-
تفسير قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة...)
-
تفسير قوله تعالى: (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها…)
-
تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ... إن كنا عن عبادتكم لغافلين)
-
تفسير قوله تعالى: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت...)
-
تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض...)
لقد احتج على المشركين على وحدانيته باعترافهم بربوبيته وحده وذلك بقوله سبحانه وتعالى:
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [يونس:31].
ألزمهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على وجوب توحيد العبادة والألوهية.
((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) بالإمطار والإنبات، ولا يكون ذلك إلا ممن له التصرف العام فيهما، فلا يمكن أن يصدر هذا الرزق إلا ممن يملك ما في السماوات وما في الأرض، وهو الله سبحانه وتعالى.
((أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ)) من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي هي عليه من الفطرة العجيبة؟! قال تعالى:
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [الملك:23].
((وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)) يخرج النسمة من النطفة، أو الطير من البيضة، أو السنبلة من الحب.
((وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)) كأن يخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر.
وقيل: المراد أن يخرج الرجل المؤمن من ظهر أب كافر، ويخرج الرجل الكافر من الأب الصالح، فالحياة هنا والموت باعتبار الإيمان والكفر.
((وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ)) أي: من يلي تدبير أمر العالم كله؟! وهذا تعميم بعد تخصيص أي: ما تقدم آنفاً وكل الأمور.
((فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)) إذ لا مجال للمكابرة لشدة وضوحه.
لم يقل تبارك وتعالى: (قالوا الله)، لكن قال: (فسيقولون الله) فألزمهم بهذا الجواب؛ لأنهم لا يملكون إلا هذا الجواب، لشدة الوضوح في هذه الحقيقة.
ولو قالوا بخلاف هذا الجواب فلن يكون هذا إلا عن مكابرة.
((فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)) أي: بعد اعترافكم أنه لا يملك هذا كله إلا الله سبحانه وتعالى؛ أفلا تتقون وتخافون من غضبه لعبادة غيره اتباعاً للهوى؟!
-
تفسير قوله تعالى: (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فإنى تصرفون ...)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس:32].
((فَذَلِكُمُ)) إشارة إلى من هذه قدرته وإلى من هذه أفعاله سبحانه وتعالى.
((فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ)) أي: الثابت الدائم في وحدانيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر.
(( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)) أي: لا توجد مرتبة متوسطة بين الحق والباطل، فمن تخطى الحق وقع في الضلال.
فما بعد أحقية ربوبيته إلا بطلان ربوبية ما سواه وعبادة غيره انفراداً أو شركة.
((فَأَنَّى تُصْرَفُون)) عن الحق الذي هو التوحيد إلى الضلال الذي هو الشرك، وأنتم تعترفون بأنه الخالق لكل شيء؟!
-
تفسير قوله تعالى: (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا...)
-
تفسير قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده...)
لقد احتج أيضاً على أحقية التوحيد وبطلان الشرك، بما هو من خصائصه عز وجل من بدء الخلق وإعادته، فقال سبحانه وتعالى:
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [يونس:34].
((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)) أي: هل يوجد أحد من هذه الآلهة التي تشركون بها مع الله سبحانه وتعالى من يبدأ الخلق من النطفة، ويجعل فيه الروح ليتعرف إليه، ثم يحييه يوم القيامة ليجزيه بما أسلف في الأيام الخالية؟!
وإنما نظمت الإعادة في سلك الاحتجاج مع عدم اعترافهم بها إيذاناً بظهور برهانها من الأدلة القائمة على الإعادة والبعث والنشور سمعاً وعقلاً، وأن إنكارها مكابرة وعناد لا يلتفت إليه.
يعني: كنتم تقولون: إن الله سبحانه وتعالى هو الذي بدأ الخلق، فليس لكم عذر في أن تجحدوا أنه يعيد الخلق؛ لأن الذي يقدر على الإبداء قادر بطريق الأولى على أن يعيده.
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك بقوله: ((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)) أي: كيف تصرفون إلى عبادة غيره ممن لا يقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
-
تفسير قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق...)
ثم احتج عليهم أيضاً إفحاماً إثر إفحام بقوله سبحانه وتعالى:
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [يونس:35].
((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)) أي: يهدي إلى الحق بوجه من الوجوه كبعثة الرسل، وإيتاء العقل، وتمكين النظر في آيات الكون، والتوفيق للتدبر، فالله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الحق من وجوه عديدة، فهو الذي بعث الرسل ليهدوا ويوضحوا ويبينوا، وهو الذي أعطاهم العقل؛ كي يستعملوه في الاهتداء إلى التوحيد، وهو الذي بث لهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم؛ كي يعملوا عقولهم ويتفكروا في هذه الآيات، ويستدلوا بها على توحيد الله سبحانه وتعالى، وهو الذي وفقهم وخلق فيهم القدرة؛ كي يتدبروا في هذه الآيات ويصلوا إلى توحيده عز وجل.
فهل من شركائكم من عنده القدرة على الهداية إلى الحق كما فعل الله سبحانه وتعالى بهذه الوجوه وغيرها؟!
((قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)) وهو الله سبحانه وتعالى:
((أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ)) أي: يعبد ويطاع.
((أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)) أم من لا يهتدي إلا أن يهديه الله سبحانه وتعالى، نزل منزلة من يعقل لإفحامهم، بمعنى: هل الله سبحانه وتعالى أحق أن يعبد ويطاع، أم هذه الأوثان التي لا يمكن لها أن تهتدي إلا أن يهديها الله؟! فكيف يتصور أن مثل هذه الآلهة تعبد من دون الله، وهي عاجزة عن هداية نفسها فضلاً عن معبوديها؟! وهي أحجار لا تسمع ولا تملك نفعاً ولا ضراً.
وقيل معناه: أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينقل؛ لأنه لا يستطيع أن يتحرك حتى يأتي من يحركه وينقله، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه.
وإذا كان هذا شأن المخلوق الجماد الضعيف غير القادر، فالإنسان نفسه الذي أكمل من هذا الجماد.
أما هذا الإله الصنم من الخشب أو الحجر فهو يحتاج إلى أن يترقى أولاً إلى مستوى من يعبده، أي: يترقى من كونه خشباً أو حجراً إلى أن يصبح كائناً حياً تنفخ فيه الروح، ثم يكون مكلفاً عاقلاً كبني آدم، ثم يخلق الله سبحانه وتعالى فيه إرادة الهداية، فإنه:
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17].
بهذه الكيفية يتضح لنا أن العابدين أفضل من الأنداد والأوثان المعبودة؛ لأنهم أحياء لهم أرواح ولهم عقول ولا يهتدون إلا أن يهديهم الله سبحانه وتعالى.
وقد قرئ: ((أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)) وقرئ ((أمن لا يَهدِي إلا أن يهدى)) والعرب تقول: يهدِّي بمعنى: يهتدي، يقال: هديته فهدي أي: اهتدى.
(فما لكم) مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار والتعجب. أي: أي شيء لكم باتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم فضلاً عن هداية غيرهم شركاء؟!
((كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) مستأنف أي: كيف تحكمون بالباطل حيث تزعمون أنهم أنداد لله.
-
تفسير قوله تعالى: (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً...)
-
تفسير قوله تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله...)
قال تعالى:
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:37].
ثم بين تعالى بعد ذلك أحقية هذا الوحي المنزل رجوعاً إلى ما افتتحت به السورة من صدق نبوة المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ودلائلها في آيات الله الكونية، والمنبئة عن عظيم قدرته، وجليل عنايته بهداية بريته، فقال عز وجل:
((وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ)) إشارة إلى أن هذا شيء ممتنع لا يمكن أن يقع أبداً؛ لأنه كلام الله عز وجل، ولأنه معجزة تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكون من هو دون الله يقدر على هذه المعجزة ينفي كونها معجزة، ولذلك تحداهم الله سبحانه وتعالى كما سنرى عما قريب.
في الحقيقة نحن تعودنا أن نتلو أمثال هذه الآيات الكريمات في موضوع التحدي بإعجاز القرآن الكريم، وقل من يعطي قضية إعجاز القرآن الاهتمام الذي ينبغي له.
كلنا ولله الحمد نؤمن إيماناً عاماً بأن القرآن هو المعجزة الخالدة والعظمى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن قليل منا من يتفرغ ويعطي جهداً كما ينبغي لدراسة هذه القضية، فالمفروض أن كل واحد منا طلبة العلم يحفظ كل ما يدل على إعجاز القرآن كاسمه؛ حتى إذا كان أمام رجل كافر وطالبه بأن يقيم له الحجة على أن القرآن معجزة، استطاع ذلك، ورد على الشبهات بحيث لا يبقى أمام هذا الكافر إلا التسليم، أما إذا أصر على كفره فيكون مكابراً معانداً، لا عن شبهةٍ ولا عن قصور في إقامة الحجة عليه.
فقضية إعجاز القرآن من القضايا المهمة التي ينبغي أن تدرك خاصة في قضايا العقيدة؛ لأن هذه أجلى وأعظم آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (
ما من الأنبياء نبي إلا وقد أوتي ما على مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله تعالى إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)؛ لأن المعجزة القرآنية معجزة علمية دائمة، وليست معجزة حسية ظهرت ثم لم يعاينها إلا من رآها، كشق البحر لموسى بالعصا، أو إحياء الموتى لعيسى عليه السلام، أو غير ذلك من المعجزات التي ظهرت في زمن معين ولم تدم، بل الحجة بالقرآن قائمة على كل مخلوق على ظهر الأرض إلى يوم القيامة، فهل من ينتسبون إلى العلم قد أتقنوا أدلة هذه المعجزة العظيمة؟ فيما طالب العلم! أنت مسئول عن أن تتقن كيف تدلل على إعجاز القرآن الكريم.
والنظر في إعجاز القرآن الكريم يفتح باباً عظيماً من أبواب التأمل في كلام الله سبحانه وتعالى، بحيث إذا وقف أمامك عنيد، قسيس، حاخام، يهودي، مشرك، وثني، مادي، أو ملحد، وقلت له: القرآن معجزة، فهو لن يكتفي أن تقول له: القرآن معجزة، ولابد أن تأتي بالأدلة على هذا الإعجاز.
((وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)) أي: هذا القرآن أتى مصدقاً للتوراة والإنجيل والزبور في التوحيد، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي تضمنتها هذه الكتب.
منصوب على أنه خبر كان، وقرئ بالرفع خبراً لمحذوف أي: هو تصديق الذي بين يديه.
وبذلك يتعين كونه من الله تعالى؛ لأن القرآن الكريم إذا كان يصدق ما في الكتب السابقة فيتعين كونه نازلاً من عند الله سبحانه وتعالى، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يقرأ هذه الكتب السابقة لأنه أمي، ولم يجالس أهلها، ومع ذلك فالكلام الذي جاء به خرج من نفس المشكاة التي خرج منها التوراة والإنجيل، فلذلك صدق بعض هذه الكتب بعضاً وهذا مطرد كما هو معلوم، فهذا
ورقة بن نوفل لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم من سورة العلق قال: (
هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى) انظر كيف ربط بين القرآن وبين موسى عليه السلام.
كذلك
النجاشي لما قرأ عليه
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سورة مريم قال: (إن هذا والذي جاء به موسى خرج من مشكاةٍ واحدة) أي: خرج من منبع واحد.
((وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ)) أي: وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع.
وهذا مثل قوله تعالى:
كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24] أي: حكم الله عليكم، وقد قال
علي رضي الله عنه في القرآن الكريم: فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم.
((لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) أي: هذا الكتاب منتفٍ عنه الريب كائناً من رب العالمين.
قال
أبو السعود : ومساق الآية بعد المنع من اتباع الظن لبيان ما يجب اتباعه.
وكما قلنا من قبل: من تأمل معاني التفسير لم يخطئ في حفظ الآيات، فانظر التسلسل الطبيعي للآيات السابقة مثل قوله تعالى:
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [يونس:36]، فهذه الآية تمنع من اتباع الظن، ثم الآية التي بعدها تبين ما يجب اتباعه، فإذا كان الإنسان يذم باتباع الظن فإننا على الجهة الأخرى مأمورون باتباع الحق الذي لا ريب فيه، وهو القرآن الكريم، ولذلك جاء بعد قوله عز وجل:
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ *
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:36-37].
-
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله...)
قال تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس:38]
هم لا يكتفون بالكفر بالقرآن الكريم بل يضيفون إلى ذلك ما هو أعظم وأفظع، حيث زعموا أن الرسول عليه الصلاة والسلام افتراه، ولذلك أضرب عنها بحرف الإضراب، فـ(أم) هنا كما يقول جمهور المفسرون: هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، ومعنى الإضراب: بل أيقولون افتراه؟!
والهمزة للإنكار، أي: ما كان ينبغي أن يقولوا: إنه افتراه.
وقيل: أيقرون به بعد ما بينا حقيقته أم يقولون افتراه، ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ)) أي إن كان الأمر كما تزعمون، فائتوا بسورةٍ مثله في البلاغة وحسن الصياغة وقوة المعنى، ليس هذا فحسب، بل قال لهم: ((وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) أي: ادعوا من استطعتم من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله إن صدقتم في ادعائكم أني اختلقته، فإنه لا يقدر على ذلك أحد، كما قال تعالى:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].
قال
أبو السعود : وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء للتنصيص على براءتهم منه تعالى؛ لأنهم ليسوا من الله في شيء وليس الله منهم في شيء؛ لأنهم في شق والإسلام والقرآن في شق آخر مباين، فالله سبحانه وتعالى بريء منهم كما أنهم بريئون منه سبحانه وتعالى، فهم في جهة معادية ومضادة ومشاقة ومحادة لله سبحانه وتعالى، بحيث ليس لهم أن يقولوا نحن سندعو الله، لذلك قال لهم: ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)).
-
تفسير قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله...)
قال تعالى:
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [يونس:39].
((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)) إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم، وذلك ببيان أنه كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل، بحيث أبطل زعمهم أن القرآن العظيم مفترى من دون الله، وذلك بالتحدي: ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) في أنه مفترى، وفيه إشارة إلى أن الإنسان عدو ما يجهله، فهم عادوا القرآن الكريم؛ لأنهم يجهلون حقيقته، فلذلك ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)).
وهذه الآية تحتاج إلى تأمل كثير جداً، فإنها في غاية الروعة، فقوله: ((بَلْ كَذَّبُوا)) أي: فهم فعلوا أفظع مما مضى من قولهم: إن القرآن مفترى، وذلك أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، أي: أنهم ربوا على العصبية وعلى العناد، فإنهم يتوارثون ذلك جيلاً عن جيل في شأن الإسلام وفي شأن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:
أَتَوَاصَوْا بِهِ [الذاريات:53] كأن كل جيل لا يندثر حتى يهمس في أذن الجيل القادم أن إذا دعيتم للإسلام فكذبوا به ولا تتبعوه.
فشأن الكافر التردد في مثل هذه الأضاليل والأباطيل، كما جاء في سؤال الملكين للكافر في القبر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيقولان له: (
ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ها ها لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)، ما حقق ولا تحرى ولا بحث عن الأدلة ولا ناقش، وإنما ردد ما يقوله غيره، في حين أنه كان في غاية الاهتمام بأمور الدنيا وشئونها وأحوالها، أما في هذا الأمر الخطير الجلل فإنه اكتفى بأنه يردد ما قيل له.
يقول
الزمخشري : ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)) أي: سارعوا إلى التكذيب به، وفاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وما فيه من الشواهد الدالة على كونه ليس مما يمكن أن يقدر عليه مخلوق، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم.
والقصص في الحقيقة كثيرة جداً في مصداق هذه الآيات الكريمات، ولذلك ذكرنا في بداية الكلام أن أكثر الكفار يكذبون بالقرآن؛ لأنهم لا يعلمون ما في القرآن، وهناك أناس غلظت قلوبهم وتحجرت، وعميت أبصارهم وبصائرهم، حتى لو اطلعوا على ما في القرآن فإنهم يصرون على الكفر والعناد، لكن الغالب أن من تصفح القرآن الكريم وتأمله وأحاط به علماً، أو ببعضه، فإن القرآن يهديه إلى الإسلام، لأنه قد انتفى عنه الوصف المذكور في هذه الآية: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)) فيشع من هذا القرآن أنوار تنير قلبه وتهديه إلى الإسلام، وأقرب قصة في ذلك قصة القسيس الكبير المعروف هنا في مصر
إبراهيم خليل أحمد رحمه الله، فقد كان من أكبر القساوسة المنصرين، وكان له نشاط كبير جداً، وذات مرة في الصعيد كان ذاهباً إلى قاعة المؤتمر، وكان مكلفاً بأن يعد بحثاً ليطعن في القرآن الكريم، ويطعن في الإسلام من خلال القرآن الكريم، لكنه كلما اجتهد أن يهزم القرآن قهره القرآن وغلبه، إلى أن انتهى به الأمر أن يعلن إسلامه في النهاية، وقال الكلمة المشهورة: أردت أن أقهر القرآن فقهرني القرآن.
فهو تعامل مع القرآن مباشرة وتأمله لا من خلال الكتب المسمومة.
ثم يقول
الزمخشري في معنى قوله: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)): وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة، أنكرها في أول وهلة، واشمأز منها قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه، من غير فكر في صحة أو فساد؛ لأنه لم يشعر قلبه إلا بصحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب.
في هذا إشارة إلى أن من واجب الأمة الإسلامية أن تنشر إعجاز القرآن وأن تناظر وتدعو بحقائق القرآن وبدعوة القرآن خاصة إلى التوحيد؛ لأن كثيراً من الناس نتيجة الجهل بالمنهج النبوي في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يقول لك: كيف أناقش الكفار بالقرآن وهم لا يؤمنون بالقرآن؟ وهذا من المزالق الخطيرة في الدعوة، فالقرآن من أوله إلى آخره يخاطب المؤمنين ويخاطب أيضاً الكافرين: (يا أيها الناس) (يا أيها الكافرون)، فمن أنجع وسائل الاستدلال في الدعوة أن يستدل بالقرآن الكريم، فالقرآن ما نزل إلا ليناظر به المشركون وتقام عليهم به الحجة.
والإعراض عن القرآن، والانشغال بالتوراة والإنجيل في المناظرة والاستدلال، مبدأ منحرف، فالذي ينبغي أن تكون إقامة الحجة على الكفار بالقرآن الكريم، فمن كان في قلبه شيء يسير من الفطرة فإنه يتأثر بسماع القرآن الكريم، وكم من كافر لا يفقه في اللغة العربية كلمة يهتز قلبه لسماع القرآن الكريم وهو يتلى ويرتل فيسلم؛ لأن القرآن له سلطان على القلوب غير مقصور على معانيه ولا بلاغته ولا أحكامه ولا جماله ولا أسلوبه الأخّاذ، ولذلك نجد إخواننا من الهند وبنجلاديش وباكستان تكثر منهم الرقة عند سماع القرآن، مع أنهم قد لا يفقهون كلمة واحدة من اللغة العربية، فيبكي الواحد منهم بكاءً شديداً إذا سمع القرآن الكريم؛ لأن القرآن له سلطان على القلوب، كيف وهو قد كان له أقوى سلطان على قلوب أعتى الكفرة وهم مشركو قريش، ومن ذلك ما ورد في سبب نزول أول سورة فصلت، أن النبي عليه السلام تلا من أول سورة فصلت حتى إذا بلغ قوله تعالى:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] وكان عنده
عتبة بن ربيعة فوضع يده على فم النبي عليه الصلاة والسلام حتى لا يكمل الآية من شدة تأثره وخوفه، والأدلة على هذا كثيرة جداً.