فإن هذا اللقاء من لقاءات لطائف المعارف يحمل عنوان إمام النحاة.
إن الله أنزل القرآن بلسان العرب، قال الله جل وعلا: قُرْآنًا عَرَبِيًّا [يوسف:2]، والحاجة إلى حفظ لغة العرب ضرورة ولزام؛ لأنه ينجم عن ذلك حفظ كلام الله تبارك وتعالى، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، والنحو العربي مر بأطوار، وشهد أئمة ومشاهير علماء أسهموا بقليل أو بكثير في نشأة النحو، وأهل الصناعة النحوية يقولون -على خلاف بينهم لكن الأكثرين يرون-: إن أول من وضع أسس علم النحو هو أبو الأسود الدؤلي، وكان الناس في أول الأمر لا يكاد يلحن منهم أحد، ولا يكاد أحد منهم يخرج عن قواعد الإعراب التي سمعها بعضهم عن بعض، جيلاً بعد جيل .. مما كان يردده الجاهليون، ثم أهل الصدر الأول من الإسلام، ثم لما اختلطت العرب بالحضارات الأخر وانتشر الموالي والأعاجم، وجاور الناس فارس والروم، دخل فيهم اللحن، فبعد أن كانوا يحصون من يلحن، أصبحوا لا يكادون يحصون إلا من لا يلحن، ولهذا قال الأصمعي : أربعة لم يلحنوا في هزل ولا جد، وذكر منهم الحجاج بن يوسف وذكر منهم الشعبي ، وغيرهما، ثم قال: وكان الحجاج أفصحهم.
سيبويه لقب ومعناه: رائحة التفاح، ويقال: إن أمه كانت ترققه كما ترقق كل أم ولدها بهذا اللقب، واسمه: أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر فارسي الأصل، مات في ريعان شبابه كما سيأتي.
هذا العلم في علم النحو طلب -أول حياته- علم الحديث وجلس عند حماد ، فلما جلس عنده كأن حماداً طلب منه أن يقرأ حديثاً، فقال سيبويه وهو يقرأ: (كل أصحابي ليس
والخليل بن أحمد أحد أئمة النحو الكبار الذين آتاهم الله جل وعلا العلم والحكمة، والنظر في دقائق المسائل. وقد أورثها الله جل وعلا من الخليل إلى سيبويه ، فأخذ سيبويه عن الخليل بن أحمد وكان ذلك كله في البصرة، وفي البصرة أسس سيبويه علم النحو حقاً، وكتب كتاباً في النحو لكنه لم يخرجه للناس، ثم إنه أصابه ما أصاب أهل زمانه من الاستشراف في الخروج إلى بغداد، وكانت بغداد آنذاك حاضرة العباسيين وعاصمة دولتهم، ويؤمها العلماء والأدباء والمحدثون، وينالون من عطاء الأمراء والخلفاء، ويكون الإنسان فيها ذائع الصيت.
فقال سيبويه : فإذا هو هي -بالرفع- ولم يجز أن تقال بالنصب، فأصر الكسائي على أنها يصح فيها الوجهان: الرفع والنصب، فلما طال بينهما الاستشهاد والنزاع، قال يحيى بن خالد البرمكي ، وهو الأمير وصاحب المجلس: من يفصل بينكما وقد تنازعتما وأنتما رئيسا ما لديكما؟ فقال الكسائي : وجوه الأعراب بالباب، أي أن الأعراب على السليقة لا يخطئون، ويقال هنا: إن إصبع السياسة دخل في هذه القضية، فلما حكم الأعراب، ليحكموا بين سيبويه والكسائي ، وكان الأعراب يعرفون منزلة الكسائي عند يحيى بن خالد بخلاف منزلة سيبويه ؛ لأن سيبويه لم يكن من أهل بغداد وكان قادماً لتوه من البصرة، والأعراب يظنون أن يحيى لا يعرف سيبويه وهو كذلك، فلما حكم هؤلاء الأعراب، حكموا بصحة ما قال الكسائي ، فكأن سيبويه انكسر، فأراد الكسائي أن يشمت به من غير ما قصد أو بقصد، فقال لـيحيى بن خالد : إن صاحبنا -أي: سيبويه - أتى ليطلب مالاً ونوالاً من عندك فأرضه، وهذا زاده حنقاً، وهذا ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقهر الرجال.
فخرج سيبويه يتوارى من سوء ما لحق به، وتوجه إلى إحدى القرى ونزل ضيفاً على تلميذه الأخفش ، هناك أصابه كمد، وأراد الله بذلك الكمد أن يعجل بوفاته، فمات رحمه الله وهو في ريعان شبابه، قيل: إنه كان في الرابعة والثلاثين، وهو ليس معمراً قطعاً، ويقال: إنه قال قرب احتضاره يتكلم عن حاله وكيف وصل إلى ما وصل إليه، وكان قد انتهى به المطاف إلى ما انتهى إليه قال:
يؤمل دنيا لتسعى له فوافى المنية دون الأمل
حثيثاً يروي أصول الفسيل فعاش الفسيل ومات الرجل
شبه نفسه برجل عنده فسيل، وهو صغار النخل، وهو يزرعه ويكد في سقيه يريد منه أن يعمر، لكن الرجل مات وبقي الفسيل حياً ثم كبر.
ولأنه مات قبل شيوخه، ونسب كثيراً مما قاله للخليل بن أحمد قال بعض الناس: إن سيبويه يكذب على الخليل ، فقالوا لـيونس أحد شيوخه: فقال: ما أظن هذا الغلام إلا قد كذب على الخليل ، قالوا له الطلاب: وقد نقل عنك، قال: أروني ماذا نقل، فلما أروه ما كتب سيبويه أقر له بالعلم والمعرفة، وأنه حقاً قد أملى عليه ذلك.
المقصود أن سيبويه قد أخرج للناس هذا الكتاب الذي علا به سيبويه من قبله، ولم يستطع أحد بعده أن يدركه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
الذي يعنينا هنا أن ترى زهد هذا العالم الجليل في الدنيا، هذا العالم هو الذي ألف وابتكر وأسس علم العروض، ووضع أصوله، ولم يسبقه إليه أحد، وهو قائم على نظام الموسيقى العربية، ويقال: إنه كان يأتي الأسواق التي يباع فيها الأواني، فينظر لنغمات صوت الأواني، حتى أسس البحور الشعرية المعروفة كالوافر والكامل وغيرهما، ثم أخرج للناس علم العروض.
من طرائف ما يروى في هذا المجال أن أحد أبنائه دخل عليه، فلما رأى الابن أباه على هذه الحالة، وكان هذا أشبه بالإيقاعات اليوم، ظن أن أباه مجنون، فخرج، فناداه الخليل وقال له:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتك
لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتك
والأبيات ظاهرة المعنى، وإن كان في ألفاظها نوع من التشابه، ومعناها: أنك لا تعلم ما أنا فيه فتلومني، وأنا أعلم أنك تجهل ما أنا فيه فلا ألومك وإنما أعذرك، ولو كنت تعلم ما أنا فيه حقاً لما لمتني، ولو كنت أجهل ما أنت فيه لما عذرتك، هذا معنى البيتين.
الذي يعنينا أن الخليل بن أحمد كان له باع طويل بإثراء شخصية سيبويه ، وقد كان سيبويه يتأدب مع شيخه الخليل بن أحمد ، ولذلك كان يقول في الكتاب عنه: عفا الله عنه، فإذا قال هذا من غير أن يذكر القائل، قال أهل النحو من شراح الكتاب: ينصرف هذا إلى الخليل بن أحمد ، فهو من إجلاله للخليل ، يذكر الفعل: قال، ولا يذكر قائله في كثير من المواقف.
وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر هو الذي يبتغيني
وقال أحسن من نصح ابنه:
وسل من ربك التوفيق فيهـا وأخلص في السؤال إذا سألت
وناد إذا سجدت له اعترافـاً كما ناداه ذو النون بن متى
فالإنسان في حياته هذه يسأل الله جل وعلا الإخلاص والتوفيق، وليعلم أنه ما ارتفع من الأرض إلى السماء شيء أعظم من الإخلاص، وما نزل من السماء إلى الأرض شيء أعظم من التوفيق، ولهذا قال الله جل وعلا حكاية عن شعيب خطيب الأنبياء أنه قال: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود:88]، فالإنسان مهما جمع من علوم الآلة، ومهما أوتي من مال، ومهما أعطي من جاه، ومهما رزق من سلطان فإنه مخلوق يحتاج إلى توفيق الله.
و سيبويه رحمة الله تعالى عليه مات في ريعان شبابه، وهو إن مات صغيراً إلا أن الله جل وعلا أورث بركة في كتابه، فالناس ينتفعون به إلى اليوم.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعاننا الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر