننا لنقترب من الدار الآخرة، وهناك مظاهر كثيرة كلها تدل على قرب الساعة.
إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً [الواقعة:4-6] غباراً مُنْبَثًّا [الواقعة:6] غباراً متفرقاً، هذه هي الجبال.
وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:7] أي: ثلاثة أصناف, ثم بين تعالى ذلك بقوله: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:8]! شأنهم عظيم، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [الواقعة:9]! شأنهم عظيم، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10].
إذا قامت القيامة، إذا بعثت الخليقة إنسها وجنها فاعلموا أنهم ثلاثة أصناف: صنف هم أصحاب اليمين، وهم المؤمنون الموحدون، وصنف هم أصحاب الشمال اليساريون الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم، وهم الكافرون والمشركون, وطبقة أخرى هي السابقة.
وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:7] أصنافاً ثلاثة, فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:8], وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، وتلك علامة أنهم كانوا مؤمنين بالله ولقائه، بالله ورسوله, فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] فالآيات تقرر هذه الحقيقة.
ففي الزمن الأول ما قال المؤمنون: كيف تمر سبعون سنة والملائكة تكتب عن يمينه وعن شماله، كيف تكون هذه الكتب؟ كيف تحمل؟ كيف تدون؟ بل كانوا يقولون: آمنا بالله.. آمنا بالله، أخبر تعالى فآمنا, فنحن ما نعرف، والآن اتضح لنا أن عمل ثمانين سنة في صفحة واحدة، فاقتربت الساعة, والله! لقد اقتربت فتهيئوا لها.
وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:7-8]! يا له من شأن عظيم! وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [الواقعة:9] والعياذ بالله تعالى مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [الواقعة:9]! شر الخلق، أهل النار أصحاب الشمال، فسبحان الله!
وفي أحداث الكون الأخيرة ظهر اليساريون واليمينيون في العالم بأسره، فالشيوعيون يساريون, والمؤمنون بالله ولقائه يمينيون، أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ومن قبل ما كانوا يعرفون هذا من عرب وعجم، حتى وجد الحزب الشيوعي على أيدي اليهود عليهم لعائن الله، وجعلوا البشرية نوعين: يمينيين ويساريين, والعياذ بالله تعالى.
السابقون: الذين آمنوا بالرسول ومشوا وراءه، والله! لهم السابقون، فالأنصار والمهاجرون الذين هاجروا من مكة إلى المدينة والأنصار الذين استقبلوهم والله! إنهم من السابقين.
السابق إذا دعي إلى الجهاد في سبيل الله يجري أولاً ويصل, إذا نودي إلى الصلاة بـ(حي على الصلاة), فيمشي ويسرع ويصل أولاً، وهكذا كلما يدعى إلى خير فمن يسبق إليه هو من السابقين، وهم أفضل من أصحاب اليمين، يقربهم الله ويدنيهم منه.
وهنا لطيفة أخرى أيضاً: أن من السابقين الولد يولد صغيراً ويعيش على الإسلام ويكبر على الإيمان والإسلام حتى يتوفاه الله شيخاً كبيراً على الإيمان, فهو والله من السابقين.
إذاً: السابقون هم السابقون، السابقون في الدنيا إلى الإيمان والعمل الصالح هم السابقون إلى الجنة، يدخلونها قبل غيرهم ويقربهم الله منه ويدنيهم.
والسابقون أفضل من أصحاب اليمين، وأصحاب اليمين أفضل من أصحاب الشمال، فأصحاب الشمال أهل جهنم، وأصحاب اليمين منهم من أجرم وفسق وتاب وتاب الله عليه، فيعطى كتابه بيمينه، لكن لن يكون كمن سبقوهم إلى الصالحات والخيرات، وهذا بيننا نشهد به.
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ [الواقعة:10-11] السامون الأعلون الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:11] من ربهم, فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:12]، جنات النعيم, ما هو ببستان واحد, بل جنات ذكرناها في سورة الرحمن، وحسبنا من ذلك أن يبين تعالى لنا في كتابه في مئات الآيات، وحسبنا فوق ذلك أن يرفع رسولنا إليها ويسرى به ويعرج به ويدخل الجنة دار النعيم، ويمشي بقدميه الشريفتين، ويشاهد حورها وقصورها وأنهارها، ويتجاوزها ويعلو فوقها حتى يناجيه الله ويكلمه كفاحاً بلا واسطة.
فالله تعالى نسأل أن يجعلنا من السابقين، اللهم اجعلنا من السابقين، ومن الآن نعمل على أن نكون منهم إن شاء الله، وأصحاب اليمين هنيئاً لهم؛ يؤتون كتبهم بأيمانهم؛ لأنهم شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعبدوا الله عز وجل، وإن فسقوا وفجروا, فقد تابوا وتاب الله عليهم، وماتوا وقلوبهم طاهرة ونفوسهم زكية, فهم من أهل النعيم المقيم في الجنة دار السلام.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير البعث والجزاء في الآخرة ].
من هداية هذه الآيات التي قرأناها وتدارسناها: تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على العمل في الدنيا، وهكذا أقرر للصالحين فأقول: ما سر هذه الحياة؟ لم أوجدها الله؟ الجواب: للعمل.
وما سر الحياة الثانية؟ لم أوجدها الله تعالى؟ والله! إنها للجزاء، هذه دار عمل وتلك دار جزاء، اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
فلو سئلت: ما سر هذه الحياة؟ فقل: من أجل أن نعمل فيها بذكر الله وشكره، أو يعمل الكفرة بكفر الله -والعياذ بالله تعالى- والشرك به، والجزاء في الدار الآخرة, هي دار الجزاء.
[ ثانياً: الإيمان والتقوى يرفعان، والشرك والمعاصي يضعان ويخفضان ].
هذه حقيقة قررتها الآيات: الإيمان والطاعة لله ورسوله يرفعان، والشرك والفسق والفجور يضعان, لقوله تعالى: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:3], فساعة القيامة رافعة خافضة، ترفع أصحاب الإيمان والعمل الصالح، وتضع أصحاب الشرك والذنوب والآثام.
[ ثالثاً: السابقون إلى الطاعات لهم فضل الأسبقية في كل زمان ومكان ].
السابقون إلى الطاعات لهم الفضل في كل زمان ومكان، والآن نثني على السابقين ونشكرهم في أي عمل من الأعمال، فالسابقون هم الذين يثنى عليهم ويحمدون، أليس كذلك؟ في أي خير ندعى إليه من يسبق يثنى عليه, وهؤلاء السابقون حسبهم أنهم الطبقة العليا, ما فوقهم طبقة، فأصحاب اليمين دونهم وهم فوق.
[ رابعاً: اليساريون هم أشقياء الدنيا والآخرة؛ لأنهم عندما أخذ غيرهم ذات اليمين طالبين الإيمان والاستقامة أخذوا هم ذات الشمال طالبين الكفر والفسوق ].
هذه الحقيقة: أصحاب الشمال اليساريون هم أهل الشقاء والخزي واللعنة في الدنيا والآخرة، نادى المنادي أن: آمنوا, فآمن السابقون، والآخرون أعرضوا وتكبروا ولم يستجيبوا والعياذ بالله تعالى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر