أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:53-59].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53].نزل بسبب هو أن جماعة من المشركين الكافرين في مكة، لما أخذت أنوار الإسلام تنتشر، وأخذ الناس يدخلون في دين الله، ورأوا أنفسهم أنهم قد سفكوا الدماء، وزنوا وأشركوا، وكفروا وفسقوا، قالوا: لنبعث إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإذا كان الله سيغفر لنا ما كنا عليه فنحن سنسلم، وإن رد علينا ذلك وما قبله فسنظل على ما نحن عليه.
وما إن بعثوا رسولهم وقبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية: وفيها الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء ولغيرهم من بني الناس أبيضهم وأسودهم إلى يوم الدين: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الزمر:53]. أي: بالشرك والفسق، والزنا وسفك الدماء، والذنوب والآثام، لو ماتوا على هذه الحال لن يدخلوا الجنة ولن يرحموا.
ثم قال تعالى: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. أي: أسلموا، وادخلوا في دين الله، وتوبوا إليه، فإن الله غفور رحيم، وهما اسمان من أسماء الله تعالى متضمنان صفتان من صفات كمال الله.
فهو يغفر الذنوب ويرحم المذنبين، وهي عامة في كل من يذنب ذنباً ويتوب منه، فما من مؤمن بل ما من إنسان كافر أو مؤمن يتوب إلى الله حق التوبة ويصدق في توبته، ويؤمن حق الإيمان ويعمل الصالحات ويتجنب المحرمات إلا ويغفر الله له ويرحمه، وهكذا يفتح الله باب التوبة والرحمة والمغفرة لعباده سواء كانوا عجماً أو عرباً، وأما من مات ولم يتب من شركه وكفره فهو آيس من رحمة الله؛ لأن الله قال في كتابه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. فما عدا الكفر والشرك من سائر الذنوب فإن الله قد يعذب صاحبها زمناً في جهنم، ثم يخرجه منها بإيمانه وتوحيده؛ لأنه كان من أهل لا إله إلا الله، وكان لا يعبد إلا الله ولا يرضى بأن يُعبد مع الله غيره وسواه.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ينجي أهل التوحيد من جهنم ويخرجهم منها.
ومن كان ذنبه صغيراً فإن العبادة تمحوه وتبطل أثره في النفس، أما الذنوب الكبيرة فإن صاحبها إذا مات على غير توبة يدخل النار ويخرج منها بتوحيده وإيمانه وإسلامه.
وقوله تعالى: وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54]. أي: قلوبكم ووجوهكم وأعمالكم وحياتكم، واجعلوها كلها لله، فلا تأكل ولا تشرب إلا من أجل الله، ولا تلبس ولا تنزع إلا من أجل الله، ولا تبن ولا تهدم إلا من أجل الله، ولا تتزوج ولا تطلق إلا من أجل الله، بل حاول أن تجعل حياتك وقفاً على الله، لأنه خلقك لعبادته.
ثم قال تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54]. أي: أسلموا لله قلوبكم وأعمالكم قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تجدون من ينصركم، إذ لا يقوى على رد عذاب الله وإبعاده أحد، وهذا يتناول عذاب الدنيا أيضاً، فإذا ما أمة فسقت وفجرت وخرجت عن طاعة الله فإن الله قد يصيبها بعذاب فلا يستطيعون رده ولا دفعه، أما عذاب الآخرة فأشد وأعظم، فإذا أهلكهم الله بعذاب الدنيا ولم يتوبوا فهم في نار جهنم لا يجدون من ينصرهم أبداً أو ينجيهم من عذابها ولا تقبل توبتهم عند ذلك.
وعجلوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:55]. والعذاب: المقصود به عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وقد يأتي فجأة، وأهل العذاب لا يشعرون، وكم من أمم أهلكها الله عز وجل بالعذاب والإبادة، وكذلك المسلمون لما أعرضوا عن كتاب الله وفسقوا عن أمره، ومن إكرام الله لرسوله أنه واعده أنه لن يهلك أمته بعذاب الإبادة والاستئصال، ولكن بالمجاعة والفقر والمرض وتسلط العدو.
وقد تسلط الكفار على المؤمنين وحكموهم وسادوهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؛ بسبب الذنوب والفسق والفجور، والربا والزنا وما إلى ذلك.
وقد قال الله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]. فإما أن نستقيم وإما أن تنزل بنا البلايا والرزايا في الدنيا قبل الآخرة، وهذا كتاب الله بين أيدينا معلوم ما فيه، وهو ظاهر الدلائل والمعاني، فإذا لم نقبل عليه سنهلك، ولن نجرب في قرية فقط أن نستقيم على كتاب الله، عقيدة وأدباً وخلقاً وأحكاماً، فستتجلى لنا أنوار الكمال وسنعرف أننا أولياء الله، ولن يستطيع أحد أن يؤذينا أو يتسلط علينا.
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:55]. أي: بذلك العذاب، وهذا يتناول الجماعة والأمة والفرد، وما منا من أحد إلا وهو مطالب بأن يتبع أحسن ما أنزل علينا، فلنأخذ بالعزائم ولا نأخذ بالرخص، وأكملنا هو من يأخذ بالعزيمة ويترك الرخصة.
ومعنى جنب الله، أي: حق الله، وحق الله علينا هو: أن نعبده وحده بما شرع، لأنه هو الذي خلقنا ورزقنا، لا بما زينته الشياطين وحسنته الأباطيل.
والساخرون: هم الذين يسخرون بالدعوة الإسلامية ويستهزئون بها، سواء على عهد رسول الله أو على عهد من بعده، وكل من يسخر بالشريعة الإسلامية ويستهزئ بها ولا يطبقها، هذا هو موقفه، ولن ينجيه أحد.
وكما أن الله هو الذي خلقك فهو من له الحق عليك، فالذي وهبك السمع والبصر واليد التي تتناول بها والرجل التي تمشي بها، هو الله فهي حقه وهو صاحب هذا الحق وحقه علينا هو:أن نعبده وحده ولا نعبد معه سواه، وأن نذكره ونشكره دائماً وأبداً. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما جلس رجل مجلساً، ولا مشى ممشى، ولا اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله عز وجل فيه إلا كان عليه حسرة يوم القيامة ). أي: ذلك الممشى والمجلس والمضطجع،
ومعنى هذا: أن نكون من الذاكرين، فإذا جلسنا ذكرنا الله، وإذا مشينا ذكرنا الله، وإذا اضطجعنا في الفرش ذكرنا الله أما واقعنا فهو أننا نجلس الساعة والساعتين ولا نذكر الله فيها، ونمشي مشياً كثيراً ولا نذكر الله فيه، ونضطجع على الفرش ولا نذكر الله تعالى.وكل هذا سيكون علينا حسرة يوم القيامة.
[ من هداية هذه الآيات:
أولاً: بيان فضل الله ورحمته على عباده بقبول توبة العبد إن تاب مهما كانت ذنوبه ] وذلك إذا كانت توبته توبة صادقة نصوحاً، ولا يقول ذو عقل ودين سأبقى على فجوري وكفري وشركي والله سيغفر لي! فإن المغفرة للتائبين.
فمن تاب وقطع الذنوب انقطع عنه آثامها ودخل الجنة.
[ ثانياً: دعوة الله الرحيم إلى عباده المذنبين بالإنابة إليه والإسلام الخالص له ] وذلك من أجل إنقاذهم وإسعادهم في الدنيا والآخرة مع أنه غير محتاج إلى عبادتهم.
[ ثالثاً: تقرير البعث والجزاء بذكر ما يحدث فيه وما يجري في ساحته من أهوال ] والذين لا يؤمنون ولا يصدقون بالبعث الآخر والجزاء فيه هم شر الخلق، وهم شر من الخنازير والقردة، وليس فيهم فضل أبداً.
[ رابعاً: وجوب تعجيل التوبة والمبادرة بها قبل حلول العذاب في الدنيا أو الموت، والموت أدهى وأمر؛ حيث لا تقبل توبة بعد الموت أبداً ] فيا عبد الله! عجل بتوبتك، ويا أمة الله عجلي بتوبتك؛ فإنك لا تدري أتموت الآن أو غداً، وقد تصاب بمصيبة قبل يوم القيامة، فيجب أن يبادر الناس بالتوبة ويستعجلوها خشية أن ينزل العذاب في الدنيا،وأما عذاب الآخرة فإن المشركين لا يخرجون منه أبداً.
[ خامساً: الترغيب في الأخذ بالعزائم وترك الرخص لغير ضرورة ] وهذه اللطيفة أشير إليها بقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55] فدل هذا اللفظ على معنى العزائم، ونحن المذنبين، التائبين لا نأخذ بالرخص وإنما نأخذ بالعزيمة.
مثال الرخصة: أن نجمع بين الظهر والعصر في حال المرض أو السفر، والعزيمة: أن لا نجمع؛ فلا نجمع حتى نذكر الله في كل وقت.
والرخصة للمسافر أن يفطر إذا كان صائماً، فيأخذ بالعزيمة ولا يفطر؛ لأنه إذا أفطر قد يلعب ويضحك ويفعل الباطل، ومن استطاع أن يأخذ بالعزائم فهو أولى من الأخذ بالرخص، والرخصة تأخذ بها عند الضرورة، كأن لا تستطيع أبداً أن تصلي وأنت قائم فصل وأنت قاعد ولا حرج عليك.
[ سادساً: إبطال مذهب الجبرية الذين يرون أنهم مجبورون على فعل المعاصي وغشيان الذنوب، كقول أحدهم: لو أن الله هداني لفعلت كذا أو تركت كذا ] والجبرية هي: فرقة منسوبة إلى الجبر، والجبر عندهم أن الله أجبرهم على أفعالهم، فيقولون: الله جبرني على أن أزني، وجبرني على أن أكذب، جبرني على فعل كذا؛ إذ أنه قد قدر علي هذا وكتبه فلا بد أن يكون! وهذا المذهب شر مذهب وقد انتهى والعياذ بالله، وكلامهم باطل؛ لأن الله هدى الناس، ووضع لهم الطريق أمامهم وبين لهم ما يسعدهم وما يشقيهم، لكن منهم من تعامى عن الحق وفعل المنكر والباطل وترك الواجب، وإذا وقعت في ذنب من الذنوب فلا تقل: لو أن الله هداني ما فعلت كذا، وإنما قل: أستغفر الله وأتوب إليه من فعلي هذا.
[ سابعاً: فضل التقوى والإحسان وفضل المتقين والمحسنين ] والمتقون هم الذين يتقون غضب الله وسخطه، بفعل ما يحب وترك ما يكره.
والمحسنون هم: الذين يراقبون الله في حياتهم، وفي عباداتهم وفي طاعتهم كأنهم معه، فلا يعصونه ولا يقدرون على معصيته. اللهم اجعلنا من المحسنين المتقين.
والآن مع الآيات نسمعها مرة ثانية، وتأملوا معانيها.
قال تعالى قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. فلا يخطر ببالك أن هناك ذنباً لا يقدر الله على غفرانه، فلا يوجد ذنب يعجز الله أبداً، فلا تقل: هذا ذنب عظيم لن يغفره الله لي أبداً حتى ولو أحرقت مدينة كاملة بالنار فإنك إذا تبت منه قبل الله توبتك وغفر لك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر