أما بعد: ها نحن مع سورة المعارج المكية، ومع هذه الآيات، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:19-35].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21]. الإنسان هنا هو الكافر. ولك أن تفهم أن الإنسان مطبوع بهذا الطابع إلا إذا أزاله، وهذا الطبع هو أنه إذا مسه الخير ما يشكر، وإذا مسه الشر ما يصبر، بل يصيبه الجزع والصياح. وهاتان الصفتان لا يرضى بهما مؤمن أبداً, بل إذا مسه الخير يشكر الله ويحمده، ويعبده ويثني عليه, وإذا مسه الشر أو مرض أو حاجة من الحاجات تَصَبَر ولم يجزع ولم يسخط, ويدعو الله عز وجل.
وللخلاص من هاتين الصفتين الذميمتين القبيحتين هناك ثمان مواد طبية ربانية، فمن استعمل هذه المواد الثمانية الربانية التي وضعها الرب تعالى شفي، فمن استعملها كما هي يشفى من هذا الجزع والهلع، ويصبح إنساناً كامل الآداب والأخلاق.
الأولى: المداومة على الصلاة، فقد قال تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23] ليل نهار، وطول العمر، ولا يقولون في يوم: نستريح وما نصلي، بل سواء كانوا مسافرين .. مقيمين .. أمراض .. أصحاء فهم لا يتركون الصلاة بحال أبداً والمداومة عليها. بل هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]. وهذا الدواء وحده لا يكفي، بل لا بد من السبع المواد الباقية.
فالمادة الثانية هي: إنفاق الأموال في سبيل الله؛ ابتغاء مرضات الله. فأصحابها ينفقون لمن يسأل من الفقراء والمساكين، وللمحروم الذي لا يسأل، إذ قد يوجد في القرية فقير ما يمد يده أبداً، ولا يقول: أعطني، ولكن تعرفه أنت وتعرف حاجته وفقره, فتعطيه بدون سؤال من الزكاة وغيرها.
هذه الخامسة. فالمؤمن الذي يريد أن ينتقل من ذلك الوصف, وهو خلق الإنسان هلوعاً, فعليه أن يحفظ فرجه، فلا زنا ولا لواط، بل ولا العادة السرية أبداً، وليس هناك إلا زوجة أو أمة فقط. فحتى العادة السرية التي يشيع أمرها بين الناس لا تجوز، وهي الاستمناء باليد؛ لأن الآية تقول: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المعارج:30]. وليس هناك شيء ثالث.
ثم يقول تعالى: فَمَنِ ابْتَغَى [المعارج:31], أي: طلب وراء ما سمعتم من الزوجة والأمة فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المعارج:31], أي: المعتدون الظالمون. فمن طلب غير زوجته فهو المعتدي العادي الظالم. فلهذا العادة السرية لا تصح ولا تجوز؛ لأنه فَمَنِ ابْتَغَى [المعارج:31], أي: طلب وراء ما سمعتم من الزوجة والأمة فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المعارج:31]. جمع عادٍ, وهو الظالم المعتدي.
وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ [المعارج:32], أي: التي ائتمنوا عليها، ومن أولاها وأعلاها: عبادة الله وطاعته وطاعة رسوله، وما ائتمن الله على دينه. فنحن المسلمون يجب أن نرعى دين الله، فلا نسمح أبداً بسقوط الفريضة، ولا بحلية محرم بحال من الأحوال.
وقوله: وَعَهْدِهِمْ [المعارج:32], أي: الذي عاهدنا عليه كالذي ائتمنا عليه, فالذي عاهدنا عليه عهداً لا يمكن أن نخون فيه, والأمانة كذلك. فإذا وضع شخص عندك مليار دولار وغاب سنة أو عشر سنوات فتقدمه له كما هو, ولا تقل شيئاً، وإذا عاهدته معاهدة فلا تخنه ولا تغشه, ولا تكذب عليه. ومن عاهد الله فمن باب أولى. فإذا قلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد عاهدت الله, فلا تعبد إلا الله، واتبع رسول الله, وامش وراءه؛ لتدخل الجنة, حتى تكون قد وفيت بالعهد.
هذه المواد الثمان وضعها الله، الطبيب خالق الأطباء، وبها تطهر النفس وتطيب وتزكو، ولا يبقى هلع ولا جزع. وبدون استعمال هذه المواد الثمان يبقى صاحبها كما أخبر تعالى في قوله: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:20-21]. ويا ويله!
فأصحاب هؤلاء الصفات فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35]. فهم خالدين فيها, لا يخرجون منها أبداً، فلا تسأل عن النعيم في الجنة أبداً من الطعام والشراب، واللباس ونكاح الحور العين المقصورات في الخيام.
معشر المستمعين والمستمعات! عرفتم أن الإنسان الكافر طبعه الجزع وعدم الصبر, والهلع والخوف, والشح والبخل, والشر -والعياذ بالله- والكفر. فهيا نخرج من هاتين الصفتين. فلا بد من هذه المواد الثمان. فإليكموها مرة ثانية, فاسمعوها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:22-34]. فقولوا: اللهم اجعلنا منهم، اللهم وفقنا لهذا, واجعلنا من أهله.
[ من هداية ] هذه [ الآيات ] التي تدارسناها:
[ أولاً: بين شر صفات الإنسان, وأنها الهلع ] فمن أوصاف الإنسان: الجزع والهلع. هذا هو الإنسان. وإذا دخل المستشفى واستعمل هذه المواد الثمان وعالج نفسه بها شفي. وبدون هذا يبقى والله كما هو في الجزع والهلع.
[ ثانياً: بيان الدواء لهذا الداء -داء الهلع- الذي لا فلاح معه ولا نجاح ] وهو ثمان مواد. والمادة: العقار. فهي ثمان مواد وصفها الطبيب. فأنت مريض استعملها بصدق فإنك والله تشفى, وتزكو نفسك وتطيب.
[ ثالثاً: انحصار العلاج ] والدواء [ في ثمان صفات، أو ثمان مركبات دوائية ] وهي التي سمعتم. وليس هناك دواء غيرها, فلا فلسفة ولا كذب, ولا طرقية ولا دعوى التصوف، ولا غير ذلك. وليس والله إلا هذه الثمان فقط.
[ رابعاً: ] من هداية الآيات: [ وجوب العمل بما اشتملت عليه الوصفة من واجبات ] فلا بد من هذا.
[ خامساً ] وأخيراً: [ حرمة ما اشتملت عليه الوصفة من محرمات ] فكل ما ذكر في هذه الثمان محرم بلا خلاف بين المسلمين.
معشر المستمعين! هذه الوصفة الطبية في سورة المعارج. فعلى المسلمين أن يقرءوا القرآن, ويعرفوا هذه الوصفة, ويجتهدوا في تطبيقها, لا أن يقرءوا القرآن على الموتى، ولا يجتمعون عليه أبداً, ولا يتدارسونه أبداً, وادخل أي مسجد من مساجد المسلمين فلن تجد حلقة كهذه يفسر فيها كلام الله طول العام، وإلا فلا يمكن أن نعرف، وإذا لم نعرف لم يمكن أن نتقي، وإذا لم نعرف الشر لم يمكننا أن نتقيه، وإذا لم نعرف الخير لم يمكننا أن نفعله، وإذا لم نعرف الأدب لم يمكننا أن نتأدب. ولذلك لا بد من العلم، فطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ولكن مع الأسف صرفونا إلى المقاهي والملاهي، وأبعدونا عن كتاب الله.
وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر