-
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات...)
قال تبارك وتعالى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ *
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود:13-14].
قوله تعالى: ((أم يقولون افتراه)) هذه الهاء تعود إلى ما أوحي إليك، يعني: أم يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام قد افترى هذا القرآن واختلقه.
وفي (أم) وجهان: الأول: أنها منقطعة مقدرة ببل والهمزة والتقدير: بل أيقولون افتراه؟! وهذه الهمزة إنكارية.
الثاني: أنها متصلة وليست منقطعة، والتقدير: أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون افتراه؟! قل يا محمد في جواب هذا الزعم أنك افتريته: (( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ))، أي: افعلوا أنتم هذا.
((وادعوا من استطعتم)) أي: ادعوا للاستعانة من استطعتم من الإنس والجن، وهذا في غاية التحدي.
((من دون الله)) أي: ادعوا كل من تستطيعون متجاوزين الله تبارك وتعالى.
((إن كنتم صادقين)) أي: إن كنتم صادقين في أني افتريته، فأنتم عرب فصحاء مثلي، لا سيما وقد زاولتم أساليب النظم والنثر والخطب.
(( فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ )) هذا تحد صارخ وواضح، كما كرر في أكثر من موضع في القرآن الكريم، قال تبارك وتعالى متحدياً لهؤلاء في أول سورة البقرة:
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24].
(( فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ )) أي: بما لا يعلمه غيره من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليها، فأنتم تعلمون أنه ما أنزل إلا بعلم الله.
(( وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ))، أي: واعلموا عند ذلك أن لا إله حق إلا الله، وأن توحيده واجب، وأن الإشراك به ظلم عظيم.
(( فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) أي: هل أنتم مبايعون بالإسلام منقادون لتوحيد الله وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الحجة القاطعة، ولا شك ولا ريب أن هذه الحجة بالفعل قاطعة بصورة لا جدال ولا مراء فيها.
من لطائف تحدي الكفار في الآيتين
يقول
القاسمي رحمه الله تعالى: في هاتين الآيتين لطائف:
الأولى: قيل: تحدوا أولاً بعشر سور فقال هنا: (( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ )) فلما عجزوا تحدوا بسورة فقال في سورة البقرة:
وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وذهب
المبرد إلى أنه تحداهم أولاً بسورة ثم تحداهم بعشر سور.
قوله في سورة البقرة: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي: من مثله في البلاغة والإعجاز والبيان وما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وغيرها. وهي تسعة أشياء يتضمنها القرآن الكريم نظمها بعضهم بقوله:
ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل
حلال حرام محكم متشابه بشير نذير قصة عظة مثل
وقيل: إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك، فلما وقع تعنتهم واستهزاؤهم واقتراحهم آيات غير القرآن لزعمهم أنه مفترى، فيناسبه التكثير وهو التحدي بعشر سور، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله، ألستم تقولون: إنه مفترى؟ إذاً ائتوا بعشر سور مثله مفتريات، فمن ثم ناسب أن يكون التحدي بعشر سور.
اللطيفة الثانية: قوله عز وجل بعد ذلك: ((فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) فإن ضمير (لكم) يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع هنا للتعظيم كما في قول من قال: وإن شئت حرمت النساء سواكم.
القول الثاني: يكون الضمير عائداً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين؛ لأن المؤمنين هم تبع للنبي عليه الصلاة والسلام في الأمر بالتحدي.
وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه صلى الله عليه وسلم، بل يكونوا معه لمعارضة المعارضين.
إن التحاق المؤمنين والتصاقهم به صلى الله عليه وسلم لا يكون فقط بالنصرة بالسيف وبالجهاد، وإنما يكون في الانتصار لدينه ولمعجزته التي هي القرآن، وذلك بدوام تحدي المشركين أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم.
وفي هذا أيضاً إرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، والطمأنينة في الإيقان بأن القرآن من عند الله، وأنه معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك رتب عليه قوله عز وجل: ((فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا)) فدل على أن التحدي والصمود بهذا التحدي يفيد زيادة العلم وزيادة اليقين.
وقوله: ((فاعلموا أنما أنزل بعلم الله)) هذا العلم ليس مستأنفاً، لكنه ترسيخ للعلم الموجود في قلوبهم.
القول الثالث: أن الخطاب هنا للمشركين بمعنى: فإن لم يستجب لكم من استعنتم به من دون الله، وهم المذكورون في قوله: ((وادعوا من استطعتم من دون الله))، من الجن والإنس، في افتراء قرآن مثل هذا القرآن أو عشر سور مثله.
((فإلم يستجيبوا)) أي: هؤلاء الذين دعوتموهم من الجن والإنس ((فاعلموا)) أي: فحقكم أن تعلموا حينئذ عجزكم وعجز هؤلاء الذين لم يستجيبوا لكم ولم يستطيعوا قبول التحدي، وحقكم أن تعلموا الآن أن القرآن أنزل فعلاً من عند الله، وأن الحجة قامت عليكم.
-
تفسير قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها...)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15].
لقد بين تعالى وعيد من آثر الحياة الدنيا على الآخرة وهم الكفار، فقال عز وجل: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ)).
أي: أننا نوصل إليهم جزاء أعمالهم فيها من الصحة والرزق، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، حتى الكافر إذا أحسن وعمل عملاً صالحاً كبر الوالدين، وإغاثة الملهوف، وصدق الوعد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجره، بل يوفيه أجره في الحياة الدنيا، حتى يرد الآخرة وليس معه عمل ينفعه؛ لأنه لا ينتفع بعمل صالح في الآخرة عمله في الدنيا إلا إذا كان موحداً.
وهذا هو الجواب عما يستغربه بعض الناس، حينما يرون الكافر في عافية وفي سعة من الرزق، وفي وفور من أمر الدنيا؛ يقول البعض: كيف يبتلى المؤمن ويكون فقيراً ومريضاً، في حين نرى الكافر يتمتع في الدنيا؟! نقول: جاء في الحديث: (
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فالكافر لا يثاب على الأعمال الحسنة التي يعملها في الدنيا إلا في الدنيا، أما في الآخرة فلا خلاق له عند الله سبحانه وتعالى.
قوله: ((نوف إليهم أعمالهم فيها)) أي: في الدنيا فقط.
((وهم فيها)) أيضاً في الدنيا.
((لا يبخسون)) أي: جزاء أعمالهم في الدنيا، وهذا معلق بمشيئة الله كما قال عز وجل في سورة الإسراء:
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18].
-
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار...)
-
تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه...)
قال تعالى:
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود:17].
لقد أشار تعالى في هذه الآية إلى صفة المؤمنين في مقابلة أولئك الذين قال فيهم:
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16].
((أفمن كان على بينة من ربه)) أي: برهان نير، عظيم الشأن، أي: هو مسلم وثابت على الإسلام؛ لأنه يملك البينات والبراهين التي تثبته على هذا الدين. والبينة: هي العلم بالقرآن.
وفسرت البينة أيضاً بالإسلام، أي: أفمن كان على الإسلام، سماه بينة لقوة ظهوره ووضوحه، إذ هو دين الفطرة قبل تدنيسها برجس الوثنية.
قوله: ((ويتلوه شاهد منه)) الضمير في قوله: (منه) يعود على الرب تبارك وتعالى، أي: ويتلوه شاهد من ربه، هذا التفسير الأول.
التفسير الثاني في قوله: ((ويتلوه شاهد منه)) أي: يتبعه شاهد من القرآن نفسه، وهو إعجاز القرآن الكريم.
علاقة ما مضى من الكتب السماوية بالقرآن
قوله: ((ومن قبله كتاب موسى)) أي: ومن قبل القرآن كتاب موسى.
وقد فسر العلماء ما مضى قبل القرآن الكريم من الكتب على قولين:
الأول: (ومن قبله كتاب موسى) هو التوراة، أي: ويتلو تلك البينة من قبله كتاب موسى مقرراً لذلك.
الثاني: ومن قبله كتاب موسى يشهد للقرآن أيضاً؛ ذلك لأن كتاب موسى تضمن ذكر القرآن وذكر صدق نبوة النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذا معناه: أن التوراة شاهدة للقرآن الكريم، بجانب ما يشهد له الإعجاز الذي فيه.
((ومن قبله كتاب موسى إماماً)) أي: مقتدى به في الدين ورحمة ونعمة عظيمة على المنزل إليهم، تهديهم وتعلمهم الشرائع ((أولئك يؤمنون به)) أي: من كانوا على بينة يؤمنون بالقرآن، فلهم الجنة.
((ومن يكفر به من الأحزاب)) يعني: أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
((فالنار موعده فلا تك في مرية منه)) أي: لا تكن في شك من القرآن، أو: ولا تكن في شك من أن النار موعده.
((إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)) أي: لا يؤمنون به؛ إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم، وإما لعنادهم واستكبارهم.
الفوائد المستنبطة من قوله تعالى: (أفمن كان على بينة)
نذكر بعض الفوائد هنا:
الأولى: (مَنْ) في قوله تعالى: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ))، مبتدأ حذف خبره لإغناء الحال عن ذكره، وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيراً، وتقديره: أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم وبيّن مصيرهم ومآلهم.
وفي شرح الكشاف: أن التقدير: أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه، أي: لا يعقبونهم في المنزلة أو يقاربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أنه لا تقارب بينهم فضلاً عن التماثل، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى:
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18].
الثانية: قرئ ((ومن قبله كتابُ موسى)) بالرفع، وقرئ: ((ومن قبله كتابَ موسى)) بالنصب عطفاً على الضمير المنصوب في يتلوه، أي: يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه ممن آمن من أهل الكتاب كـ
عبد الله بن سلام ، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى، لما يجدونه مكتوباً عندهم.
و((يتلوه)) من التلاوة فتكون الآية كقوله تعالى:
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10].
الثالثة: قوله: ((ومن الأحزاب)) الأحزاب جمع حزب، والحزب جماعة الناس، ويطلق الأحزاب على من تألبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا كل نبي قبله، فهو إطلاق شرعي، وعليه حمل الأكثر الآية؛ لكون السورة مكية، إلا أن اللفظ يتناول كل من شاكلهم من سائر الطوائف.
وفي صحيح
مسلم عن
سعيد بن جبير عن
أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، أو نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، قال
سعيد : كنت لا أسمع بحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في القرآن، فبلغني هذا الحديث فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية: (( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ )).
فهذا يفيدنا أن المقصود بالأحزاب في الآية الملل كلها، وبالذات اليهود والنصارى؛ كما في نص الحديث المذكور.
فإذاً كل من بلغته بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وسمع بالإسلام وسمع بالقرآن فما عليه إلا أن يؤمن به صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وقبل ذلك عليه أن يجتهد في البحث عن الدين الحق، ليس هذا فحسب، بل يجب عليه أن يصيب الحق، فلا يعذر الشخص أن يقول: أنا اجتهدت وبذلت وسعي وتوصلت إلى أن الحق مثلاً في اليهودية أو النصرانية، فهذا لا يقبل منه وليس عذراً؛ لأن للحق أدلة وعلامات، فلا يمكن أبداً أن يلتبس الحق في أحقية دين الإسلام، وفي أن القرآن كلام الله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى إلا الإسلام ديناً، هذه حقيقة أوضح من الشمس.
فتوحيد الله سبحانه وتعالى، النبوات، الإيمان بالغيبيات، كل هذه الأشياء عليها من الأدلة ما لا يدع عذراً لكافر، لكنه الجهل أو العناد والجحود بعد المعرفة، فمن ثم يجب على كل كافر أن يجتهد في البحث عن الحق أولاً، وأن يصل إلى الحق ثانياً، فلا يعذر إذا قال: اجتهدت فوجدت الحق في غيره.
-
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً...)
-
تفسير قوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً...)
قال تعالى:
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [هود:19].
((الذين يصدون عن سبيل الله)) أي: عن دينه القويم.
لم يذكر هنا المفعول به، والتقدير: الذين يصدون عن دين الله كلَّ من يقدرون على صده وعلى إبعاده عن طريق الله سبحانه وتعالى.
((ويبغونها عوجاً)) الهاء تعود على السبيل:
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108]، فكلمة السبيل في هاتين الآيتين مؤنثة.
((ويبغونها عوجاً)) أي: يطلبونها معوجة بالكفر، يحرفون الناس عن الصراط المستقيم، ولا يرضون أن تكون مستقيمة.
أو ((يبغونها عوجاً)) أي: يصفونها لهم بالاعوجاج، وينفرون الناس عن الإسلام بوصفه أنه دين معوج، دين التصوف، دين الإرهاب، دين التعصب والتشدد والتزمت إلى آخره، فينفرون عن دين الله بوصفه بصفة لا تليق به كالاعوجاج.
((وهم بالآخرة هم كافرون)) أي: هم يصدون أنفسهم عن الحق؛ لأنهم كافرون بالآخرة، ويصدون غيرهم أيضاً عن طريق محاربة الإسلام وتشويهه، ويدعون الناس إلى طرق معوجة تقودهم إلى النار والعياذ بالله.
-
تفسير قوله تعالى: (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض...)
-
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين خسروا أنفسهم...)
-
تفسير قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع...)
-
في قصص الأنبياء والصالحين تثبيت للصالحين
قال عز وجل:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [هود:25].
((ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه)) كانت قد امتلأت الأرض من شرك قوم نوح وشرورهم. ((إني لكم نذير مبين)) قرئ بالكسر: ((إني لكم)) أي: فقال: إني لكم نذير مبين.
يعني: أرسلت إليكم لأبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه، ((مبين)) اسم فاعل من أبان فهو مبين.
إذاً ماذا أبان؟ أبان لهم ما يوجب حصول عذاب الله، وأبان لهم أيضاً كيف يتخلصون من هذا العذاب وينجون منه.
-
تفسير قوله تعالى: (أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم...)
-
تفسير قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه...)
قال تعالى:
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27].
((فقال الملأ الذين كفروا من قومه)) الملأ المقصود بهم هنا السادة والكبراء والوجهاء.
((ما نراك إلا بشراً مثلنا)) أي: لست بملك ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا ونحن بشر مثلك؟! يستبعدون أن ينزل الوحي على من ليس بملك.
نظرة الملأ للأنبياء وأتباعهم
قال
القاسمي : ((قال الملأ)) أي: الأشراف المليئون بأمور الدنيا القادرون عليها.
وهذه هي المصيبة العظمى: أن بعض الناس يستمدون قوتهم لا من علمهم ولا من عقلهم ولا من بصيرتهم، بل يتوهم أحدهم أن قوته بالمنصب الذي هو فيه، أو بالمال الذي يملأ جيوبه، أو بمتاع الدنيا الذي يملكه، فهو يرى أن قيمته تتحدد على هذا الأساس، وعلى هذا الفهم المنحرف الضال القاصر، فإنه يعطي نفسه ما ليس من حقه، فهو مستعد أن يفتي في كل قضية، وإن يدلي بدلوه في أي مسألة، حتى لو كانت بعيدة عما يخصه ويعنيه.
فعلى الإنسان أن يستمد قوته من إيمانه بالله، أما أن يستمد قوته ويتعامل مع الآخرين على أساس أن معه مالاً أو غير ذلك من أعراض الدنيا، فهذا لا وزن له ولا قيمة.
يقول
القاسمي : ((فقال الملأ)) الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق: ((ما نراك إلا بشراً مثلنا)) لأنهم كانوا ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، لا يرون لأحد طوراً وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طوراً بعد طور، ورتبة فوق رتبة، إلى ما لا يعلمه إلا الله، لم يدركوا أن نوحاً ميزه الله سبحانه وتعالى بمرتبة أعلى من هذه المثلية التي يزعمون.
صحيح هو مثلهم من أنه بشر من طين، أو خلق من ماء مهين كما خلق سائر البشر، لكن هناك شيء آخر فوق هذا الجسد البدني أو هذه الصورة الآدمية الظاهرة، فهناك مراتب كمالات في العقول والاستعدادات والمواهب التي يفيضها الله سبحانه على من يشاء من عباده، ويفضل بعضهم على بعض، هم لم يلتفتوا إلى ذلك، فمن ثم لم يشعروا بمقام النبوة ورفيع قدرها ومعناها.
((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)) انظر إلى الغطرسة! يظنون أن ما هم عليه من أحوال الدنيا هي مؤهلاتهم، فالواحد منهم يرى أن له أن يكفر بالأنبياء، وأن يحتقر من دونه في الدنيا وإن ارتفع عليه في الإيمان وفي الدين.
وقولهم: ((أراذلنا)) أي: فقراؤنا الأدنون منا؛ إذ المرتبة الرفيعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا، فبالتالي يحتقرون من لم يؤت هذه الأشياء، فلذلك قالوا: ((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)) أي: أحط الناس فقراً أو مالاً أو جاهاً في مجتمعنا.
((بادي الرأي)) كما قال تعالى:
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
وبادي الرأي أي: بديهة الرأي، يريدون أن يصفوا أتباع نوح عليه السلام الذين آمنوا به أنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، أي: أما نحن أصحاب الفكر والنظر فلا نستسلم لك بسرعة، فهؤلاء انقادوا لك بادي الرأي، يعني: أول ما سمعوا دعوتك انقادوا إلى هذه الدعوة.
فهم يعيبونهم بانقيادهم لنوح عليه السلام، يقولون: أما نحن أهل الفلسفة وأهل الروية وأهل العقول الراجحة فمثل هذه الدعوة لا نقبلها بسهولة، ولابد أن يكون الذي يدعونا للحق عنده المال والجاه، ولا يصاحب الفقراء ولا المساكين ولا الضعفاء، هذه هي القيم وهذه هي الموازين عند هؤلاء.
وقولهم ((بادي الرأي)) هذا مما لا يذم، بل مما يمدح؛ لأنه انقياد الإنسان للحق إذا ظهر أنه حق واضح مثل الشمس، فما الذي يمنعهم أن ينقاد هؤلاء كما انقاد من بعدهم قوم موسى عليه السلام، فإن السحرة آمنوا بمجرد أن رأوا الآية.
ويؤخذ من هذا أن المرء ينقاد للحق إذا ظهر، أي فلا تؤخر ولا تسوف ولا تؤجل الانقياد للحق، فهذا الذي يعيبونهم به هو من أعظم وأشرف مناقبهم حيث بادروا إلى الانقياد للحق.
وعلى نفس طريقة الملأ القداماء سار الذين يحاربون الإسلام اليوم، ويحاربون الدعوة والدين فهم يجادلون بنفس المنطق ويفكرون بنفس الطريقة، تجدهم يقولون عن الملتزمين: هؤلاء جهلة!
ويجتهدون في تصويرهم بنفس هذه الصورة، كما تعرفون وتلاحظون ذلك في التمثيليات والمسرحيات والأفلام التي خرجت في الصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، مع أن الذي يخترع هذا الكلام كذاب، فهو يؤلف القصة من خياله بصورة تخدم هدفاً هو يريده، فلذلك يفتري ما شاء، والله له بالمرصاد.
فهؤلاء يتصورون أن الإنسان العاقل الكيس الفطن هو الذي يستطيع أن يتجر ويكسب أموالاً كثيرة، ولا يفكرون إلا في الكمالات الدنيوية الحقيرة، وأما أتباع نوح عليه السلام فإنهم أصحاب همم بعيدة، لا تقف عند كسب المعاش والأموال، بل عقول حائمة حول الارتفاع والارتقاء والتزكية والطهارة غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه.
قرأ
أبو عمرو بالهمزة: ((بادئ الرأي)) والباقون بالياء.
معنى (بادي الرأي) على القراءتين:
أما الأول: (بادئ الرأي) فمعناه: أنه صدر من غير روية، وذلك أول وهلة.
وأما الثاني: (بادي الرأي) فيحتمل أن أصله ما تقدم؛ لكن قلبت الياء عن الهمزة تخفيفاً، فيكون كالأول.
ويحتمل أن الياء أصلية من بدا يبدو كعلا يعلو، والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو تؤمل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول.
وعلى القولين هو منصوب على الظرفية: (بادي الرأي) والعامل فيه: (نراك)، أو: (اتبعك).
بطلان حجج الملأ من قوم نوح وسخافتها
قال
الناصر : زعم هؤلاء أن يحجوا نوحاً ومن اتبعه، من وجهين، أي أنهم يريدون أن يبطلوا دعوة نوح بالاستدلال بأحوال متبعيه من وجهين:
أحدهما: أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة فقالوا: (( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا )) أي: فقراؤنا وضعفاؤنا، فليسوا قدوة وليسوا أسوة كهؤلاء الملأ.
الثاني: أنهم لم يترووا في اتباعه، ولا أمعنوا الفكر في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكر ولا روية.
وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة؛ لأن منهم من صدقه وآمن به.
وكلا الوجهين يبرهنان على أن هؤلاء الملأ من قوم نوح ضعفاء العقول جهلة.
إذاً الشريف هو الذي يتبع الحق، كما قال تعالى:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فأولى الناس بصفة الشرف والعلو والرفعة هم الذين ينقادون للحق، ولا يجادلون في الحق ولا يمارون فيه.
أما عند هؤلاء فالشرف هو المنصب والمال والجاه، ولذلك قالوا: ((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)).
أما الرد على الوجه الأول: فلا خفاء في أنه ليس بعار عن الحق رذالة من اتبعه، أي: كون الفقراء والضعفاء والمساكين ينقادون للحق، لا يحوله إلى باطل، بل أتباعه هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه -أي: الحق- هم الأدنون وهم الأراذل ولو كانوا أغنياء، وفي الغالب أنه لا يتبع الحق إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفتهم؛ لأن غالب الأغنياء والوجهاء يتكبرون؛ فيحجبهم ذلك عن الانقياد للحق والانتفاع به إلا من رحم الله سبحانه وتعالى.
يقول تبارك وتعالى:
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:23] أي: على ملة.
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23].
ولذلك لما سأل
هرقل ملك الروم
أبا سفيان عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قال له فيما قال (
أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل : هم أتباع الرسل).
هذا فيما يتعلق بالرد عن الوجه الأول.
أما الجواب على الوجه الثاني: فإن المبادرة والإسراع لاعتناق الحق من أكمل الفضائل؛ لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولابد لكل ذي فطنة من اتباعه، ولا يتردد في قبول الحق إلا غبي، ومن قدرته العقلية ضعيفة لا يستطيع أن يفهم الحق مع وضوحه، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام؛ فهم يأتون بلغة قومهم، ويأتون ببينة واضحة لا تلتبس على أحد، مهما كان مستواه العقلي أو الفكري.
((وما نرى لكم)) هذا الخطاب لنوح وأتباعه.
((من فضل)) أي: تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة؛ لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والجاه.
هذه هي طريقتهم في التفكير، فالله سبحانه وتعالى يبين لنا جهلهم وقصورهم من خلال كلامهم، ويبرز لنا الموانع التي حجبتهم عن الانقياد إلى الحق.
قال
الزمخشري : كان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد ضل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله، وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلاً أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوة والتأهيل لها.
ثم يقول
الزمخشري -وما أحسنه من كلام-: على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة، مصغرين لشأن الدنيا وشأن من أخلد إليها.
أي: أما هؤلاء فبالعكس، فهم يعظمون الدنيا هذا التعظيم ويقولون: ((وما نرى لكم علينا من فضل)) أي: ليس عندكم أرصدة وأموال مثل التي عندنا، فلماذا نتبعكم؟ هذه هي المقاييس الوضعية الحقيرة لديهم.
بل هذه الدنيا التي يتباهون بها لا تبعد عن الله وتحط من شأن أهلها فحسب، بل من ضمن أهداف بعثة الرسل تصغير شأن هذه الدنيا وتحقيرها والتزهيد فيها، والترغيب في طلب الآخرة.
فإذاً هما طريقان لا يلتقيان:
سارت مشرقةً وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب
ثم قال: فما أبعد حال الأنبياء عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله والتشرف بما هو ضعة عند الله!
((بل نظنكم كاذبين)) أي: فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه.
-
تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي...)
-
تفسير قوله تعالى: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً...)
-
تفسير قوله تعالى: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله...)
قال الله عز وجل:
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [هود:31].
أي: أنا بشر مثلكم فضلت عليكم بالوحي وبالرسالة، ولا أدعي ما ليس لي، ولذلك: ((لا أقول لكم عندي خزائن الله)) أي: رزق الله وأمواله عز وجل.
((ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك)) أي: أنا أدعي الفضل بالنبوة لا بالغنى وكثرة المال، ولا بالاطلاع على الغيب، ولا بالملكية، إنما فضلت عليكم بالنبوة، فلا تستنكروا علي عدم تفوقي عليكم في المال ولا بالأملاك ولا في أعراض الدنيا.
((ولا أقول للذين تزدري أعينكم)) أي: تحتقرونهم وهم الفقراء والمؤمنون ((لن يؤتيهم الله خيراً))، أي: في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه كما تقولون أنتم، إذ الخير عندي هو ما عند الله لا المال.
((الله أعلم بما في أنفسهم)) أي: من الخير، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم، وما يعلم أحد قدر خيرهم وعظمه إلا الله سبحانه.
قال
القاسمي : وحمل هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله، إرشاداً إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبت القول إلا فيما يعلمه يقيناً ويبني أموره على الشواهد الظاهرة، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة.
يعني: على الإنسان أن يفوض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، خاصة في التعامل مع الناس في الدنيا، والأحكام تجري على ما يظهرون، أما السرائر فتوكل إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يتقدم الإنسان بين يدي الله بتزكية من لا سبيل له إلى معرفة ما في قلبه، يقول عليه الصلاة والسلام: (
إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم، إنما نأخذ بما ظهر)، ولذلك قال: (
وحسابهم على الله) أي: أقبل منهم انقيادهم بالإسلام، ولكن حسابهم في الآخرة على الله سبحانه وتعالى.
((إني إذاً)) يعني: إني إذا قلت ذلك ((لمن الظالمين)) أي: لبخس حقهم وحط قدرهم، فإن الإيمان ظاهر منهم، فإذا ضموا إلى ذلك الإيمان القلبي فلهم جزاء الحسنى، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير بعدما آمنوا كان ظالماً.
وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم والمعنى: إن أنا قلت فيهم ذلك سأكون من الظالمين، لكني لست من الظالمين كهيئتكم؛ لأنكم تزدرونهم وتحتقرونهم، فلا أفعل فعل الظالمين.
-
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا...)
-
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي...)